تفسير الفاتحة وقصار السور - 31 - تفسير الآيات الأولى من سورة البينة
للاستماع إلى الدرس

تفسير الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لسورة الفاتحة وقصار السور بدار المصطفى ضمن دروس الدورة الصيفية العشرين في شهر رمضان المبارك من العام 1435هـ.

نص الدرس مكتوب:

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3))

 

الحمدُ لله مُكرمنا بتوالي الخيرات، ودفع الآفات، ففي كل لحظةٍ تُحيطُ بنا أنواعٌ من الخيرات لا نستطيع إحصاء أنواعها فكيف بأعدادها وأفرادها، وفي كل لحظةٍ مدفوعةٌ عنا من الشرور والبلايا والآفات التي قد وصلَ عِلمُنا إليها وأحطنا بها شيءٌ كثير لا يكاد أن يحصى، فكيف ما لم نعلم مما أحاط به علم الله من أنواع الشرورِ والبلايا؟!

فلله الحمدُ ربُّ البرايا، المرسل إلينا خير البرية الممنوحِ بأعظمِ الخصائصِ والمَزايا، محمد بن عبد الله كريمِ الطبائعِ والسجايا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار الذين ارتقوا مَراقي القُربِ من الحق -تبارك وتعالى-، وخُصوا بخصائص في الظواهرِ والخَفايا، وعلى أصحابه الغُرِّ المَيامين، أهل الصدقِ مع الحق والسالكين في مَسلكه بمحبةٍ ملأت منهم القلوبَ والحَنايا، وعلى من تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله الأعيان، وآلهم وصحبهم ومن سار على سبيلهم إلى يوم الوقوف بين يدي مولانا الرحمٰن، وعلينا معهم وفيهم.

وبعد..

فإننا في مواصلةِ الجلوسِ على موائدِ التعرُفِ إلى الرب، لِنَحوزَ القرب من الربِّ -جلَّ جلاله-، نَتَعرَفُ إليه بإقبالنا عليه وتأملنا لمعاني وحيه، فيتعرّف إلينا بكشف الحُجب عن قلوبنا وإزالة الموانع التي تَحولُ دون حُلولِ أنوار الشُهودِ في سرائرنا، اللهم قَربنا إليك زُلفى مع المقربين.

وعلى هذه الموائد، وقد مررنا على تلك السور العظيمة من سورة الناس إلى أن انتهينا إلى سورة الزلزلة، ووقفنا على سورة البيِّنة سورة (لَمْ يَكُنِ.. (1)) الشَريفة التي فيها بَيانُ الفَصلِ والحَدُ الفاصل بين الخَلائق في الدنيا وفي الآخرة، وما المِيزَةُ للمؤمنين؟ وما آفةُ الكافرين؟ وما النهاية للجميع؟

ويتحدثُ الحَقُ في السورةِ عن أحوالِ الناسِ وعن طَبائِعهم وعن تَعاملهم وعن طرائق تَفكيرِهم، وعن استقبالهم للوحي المُنَزَّل وما يُبَلِّغ الرسل الكُمَّل عليهم مع نبينا -أفضل الصلاة وأزكى التسليم وعلى آلهم وصحبهم أجمعين-.

 

من هم الذين كفروا؟

فيقول تعالى في مَطلع السورة: بسم الله الرحمن الرحيم (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1))؛ يتحدثُ الحَق عن الكُفار (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (1)) وهُمُ الساتِرون للحَقيقَة الواضِحة المُستَقِرة في فِطَرِهم من الإيمان بالله وبما أَنزل وبمن أَرسل، فكلُ من كابرَ وأنكر ذلك فقد ستر الحقيقة وأراد أن يُغطيها وهي واضحة جَليّة ومُنكشِفَةٌ للكُلِ، والكلُ يعودُ إلى الإقرار بها، ولكن من فاتته الفرصة أيام أُعطيها في الدنيا فلن ينفعه الإقرارُ ولا الإيمان بعد ذلك.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا.. (1)) والكُفارُ في أصنافهم المُختلفة كان أظهر أصنافهم وقت بعثة النبي اثنان: 

  • صنفُ أهل الكتاب وهُم من كفر من اليهود والنصارى، كفروا بمثل قول تلك الطَوائف من اليهود "عزير ابن الله" وقول الطوائف من النصارى "المسيح ابن الله" وكذبوا بصفاتٍ لله تعالى كان أنبيائهم قد أتوا بها لهم، فكذبوا بها فكفروا، غَيّروا وحَرّفوا وبَدّلوا، فهذا هو الصنف الذي يُطلَق عليه الكفار من أهل الكتاب، وإلا من ثبت بالصِدق والصحةِ على اتباع الأنبياء فهو المُسلم كائنًا من كان، أتباع موسى وعيسى وإبراهيم أو نوح أو إسماعيل وإدريس كلهم مسلمون، ولكن من غَيّر وبَدل وحَرّف وأنكر فقد كفر، فأتباع الأنبياء هم المسلمون ولكن هؤلاء كفروا من أهل الكِتاب والمُشركين بالتَغيير والتَبديل والتَحريف، وإن كان منهم أفراد لم يَرتَضوا ذلك التغيير أو التحريف، فَهُم على المِلَّة، فهؤلاء لاحقين بأنبيائهم إذ لم يُحرِّفوا ولم يُبدلوا، ولكن عامة المَوجودين منهم قد وَقعوا في التَغيير والتبديل والتحريف والإنكار لكثيرٍ مما جاء به رسلهم -صلوات الله وسلامه عليهم-، هذا الصنف الأول من الذين كفروا، فأهل الكتاب الذين غَيّروا ما جاء به الرسل وأنكروا شيئًا بُعِثَ به رسلهم، كفار نعم.
  •  ثم بعد بعثة نبينا محمد كل من لم يؤمن به فهو كافر، كافرٌ بالنبي وكافرٌ برسوله، لأنَّ رسوله الذي أُرسل إليه بَشَّر بهذا النبي وأخذ العهد على قومه وأمته أن يؤمنوا به، فما يُكَذِّب بهذا النبي إلا مُكذِّب برسوله، من أتباع الرسل -صلوات الله وسلامه عليه- هذا الصنف الثاني، الصنف الثاني مشركون عبدة الأصنام.

 فإلى هذين الصنفين يعود شأن الكفار في العهد النبوي، فذكرهم الله وقال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا.. (1)) على العموم، ثم صنفهم إلى الصنفين على الخصوص (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ (1)) عبدة الأصنام 

 

بمنَّة الله ورحمته وبعثة نبيّه تنقشع ظلمة الكفر من أهل الكتاب والمشركين

(مُنفَكِّينَ) يعني أنَّ هذا الإنسان بنفسه الأمَّارة وتَسلُّط الهوى والشياطين عليه، إذا أَغرَق في شَرٍ وضَلالٍ وزيغ فيصعب خروجه منه، وانفكاكه عنه، إلا بعناية رَبانية وسبب قوي من البيّنة الواضحة الجَلية والحُجة القائمة القوية.

قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (1)) تاركين لكُفرهم وشِركهم لأنهم إذا رَسخ الضَلال في قلب إنسان وعَقله، يَصعُب إخراجه منه، إلا بواسطة البَيّنة مظهر الرحمة الكبرى، صاحب الحُجَج الغالبة الداحضة لِلشَك والكفر الدامغة -محمد ﷺ- هذا هو البيّنة الكُبرى.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)) فهذا تَبيين مِنَّةِ الله على من انقَشَع عن قلبه ظُلمة الكُفر من أهل الكتاب ومن المُشركين، فآمَنوا بالنبي محمد، يقول الله ما كان هذا حاصل مِنكم، ولا أن تَرجعوا عن زَيغكم وكُفرِكم وضَلالكم هذا، إلا ببعثة نَبينا، إلا بوجود نبينا المُبَيّن المُوَضِح، صاحب الآيات الواضحة والدلائل القاطِعة والحُجَج الدامغة ﷺ.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (1))عن كُفرِهم (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)) يَظهرَ فيهم المُصطفى محمد ﷺ، لأنَّ الله بَيّن هذه البَيّنة ما هي، بقوله (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2))  

 

كيف نكون سببًا في هداية من حولنا؟

وفي هذا أن ما تَعَبَّدنا الله به من التسبب في هداية الكُفار وإنقاذ الضالين وإخراجهم إلى الهُدى، لن يتم ذلك لنا بأنفُسنا ولا بِذَواتِنا، ولكن إن:

  • صَدقنا معه -سبحانه وتعالى-.
  • وأَعطَينا الوسائل لِتَبيين الحق.

 فهو الذي يَهدي من يَشاء، ونحن نَكون في مستوى التسَبب هذا على دَرَجِة اتِصالنا بالبيّنة ما هي، فَعلى قَدرِ اتِصالنا بالبيّنة يَكشِفُ الله بهذه البَيّنة الظُلمات من العُقول والقُلوب التي نُخاطِبها ونَتَسَبب في هدايتها .

 

تَستَقيمُ الهداية بالانطواء في سيدنا محمدٍ ﷺ

(حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)) فانكِشافُ الكُفرِ والضَلالِ عن القُلوبِ والعُقول، رَتَبَّهُ الله تعالى بظهورِ هذه البيّنة؛ (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ.. (2)) هو محمد ﷺ، فما أَمَرَ به الأمة من الهِداية والبَيان والدَلالة والإيضاح والدعوة، كله مُرَكبٌ على تبعية هذا النبي، وفي هذا المعنى نقرأ قوله ﷺ في حديثه الصحيح: "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً"، فلا يَظُن القائم في هذه الدعوة أنَّه بعقله وفِكره مستقلًا، سينفع أو سُيبعد الظُلمات من القلوب، أنت بنظر الإستقلالِ واقعٌ في ظُلمه، أفتهدي من الظُلمة؟! ظُلمة ٌعندك، وفاقد الشيء لا يُعطيه، فَتَستَقيمُ وتُستكمل معاني الهداية بحسب انطواء الداعي إلى الله من أمة محمدٍ في محمدٍ؛ إيمانًا ومحبةً وتبعيةً واقتداءً. "عنِّي"،  "بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً"، فهو المَأذون الأعظم له من قِبَل الله بالدعوة إلى الله (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) [الأحزاب:46]، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45-46] فَمن بَعدَهُ "بَلِّغُوا عَنِّي" فَعَنه يُبَلِغون، فَبِجودِ الله، ببركة ذلك السِراج المُنير، تَنكَشفُ عن القلوب ظُلمات الكُفرِ والزيغ والضلال إلى الهداية والرشاد.

فحمدًا لربٍّ خَّصنا بمحمدٍ *** وأخرَجنا من ظُلمةٍ ودياجر

إلى نور إسلام وعلم وحكمة *** ويُمْنٍ وإيمانٍ وخير الأوامر

 

على ماذا يتم اعتمادُ الدعاة في القيام بأمر الدعوة؟

والحق يقول في تَقريرِ هذه الحقيقة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا.. (1)) يعني ما دَخَلَ في إرادةِ إخراج الناس من الكُفر إلى الهدى إلا بواسطة هذه الحُجة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (1)) عن ضَلالِهم وكُفرِهم (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)) وما البَيّنة؟ بَدلٌ من قول ربنا (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ… (2)) أو خبر لمبتدأ هو (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو.. (2)) يقرأ، يتلو (صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)) وفيه أنَّ تلاوة الآيات أقوى أسباب وعُدَدِ الدُعاةِ إلى الله -تبارك وتعالى- في القِيامِ بأمرِ الدعوة إلى الله، وذلك أن تِلاوة النبي للصُحف المُطهرة استنادٌ كاملٌ إلى الحَق ومرجعيةٌ إلى الحق -جلَّ جلاله-، فكذلك أن يكون اعتمادُ الدعاة بعد ذلك في القيام بأمر الدعوة على: 

  • تلاوة الآيات والنصوص من الآيات أولًا.
  •  ثم الأحاديث الكريمة، بيانُ مرجعيتهم ودعوتهم، وإلا رجعوا إلى معنىً من الإستقلالية في أنفسهم ينقطعون به عن حقيقة هذا النور، فيتأثرون بالطريقة ونحوها واتخاذ الأسلوب بأفكارِ الغَيرِ، ولكن إذا ثَبَتت المَرجعية بتلاوة الصُحف فندعو إلى الله بوحي الله، بكتاب الله ببلاغِ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)) هذا هو المَعنى الأول الواضح الجَلي.

 

لماذا أنكر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بعثة النبي محمد ﷺ ؟

 وعند أهل التفسير أيضًا معنى: أن الكافرين من أهل الكِتاب كانوا بما بَشَّرهم الأنبياء بنبينا محمد، يَستَفتِحون بالنبي محمد ويَستَنصِرون به، ويقولون للذين أشركوا؛ فإذا بُعِثَ هذا النبي كُنا معه صفًا واحدًا فقاتَلناكم، والمشركون كانوا بمكةَ قبل بِعثته مُطبقين على الثناء عليه، فكان أهل الكتاب وكان المشركون يقولون؛ هذا الأمين وهذا الصادق، وأهل الكتاب بحكم ما عندهم من الكُتب يقولون؛ رسول حق وهدى سيأتي مَبعوث إلى العالمين، بَشَّر به موسى، وهؤلاء النَصارى يَقولون بَشَّر به عيسى وسَنَتبَعُهُ، فكانوا مُطبِقين على الثناء على نبينا، والمُشرِكون لمَّا وُلِد فيهم ونَشأ بينهم قالوا هذا الأمين، هذا الصادق الأمين، فما كانوا يَذكُرونه إلا بالخَير والثَناء.

فلمَّا جاء الوحيُ وقامت الحُجَةُ وظَهَر بالحَق من الله، حَسَد مَنْ حَسَد من اليهود والنصارى، قالوا ما هو هذا ولا نؤمن به. والمشركون قالوا هذا يَعيب آلهَتنا، هذا الأمين الذي كُنتم تَقولون أمين مَّا لَكُمْ؟ وجاءتهم نفوسهم فقالوا لا، وانْفَكّوا عمَّا كانوا أجمعوا عليه من الثناء، وما كانوا وَعَدوا به أهل الكتاب، ما وَعَدَ به أهل الكتاب من الإيمان إذا بُعِثَ هذا النبي، وأنَّا نُؤمن كما أُخِذ عليهم العهد، فلما بُعِث وهذا على حد قوله -سبحانه وتعالى- (وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89] -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

هم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة:146] ويوقنون ويَعلمون أنه هو النبي، وصِفته مَشروحة عندهم؛ خَلقُه وخُلُقه مشروحٌ في الكُتب التي أنزلها الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وفيهم أنفسهم هؤلاء الكتاب الذين حاربوه وكَذبوه، من رآه في أيام طفولته وعَلِم أنَّه نبي، ومن رأى عَلامة خَتم النبوة بين كتفيه سواءٌ في المدينة أو في من شاهده من اليهود بمكة وغير ذلك.

يقول: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ.. (1)) يعني مُتَراجِعين ولا خارِجين عن وعدِهم بالإيمان بمحمدٍ، ولا المشركين كانوا (مُنفَكِّينَ (1)) عن ثَنائِهم على محمد (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1))، (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة:89].

 

وما معنى (منفكين)؟

كما أنَّ هناك فيما يَذكُر بعض المُفَسرين معنى للمُنفَكين أنَّهم: الهالِكين، يعني لم يكونوا مُعَذَّبين ولاهالِكين إلا بعد وجود النبي وبعثته، يعني على حد قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء:15] وما يُهلِكُ الله الأمم حتى يبعث فيها رسول يُبيّن لهم ما جاء.

(إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4))، (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (1)) هالكين (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1))؛ فهِمنا القولَ الأول مُتناسق مع ألفاظ الآية أنَّه لم يكونوا منفكين عن كُفرهم وشِركهم وزَيغِهم وضَلالِهم حتى يَظهرَ رَسولَ الله بالآياتِ والبيّنات.

 

ماهي صفات الصُحف المطهرة؟  وما الذي تضمَّنه؟ 

(رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو.. (2)) يقرأ عليهم (صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2))، ما كان النبي يَقرأ الصحف، (يَتْلُو صُحُفًا (2)) صُحف يعني: مُتَضَمَن الصُحف، ما تَضَمنَتهُ هذه الصُحُف المُطَهرة، وكما هي في أيدي المَلائكة الكرام البَررة، وكما يَكتبها الناس في الُصحف، وواردٌ في هذه اللغة التي نَزَل بها القرآن، ذِكْرُ الأمرِ بما يَتَضمنه، فمن تلا ما تَضَمنَت الصُحف قيل تلا الصُحف، وإن لم يكن صورة صَحيفة يَحملها ولا يَقرأها، فهو قرأ عليهم القُرآن الكريم، والقرآن الكريم مكتوبٌ (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ) [عبس:13]، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) [عبس:15-16] والقرآن الكريم يكتبه بعد هذا، بعد أن يوحى ايضًا في الصحف وهو يتلو عليهم ذلك.

  • (يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)) مطهرة مُنقَّاه عن الكذب عن الزيغ عن الضلال عن التناقض.
  • (صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ): نقيّة عن الإضطراب والتناقض والنَقص والزيغ والكَذب وما إلى ذلك.
  • (يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)) هذه الصُحف المطهرة، قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) [الواقعة:77-79]، هذه الصحف المُطهرة تَشتَمل وتَحتوي على أحكام، ويقال للحُكم: الكتاب، وكَتب عليهم: حَكَم عليهم، فمن معاني الكتاب الحُكم فيها كتبٌ: أحكامٌ.

(صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)) أي :أحكامٌ قَيمة، أحكام (قَيِّمَةٌ) مُستقيمة، مُعتدلة، وَسط، فاضِلة ،حَسنة، لا يُمكن أن يوجَدَ في الأنظمة والقوانين مِثلها فضلًا عن خَيرٍ منها.

(كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)) أحكام مستقيمة، عادلة، كريمة، شريفة.

(رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ…(2)) وكفى فَخرًا أن يكونَ من الله وشَرَف (رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ…(2)) أرسله الله -تبارك وتعالى-(يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3))، (يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2)) يعني ما تتضمنه الصحف من أحكام يعني  القرآن الكريم.

( مُّطَهَّرَةً (2)) لا ريب فيها، لا اختلاف فيها، لا تناقُض فيها، لا شك فيها، لا غش فيها، لا جَوْرَ فيها، لا حَيْفَ فيها،  لا ظُلم، مطهرة مُصفاة مُنقَّاه.

 (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)) مستقيمة قويمة عادلة فاضلة.

(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3))، ولقد صدق الله، وكلمَّا أراد البشر في كل الأزمنة أن يجعلوا من أنظِمَتهم ما يَحكُمهم فخالفَ منه شيئًا مما أَرسَلَ الله به الرُسل إليهم، زاغوا وضلوا وأخذوا النتيجة في الدنيا ثمَّ في الآخرة نتيجة سيئة، في معاشهم ثم في مَعادهم، فَرَبُ المَعاش والمَعاد واحد، ورَبُ الدنيا والآخرة واحد، وهو الأعلم بمصالح الحَياتَين، وهو الذي أرسل الرسل لإكمال المعاش والمعاد ولإصلاح المعاش والمعاد، فمن ظنَّ أنَّه بمخالفة مناهج الرُسل يمكن أن يصلح معاشه أو معاده، فقد عاند الجبار وخالف الحكيم القهار، هو الذي خلق الدنيا والآخرة وهو الذي أرسل هؤلاء لإصلاح الدنيا والآخرة ولإكمال المعاشِ والمعاد -الدنيا والآخرة- فهي الكتب القيّمة أحكام الله؛ لا أقْوَم منها ولا أفضل ولا أعدل ولا أكمل ولا أجمل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50]، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين:8] -بلى ونحن على ذلك من الشاهدين-، أقضى القُضاة وأَعرَف من يَحكُم ومن يَعدِل -سبحانه وتعالى-.

 

الحجة شديدة بعدما جاءت البيِّنة

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)) وجاءت البيّنة بحمد الله، ووراء ذلك أيضًا معنى: أن هؤلاء الناس يأتي اختلافهم وتنازعهم بعد قيام البينات بينهم، فَعارٌ عليهم وعيب لو كان ذلك قبل قيام البيّنة، لكان أَخف عيبًا وعارًا من أن يختلفوا بعد ما جاءت البينة كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [البقرة:213] من بعد ما جاءَهم العِلم وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من (إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) [ الشورى:14].

فيقول: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (1)) يعني مختلفين متنازعين (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ (1)) ماذا؟ (الْبَيِّنَةُ (1)) فالعار عليهم والعَيب عليهم البينات قائمة بينهم وهم يختلفون ويتباعدون (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105] فَعابَ الله هذا الإنفكاك وهذا الإختلاف، كما مدح الخروج من الكُفر والظُلمة إلى الإسلام والنور وأن ما يكون ذلك بظهور النور المبين وإقامة الحُجة والبينة الواضحة (حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)).

فلا بدَّ أن نَثقَ ونؤمن بِقَيْمِيَة هذه الأحكام الإلٰهية وأنَّها القيّمة العادلة المستقيمة، ثم نتلو على الناس الآيات ونحن على يَقين وثِقةً، يُثمر ذلك قوة تبعيّة للبينة يؤثر ذلك في إبعاد الظلمة من العقول والقلوب، والإهتداءِ بهذا النور المبين (يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)) ، 

فكم من معاني في القرآن لو أُخذت بِصدور موقنة صادقة مُخلصة فأُلقيت على كثير مِمَّن على ظَهر الأرض من الكفار لكانت سبب إسلامهم وسبب رَجعَتهم إلى الرب -جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

(يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)) فالحُجَّة عليهم شديدة فقد اتَضَحت لهم السبيل وَوُضِحَت ثم اختلفوا بعد وجود الحُجة والدليل.

 

الدعاء

نوّر الله قلوبنا ورزقنا حُسن اتباع التنزيل، والرسول الجليل في كل نية وعقيدة وفعل وقيل، -اللهم آمين- برحمتك يا أرحم الراحمين، وجَعلنا وإيّاكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولم يبقَ من هذه الدروس إلا درسان درس الغد إن شاء الله تبارك وتعالى ودرس يوم السبت، والله يجعل لنا في ذلك نورًا ينوّر به قلوبنا ويجعلنا بذلك عن جميع الزيغ والرجس والدرن والغفلة منفكين إلى نور الهدى المبين بحسن التبعيّة التامة الكاملة لخاتم النبيين وسيد المرسلين حبيب رب العالمين، وما جاء به عن الله تعالى في علاه، اللهم أثبتنا في خواص أهل الإسلام والإيمان وارفعنا أعلى مراتب الإحسان وأصلح لنا كل شأن وفرج كروبنا وكروب أهل الإسلام والإيمان واختم لنا بالحسنى وأنت راض عنا.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

13 شوّال 1435

تاريخ النشر الميلادي

09 أغسطس 2014

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام