(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11))
الحمد لله على تلألؤِ أنوار الإقبال عليه، وبيان مَعَالِمِ الطريقِ إليه؛ لهُ الحمد والمِنَّة، نسأله أن يجعل مآلنا الجنة، وأن يجعل لنا من العذاب وقايةً وجُنَّة، وأن يكفينا شرَّ الإنسَ والجنَ وجميع الخلق.
وبعد..
فإننا في نِعمَةِ التَّعَرُّضِ لرحمةِ ربِّنا ونعمةِ التأمُّلِ لكلام إلٰهنا، ونِعمَةِ التقرُّب إلى خالقنا ونِعمَةِ خَتم رمضانَ بمثل هذه الأعمال التي نرجو فيها الرضوان من إلٰهنا الكريم المنَّان سبحانه؛
تأمَّلنا معانٍ في سورة "البلد" التي أقسمَ الله فيها بمكة والوالِد وما ولد؛ أنه خلق الإنسان في كبد، وعَجِبَ من الإنسان في طُغيانه وهو يَحمِلُ صَنْعَةً لصانعٍ عظيمٍ، ما حَوله ونفسه يُذَكِّرانِهِ بهذا الصانع، الذي أسدى جميل الصنائع، وهو بَعدَ ذلك يَغفَلُ ويُغفِل ويَلْهُو ويَمِيلُ إلى الباطل، ويُضَيِّعُ نَفِيسَ عُمره وكبير أجره بسوءٍ تُغويه به النفس أو الشيطان، ثم يَغتَرُّ بشيءٍ من مظاهر صَنْعَةِ الإلٰه، كانت مُوجبةً عليه أن تذكر مولاه فصار مُنقطعاً بها مستنداً إليها ناسياً لمُوجدها ولمُعطيه إيَّاها -سبحانه وتعالى-!، من قوةٍ في البدنِ أو كثرةٍ في المالِ أو قوة عَتَادٍ وسلاح أو قوَّةِ اجتماعٍ وتَظَاهُرٍ إلى غير ذلك من القُوى التي يتخيَّل أصحابُها أنها لهم وأنها منهم وأنها مُستَقِلَّة وأنها فعَّالة!
وكل تلك أوهام وظلام يعيشُ فيه الواهمون حتى تنكشف الستارة؛ وعندئذٍ لا ينفع أحد توبته ولا ندامته ولا رجوعه إلى الباري فإنَّ الكُلَّ يعود في تلك الساعة (حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ * آلآنَ..)، (آلآنَ) [يونس:91-90]! قد أبَيت وعَصيت وتَكبَّرت ورفضت ورَدَدْتَ الأمر وقلتَ وعَمِلتَ، قال كل الأفكار والتي كانت معنا والمبادئ كفرنا بها، كله انتهى! تركناها ولا عاد شيء! كل مقالاتي الأولى باطلة.. الآن آمنتَ (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91] قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [غافر:85].
وإلا فالكل يؤمن؛ مُلحد غير مُلحد.. أي واحد من أهل الجُحود الموجودين في الأرض هؤلاء كلهم سَيؤمنون، لكن في وقتٍ لا ينفع الإيمان فيه، لا تُفَكر، مبادئهم المَوجودة كلها بخربطتها، كلها من أولها لآخرها، أصحابها سيؤمنون بهذا الكلام الذي نقوله وأنه الحق، لكن في وقت ما عاد ينفعهم هذا الإيمان، بعد أن تبلغ أرواحهم حَلاقيمهم ويُعاينون الأمر عيَاناً كما أخبر الله ورسوله.
ولا يزال الأمر هكذا معهم حتى إلى يوم البعث؛ قد أصابتهم الصَّعقَة عند النفخة الأولى فسَكنُوا مما كانوا يُعاينون من العذاب، ثم عند النفخة الثانية، قاموا (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس:52]، ياليت ما عاد قمنا، هذه الصعقة تمام، ولا عاد نقوم أحسن (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا)؛ فَتُجيبهُم المَلائِكة في الموقف: (هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52].
أتسمَع؟ ما في القِيامة صوت يُقال لك: صَدَقَ المُحلَلِّون، صَدَقَ الحِزبِيُّون، صَدَقَ المُتطَوِّرون، صَدَقَ التِّكنولوجِيُّون؛ (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]؛ محمد، آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، موسى، عيسى من بينهم من النبيين (صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، قولهم الصدق، قولهم الحق: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة:119].
والأقاويل التي خالفت، المبادئ المختلفة، الأحزاب المختلفة، الحضارات المختلفة، القُوَى المختلفة، الاتجاهات المختلفة في عالم الدنيا: كَذَبَت، كل ما خالفوا فيه هؤلاء الرُّسُل: كذَبوا؛ (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ)، (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [آل عمران:95]، امشوا وراء الرسل
أما غيرهم، كل جماعة، عملت زهْلقة وزخرف من القول وكلام وتطويل وتعريض ونحن وعندي ومني ولي و و و ..؛ مُتَكَرِر، البداية من عند قابيل إلى هذا الضوله والعويل القائم الآن في زماننا؛ مُتَكَرِر؛ أسماء تختلف والأشكال والأساليب والوسائل، والموضوع واحد هو هذا هو، هو هذا الموضوع واحد والمضمون واحد:
وهذه مجالس الذكرى وأيام الذكرى أيام زَهيَّة، التي فيها حال مَخصوص لِخَير البريَّة، وشأن مع الإلٰه -سبحانه وتعالى- ربِّ السماوات العَليَّة. وقد سمعتم أنه في هذه الليالي يَغتَسِل ويَتَطَيَّب كل ليلة، ويُقدِّمون له أحيانا البُخور فيتطيَّب ويقوم في المُناجاة، يُناجِي مولاه، كان إذا دَخَل العشر الأواخر من رمضان قام ليله "أحيا ليله وأيقظ أهله وشَدَّ مِئزره"، أي:ضاعف الاجتهاد- صلوات الله وسلامه عليه-.
أقسم الله -تبارك وتعالى- بالبلد ووالد وما ولد أنه خلق الإنسان في كبد، وعَلِمنَا ما بين معنى المشقة أو تطوره إلى مراحل أو ما بين الإنتصاب والتسوية التامة (فِي كَبَدٍ (4))، وقيل في السماء. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ)، وفي قراءة: (أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)) يَغَتَرُّ بقوته كَمِثلِ أبي الأشد الذي ذَكَرنا أنه يقوم على الجلدِ فيُسحَبُ من تحته بأقوياء من الرجال فيتقطَّع الجلد ولا يُحرِّك قدميه، وغيره من أولي القُوَى.
يقول الله له أنفق ما تُنفِق.. المال من عندنا، أعطيناك إيَّاه وخُذِلْتَ فلم تُسَلَّط على هلكته في الحق ولا في الخير فأهلكته في الباطل ومعاداة نبينا، تظن بذلك أن تُغَيِّر شيء من حُكمنا، من نصر المُرسلين؟! وظهور الحَق المبين! وقيام الحُكم يوم الدين! ماذا تعمل بمالك هذا؟ وبِمَا تُنفِق؟!
فلم يزل إنفاقُ المال في معاداة الحق دَيْدَن صِنف من الكفرة في كل زمان، وعنهم يقول الرحمٰن: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ..) [الأنفال:36]؛ (فَسَيُنْفِقُونَهَا..) [الأنفال:36]؛ خَرِّجوا (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال:36] هذه في الدنيا، وبعد ذلك ماذا يحدث؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الأنفال:36 -37] الله الله الله.
هل رأيت! (يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال:36]، يقول الله المال الذي أُمَلِّكُهُ عبادي، وسيلةٌ من الوسائلِ، يمكِنهم بها أن يكتسبوا الفضائل وأن يؤدُّوا الأدوار الصالحة وأن يُنَفِّذُوا أمري ويعملوا بشريعتي ويُعِينُونَ عبادي على ما يُصلِح؛ فإذا لم يُنفقوه في مَحلِّهِ صار نِقمةً عليهم.
قال الله تعالى في قوم فرعون:(فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [ الشعراء:57]، (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدخان:27]، ماقال نِعْمَة..قال: "نَعْمَةٍ"، نَعْمَة: أمر مرغوب أو مطلوب أو لذَّة عاقبتها ونتيجتها غير محمودة؛ هذه نَعْمَة ماهي نِعمَة، نِعمَة: لذَّة عاقبتها محمودة نتيجتها طيِّبَة؛ هذه نِعمَة، أمَّا كل شيء ترغَب فيه النفس تحبه وعاقبته سيئة ليست نِعْمَة؛ بل نَعْمَة. (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الدخان:27-28]،
فما هو شأن هؤلاء؟ قال: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) [الدخان:27] أرضنا وسماءنا ما تأثرت بفراقهم وهلاكهم ولم تبكِ عليهم (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان:29] وإنما تبكي السماء والأرض على أحباب رَبِّ السماء والأرض،
يقول سيدنا علي: إذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان؛ موضع في الأرض وموضع في السماء، أما موضعه في الأرض، قال: فمُصلَّاه؛ محل سجوده يبكي إذا فارق ذلك الساجد. قال: وموضعه في السماء مصعد عمله الصالح.
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا(6)) ولم يزل الإخلال في التصرُّف في الأموال ديدنُ أهل الضلال، ويُغرون ويَغوون كثير من المُسلمين حتى يكتسبوا المال من غير حِلِّه أو ينفقوه في غير محلِّه، وما من قليلٍ من المال ولا كثير يدخل إلى يد أي إنسان إلا سُئل من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ ولا يمكن أن يَمضي على الصراط لا بالمشي والعبور إلى الجنة، ولا بالسقوط في النار حتى"يُسأَل عن هذه الأربع: عن عمره فيما أفناه؟ وشبابه فيما أبلاه؟ عن عِلمه ماذا عمل فيه؟ عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ " "من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟"
وقد تقدَّم معنا غُرور بالمال يقول: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) [الهمزة:3]، هل مالك سيخَلِّدك؟! يعني هل سيُبقِيك؟ هل سيدفع عنك الموت؟ وأنت الآن في الحياة ما دَفَع عنك المال المرض! ولا دفع عنك الهم! ولا دفع عنك الغم! ولا دفع عنك مشاكل عندك كثيرة وهل تظنه سيدفع عنك الموت! (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) [الهمزة:3]، وهذا يقول أنا أنفقت وصرَفت صِرفِيَّات في غير مَحَلِّها.
وفي هذا أيضاً بيانٌ لنا أنَّ النَّاجِح المُفلِح من المُؤمنين هو مَن يُحسِنُ كَيفيةَ التصرف في المال، إن قَلَّ أو كَثُر، فأمَّا:
فكم يَسْهُل على النفوس إنفاق الأموال الكثيرة في غير مَحلِّها، وفيما للنفسِ فيه حظ يَسهُل؛ في شَهوات، في مُحرمات، في سُمعَة، في رياء، حتى على ألعاب، حتى على أي شيء، لكن شيء خالص لوجه الله، مسكين محتاج فقير يُخَرِّج المال بصعوبة، لكن في حاجة فيها غرض لنفسه، تفضل! ينفق بكثرة!
ثم صار ذلك حتى على مستوى دول وغيرها، نِسبة ما يُنفَق في بعض الدول على بعض الألعاب وعلى بعض…، أضعاف ما يُنفَق على المساجد في البلد! أضعاف! وتَكلُفات وصرفيّات وما إلى ذلك، في هذه الدول التي في بعض شوارعها، بعض ملاعبها تكاليف كبيرة من السُّرُج والكهرباء وغيرها بالمبالغ الهائلة؛ ووسط البلد من مواطنيها فقراء! لا يصلهم شيء من هذا، بل يجوع فيهم الجائع! وفيهم المُتحمل أعباء ديون ما صرفها في تُرهات ولا في شهوات؛ لعلاج مرض أو لنفقة أولاده وهو غارق في ديونه وما أحد يقول له أنت في أين!، ولكن البلايين والمليارات مصروفة على هذه التحسينات والزينة والألعاب وما إلى ذلك!
ثم المُكافأت والرواتب، من الانحراف في شأن المال والتعامل معه: المكافآت والرواتب والتَقديمات لواحد راقص فنَّان -على قولهم- فنانة وحدة، ساقطة هابطة، مبالغ كبيرة.
أمَّا صالح، تَقي، عالِم، صاحب دين، إمام مسجد هذا أضعف شيء! أقل المكافآت! أقل الرواتب له هذا! ماهذا التصرف؟! ما هذه الموازين؟! من أين جاءت؟! وهل صار أهل الكفر يَصِلُون إلى هذا الحَدِّ في التأثير على داخلية أهل الإسلام؟! داخلية أهل الإيمان! ذلك لأن الهوى صار تَبَع للغَوَى؛ ما عاد صار الهوى تبَع للمصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وهكذا، وكم من عجائب واقعة في هذا الشأن!
في نفس الوقت، لولا أنه في خِضَمِّ ذلك، هناك أهل إخلاص وأهل تقوى وأهل إنفاق في مَحَلِّهِ، لولا ذلك، لكان فساد الأرض وشدائدها أكبر؛ لكن مع وجود هؤلاء يُخَفِّف الله بعضَ البلاء على الناس؛ وهم قِلَّة بين البقيَّة، والله يوفِّق مَن شاء.
وهذا مُغتَر بماله يقول: (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا(6)) يعني مبالغ ضخمة، وبعد ذلك؟ الذي يغتر برصيده ويغتر بهذا، ونحن نسمع في زماننا هذا -زمان التقدم- أنه أرصدة فلان أو أرصدة آل فلان جُمِّدَت! يا مَغرور بالمال إلى أين وصلْت؟! وبعضها هو جمَّدها بنفسه مسكين من شِدَّةِ حِرصه يضعها هنا ويُضَيِّع نفسه هنا وبعد ذلك، مات! وهي مجمَّدة هناك! ولا عاد وصلت حتى لأولاده ولا لأهله!.
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا(6))، ومثله: جمَّعتُ مالاً لُبَدا، جمَّعته وإلَّا أهلكته! وبعد ذلك، تريد تُغيِّر حُكم الله في الأرض بأن ينصر أنبياءه؟ بمالك هذا الذي أنفقته؟!. يعني: خَطِّط إلى أن تشبَع، وأنفِق الى أن تشبع، العاقبة للمتقين فقط، غير هذا لايوجد، لاتجد في الوجود أمامك غير هذا: (العاقبة للمتقين) [هود:49].
قال أصحاب سيدنا موسى: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) [الأعراف:129]، ثم أصدر التهديد فرعون: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [الأعراف:127]، هيا انظر، تأمَّل "ليُفسِدُوا" مَن الذي يُفسِد! أين الفساد؟! عند موسى وإلّا عندهم؟! هذا اعتقاد؛ (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، يعني الحق عندك أنت، ووهذا مبدأك وبس! (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29]. وهذه الفرعونية قائمة إلى اليوم عند أُنَاس: (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُۥ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَٰهِرُونَ * قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)، فإنَّ هذه الظروف والأحوال تحدث في العالَم ويختبر الله بها عباده (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) -أخيار، أشرار، صالحين، طالحين، مؤمنين، كفار- (يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) أرض، ولكن: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وحدهم [الأعراف:127-128].
(قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)، قال: مهما اشتد الأذى ومرَّت بكم سنون فإنه: (عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129]، يُهلِك عدوكم مثلهم؛ لأن سيدنا موسى؛ لأن هذه سُنة الله، كما نقرأ في الآية الأخرى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) [إبراهيم13-14]. (قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)؛ أمّا إنكم تلعبوا وتعملوا الذين تريدون في رؤوسكم! لا ..لا، وإلا تَنتقموا وتِشَفوا غيظكم في مَن آذاكم لا، لا: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129] منهجه تطبِّقون تمَشُّون نظامه (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
وكان ما كان، وأرسل الله آيات من رحمته ما عاجل فرعون بالغرق: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) -جدب- (وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)، وبعد ذلك ماذا حدث؟ (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ)، قالوا هذا الشر بسبب موسى هذا وقومه، البلوى التي جاءتنا هذه هم سبب هذه المشكلة: (ألَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وبعد ذلك ماذا حدث؟ (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)، ومن رحمة الله شد عليهم قليلا في بعض الاختبارات وقَّعوا ما عندهم (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ) [الأعراف:30-133]:
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ..) -اشتد الأمر- (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) -وانتوا كنتوا ماذا تقولون؟!- (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) -بماذا عندك؟- (لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ) [الأعراف: 134-135].
والحق ما عاجل بالعقوبة؛ ذَكَّر ذَكَّر ذَكَّر ذَكَّر آية بعد آية! هكذا يفعل بالناس، حتى قال بعض الكفار: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة:8]، قال الله: قل للمغفلين هؤلاء أنا أُمهِل ولا أُهمِل؛ سأخرِّهم فترات، ولكن المشكلة الكبيرة مَن مات على ذلك وراءه نار لا يدري بها! (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة:8]. مامعنى قولهم، لولا يعذبنا الله بما نقول؟! خالفتَ نبيه ؟!انتظر العذاب، أين ستذهب؟ اقعد سنتين عشر سنين، اقعد خمسة عشر سنة واجلس ثلاثين.. وبعد ذلك؟ تعال، الجزاء أمامك، أنت أمام قوي ما يخاف الفوات، إنما يستعجل مَن يخاف الفوات، أما أنت لن تفوت عليه، أين ستذهب (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ) [البقرة:96] لو عمَّرناك ألف سنة وبعد ذلك؟ العذاب أمامك، أين ستذهب؟ تروح! مالذي سينفعك إذا عمَّرت ألف سنة؟! الجزاء أمامك! العاقبة أمامك!.
قال الله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207] ماالذي استفادوا من تلك المتعة؟! كم سنين قعدوا؟ (ما كانوا يوعَدون) جاء ووصل! دخل في العذاب! ولا نفعه شيء، وإلا أحسن لو ما تعمَّر كثير من أجل يخف العذاب عليه؛ لأنه لمَّا يتعمَّر كثير يعصي كثير يكون العذاب أشد، فيقول ليتنا ما تعمَّرت!.ولهذا يقولون لمَّا يُعطَون كُتبهم بالشمائل: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) [الحاقة:27] موتة هي هذه ولا عاد قمتَ منها، (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:26-27] فلا المال ولا السلطان ينفع.
والآن يتنازعون عليه وتقوم عليه حروب كثيرة! وبعد ذلك يقول: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:26-27] لماذا لم تتذكر من الآن؟ اترك اللعب بدماء الناس وأعراض الناس، وبعد ذلك تقول: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) لا عاد مال ولا سلطان ينفع، وأنت قوَّمت الدنيا عليها وأشعلتها حروب واليوم ما عاد مال ولا سلطان! (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) -وأنت أين ستذهب؟- (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:28-32] .
يا أخس مال، ويا أخس سلطان هذا الذي لن ينفعك، لماذا من أول؟ قد قال لك النبي وما صدَّقت؟ قال لك الصلحاء في وقتك وزمنك وما صدَّقت، آيات الكتاب أمامك وما صدَّقت، مُغتَر بالمال والسلطان واليوم (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة:28-29] والمصير شديد! وأنت من أجل المال والسلطان ملأتَ لنا الدنيا زلازل وآذيتنا وبَوَّقْت ونَعَّقْت وكَبَّرت، والآن لا عاد مال ولا سلطان؟! ما عاد ينفع كله! ذهب وانتهى، أصبح صِفِرا! صِفِر! وأنت بعقلك وثقافتك تمشي وراء الصفر!. (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:205-207] ماذا نفعهم؟! لا إلٰه إلا الله، الله يجعل عاقبتنا خير والمسلمين أجمعين.
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا(6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)) نسي الرقابة الكبرى؟! (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)) كيف النظر؟! وكيف قام؟! وما هذا الإبصار! ومن أين؟
(أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)) سهل انطباقها، بكل سهولة وبحدود، ولا قُطرَة ماء تدخل؛ إذا طبَّقتها انتهيت، عجيب! ماهذا التكييف الدقيق التمام في كيفية إطباقها وفي سهولة فَكَّها! ولا تحس بألم ولا تحس بمشكلة.
(وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) طريق الخير وطريق الشر، وقلنا جاءت في روايات في الأحاديث: "إنما هما نجدان؛ نجد الخير ونجد الشر، فما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير؟!"ما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير؟ مع أنَّ عاقبة هذا السوء، وعاقبة هذا الجنة، لم تَستَحسِن هذا ولم تصير إلى هذا؟!
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)) بينَّا له طريق الفساد وطريق الصلاح، طريق الهدى وطريق الضلال، طريق الخير وطريق الشر؛ فهذا مُلهَم له الإنسان ومُبيَّن من الله تبارك وتعالى بواسطة الرسل والكتب (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
داخل في معنى الهداية قول عند بعضهم: أنَّ هذا الإنسان، لمَّا خرج من بطن أمه، مَن علَّمه أن يَمُصَّ الثديَ ويبتلع اللبن؟! مَن؟ بالضبط، مَن الذي تفاهم مع هذا الطفل لِيَجذب ثم يبلع؟ مَن؟ طفل خرج من بطن أمه، وطول الوقت الذي هو في بطن أمه، من حين ما تكوَّن، ما يعرف يمص شيء ولا يبلع شيء، هل هناك شي يبلعه وسط البطن؟ لا. الآن خرج، نريد واحد يتفاهم معه، يقول له: اسمع، أنت حياتك مرتبة، أنه لابد تدخِّل غذاء في بطنك، والغذاء لن يدخل إلا لابد أن تمص، وإذا مصّيت تبلع، هل تسمع أم لا؟ انتبه، انتبه، هيا تفاهم معه، لا لا اسكت ساكت؛ (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))
قال أسباب حياته وَكَّلنا إلهامنا به كيف يَمُصُّ الثَّديين، فَسَّر بعضهم (النَّجدين) بالثَّديين، فقط قَرِّبيه، ولا تقولين له ارضع، هو يرضع وهو يبلع، وإلا يكون يمص اللبن ثم يرمِّيه؟! وبعد ذلك مَن سيقول؛ يا ولد، لا ترميه، إدخله إلى داخل! لا زال لا يعرف لا عربية ولا انجليزية ولافرنسية كيف ستفهمه؟!
من أول يوم يخرج مستعد، فهو مُلهَم (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)) وهدى كل شيء لمصالحه، وهذا داخل في معاني قوله في سورة الأعلى: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3] تقديرات وهدايات لأصناف الكائنات، من جمادات إلى نباتات إلى حيوانات ،كلها (قَدَّرَ فَهَدَىٰ) سبحان الله.
كم تشرب الأرض؟ كم تشرب البذرة في الأرض؟ إلى أين تتوجَّه بِطَلْعِهَا وبنباتها؟ ما في واحدة من الحَبَّات تغلط وتمشي إلى تحت! دعْ الشجرة إلى تحت، أو تمشي في الأرض على اليمين، أو الحبوب ليست مبذورة بشكل مرتب، واحدة فوق وواحدة تحت وواحدة كذا: ضعها على أي كيفية اطرحها ستنقلب، وقت النبات ستنبُت إلى فوق، ما بتغلط ولا تذهب الى جنب ولا الى تحت، ومَن الذي يعمل من تحت؟ -الله- (قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3].
تجيء النملة وتأخذ الحبَّة، تخبأها وسط بيتها في مخازن لها؛ وفي الأوقات التي يُمكن نزول الأمطار فيها، مباشرة تبدأ النملة بأخذ الجزء الرأسي الدقيق في الحبة تقرُضه؛ حتى لا تَنبُت فيبقى في مَخزنها، وإن أمَطَرت المطر وأصابها البَلَلْ لا تنبت هذه الحبة؛ تبقى حبة لكي تأكلها، إذا طلعت شجرة ما عاد تعرف النملة تأكل.. تأكل شجر؟ ما تأكل شجر، هي تأكل الحبَّة، فمن القائل: يا معشر النمل إنَّ مرتكز نبات الحبة من هنا، إذا أخذتنّ هذا فلن تنبت عليكن وستبقى ، مَن علَّمهن؟.
وكذلك مملكة النحل وتراتيبها: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [النحل:68-69] تواضعي لأني سأخرج منك شيء طيِّب نافع، وهذا لا يأتي إلا من المتواضعين- تذلَّلي ودعي الفخفخة التي عند بعض الحيوانات، تلك سِبَاع لا يجيء منها عسل، ولا يجي منها فوائد..“ذُللاً" (ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) شكل هندسي مُسَدَّس؛ أنسب شكل لبيوتها ولكيفية إلقائها العسل وتجميعه وترتيبه، وفوقها أميرة، واتبعوا الأمير وما يصلح أميرين في مملكة واحدة! نظام وترتيب (قَدَّرَ فَهَدَىٰ) [الأعلى:3].
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)) حتى التقام الثدي إلهامٌ من الله، من حين ما نُفِخ فيه الروح، كان علقة، مضغة؛ العظام كُسيَت لحماً، بعد ذلك نُفِخ الروح، من حين نُفِخ الروح إلى أن خرج من بطن الأم ولا مص شيء أبدا! ولا يحتاج مص، مَن الذي يعلمه المص؟ خرج من بطن أمه، نريد واحد يتفاهم مع الطفل هذا، يقول له؛ انظر هنا الحياة لابد من مص هذا، تسمع أو لا؟ بأي لغة تفهمه؟ أسكت ساكت قد فَهَّمه المُفَهِّم، الذي حوَّله من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة؛ هو الذي علَّمه كيف يمص. وإلا سيفشل الناس..
وهذا في الحيوانات الأخرى كذلك.. وكيفية تربيتها لأولادها وتنميتها لها وتعليمها الأمور التي تحتاجها، فالنملة تُعَلِّم أولادها الأمور التي تحتاجها في معيشتها، والسمكة تُعَلِّم أولادها كذلك مسألة السباحة ومسألة الاصطياد كيف يكون، وماذا تأكل، ومن أين تأكل، وما الشجر الذي يصلح لها، والطيور كذلك، وكل واحد يُعَلِّم ولده الشيء الذي يصلح له.
والأخيار من الناس يُعَلِّمون أولادهم ما الذي يصلح لهم، والمفسدين في فسادهم "..فأبواه يهوذانه أو ينصرانه أو يمجسانه" وبقية الأجناس لا شي منها يخرج عن السُّنة الإلهية، كلها تمشي عليها (يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [الحج:18] والناس؟ قال: (وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ)، بعضهم لا يسجد لله، يخالف أمر الله، أما بقية الجمادات والكائنات كلها، والحيوانات مُسَبِّحة بحمد الله، لا شي يخرج منها عن طريقه، الله أكبر.
قال: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)) هذا الإنسان الذي خلقناه بهذه الصورة وكوَّناه وهو مغتر بقوته، هلَّ اقتحم العقبة؟ ولكنه يقول؛ هلّ (أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6))؟ أنفقتُ كذا كذا.. في أين؟ لِمَ لَمْ تضعه في محل طيِّب ؟ واقتحمتَ به العقبة؟! أنت ما اقتحمت العقبة، معك إمكانية ومعك فرصة فبقيت تحت، ما اقتحمت العقبة، تَطلع إلى شريف إنسانيتك، إلى كرامتك التي نريد أن نُكرمك.
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)): مجاهدة النفس، (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ):
والقصد: أننا نستطيع في باقي ليالي رمضان أن نقتحم العقبة ونعمل ما أحب الله مِنَّا؛ ندرك ليلة، خير من ألف شهر، يجي آخر ليلة، نكون في المعتوقين في المغفور لهم؛ يكون العيد عيد؛ عيد صِدْق.
وإذا قلتَ: "عيد مبارك" عيد مبارك، من العائدين إن شاء الله، لكن مَن لم يُغفَر له يلبس ثياب، عيد مبارك! عيدك أنت فيه بركة؟! وعاد ما غُفِر له! ذنبك عليك ما أُعتِقت من النار، وين العيد ووين البركة؟! زيِّد لعب فوق اللعب ولا ندري في أين تمشي! وعاقبتك في أين؟!! ما هو هذا العيد! ولذا كان يقول: "ليس العيد لمن لَبِسَ الجديد إنما العيد لن طاعته تزيد"، "ليس العيد لمن تَجَمَّل بالملبوس والمركوب إنما العيد لمن غُفِرَت له الذنوب". قالوا لسيدنا علي: عيد مبارك، اليوم عيد قال: "اليوم عيد، وأمس عيد، وغداً إن شاء الله عيد، وكل يومٍ لا نعصي الله فيه فهو عيد"، اليوم الذي لا نعصي الله فهو عيد.. المُحِبُّون لله كل يومٍ لهم عيد؛ عطاء جديد وفضل من الله، لي لهم من الله كل ساعة عَطْوَة جديدة.
الله يَسِير بِنَا في تلك السَّبيل السَّدِيدَة، ويجعلنا من أهل العقول المنوَّرة الرَّشِيدَة، ويبارك لنا في عشرنا هذه التي أقبلَت، يا رب بارك لنا فيها أيامها ولياليها، واجعلنا من خواصِّ أهليها، ورَقِّنا في مَرَاقِيهَا، واسقِنَا مِن عَذْبِ سَوَاقِيها، مع خواصِّ مَن ارتضيتَ واصطفيتَ وقَرَّبتَ وأدنيت ورفعتَ وأعليت، برحمتك يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
22 رَمضان 1436