(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))
الحَمدُ لله مُكرمنا بنُور القرآن، وبيان أصدق لسان، وتوضيح المَعالم والهُدى بلسان سيِّد أهل العِرفان، نَشهد أنَّ الله واحدٌ هو الإله، لا إله غيره ولا سواه، وأنَّ النَّبي مُحمَّد بن عبد الله رسوله وعبده وخيرته وصفوته ومُنتقاه، ونسأله تعالى أن يُديم الصَّلاة والسَّلام على هذا العبد الأكمل والحبيب الأرفع الأجمل سيِّد المُرسلين وخاتم النَّبيين مُحمَّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه الهُداة، ومَن أحبَّه وتابعه ووالاه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسل الله وعلى مَن اقتدى بهم واتَّبعهم إلى يوم لقاء الله تعالى في عُلاه، وعلينا معهم وفيهم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين يفعل مايشاءه.
وبعدُ،،
فإنَّا في نعمة التَّأمُّل لكلام الخالق الذي خَلَق، مَرَرنا على أوَّل سورة البلد، ونظرنا إلى قَسَم الواحد الأحد ببلدة مكة وذِكْرُ حِلال مُحمَّد بها، وعلمنا شرف البلدة المباركة ومكانها عند الله تبارك وتعالى ووجوب تأمين مَن دخل إليها ولو كان من الوحوش، ومن هنا جاء اختلاف الأئمة في جواز إقامة الحدود وسط حدود الحَرَم من قصاصٍ وغيره، أو أنَّه يجب أن يكون خارج حدود الحَرم كما هي مسألة في محلِّ نظر الفقهاء واجتهادهم، إلَّا أنَّه مُجمعٌ على أنَّ هذه البقعة مُميَّزة عمَّا سواها وأنَّه يجب أن يُؤمَّن مَن دخَلها: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران:97]، وقد شرَّف الله بعض البقاع ثمَّ يطرأُ على تلك البقاع أن يَحِلَّ فيها من أهل شرار الطِّباع ومن أهل فساد المَسالك والمَساع، مَن يحل!
وقد حلَّ مكَّة المشركون ودخلها أنواعٌ من الفتن والاجتراءات على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من بعد البعثة ومن قبل ذلك، وكلُّ ذلك لا يُناقض الأصل في أنَّ للمكان فضلٌ لا يُكدِّر عليه أنَّ أحداً أفسد أو فسق فيه أو عمل سُّوء، بل يُضاعف عليه الإثم والعذاب لكونه في هذا المكان كما قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]، ولا يُعطِّل شرف المكان ولا منزلته عند الله إذ اختاره الله تبارك وتعالى لأنَّه جَبَل هذه الدُّنيا على بروز كثيرٍ من صور الوَهم والخيال وعدم بروز الحقيقة.
إنَّما يُكشف الغطاء عن الحقائق بعد لقاء الخالق، عند الخروج من دار الغرور، ودار الزُّور، ودار الإفك، ودار المُخادعات، ودار الدِّعايات الكاذبات، ودار الغِش وما فيها من أنواع ذلك، ومع ذلك كلِّه ففيها الأنبياء، وفيها الأصفياء، وفيها الأولياء، وفيها الأتقياء، وفيها العارفون، وفيها المُقرَّبون، وفيها الصِّدِّيقون، وفيها.. فيها موجود، وفيها الغشُّ، وفيها الخداعُ، وفيها الكفر، وفيها الكذبُ، وفيها السُّوء، وفيها الحِيل، وفيها المكر.. وفيها ما فيها.. كلُّه موجود فيها! -جلَّ الله-وفي هذا المعنى كان يتأمَّل أبوالعلاء المعرِّي ويقول:
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
ففي محل واحد، قُبر واحد صالح وواحد طالح، وواحد خيِّر وواحد شرير، وواحد فاسق وواحد مُتَّقي، وواحد مُقرَّب وواحد مبعود، في محل واحد قبر هذا بعد هذا:
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ *** فأين القبور من عهد عاد؟
خفِّف الوَطء! يقول: امش رويداً وسر على ظهر الأرض، خلِّ عنجهيَّتك وكبرَك واتباعك لشهواتك:
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ *** أرض إلا من هذه الأجساد
قال: الظاهر كثرة الأجساد من بني آدم، لقد قُبرت في الأرض صارت تراب، الآن الذين على ظهر الأرض من آثار تلك الأجساد، فأنتَ تمشي فوق أجساد ناس مثلك، قبلك مشوا وبعد قليل ستدخل إلى التُّراب الذي دخلوه، خفِّف الوَطء! خلِّ العنجهية والاغترار بالمظهر وبالجسم وبالقوَّة وبالشَّهوات وبالدُّنيا.
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ *** أرض إلا من هذه الأجساد
رزقنا الله الاعتبار والادِّكار، إنَّه أكرم الأكرمين.
وأقسم بالبلد وذكر حِلال النبيِّ بالولد وذكرنا أنَّ لذلك معانٍ منها: أنَّه تحلُّ له ساعة، ومعلوم أنَّ إحلالها له ساعة إنَّما كان في عام الفتح، والآيات مكيَّة نزلت في مكَّة والحقُّ عالِمٌ بكلِّ شيء، فلا إشكال في ذلك، قد كان في مثل ما أنزل الله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) -هذا في مكَّة- (سيُهزَمُ الجمعُ ويُولّونَ الدّبُر) [القمر:44-45]، سيِّدنا عُمَر يقول: "كنت أقرأ الآية وأقول أي جمْعٍ هذا؟ ومن يولِّي الدبر"، هذا في مكَّة قبل أن يُشْرع القتال، ولا شُرع الجهاد بالقتال.
الجهاد جهاد، النَّبي مُجاهد في مكَّة، أتظنُّ النَّبي مُجاهد من بعد ما نزل الإذن بالقتال؟ النبي مجاهد من أوَّل يوم، مُجاهد من حين نزل من غار حراء، قال الله تعالى في جهاده في مكَّة قبل الهجرة وقبل الإذن بالقتال: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52]، فكان في جهاد كبير قبل مشروعيَّة قتال مَن قاتل من الكُفَّار، كان في جهاد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، فليس مَعنى الجهاد قتال! القتال واحد من أوجه الجهاد، إذا قام على مُقتضى الشَّريعة وقواعدها، وأُذن به متأخِّراً في السَّنة الثَّانية من الهجرة، أمَّا الجهاد فمن البداية من أوَّل ما بُعث النَّبي وقد جاهد الجهاد الكبير بمكَّة قبل هجرته من مكَّة: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52] يقول الله، فعلم الله سبحانه أنَّه سيأتي إلى مكَّة ويأذنُ له أن يقتل مَن شاء منهم، وأن يعمل ما شاء في أبواب الجهاد مما هو محرَّم على غيره في مكَّة المكرَّمة، فذكر ذلك.
والمعنى الثَّاني: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)) أنتَ بهذا البلد في حلٍّ تام لا تُقارب الآثام، ولا تفعل ما عليه تُلام: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)، والمعنى الثَّالث: ذكرناه أنتَ حلٌّ مُقيمٌ ساكنٌ بهذا البلد، أنتَ ساكن بهذا البلد فأقسم بمكَّة وذكر حيثيَّة لشرف مكَّة أنَّ حبيبه ساكن في هذا البلد المُشرَّف: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3))، وقد ذكرنا المعاني عند أهل التَّفسير في "الوالد والولد":
(لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)) وخُذ لها من جملة المعاني معنيان:
المعنى الأوَّل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) في هيئةٍ جعلناه فيها يُكابد الأطوار والتَّقلُّب فيها، وفيها أنواع من المَشاق: من نطفةٍ إلى علقة إلى مضغة.
خرجتَ من بطن أمَّك ولا فيك سن! من أين جاءت الأسنان؟ في عندك مصنع للعظام وسطك داخل؟ عظام قوية، قوية تقطع وتكسِّر وتطحن! لا إله إلا الله، وهذا يقع نباتها أيَّام التسنين عند الأطفال يتعبون فيه كثير. من جملة الكبد والمشقَّة التي تُلاقي الإنسان، يكبر فيأتيه مشقَّة التَّكليف، ويأتيه مشقَّة العيش وتجميعه؛ إن كان موسَّع عليه فمخاطبته على ما أخذ من أين أخذ؟ ومن أين أنفق؟ وهل يستعمل في الحلال أو يستعمل في الحرام؟ وإن كان مُقتَّر عليه كذلك هل يتلفَّت إلى الغير؟ هل يعمل في كذا؟ ويكون في حال ما يدرى إلَّا حصل هنا زلزال، وحصل هنا حرب، وحصل هنا أمطار غزيرة، وحصل هنا فيضانات.. وبعد ذلك؟ خروج الرُّوح من الجسد، وعامَّة الناس تشتد عليهم، وبعد ذلك، مساءلة في القبر ومخاطبة، ثمَّ روضة من رياض الجنة وإمَّا حفرة من حفر النَّار، وبعد ذلك، بعث من القبور، وقيام بين يدي العزيز الغفور -جلَّ جلاله- ومساءلة ومخاطبة وميزان وصراط وكتب بالأيمان أو بالشمائل، أيوا وهكذا..
يقول الله: أطوار تُكابدون فيها ومُكابدات، فلا تنتهي المُكابدة إلا لمَن؛ أكرمته بدخول جنَّتي ورحمته، واحد، نعم.. وشدائد المعاناة في مختلف المُكابدات أرفعها عمَّن أدخلتُه جنَّة معرفتي وإن كان في الدُّنيا، فهو مع المُكابدات في ارتقاء درجات وفي سعادات معنويَّات وفي رضا، ومرضيٌّ عنه من قبل الله تعالى: "عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلَّا للمؤمن"، ولذا يقول في شأن هذه الدُّنيا:
طلبُ الرَّاحة في الدُّنيا مَحال *** وأرى الأنسَ بها عينُ النَّكال
راحة الدُّنيا مع أهل الكمال
أهل الكمال الذين كمُلت صفاتهم وتهذَّبت نُفوسهم وصار أحدهم في الكمال الإنساني إنساناً كاملاً، هؤلاء راحة الدُّنيا معهم وراحة الآخرة معهم، حُسن الدُّنيا معهم وحُسن الآخرة معهم: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة:201]؛ وإلا فالمُكابدات موجودة، وأنواع المشاق موجودة، لكن بالنِّسبة لهؤلاء كنار إبراهيم حين دخلها، أصل النَّار مُحرقة لكن إبراهيم لمَّا دخل النَّار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69] كذلك أنوار المشقَّات وأتعاب الصَّادقين المُخلصين أحباب الرَّحمن (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا) فتكون بَردا وسَلاماً عليهم وهم في غاية الرِّضا والحقُّ راضٍ عنهم جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه. وهي درجات، ولكن الأصل في هذا الإنسان مُكابدة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)).
والمعنى الثَّاني: لأن هذا المعنى الذي ذكرناه، تضمَّن معنيين:
بعد ذلك معنى آخر (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)) في انتصابٍ واستقامة، وقد أورد ابن عبَّاس شِعراً لبعض العرب يعنون بالكبد الاستواء والاستقامة، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني سوَّيناه تسوية تامَّة وجعلناه منتصب القامة، حتى من أيامه في بطن أمِّه ينتصب ورأسه إلى فوق ورجليه إلى تحت، وعنده مُتَّكأ الكبد عن اليمين والطَّحال عن اليسار، وعلَّمه القعود والجلوس في بطن أمِّه، يطلع وينزل وسط بطن الأم، سبحان الله.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)) فهذا هو الانتصاب والاستقامة، وبقية الحيوانات مكبوبة على وجوهها تمشي على الأرض، لكن الإنسان منتصب الاستقامة، مستقيم القامة؛ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) ويدخل فيه معنى قوله: (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار:7] عزَّ وجل.
ثمَّ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) قال بعضهم: أنَّ آدم خُلق في السَّماء، وفي هذا إشكال؛ لأن آدم -عليه السَّلام- كُوِّن على وجه الأرض من الأرض: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) [طه:55] وأنه المراد بالكبد، وذلك إن أرادوا الرُّوح فأمرٌ، وإن أرادوا الجسد فإنَّما أقسم الحقُّ: (الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3))، أنه خلق الإنسان في كبد فأحسِن المُكابدة للأمور؛ يقول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق:6]، بعد ذلك تُلاقي هذا الرَّب يجازيك على هذا الكدح، وتلاقي هذا الكدح الذي عملته قدَّامك (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) فما دام لابد من كدْح؛ أحسن يكون خير وإلا شر؟ أحسن يكون حسنة وإلا سيئة؟ خلِّه خير وخلِّه حسنات وخلِّه نور، فإنك ستلاقي هذا الكدح، وتُلاقي هذا الرَّب -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)).
ثمَّ التفت على الطوارئ التي على هذا الإنسان فتُغيِّبُ عنه أصل خِلقته وتكوينه ومرجعه إلى مكوِّنه سبحانه وتعالى فيغترُّ بشيء من القوَّة؛ سواء في جسده، سواء في ماله، سواء في قبيلته، سواء في أسلحته، سواء في اقتصاده، سواء في تفكيره.. في أي شي.. يتخيَّل قوَّة عنده فيغتر؛ قال: (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)) في قراءة: (أيَحسَب)، وفي قراءة: (أيَحسِب). (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ)، (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت:15]، ولمَّا يرجع النَّاس كلَّهم بعد كشف السِّتارة هذه إلى العالم الأُخروي: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) كل القوَّة لله ما كانوا أقوياء إلا في خيالهم، إلَّا في وهمهم، ما كانوا أقوياء، القوَّة كلَّها لله الذي خلقهم وإليه مرجعهم ويحكم على هذا بدخوله الجنَّة وهذا بدخوله النَّار، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة:165].
وكان بعض المشركين عنده شيء من القوَّة وكان يفتخر بذلك ومنهم قالوا: "أبو الأشد"، وقالوا: "أبوالأشدين" ضخم قوي، كان من قوَّته يغترُّ بالجلد العكاظي، يضع رجله عليه يقول: مَن نزعه من تحت رجلي له كذا وكذا أعطيه، ويأتي الأقوياء يسحبون الجلد من هنا ومن هنا وما يتحرَّك من مكانه حتى يتشقَّق هذا الجلد القوي ويتقطَّع وهو تحت رجليه ثابت ما يروح من مكانه، فيغترّ بقوَّته
ومنهم: الوليد بن المُغيرة وغيرهم.. ولهم بعض كلمات، ويغترُّ بماله وما عنده، فيُماطل بعضهم في الدَّين للمسلمين وما يُعطيه دَينه ويقول له: إذا ما أعطيتني حقي في الدُّنيا آخذه منك يوم القيامة، يقول له: آه، أنت تقول يوم القيامة؟ إذا جئت في القيامة؛ أنا هناك لي مال كثير وعندي أولاد هناك سأعطيك من هناك بعد ذلك، يقول: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا اطلع الغيب * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) [مريم:77-80] جراءته هذه، قليل حياء، والتَّحدُّث بالفسق وبما لا يعلم، وبالتَّجري على الحق؛ (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) انظر الى نتيجة كلامه هذا! أي عذاب هناك؟ لا مال ولا ولد في الآخرة، ثمَّ يقول: (وَيَأْتِينَا فَرْدًا) [مريم:80-81] وحده ما معه قبيلة، ولا معه جماعة، ولا معه حكومة، ولا معه أنصار(وَيَأْتِينَا فَرْدًا) لا إله إلا الله.
وهكذا كما قال بعد ذلك: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:93-95]، (يَومَ تَأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) [النحل:111] والأهل والولد؟ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس:34-36]، فالله يرحمنا في ذلك اليوم، ويجعلنا مع خيار القوم، إنَّه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5))، يغترُّ بقوَّته وبما عنده، وبعد ذلك يتصرَّف في أموره وينسى الرَّقابة الكُبرى، ما الرَّقابة الكُبرى؟ رؤية الله، (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)) ما عليه رقابة من فوق؟ (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80]، ففساد الإنسان أن ينسى الرَّقابة الكُبرى، وما أغنت عنها بقيَّة الرَّقابات.
الآن ما يكون العنصر من بني آدم الصَّالح في الوجود كلُّه إلا من عنده إيمان وخوف من الله أو استجابة لأثر الفطرة، يحمله عقله على أن يُمسك نفسه عن بعض الأشياء على وجه الأرض، وهذه بقايا آثار أيضاً في الفطرة متعلِّقة بنور النُّبوَّة والرِّسالة -وإن انقطعوا عن النُّبوَّة والرِّسالة- ولكن بحُكم الأصل والتَّكوين بقي في الرُّوح وبسط العقل والأجزاء التي سلِمت منه من التَّشويش بالغبش وبالأوساخ والقاذورات من الأفكار والوجهات، يبقى بهذا -بحكم الإنسانية- هذا العنصر الذي يمكن أن يكون محلَّ أمان في مجتمع الإنسان ككل.
أمَّا غير هذا، الذي ما يخاف الله وهو مسلم وإلا غير مسلم، ما تحكِّم عليه حكم الفطرة بقوَّة؛ فالمشاكل منه موجودة والمصائب الموجودة في العالم منهم اليوم، كل أنواع المصائب الموجودة على البشر بسبب هؤلاء الذين نسوا الرَّقابة، صلَّحوا بعد ذلك جهاز محاسبة ومراقبة وصلَّحوا لهم مخابرات، وصلَّحوا لهم عيون، وصلَّحوا لهم شُرُطات، وصلَّحوا لهم.. ما أغنت.
إذا لم يسقها سائق من ضميرها *** وإلا فأعيَت سائقاً بعد سائق
وكم تكثر العصابات في محلات النظام هذا! تكثر بشدَّة، وكم بعد ذلك يكون خراج العصابات الكبرى من عناصر في محل القهر كما يقولون، أو في محل حماية النِّظام والتَّنفيذ! هم عناصر متفقين معهم، وبعد ذلك إذا وقعت الورطة، يخرجون بسبب هؤلاء من الداخل! الله.
هذا وضع البشر بلا مغالطة، بلا مكابرة، بلا كذب، بلا خداع فإنَّ كثير من عقليَّات المسلمين خُدعت خدعة كبيرة، وظنُّوا أنَّ هناك حقائق جم عند غير من أسلم، والمُتبجِّحون بذلك ربما كانوا أضلع في أنواع الفساد الموجود على ظهر الأرض، إنَّما القيم عند الأنبياء وعند أتباع الأنبياء صلوات الله عليهم؛ هم أهل القيم، هم أهل الشِّيم، هم أهل الكرم، وما ضيَّعنا من صلتنا برسول الله هي محلُّ الشَّقاء ومحلُّ التَّعب بيننا (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النور:63]، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور:54]
ثم ما بالأمَّة؛ مسلمين وغير مسلمين، إلا مخالفة حبيب الله، ومخالفة منهجه؛ هذا رأس المشاكل القائمة، اقتصادية وعسكرية واجتماعية وبأنواعها؛ هذا رأسها، رأس المشكلة هذا، وكل مَن تحدَّث في حلول من غير هذا، فإنما يُريد أن يُعالج جسداً بلا رأس! لن يكون الحل! ما كان ولن يكون، حتى يرجع إلى الرَّأس ويؤخذ، فإذا أُخذ فالأمر كما قال الله تبارك وتعالى: (فَمَنْ اتَّبَع هُدَايَ فَلا يَضِّلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:123] اللَّهم ثبِّتنا على دربه، واجعلنا من أنصاره حقيقة.
قال: (أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)) نسي رؤيتنا إيَّاه، أنتَ رؤيتك القصيرة هذه تهابها من أمثالك ونظرائك من البشر، الذي أعطاكم هذه الرُّؤية هو الذي يرى (أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ) [العلق:14]، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ماهي رؤيتي ورؤيتك، ورؤية الإنس والجن والملائكة، هذه كلها موهوبات من عنده، لكن كيف رؤيته هو؟ الله، الله، الله، الله، الله، كيف رؤيته هو؟!.
يُمثِّلون ويُقرِّبون للعقول عظمة رؤية الحق سبحانه وتعالى للأشياء يقولون: يرى النَّملة السَّوداء وسط الصَّخرة الصَّماء، في اللَّيلة الظَّلماء، فلو فرضنا نملة ذرَّة سوداء وسط صخرة صمَّاء رمينا بها في أعماق البحار وجاءت ظلمات اللَّيل، فالحقُّ يراها ويرى عروقها ويرى مخَّ هذه النَّملة وما فيها، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، ولذلك يقول:
يا مَن يرى مدَّ البعوض جناحها *** في ظلـمــة اللَّيــل البـهــيــم الأليـل
ويـرى نيوط عروقـها فـي ساقها *** والـمُخَّ في تـلـك العــظـام النُّحّــل
أمـنـن عـلـيَّ بتـوبـة تـمـحـوا بهـا *** مـا كـان منِّـي فـي الـزَّمـان الأوَّل
(أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7))! أين ذهب هذا؟ عنده بشر مثله ظن إنه ما أحد يراه! قال الله: أين أنا؟ أين رؤيتي؟ نسي أنني أرى كلَّ شيء؟! أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ) [طه:46] جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
والرؤية آية من آيات الله أعطانا الله إياها، ماذا يعمل فيها بنوآدم وأطباؤهم إذا تقدَّموا؟ يرون تكوين الله وسنَّته وبِمَ تقوم الأعصاب وبما.. فلا يستطيعون إلا أن يمضوا على تلك السُّنة في تدارك شيء، وشيء ما يقدرون على تداركه، فقط هذا هو! .. آية من آيات الله هذه الرُّؤية، وبعد ذلك؟ بهذا النُّون في العين الصَّغيرة، عدسة تُصوِّر لك ناس، ديار، مساجد، صحاري، أراضي، بحار، هواء، جو، آفاق، نجوم، كواكب.. أووه! كم كبر العدسة التي معك هذه؟ وكيف صوَّرت هذا كلُّه؟ وتعطيك مقاسات مضبوطة، ويأتون لك بعدسات؛ شيء تقرِّب بعيد، شيء تبعِّد قريب.. انظر هذه تعطيك عدسة، ضبط.. ويُنبِّهون السَّائق ويضعون له عند المرآه في السَّيارة: المقاسات تظهر في الصُّورة على خلاف ما يعرفه الواقع! أقرب أو أبعد، وانتبه! لكن هذه عدسات مركَّبة بقياس دقيق، سبحان الله.. وبعد ذلك: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل:78]؛ هذه آيات من آيات الله سبحانه وتعالى انظر فيها.
بعد ذلك يجيء مثل نبيُّه وعبده سيدنا محمَّد يقول مسألة الرُّؤية هذه عندكم أنها بالأسباب، قامت في حدقة العين فقط ما ترون شي ثاني وإني : "أراكم من ورائي كما أراكم من أمامي" كيف؟! قال: واهب الرُّؤية والبصر أعطاني بصر أمام ووراء، ما عاده محصور في الحدقة: "أترون قبلتي هاهنا؟ فوالله لا يخفى عليَّ ركوعكم ولا سجودكم، إني أراكم من وراء ظهري"، ولذلك جاء في وصفه: "كان يرى من ورائه كما يرى من أمامه" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يُعطي الله ما يشاء لمَن يشاء سبحانه وتعالى.
ولهذا تتَّسع هذه الرُّؤية في عالم الآخرة، وبعد ذلك مسافات تراها؛ (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) [الأعراف:44]، (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف:50]، كيف يبلغ الصُّوت؟ كيف يبلغ النَّظر؟ (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) [الصافات:55]، كم مسافة بين الجنَّة والنَّار؟ أووه، وتروح هذه المسافة كلَّها وينظر! سبحان الله!.
وهكذا، شؤون بديعة عجيبة، وسبحان السَّميع البصير، خالق الأسماع والأبصار للكائنات كلّها، عندنا هدهد في عينه خصائص؛ يرى الأرض، يرى محل الماء، وكم عمقه ومسافته، وهل عينك أكبر وإلا عين الهدهد؟ ومع ذلك أنت ما ترى، هو يرى! حتى كان سيدنا سليمان إذا أراد أن يحفر بئر يدعو الهدهد، يقول: انظر إلى الأرض، أين مكان الماء؟ أقرب؟ يهتدي.
وبعد ذلك تأتي أطوار هذا النظَّر والبصر عجائب وغرائب، خلايا فيه ملايين ووظائف لها، وأنه كيف الرُّؤية تكون عند الحيوان ما ليست عند الإنسان، ولها في اصطلاحاتهم تأويل بما وصلوا إليه في عالم الحس وما وراء ذلك أكبر، ويقول: "إذا سمعتم صراخ الدِّيكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملَكاً"، ديك يرى ملك قُدَّامه! "وإذا سمعتم نهيق الحمار فاستعيذوا بالله من الشَّيطان فإنها رأت شيطان"، الحمار ينهق عند رؤية الشَّيطان، والدِّيك يصرخ عند رؤية الملك، سبحان الله!.
وهكذا، قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "إني أناجي مَن لا تُناجون"، يعني أكلِّم مَن لا تكلِّمون أنتم، هذا لمَّا ردَّ العشاء ليلة كان عند سيدنا أبو أيوب رضي الله عنه، سيدنا أبو أيوب الأنصاري الذي نزل في بيته في المدينة المنوَّرة، فكان كل يوم يبعث العشاء إليه، فإذا تعشَّى يأخذوا إناءه، قال: "فأتبادر أنا وأم أيوب نتسابق على مواضع أصابعه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- نأكل منه"؛ هؤلاء الصَّحابة وهذا مذهبهم وعقيدتهم، على كلِّ حال، ومعلِّمهم عندهم، قال: ففي ليلة رجع الإناء من عنده ما في أثر لأصابعه! ففزع أبو أيوب، ماذا؟ أفي طعامنا شيء؟ حصل لرسول الله شيء؟ ما الذي أخَّر رسول الله؟ لماذا ما طعم عشاءنا اللَّيلة؟ ما أكل شيء من طعامنا؟ فدخل عليه: "يا رسول الله، ما وجدت أثر أصابعك في طعامك"، هل في شي؟ قال: "إنَّ فيه من هذه شجرة" يعني الثُّوم قال: به ثوم "وإني أناجي من لا تناجون" يعني أُكلم من الملائكة وغيرهم مَن لا تكلمون أنتم، فما يكون في فمي رائحة ثوم ولا غيره، فإنَّ الملائكة تشمئز مما يشمئز منه بنو آدم، قال: أهكذا يارسول الله؟ خلاص من اليوم ما يدخل الثُّوم بيتي خلاص، فترك إدخال الثُّوم أصلاً إلى بيته من ذاك اليوم عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
ما أعجب هؤلاء القوم وتبعيَّتهم للحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وما أعجب إيمانهم، يتحكَّم حتى في عاداتهم وبتقاليدهم في مطابخهم.. بإيمانهم، ما حرَّم عليهم ولا نهاه ولا.. قال: كلوا أنتم "إني أناجي من لا تناجون" قال: خلاص، ونحن نعرف الطَّريق، ولا عاد يدخل هذا إلى بيتنا بعد هذا اليوم. محبَّتهم تبع له، هواهم تبع له، رغبتهم تبع له، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهم المؤمنون حقًا، هم المؤمنون حقاً، اللَّهم ارزقنا متابعته ومحبَّته والاقتداء به واجعلنا لاحقين بأولئك المؤمنين الصَّادقين المخلصين يا أرحم الرَّاحمين.
(أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)) قال الله: إيـــه، تأمَّل أنت، من إين جئت؟ (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)) جالس تتلفّت يمين وشمال، وتحت وفوق ونسيت من إين ذلك البصر! من مخزن مَن؟ عمَّك، خالك، جدَّك، جدَّتك، أعطوك العيون؟ من إين جاءت؟ (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) أومن شركة؟ أوحكومة؟ من أين جاء هذا؟
(أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا) ينطق به، يطعم به، مرتَّب ترتيب عجيب، في كل محل طعم، لون مخصوص، فيطعم الحلو من أوَّل لسانه، والمرّ ما يشعر به إلا في آخر اللِّسان لما يصل إلى هناك، ويطعم المالح من جانب، ويطعم الحامض، عجيب! ما هذا التَّقسيم والتَّوزيع؟
وماذا بعد ذلك؟ ويتكلَّم بها، والكلام حروف، مخارج من عند الشَّفتين إلى آخر الحلق، أقربها هنا الباء والميم يخرج من طرف الشَّفة، وآخرها الهمزة من وسط الحلق آخر الحلق، وما بين مخارج الحروف كلّ واحد من مخرجه، ومن أوَّل، ومن وسط ومن آخر حروف…بسرعة تجيء ما في عليك مشكلة، تقول: هذا الحرف ما أنطق به إلا بعد هذا، لأن هذا مخرجه بعيد، بعيد وإلا قريب كلُّه سواء من الأول إلى الآخر، ينطقه بسهولة، الله! وعندك لسان معك، عنده منابع للرِّيق من شأن يبقى رطب وعذب، والرِّيق عذب؛ هذا وما يخرج لك مالح، الرِّيق، ولا مُر وتعمل مشاكل إنتَ وإياه!
وماذا بعد ذلك؟ وتقلِّب اللٌّقمة بسهولة، تدفعها لليمين ولليسار وللأمام والخلف، وهو -اللسان- يجي معاك وينكمش ويمتد ويروح هنا ويروح هنا، وإلا لو كان اللسان قطعة كذا، ما تتحرَّك، كيف ستأكل اللُّقمة؟ وتجي بها لهذا الشق بأصابعك، بعد ذلك، تريد تحولها للشق هذا، كيف؟ وبتدفعها إلى الأمام، كيف؟ ولو ما في هذا الرِّيق الذي يرطِّب اللسان، كل ما تأخذ أي لقمة تتبعها بماء، وكل لقمة بماء كيف؟
لا.. لا كل شي مرتَّب ومقدَّر: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)) فوق اللِّسان، وأيضًا تُطبقها وتحفظ جمالك وجمال فمك وإلا بلا شفاه، تفزِّع.
(وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) بيَّنا له الطَّريق الخير والشَّر: "إنما هما نجدان: فما الذي جعل نجد الشَّر أحب إليكم من نجد الخير؟" نجدان، طريق خير وطريق شر. وقد روى ابن عساكر رضي الله عنه عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عن الله تعالى أنه قال: "ابن آدم، أنعمتَ عليك بنعمٍ عظيمة لا تستطيع حصرها ولا تقوم بشكرها، ومن نعمي عليك جعلتُ لك عينين، وجعلت لهما غطاءين، فانظر ما أبحتُ لك فإن رأيتَ ما حرَّمتُ عليكَ فأغمض عينيك، استر.. وجعلتُ لكَ لسان، وجعلتُ له شفتين، فتكلَّم بما أبحتُ لك، فإذا حضرك ما حرَّمتُ عليك فاطبق شفتيك، اطبق.. وجعلتُ لكَ فرجا وجعلت لك ستراً، فاستعمل فرجك فيما أحللته لك، فإن وقفت على ما حرَّمت عليك فاسبل سترك.. اسبل الستر الذي سترته عليك، ابن آدم إنك لا تطيق عذابي ولا تقوى على سخطي"، ما تقدر عليه، فالله يرزقنا تقواه.
(أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) طريق الخير وطريق الشَّر (النَّجدان)، هذا من المعاني وبقي بعض المعاني المتعلِّقة بها، وما نكمل به السُّورة إن شاء الله في أيامنا المقبلة.. ورمضان يهرب علينا هرب! كنَّا في أوَّله والآن نحن نختتم العشر الأواسط، ولا يبقى معنا إلا ثلثه العشر الأواخر والرَّابح فيها يربح والخاسر يخسر، والله يجعلنا من الرَّابحين، ويجعلنا من الفائزين، ويُقدمها علينا بخير إن شاء الله، ويُبارك لنا فيها وفي لحظاتها وفي ساعاتها.
ياربّ بارك لنا، بفضلك جعلتنا في أمَّة هذا النَّبي وأدركنا رمضان ووصلنا الآن إلى آخره، فبارك لنا في أواخره أعظم مما باركت لنا في أوَّله، واجعلنا فيه أسعد، واجعلنا فيه أمجد، واجعلنا فيه نمتد، واجعل لنا فيه وافر المدد من حضرتك يا صمد، يا واحد، يا أحد. وأذن فيه بتفريج كروب المسلمين، تذكَّرنا غزوة بدرٍ قبل ليال، وها نحن في العشر الأواخر نتذكَّر فتح مكَّة على يد نبيك محمَّد، فافتح للمؤمنين فتحاً مبيناً في صلاح أحوالهم، ودفع السُّوء عنهم، وجمع شملهم بعد الشَّتات، ورفع سلطة أعدائك من عليهم، وولِّ عليهم خيارهم، واصرف عنهم شرارهم، وأصلح شؤونهم كلَّها يا مصلح الصَّالحين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
21 رَمضان 1436