(536)
(228)
(574)
(311)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1436هـ.
﷽
(لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3))
الحمدلله حمد الشاكر المعترف بالعجز عن الحمد والشكر، المفوض الأمر لعالم السر والجهر، الموقن أن رحمة الله -تبارك وتعالى- أرجى له من أعماله، وكلها تحتاج منه إلى الغفر والستر. ونشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو جامع الأولين والآخرين ليوم الحشر، ونشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله البدر، السراج المنير الذي أقام الله به الطريق ومعالمها، وأوضح الحقيقة ومكارمها، صلّ اللهم وسلم وبارك وكرم على السراج المنير عبدك المجتبى المصطفى سيدنا محمد، الذي كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، صلِّ معه على آله المطهرين عن الأدران، وصحبه الغُر الأعيان، وعلى أهل متابعته والاقتداء به باستقامة واتزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان.
أما بعد،،،
فإننا في تأمل معاني كلام ربنا سبحانه، وهي من النعم التي يختص الله بها من يشاء على ظهر هذه الأرض ليكون لهم نورًا في يوم الجمع والعرض، وما كل الناس على ظهر الأرض يتصلون بالقرآن، وإنما يتصل بالقرآن فيثبت على ذلك ويتوفى عليه من أراد الله أن يسكنه الجنان، فالله يجعلنا مع القرآن ويحشرنا في زمرة أهله.
قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24]، فويل للقلوب التي أقفلت عن معاني القرآن فيمضي بها الأيام والأشهر ومنها رمضان والفكر منصرف إلى الدون والأدران، والحجاب غليظ قد طلع على القلب الران، لا التفات لهم إلى شريف المعان، إنما يعبدون البطون والأهواء والشهوات، ويتبعون الشيطان، فقفّلت قلوبهم عن القرآن، فويل لهم، وهو الميسر لمن أراد أن يتدبر ويتذكر، يقول جلّ جلاله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:22].
وانتهينا إلى سورة البلد، والمراد بالبلد؛ بلد النبي محمد، حيث ولد ونشأ، وحيث تلقى الوحي عن الحق -تبارك وتعالى- الذي فطر وأنشأ، فحمل الرسالة في ذاك البلد والوادي المبارك إلى العالمين.
سمّاها الحق سورة البلد، وأقسم فيها بالبلد، فقال في أولها:
(لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) ) إلى آخر ما أقسم عليه. وهكذا جاءت في عدد من الآيات الكريمة: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)[الواقعة:75] ، (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ )[القيامة:1-2].
(لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1))، أي أحلف بهذا البلد، مكة المكرمة، المشرّفة المعظّمة، وفيه إشارة إلى أن الله يفضل بعض الأماكن على بعض، وكلها أرضه، ومن هذا، بأي عقل وبأي دين لا يدرك التفرقة بين موطن عبادة! من صلاة وعلم! كالمساجد ومحل الذكر، ومكان قضاء الحاجة ووجود الأوساخ ووضع القمامات، من لا يفرق بينها؟!، فالفوارق كثيرة
وهناك من قِبل الرحمن اختصاصات للأراضي وكل هذا لا تمنع فضله عن أن يتفضل على صادق معه لم يدخل هذه الأراضي، لا تمنع فضله! ولكن الواصل إليها والداخل إليها إذا قام بحق الإعظام والإكرام لمن شرّفها، فهو جدير بأن يحصّل من المثوبة والخير الكبير مالا يحصل في غيره، كان من أخص ما جاءنا به الوحي الشريف في التفضيل للبلدان؛ مكة المكرمة، ثم ما جاءتنا به السنة الطاهرة عن مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم عن تفضيل بعض الأراضي على بعض.
وقد ذكر لنا ﷺ فيما جاء في الصحيحين، أن الله فصل بين ملائكة الرحمة والعذاب حين اختصموا في التائب الذي مات في الطريق خارجًا من بلد الأشرار يريد بلد الأخيار، وجعل الحُكم أن قيسوا بين الأرضين فإن كان أقرب إلى أرض الأخيار فلتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان أقرب إلى أرض الأشرار فلتأخذه ملائكة العذاب، فأي مؤمن بعد هذا لا يفرق بين بلد الأخيار من بلد الأشرار! أي مؤمن بعد هذا لا يفرق بين موطن الأصفياء والأولياء وموطن الأشقياء والمفسدين والعاملين للمنكرات! والله الفرق كبير، فحكَم الله بينهم ذلك.
ولهذا المعنى وإدراك هذا الفرق، فإن سيدنا الكليم موسى لما جاءه الموت " فسأَل اللهَ أنْ يُدنِيَه مِن الأرضِ المُقدَّسةِ رَمْيَةَ حَجَرٍ" قربني إلى الأرض المقدسة، طلب القرب من الأرض المقدسة وهي مقدسة بنص الكتاب العزيز(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) [المائدة:21]، وهي أرض مباركة فيما قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) [الإسراء:1].
فإذا نظرت إلى البركة هذه ومظاهر تخصيص المكان بها ما وجدت إلا أنبياء وصلحاء وكثرة منهم وجدوا هناك، مكان ومسجد أقامها الله وشرفها الله تبارك وتعالى، له أن يُشرف ما شاء وأن يُعظم ما شاء -جل جلاله- فكان من جملة هذه ما حُدثنا في الأحاديث عن تفاوت الأماكن وتفاوت الأراضي وتفاوت البلدان والأماكن بالمكين بحسب القائمين فيها، وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها تشقى كما تشقى الرجال وتسعد، ولهذا المعنى كان يقول شاعرهم الإمام العالم العارف شعيب أبي مدين المغربي عليه رضوان الله:
لله قوم إذا حلـــوا بمنزلة حــــل *** الرضا ويسير الجَود إن ساروا
تحيا بهم كل أرض ينزلون بها *** كأنهم لبقاع الأرض أمطـــــارُ
وهكذا جاءتنا النصوص على هذه المعاني، وكَون مكان عن مكان مخصوص بما خصه الله -سبحانه وتعالى- وبما اصطفاه، وبما أعطاه وبما ارتضى فيه، ومن أظهر ذلك فيما ذكرنا؛ مكة فهي البلد التي حرمها الله ومنع القتل فيها ومنع أن تعضد أشجارها ومنع أن يصطاد الصيد ويقتل فيها، بل حرّم تنفيره، من دون أن تقتله؛ أن تنفّره حرام!.
إذا أمامك حمامة فلا تنفّرها وامش هوينًا، فإن وجدتها في طريقك ابتعد عنها، فإن تنفير الحمامة وسط الحرم حرام، تأثم عليه، تكون انتهكت حرمة الذي حرم هذه البلدة؛ (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) [النمل:91]، جعل لها حرمة تمتاز عن بقية الأراضي، ولذا ظهر على الناس من أخبار الأنبياء هذا السر، وهو تحريم الله لهذه الأرض فبقي حتى أيام الجاهلية يرى الواحد منهم قاتل أبيه متمكنًا من قتله فلا يكلمه لأنه وسط الحرم، حتى يخرجوا من الحرم، هكذا أمّن الله فيه حتى الوحوش التي تصطاد إذا دخلت أرض الحرم، قف! ..لا تقتلها، بل لا تنفرها!! إن نفرتها أثمت!.
كما يفعل بعض الرجال يجيء حول الحرم -وقد قل الحمام الآن كان الحمام كثير هناك- يريد الصلاة فيطيّرها، يخليها تطير بسبب مروره، أنت تريد تعظيم هذا الإله وبيته وتنفّر الصيد في حرمه وتقلّ الأدب عليه، ما أدري صلاتك تكافئ هذا الذنب وإلّا ما تكافئ هذا الذنب، اعقل وتأدب، أنت في موضع الأدب، قال ابن عباس: "مارأيت ربي يؤاخذ على مجرد الإرادة إلا وسط هذا الحرم"، قال: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]، ما قال من ألحد! قال من يُرد فقط! من يريد الإلحاد! نذيقه العذاب الأليم، فعظمها، فصار يدخل بالأدب ويطوف ويسعى ويعود ويرجع إلى الطائف يخرج من الحرم، لا مهاجرًا له ولكن معظمًا مهتابًا من شأن الحرم، متهيبًا لأن يبقى فيه لتعظيم أمر الله -سبحانه وتعالى-.
يقول الله: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1))، أنا أقسم بهذا البلد، وهذا البلد بحرمته ومكانته، لم يحل لأحد؛ لا آدم ولا أولاده ولا إبراهيم ولا أولاده ولا موسى ولا أحد من الأنبياء ولا غيرهم، يقول له أنت وحدك يا حبيبنا محمد تأتي ساعة نحلّ لك الحرم فيها من أجل أن يعلم الناس أن منزلتك عندنا أعلى.
وقال له: (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2))، أي ستحل لك البلد في ساعة تأتيك أحل لك أن تقتل فيها من شئت وما أحللت هذا لأحد من قبلك، ولا أحله لأحد بعدك، أنت حل بهذا البلد، وفي هذا جاءنا في الصحيحين "أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض" لا يصطاد صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ويقول ﷺ في معنى كلامه: "من احتج بقتال نبيكم فقولوا إن الله أحلها لنبيكم ولم يحلها لكم"، فمن ترخص فيها لقتال رسول الله وقت دخوله في عام الفتح،
وقُتِل واحد هناك -ابن خطل- وهو معلَّق بأستار الكعبة قالوا له: "بن خطل تعلق بأستار الكعبة"، فقال لهم: "اقتلوه"، لكن هذا الآخر الذي كان يكذب على النبي ﷺ ويجيء ويقول استكتبنا فيما نزل عليك من آيات الله تعالى، فإذا قال له: غفور رحيم يكتب رحيم غفور! ويقلب بعض الكلمات! ما قلت لك هكذا، ثم ذهب مرتدًا إلى مكة وأخذ يتكلم عن النبي ﷺ، فكان ممن أهدر دمهم. وهؤلاء الذين أهدر دمهم، أكثرهم اُستُرحم لهم فرحمهم وما قتل منهم إلا القليل، ثم يقول ﷺ: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"؛
أنا أقسم بها: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) )، "وأنت" يعني "واو" الحال أي حاله أنت حِل بهذا البلد، أنت مقيم فيها، ولدت فيها ونشأت فيها ونبئت فيها، أقسم بها، فجعل من مناط الفضل لمكة والشرف حلول النبي ﷺ كيف لا تتشرف بحلول أشرف الخلق، إن كان أرض من الأراضي تتشرف بأي شريف، فهذا الأشرف فوق كل شريف.
شريف زاده شرف .. وبحر ماله طرف .. وكل منه يغترف ﷺ
والحق تعالى ذكر الشرف منوط بالمكين، بالحال، بالساكن، حتى بين المساجد، حتى بين المسجد والمسجد، هذا مسجد وهذا مسجد لكن هذا فيه ناس أصفياء أتقياء أنقياء وهذا فيه ناس دونهم، لا يستوون (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) [التوبة:107-108]، لا تدخل ولا تصلي فيه ولا تأتي عندهم: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108]، تشرَّف وعظِّم المسجد بالمكين الذي فيه؛ بالساكن الذي فيه، بالمقيم الذي فيه، (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108]؛
فنحن في مثل هذه الساحات والمواقف عندنا إرادة أن نتطهر، مختلفة، وبعضها أقوى من بعض، ولسنا كلنا سواء، وسيفوز من كان أقوى محبة؛ أن يتطهر، هاهو سبب انبعاث كثير من النظر الإلهي والجود الرحماني والفيض الرباني في المواطن والمجالس؛ بصدقه في أنه يحب أن يتطهر من أدران الذنوب والمخالفات والمعاصي، وإيثار غير الله على الله، والغفلات بأنواعها والرياء والكبر والعجب والحسد والحقد وما إلى ذلك من الدنايا المذمومات والأوصاف الساقطات، يحبون أن يتطهروا (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) -اللهم اجعلنا منهم -.
ثم يقول ربي: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) [التوبة:109]، وهكذا يذكر في هذا المعنى أيام بناء الإمام السقاف مسجده هذا الذي فيه الختم بعد ليلتين -ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان- وطلب من شأن إنجازه بعض العمال في البلد، فكان اثنان يبنيان أيضًا مساجد عندهم، فأرسل إليهم يطلب: إذا رغبتم وأحببتم فرِّغوا هذه الأيام العمال ليجتمعوا على المسجد، نريد أن ننجزه ثم يعودوا إلى مساجدكم.
مرت الحادثة وأخبروه بما قال الأول، قال الإمام: "يكون إن شاء الله مسجده معمور بالدين إلى يوم الدين"؛ فهو إلى اليوم معمور هذا المسجد -الحمدلله-، والمسجد الثاني تخرّب ومرّت فترات وقع عليه الأوساخ والقمامة ولم يعد يعرف مكانه إلا عند القليل، لكن ليس له أثرأبدًا في البلد؛ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ) [التوبة:109]، يقول الله تعالى: ففرق بين النيات ووفرق بين الوجهات وفرق بين المدارك. وهذا الشيخ باجُرُش، علمه وعقله وإيمانه؛ هداه لمعرفة كيفية التعامل وإقامة الأمر على نصابه ومعرفة الفضل لأهله، ولا يعرف الفضل لأهله إلا أهله -إلا أهل الفضل-.
من كان من أهل الفضل يعرف الفضل؛ لأنه أهل الفضل، ومن لم يكن عنده فضل مايعرف فضل أحد قال: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف:12]، أنا أحسن، ما عرف الفضل، هذا ربك يقول لك: اسجد لآدم، ماهذه الفلسفة؟! ما طريقة التفكير العوجاء؟! ربك الذي خلقك قال لك: اسجد لادم، والملائكة أمامك يسجدون! وأنت تقول لماذا أنا؟ (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)! (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) [الأعراف:12]! (لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ) -من طين- ما أسجد لبشر خلقته (مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)، ثم قال: أنا قد عبدت، أنا قد صليت، هذا العدو اللدود اليوم عدو الخلق، اليوم الخالق قال لك كذا فلماذا الاعتراض؟! فعصم الله الملائكة ورفع قدرهم وقال لإبليس: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ) [ص:77-78].
وهكذا إذا نظرنا إلى أهل مكة، بماذا رفعوا؟ وبماذا خفضوا؟ من عرف قدر النبي محمد وعظّمه ارتفع، ومن جحد وأنكر وعاند -وإن كان في قلبه يعرف بأنه صادق، فعاند وجحد وكابر وكذب وسب- فله النار، -الله أكبر- والذي في المدينة كذلك، والذين نافقوا والذين آذوا والذين بقوا على كفرهم من اليهود خبئوا وخسروا، -الله أكبر-.
"آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ"؛ فصار مثل هؤلاء الأنصار محك لإيماننا، على قدر إيمانك تحب الأنصار، على قدر النفاق تكره الأنصار، ومن يحبهم يحبه الله، ومن يبغضهم يبغضه الله، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالأصفياء؟ فكيف بآله ﷺ؟ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم!؛ إذاً عند الرجوع إلى معنى كيفية الألوهية والربوبية تذهب فلسفات الناس هذه والشؤون والدسائس النفسية والتكبرات والترفعات؛ كلنا عبيد الله؛ ولكن:
ومايدركون ما معنى العدل؟ يتحدثون عن التسوية وعن السواسية، والتسوية فيما بين الناس في ماذا يمكن؟ في أصل الخلق والحق العام، نعم هذا لاريب فيه، والناس مجمعهم العقلاء؛ مجمعون عليه من عهد آدم، لكن التسوية بين الناس في صورهم وفي أخلاقهم وفي أشكالهم؛ في عد المسيء مثل المحسن، والجاهل مثل العالم، والفاسق مثل العابد، والمسلم مثل الكافر؟! لا .. لا .. لا! وليس هذا بعدل!.
هل من العدل تعد المحسن مثل المسيء سواء؟! ما هذا العدل؟ عجيب النافع مثل الضار سواء؟ أهذا عدل؟! (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص:28]، بعض الناس ينادي باسم التسوية بين الناس والناس سواء، في ماذا؟ يقول لي: في ماذا؟! سواء .. إعقل الكلام .. إعقل الكلام، تطْلقها شعارات ماتعرف ما داخلها! ما معناها! ما حقيقتها؟ الناس يعني: أن الأب مثل الابن؟! والابن مثل الأب؟! هل عندك هذا المعنى: المسيء مثل المحسن والمحسن مثل المسيء؟، وتقول أنت ولد قُم اخدم أباك، لا! هو يخدمنا وأنا أخدمه، ممكن هكذا التسوية يا أبله؟! ما هذه التسوية التي تنادي بها أنت؟! اعقل!.
التسوية أننا خُلقنا من آدم وآدم من تراب، نعم هذه هي التسوية التي جاء بها محمد، هذه التسوية جاء بها محمد ﷺ، الحقوق العامة:
لا يوجد واحد حلال له الخمر وواحد حرام، واحد جائز له الزنا وواحد حرام، هذا صح، هم سواسية في هذا، في هذه الحقوق العمال هم سواسية، الناس سواسية كأسنان المشط، هذه التسوية التي أتى بها محمد حتى قال فيها : "لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها"، حاشاها الله، وقد أعاذها الله من ذلك. ولكن بعد ذلك يذكر الخصوصية والمزية:
نحن نقرأ في القرآن، لما كان جماعة من بني إسرائيل فضلهم الله يقول: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)[الجاثية:16].فكانوا في زمانهم هم أفضل العالمين من الموجودين في ذلك الزمان؛ فيهم الأنبياء، وفيهم أتباعهم من الأولياء، فهؤلاء هم أفضل العالمين، في شيء؟ ما خرجنا عن التسوية؛ معرفة الفضل لأهله مايخرج عن التسوية.
أما التسوية المطلقة:
لابد من تفريق؛ لا النور مثل الظلمة، ولا الظلمة مثل النور، ولا طعام مثل حجر، ولا حجر مثل شراب، ولا الشراب نفسه سواء، ولا الطعام نفسه سواء، وكل واحدة في مكانها، يا أخي، ما هذه التسوية؟!.
ولهذا كان العوام يدركون هذا المعنى فيقولون: أصابع يدك ماهي سواء؛ واحد أطول وواحد أقصر، وكل واحد له مهمة، كل أصابع الإنسان لابد أن يكون هذا أطول، ولابد أن يكون هذا في مهمته، نعم مايقوم بها الثاني، هذا ما يقوم بمهمته، كلٌ يعرف أن كل واحد بمحله، أما ستقول: لا .. الآن في فكرة جديدة بين تسوية وتسوية، لماذا واحد أطول من الثاني؟! هذا تكبّر على هذا! تعال اقطع أصابعك حتى يكونوا سواسية يا أبله!
هذا تمامًا نفس مفهوم التسوية المعوج في بعض قضايا الحياة الاجتماعية، كما هذا بالضبط، يقول لا.. لابد من تسوية! ما معنى هذا! اجعلها كلها على حد الإبهام هذا، لا واحد يزيد عليه!! قصها ودعها مستوية، لن تعرف تاكل، ثم بعد ذلك تخرب حياتك! ما هكذا التسوية يا بليد!.
قلّمت أظافرك، قلمها كلها لا تدع واحد، هنا في تسوية، لا هو يترك واحد بطول زايد، من أجل ماذا؟! ليقتدي بمن؟! نبي؟ لا .. لا، ولي؟ لا .. لا، عالم؟ لا.. لا، فمن؟! واحد فاسق مرذول، ما يصلي لله ركعة، عمل هكذا، والعصابات يستخدمون الأظافر في شيء من المصارعات وغيره، وعمِل مثلهم، الآن جاء وقت التسوية، دع أصابعك متساوية، وقلِّم الأظافر كلها مثل نبيك ﷺ؛ هذه تسوية صحيحة في مكانها، توسخت اصابعك، اغسلها كلها سواء.
فكذلك معاني التسوية، قمة الصالح والصحيح من التسوية جاءوا به الأنبياء للخلق، ولا أُنصفت الإنسانية والحيوانية والجمادية، في نظام كمثل نظام الله وشرائعه، لم يُنصف الإنسان ولا الحيوان ولا الجماد في مثل شريعة الله.
يقول: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2))، أنا أقسم بالبلد وأنت ساكن فيها، حالٌّ فيها، (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)) يعني هيئة أحداثي للكائنات والخلق ومنه الإنسان، رتبتُ بين والد ومولود، ابتدأوا في عالم التكوين الجسماني المادي من آدم؛ "كلكم من آدم، وآدم من تراب"، ثم تفرَّع عنه الذرية؛
ثم هذه الأبوة أيضاً للرسول ﷺ تفوق على معاني الأبوة؛ وهي أبوته للخلق من حيث أن نوره أول ما خلق الله، ثم كوَّن الكائنات، ثم أبوَّته لهذه الأمة على الخصوص:
فلا تصدِّق أنك تقدر ترحم نفسك بنفسك أكثر مما يرحمك صاحب الشريعة، صاحب الملّة، صاحب الرسالة؛ هو يرحمك أكثر؛ لأنه يعرف ما لا تعرف، يعلم ما لا تعلم، فرحمته أوسع من رحمتك بنفسك، "إن نحن كالفراش يتهافت على النار"، وهو ياخذ بحجزنا.
قال بعض أهل العلم: انظر إلى تعبيره البديع!!؛ "أنا آخذ بحجزكم" والإنسان إذا همّ بالسقوط وأحد أخذه من الطرف، قد ينقطع هذا العضو أوينكسر أو يتشقق، لكن عندما يأخذ بالحُجْزة -في الوسط- يمتسك كل الجسد ويبقى سليم تمام، ولا فيه شيء، يقول: حتى طريقة إنقاذه، كيف فيها الرحمة! قال: "وأنا آخذ بحجزكم" في الوسط، أمسككم من الوسط، وإذا مسك بيدك قد تنقطع يدك وتنكسر وتسقط أنت، وإلا بأذنك، وإلّا برأسك، وإلا برجلك؛ "آخذٌ بحجزكم" حتى طريقة إنقاذه كيف تكون!! صلوات ربي وسلامه عليه.
(لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)) سننظر على ماذا أقسم الله، وما يحمل من المعاني هذا القسم إن شاء الله، في أيامنا المقبلة في الشهر الكريم، الله يجعله مبارك واسع البركة علينا وعليكم، وخاتمته أبرك إن شاء الله، وأنور لنا إن شاء الله، وأسعد لنا إن شاء الله، نحرك هممنا فيها، لأن الشيطان قد يجتهد على الإنسان مع نفسه في أواخر الأيام إذا ما قد عرف أول أيام يقبلَ بقوة؛ يتركه ويتركه، وبعد ذلك يبدأ يضعف كله قليلا.. قليلا، يتراخى عن الصلاة، يتراخى عن القراءة، يجيء له شبه الملل؛ لكن بمجرد عزْمة من الإنسان يبطل الكيد هذا كله؛ (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء:76]، إن كيده الشيطاني بمجرد عزمة منك، والكيد كله يروح فتكون أحسن.
الله يوفقنا، ويأخذ بأيدينا، ويبارك لنا في خواتيم شهرنا، كنا دخلنا العشر الأواسط، فإذا نحن نودعها، وجاءت العشر الأواخر كان كل ليلة ﷺ يغتسل ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه، ويقوم لربه ﷺ؛ لأجل المناجاة كل ليلة في الليالي العشر، كل ليلة كان يتغسل، يأتون له بالبخور يتبخر، يتطيب، يقوم في الليل ﷺ يناجي ربه، اللهم صلِّ عليه وسلم.
السيدة عائشة لما أرادت أن تصفه قالت: "كان إذا جن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه خلا هو بحبيبه وقام يناجي مولاه". جماعة من الصحابة جاءوا؛ حدثينا بأعجب ما رأيتي من أحوال النبي، قالت: وبما أحدثكم؟! كان كل حاله عجب، أحدثكم عن ماذا؟ عن حلمه؟ عن تواضعه؟ عن صبره؟ عن صدقه؟ عن بذله، سخاءه وكرمه، عن خشوعه، عن خضوعه، عن خدمته لأهله، عن حالته في البيت، عن حالته خارج البيت، عن حالته في المسجد، بما أحدثكم؟! كان كل حاله عجبا، عجيب في قوله، عجيب في فعله، عجيب في معاملته، عجيب في أكله، عجيب في شربه، عجيب في صلاته، عجيب في ممازحته، عجيب في أخذه، عجيب في عطائه، عجيب! بما أحدثكم كان كل أمره عجبا، ثم قالت: "كان إذا جن الليل وخلا كل حبيب بحبيبه، خلا هو بحبيبه، وقام يناجي مولاه".
ولقد ورد علي ليلة في ساعة متأخرة من الليل، قالت: "فعمد إلى شن دنٍّ فيه ماء، فتوضأ ثم قام يصلي فلم يزل يسجد ويبكي حتى طلع الفجر". قالت: وجاء بلال يؤذن بالصلاة فرأى على عينه أثر الدموع، فرقبهُ سيدنا بلال قال: رسول الله، تبكي؟! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، قال: يا بلال أنزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها"، وتلا عليه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) -وما المنادي إلا هو- (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران:190-193].
فالله يرزقنا متابعته، احشرنا في زمرته، اجعلنا وإياكم في أهل محبته، وأهل الاقتداء به ظاهرا باطنا.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
20 رَمضان 1436