(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
﷽
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22))
الحمدُ لله مولانا الكريم العظيم الرؤوف الرحيم الذي يغدو بنا في غدوات رمضان الشهر المبارك في كُلِّ يومٍ مُتَعرِّضينَ لنفَحَاتِهِ، ومُتَأمِّلِينَ لمعاني آياته، مُقيمين للصلاة المفروضة في قرآن الفجر (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]، وذاكرين له ومُصَلِّينَ على نَبيِّهِ المجتبى المختار محمد ﷺ ومُتَضَرِّعِينَ ومُبتَهِلينَ إليه ومُتَصَافِحينَ مصافحة أخوَّة الإسلام والدين والإيمان والمحبة فيه -جَلَّ جلاله-؛ فهي غدوات مباركة في شهرٍ مبارك. وكم ممن يغدو في هذه الأيام نائما أو كَسِلَاً أو بعيداً أو مُفطِرَاً أو مُخَالِفَاً لأمر الله أو مُرتكبا للسوء أو ناظراً إلى السوء أو قائلا لِمَا حرَّم الله! فلك الحمد يا مَن تغدو بِنا إلى هذه الخيرات.. فأتمم النعمة علينا، واجعل باقي رمضان خيراً لنا من الذي قد مضى برحمتك يا أرحم الراحمين.
فقد انتصف الشهر علينا ومرَّت أيامه.. فالله يُبارك في النصف الباقي بركةً تامَّةً في كُلِّ ساعةٍ من لياليه وأيامه، اللهم لك الحمد يامُوَفِّق.. فصَلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المُصطفى محمد، الذي جاء بالصِّدقِ، وعلى مَن به صَدَّق، خصوصا آله الأطهار وأصحابه الأخيار معادن الأنوار، ومَن على منهجهم سار، وعلى آبائهم وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب الشريفة الرَّفيعة الكبار، وعلى آلهم وصحبهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنّنا في مواصلة تأمُّلِنا وتَلَقِّينا واستمْطارنا لرحمات بارينا، بل لسحائب الفضل العظيم الواسع، الذي يَصُبُّه على خاصة من ارتضاهم من عباده من كُلِّ ذي قلبٍ خاشعٍ، وفؤادٍ مُنيرٍ لامعٍ؛ مررنا على تأملات في سورة "البروج". وكُلُّ سورة من سور القرآن بل كل آية مرْقى يَطِيبُ بها العروج لمن يَعرُجُ إلى سماوات الوعي والفهم عن الحق، وبالمحبة والمودة يَتَحَقَّق، وقد ذكر لنا سبحانه أوصافه.. فهذا إلهُنا يصف لنا نفسه ويقول -جَلَّ جلاله-:
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ) خالق العرش، مُوجِدُ العرش، وعَلِمنا أنَّ العرش يأتي بمعنى السلطان والقوَّة، وأيضا اسمٌ لهذا الجسم الكبير الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- وأحاط السماوات والأرضين به؛ السماوات وما بينها، والأرض وما فيها، وجميع الكواكب فيما بين السماء والأرض أُحيطَت بهذا العرش العظيم، وفي الخبر عن نبينا أنَّ "السماوات السَّبع والأرضين السَّبع لو وُضِعنَ في الكرسي لكُنَّ كّسبْع دارهم مُلْقاة في فلاة وسيعة، وأنَّ السماوات السَّبع والأرضين السَّبع والكرسي معها لو ألقيت في العرش لكانت كسبع دراهم ملْقاة في فلاة وسيعة"، كم تأخذ السَّبع الدراهم من الصحراء الواسعة؟ فكذلك شأن هذا العرش العظيم.
فسبحان رب العرش العظيم -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- محيطٌ بجميع هذه الكائنات، فجميع هذه الكائنات من السماوات السَّبع ومن فيهن والأرضين السَّبع وما بينهنّ مُصَوَّرةٌ في هذا العرش، إذا قُلتُ شاشة.. إذا قُلتُ عدسة.. لا أستطيع أن أصف، صُورا مَجْلُوَّة لكل ما يدور في هذه الأفلاك والكواكب والنجوم والسماوات والأرضين مُصَوَّرٌ في العرش، وقد أحاط العرش بها من كُلِّ جانب.
ولم يصل إلى ذلك العرش جسم من الكائنات إلا جسم واحدٍ من بني آدم اسمه "محمد" صلوات ربي وسلامه عليه،
على رَأسِ هذا الكون نَعلُ مُحَمَّدٍ *** عَلَت فجميعُ الخَلقِ تحت ظِلَالِهِ
لدى الطُّورِ موسى نُودِيَ اِخلَع *** وأحمد لدى العَرشِ لم يؤمر بِخَلعِ نِعَالِهِ
صلوات ربي وسلامه عليه..
فهو أوسَعُ ما خُلِقَ من جميع الكائنات الجسمانية.. العرش، وكُلُّ مَن اعتلى في وِجْهته إلى الرَّبِّ -جلَّ وعلا- صَدَقَ وأخلَصَ فتَطَهَّر عن جميع أدناسه وأرجاسه صار عَرشِيَّاً، وإن كان إنسانا على ظهر هذه الأرض؛ فله قلبٌ عرشيٌّ وروحٌ عرشيٌّ، إذا اعتلى إلى أعلى الذُّرَى في الفهم عن الله والمعرفة به والقرب منه -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
من هُنا قال بعض الصحابة وبعض التابعين: "إنَّ مَثَلَ قلب المؤمن وصدره مَثَلَ العرش والكرسي"؛ أي: في قابِلِيَّتِهِ لأن يكون له من الأسرار ما يجاوز به السماوات السَّبع والأرضين السَّبع في المكانة والقدر والمنزلة، ولقد جاء في الآثار: ما وسِع الله -أي معرفته الخاصة- أرضه ولا سماؤه ولكن وَسِعه قلب عبده المؤمن الهيِّن الوادع، القلب الطاهر النَّقي؛ يعرف من جلال الله وعظمته مالا تستطيع معرفته وحمْله السماوات ولا الأرضون، اللهم نوِّر قلوبنا، واجعلنا من الهُدَاةِ المهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(ذُو الْعَرْشِ) خالقه ومالكه وموجده والمُتَصَرِّفُ فيه وبه كما أراد، (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)) وكما جاءنا في أحاديث الإسراء والمعراج: وَصْفه للسماوات السَّبع، وفي السماء السابعة البيت المعمور، ومعراج من البيت المعمور إلى سِدرة المُنتهى. وإنما سُمّيَت "سِدرة المُنتهى" لأنه ينتهي إليها عِلْم الخلائق؛ فمن في السماوات والأرض لا يرون ما وراء ذلك سِوى مَن خلقهم الله في تلك الحُجُبِ، فنُصِبَ معراجٌ من سِدرة المُنتهى لسيّد الوجود ﷺ؛ حتى زُجَّ به في الحُجُبِ، حتى قُدِّمَ إليه ما وصفه بـ (رفرف)، حتى سَمِعَ صريف الأقلام تَخُطُّ في اللوح المحفوظ، حتى وصل عرش الرحمن ﷺ.
فأيُّ إنسان هذا؟ بلَغَ مبلغا لا يبلغ إليه جبريل الأمين -طاؤوس الملائكة- ولا ميكائيل ولا إسرافيل.. بجسده الكريم ولحمه ودمه، سبحان الذي قال له: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور:48]
فإن كانت السفينة لسيّدنا نوح من الخشب والمسامير ذات ألواحٍ ودُسُر، واجهت الأمواج الطامَّة الكبيرة العامة الخطيرة (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر:11-12]. ولم تتكسّر هذه السفينة ولم تغرق ولم تتأثَّر ولم تضطرب ولم يهتَزَّ مَن فيها بسرٍّ واحد قال الله عنه: (تجري بأعيننا) (وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر:13-14] انتهت المسألة.. تجري بعين الله تعالى فماذا يَقدِرُ عليها؟! أمَّا ما عدا ذلك فما يستطيع مخلوق بقدرته أن يَنفُذ
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33] وجاء (إِلَّا بِسُلْطَانٍ) حتى إذا قال لكم محمد نفذتُ تُصَدِّقُوهُ؛ بسلطانٍ من الله نفَذ؛ بقوّة وإرادة من الله نَفَذ، حتى جاوز السبع الطّباق ووصل إلى حضرة الإطلاق
"فإذا ارتقى على الكونين* وانفصل عن العالمين * ووصل إلى قاب قوسين* كنت له أنا النديم المخاطب" -جَلَّ جلاله-
وبِتَّ تَرقَى إلى أن نِلتَ مَنزِلَةً *** من قَابِ قَوسَينِ لم تُدرَك ولم تَرُمِ
وقدَّمتكَ جميع الأنبياء بها *** والرُّسل تَقدِيمَ مَخدُومٍ على خَدَمِ
وأنت تَختَرِقُ السَّبعَ الطِّبَاق بهم *** في مَوكِبٍ كُنتَ فيه صَاحِبَ العَلَمِ
حتى إذا لم تَدَع شَأْوَاً لِمُستَبِقٍ *** من الدُّنُوِّ ولا مَرْقَىً لِمُستَلِمِ
خَفَضْتَ كُلَّ مقامٍ بالإضافةِ إذ *** نُودِيتَ بالرَّفعِ مثل المُفرَدِ العَلَمِ
من حضرةٍ عُلْوُيَّةٍ قُدسِيَّةٍ *** قد واجهتك تحيَّةٌ وسلامُ
ودنوتَ منه دُنُوّ حَقٍّ أمره *** فينا على أفكارنا الإِبْهَامُ
فسمعتَ مالا يُستطَاعُ سماعه *** وعَقَلْتَ ما عنه الورى قد ناموا
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم..
(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)) وشاهدَ بعض الأرواح لِمَا يكون من مآلها، سابحة في بُطنَانِ العرش أو في أنهارٍ في العرش فسأل عنهم فقيل له: المتحابون في الله الذين لم تزل ألسنهم رطبة من ذكر الله، لم يسبّوا أحدا قط. فهذه أرواح -وإن عاش أصحابها معنا في الدنيا وارتبطت بأقفاص الأجساد- فهي أرواح عَرشِيَّة؛ هم أهل سرِّ الاصطفاء من قِبَلِ ربِّ العرش -جَلَّ جلاله
وهكذا شأن هذا العرش العظيم.. وله قوائم، وكُلُّ قائمةٍ مكتوبٌ عليها شِعار -كُلٌّ يُصَلِّح له شِعار؛ جماعات، أحزاب، شركات، دول.. هذا شِعار ربّ العالمين- شِعار مملكة الأرض والسماء، والدنيا والآخرة، والظاهر والباطن، والأجساد والأرواح، والأولين والآخرين.. ماهذه الدولة؟!! ماهذه المملكة؟ مملكة الله، شِعار: "لا إله إلا الله محمد رسول الله“ على كُلِّ قائمة من قوائم العرش "لا إله إلا الله محمد رسول الله".."لا إله إلا الله محمد رسول الله“ موضوعٌ اسم "محمد" بجانب اسم ربِّهِ "لا إله إلا الله محمد رسول الله“ وصدق حسَّان وهو يقول:
وَضَمَّ الإلهُ اٍسمً النَّبِيِّ إلى اِسمِهِ *** إذا قال في الخَمْسِ المُؤذِّنِ أَشْهَدُ
وشَقَّ له من اسمه لِيُجِلّهِ *** فَذُو العَرشِ محمودٌ وهذا مُحَمَّدُ
وصدق سيدنا آدم.. قال: لمَّا خلقتني ونفختَ فيَّ من روحك نظرتُ قوائم العرش إذا مكتوب على كل قائمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فقلتُ إنك لم تُضَف إلى اسمك إلا اسم أحبّ الخلق إليك، قال: "صدقتَ
نِعمَ الاسم المكتوب على قوائم العرش؛ اسمان كريمان؛ اسم "الله" واسم ”محمد" للعرش حَمَلَة، وحوله خاصَّة من الملائكة الذين شأنهم غير شأن ملائكة السماوات، وهؤلاء في مقامهم ذلك الرفيع الأعلى يتّصلون بِمَن يَعِيشُ على ظهر الأرض من أهل الإيمان والصدق والتوبة ويسألون ربّ العرش لهم ولمن اتّصل بهم من أولادهم ومن آبائهم ومن أزواجهم وذرياتهم..
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) الله أكبر ، فوق (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ..) [غافر:7] الله أكبر، سبحان الله وبحمده (..وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الله الله (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا..) فهم في ذاك الموقع والموقف العظيم والمقام الأعلى يستغفرون لهؤلاء المؤمنين على ظهر الأرض! الله! فهذه عبادة من عباداتهم يتقرَّبون بها إلى المعبود؛ فلو لم تكن عظيمة الشأن رفيعة الشأو عند الله ما تعبَّد بها الملائكة؛ فتعلُّقنا بالأخيار الصالحين على ظهر الأرض من أقوى العُدَدِ لرضوان الواحد الأحد
(..وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا..) ذكر الله نموذجا من دعائهم واستغفارهم، -حَمَلَة العرش الذين يحملون العرش ومن حوله- ماذا يقولون؟ (..رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا..) [غافر:7]، فهل تصْدُق لك توبة في رمضان نصوح خالصة؛ تدخل في الذين تابوا، تذكرهم حملة العرش! يذكرهم مَن حول العرش ويسألون لهم ربّ العرش (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)، لكن علامة التوبة ومظهرها: (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).
أنت من بعد هذه التوبة في رمضان لا تتبع هوى، لا تتبع شيطان، لا تتبع كلام إنسي جني، ولا شرقي غربي، صغير كبير.. -قال لك فيلسوف، قال لك، مفكِّر قال لك..!- (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) منهج من عندك وطريق أنت رسمته، ويذهب عند أحد ثاني! فأين يذهبون؟! عند من؟! (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) وهم يدْعون لهؤلاء الصفوة، ومع ذلك قالوا: (وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) لا تُعرّض أحدا منهم لنارك (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..) [غافر:7-8]، كل مَن آمن من آبائهم وأزواجهم وذريتهم؛ يذكرون هؤلاء ويذكرون آباؤهم ويذكون أزواجهم.
هل في عيب علينا لمَّا نذكر الصالحين والأخيار والصحابة وآل البيت والأولياء والعارفين ونقول كانوا كذا وأزواجهم كذا؟ هل في عيب علينا؟! وهؤلاء حملة العرش ومَن حوله يقولون: (وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر:8-9]، اللهم اجعلنا من أهل الفوز العظيم.
فهذا شأن حملة العرش ومن حوله؛ إيمان، تسبيح، تقديس لله وإيمان به، وعلاقة بالمؤمنين الصالحين الصادقين التائبين الذين اتّبعوا سبيل الله.. اتّبعوا سبيل الله..الله أكبر، وذِكْر لآبائهم وأولادهم، وطلب.. أيُّ طلب؟ لو لم يكن العظمة في النجاة من النار ودخول الجنة لذكروا غيره.. ماهي إلا هي، هذه العظمة والتي إليها النهاية في كل مطلوب، في كل مرغوب، في كل مُراد، في كل أمل، في كل أُمنية، في كل رجاء؛ الغاية الكبرى التي تنتهي إليها: النجاة من النار والدخول إلى الجنة.. هذا هو، والملائكة -حملة العرش- والذين حوله يدعون بهذا، ولو شيء أحسن من هذا سيدعون به؛ ولكن دعوا بهذا (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) [غافر:7-8]، النجاة من النار والدخول إلى الجنة، اللهم نجِّنا من النار وأدخلنا الجنة..
لا نعرف قدر هذا الدعاء الذي نردده، لكن علَّمنا إيَّاه إنسان كبير عظيم اسمه محمد ﷺ قال: "خصلتان لا غنى بكم عنها تسألونه الجنة وتستعيذون به من النار" لا تستغنون عن هذا، هذا أعظم طلب تطلبونه من الله، ونحن نردد هذا الدعاء "نسألك الجنة ونعوذ بك من النار"، الحمد لله على توفيقه والله يتقبّل مِنَّا، وهؤلاء حملة العرش هذا شغلهم، لا إله إلا الله،
العرش وحمَلته محمولون بقدرته.. هم والعرش محمولون (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا) [فاطر:41]، ويمسك العرش وحَملة العرش كلهم محمولين بقدرته -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- وهو أكبر من أن يُحِيطَ به شيء أو يحمله شيء أو يحتويه شيء -جَلَّ جلاله- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، إذا ذكرنا "الله" ما العرش؟! ما العرش؟ وما يساوي العرش؟! إذا ذكرنا "الله" هذا رَبُّ العرش العظيم؛ فالعرشُ واحدٌ من أفرادِ صَنْعَتِهِ، عَبِيدِهِ، مخلوقاتِهِ.. لكنّ الخالق! لكنّ الخالق! لكنّ المُوجِد! لكنّ الفاطر! لكنّ المُنشئ! (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)! وصدَقَ الصِّدِّيق أبو بكر وهو يقول: "لا يعرف الله إلا الله...
لا يعرف ﷲَ إلا ﷲ فاتّئدوا *** والدين دينان إيمانٌ وإشراكُ
وللعقولِ حدودٌ لا تجاوزها *** ...
مَنْ أنت ومن عقلك؟ ومَنْ فهمك؟ ومَنْ وعيك؟ ومَنْ عِلمك ومن إدراكك؟ ومَنْ… مَنْ أنت؟ ولذا قال أهل السنة من علماء التوحيد: كُلُّ ما خطر ببالك، فالله بخِلَافِ ذلك، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أكبر مِن أن يُحَاطَ به، أكبر مِن أن يُعرَفَ معرِفة إحاطة، ونهاية المراتب العُلا للعارفين: يقينهم حَقَّ اليقين بعجزهم عن معرفته، قال سيدنا أبوبكر:
"والعجزُ عن دَرَكِ الإدرَاكِ إدراكُ"
فسبحان مَنْ لم يجعل للعباد سبيلاً إلى معرفته إلَّا مِن حيث معرفتهم بعجزهم عن معرفته به؛ إدراكهم عجزهم عن معرفته، وكلّما بدا لهم من جلال الله وعظمته وكبريائه وجماله أكثر؛ تَحَيَّروا أكثر لكن هذه حَيْرَة معْرفة ليست حَيْرَة جهالة.. حَيْرَة معرفة، وفيها يقول شاعرهم:
زِدْنِي بِفَرطِ الحُبِّ فيك تَحَيُّرَا *** واَرْحَم حَشَىً بِلَظَى هَوَاكَ تَسَعَّرَا
لا إله إلا الله، قال سبحانه وتعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)) مجيد: صاحب الشرف، الكمال المطلق العظمَة، الجلال الرِّفعة، الإحسان، مجْدُه، لا إله إلا الله، رَبُّ كُلُّ شيء، خالق كُلُّ شيء، بيده ملكوت كُلُّ شيء، هذا المجْد الأعلى.. رَبُّ العرش.
يقول سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15))، صِفة للحق تعالى، ومجد العرش في قراءة (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ (15)) مجد العرش: عُلوّه وارتفاعه، وإحاطته بما عداه من الكائنات، وجماله، وحُسنُهُ، ونوره، وزهْوَه بالله تعالى؛ فهو عرشٌ مجيد، فكيف ربك؟ هذا المخلوق مجيد، فكيف المولى الخالق؟! -جَلَّ جلاله-
(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16))، أي لا يكونُ شيءٌ في الكائنات إلا بإرادته؛ فهو خالقُ كل شيء (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) وكُلُّ ما أراده طوع يده وتحت أمره، قال سبحانه وتعالى: (فَقَالَ لَهَا) -يعني السماوات- (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]،
يقول الله لحبيبه، بعد هذه البيانات العظيمة الواسعة: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)) قل لهؤلاء الذين يكذّبونك ويرمونك بالحجارة ويضعون السَّلَا فوق ظهرك وأنت تدعوهم إليّ وتدلّهم عليّ، جئتهم بإسعادهم سعادة الأبد كذّبوك وآذوك.. قل لهم نسيتم مَن مَرّ قبلكم؟ (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) "الجنود": يعني الجماعات والطوائف الذين تجنَّدوا ضدّ الرسل.. تجنَّدوا ضدّ المرسلين وضدّ الأنبياء وخالفوهم (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ) [الأنعام:112]،
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) [البروج:17]، هؤلاء الذين تجنّدوا وتحزَّبوا ضدّ الأنبياء والمرسلين مِنْ قبلك (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)) ذكرَ مثالين؛
ومَن قبلهم ومَن بعدهم ومن بينهم.. كلّهم، يعني طوائف كثيرة مثل فرعون، يعني جنود فرعون وجنود ثمود
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ) -جنود فرعون- (وَثَمُودَ (18)) جنود ثمود، كان ذكْرهم مشتهر بين العرب، وكان ذكر فرعون مشتهر بين أهل الكتاب، فجاء بالإثنين هؤلاء (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)). وقد جاء في الحديث أنه ﷺ مرّ وإذ بامرأة تقرأ في سورة "البروج" فهذه تقرأ -وقف النبي يستمع- تقول: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) قال: (نعم قد جاءني) ﷺ. قعد يستمع إليها وهي تقرأ. وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)) سمع المرأة تقول، قال: (نعم قد جاءني) جاءني خبر الجنود هؤلاء، وأخذ يستمع إليها وهي تقرأ كتاب الله تعالى.
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)) وقد تكرّر ذكْرهم في القرآن، فما عاد عيَّن ما الذي عمل بفرعون وما الذي عمل بثمود، ليس معلوما ومشهورا بين الناس (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا..)، هؤلاء من الذين آذوك وحاربوك وقاتلوك وسبُّوك
في تكذيبك؛ الدلائل عندهم والحجج واضحة والأمثلة والعِبَر أمامهم وقد كذّبوا الأنبياء من قبلهم؛ منهم من كذّبوا آدم، وأين ذهبوا؟ وما كانت عواقبهم؟ وهم مع هذا عَلِموا خُلقك وعلموا نشأتك وعلموا تربيتك، ووصفوك بالأمين من قَبْل أن نُنزِل الوحي عليك، وسمّوك "الصادق الأمين"، علِموا نسبك، علِموا شرفك، علِموا أمانتك، علِموا صدقك.. ولكنّهم يعاندون.
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)) تكذيب بما عَلِمُوا صدقه، وبما علِموا الحق فيه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)) ومع ذلك: (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20))، أين يَفلُت مَن أُحيطَ به؟ كيف يَفلُت مَن أُحيطَ به ممن أحاط به؟ كيف يَفلُت على مَن أحاط به؟!
(وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)) وسبحان مَن هو بكُلِّ شيءٍ مُحِيط (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56] وأنت ترى ماذا أمامك وماذا وراءك، قال الله تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ..) -روح الواحد منكم وصلت في حلقومه–(..وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) [الواقعة:83-85]، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) لا إله إلا الله،
اللهم ارزقنا المراقبة، وارزقنا شهودك الأسنى بمرآة حبيبك محمد، ترى أنه أقرب إليك من كل شيء (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق:16]. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) [الواقعة:85]، فماذا ترى أمامك، ووراءك، خلفك، يمينك، شمالك؟ أقرب إليك مِن كُلِّ شيء؛ محيط بك مِن كل جانب.. لا إله إلا الله صاحب العِزَّة والعظمة.
ووقفنا في صلاة الصبح عند قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [المجادلة:7]، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)) وحتى لو معهم صواريخ، حتى لو معهم أسلحة نووية، حتى لو معهم قنابل ذريَّة.. عجيب! ذريّة.. نوويّة.. (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ).
في المرحلة السابقة القريبة، إحدى القُوَى المادية في العالم عندنا؛ قوة روسيا جاءت بقواها إلى أفغانستان يقاتلون.. وقاوموا شعب أعزل ليس معه سلاح.. لمَّا بدأت المقاومة لهؤلاء الكفار الملحدين، الطوائف منهم قالوا نريد، مبدأيا، مسدس واحد ماوجدنا، سيف ماوجدنا، فقط حجر وحطب وعصا!! بسم الله.. بدأوا به، يواجهون ماذا؟ الأسلحة الفتَّاكة الكبيرة التي تُخِيف العالم في الشرق والغرب، أنها من أقوى الأسلحة، وكم من دبابة من الطراز الحديث عندهم الذي كانوا يفتخرون به، بحجَرة احترقت.. بحَجرة! تُرمَى باحجار فتحترق.. ليس واحدة.. اثنتين.. ثلاثة، أربعة.. دبابات متينة الصنع حديثة "الله أكبر" تحترق محلّها، لا إله إلا الله (وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20)).
البشرية بفطرتها، لو قبْل مائة سنة، مائتين سنة؛ واحد يتكلم مع البشرية بأصنافهم؛ كفّار ومسلمين يقول: هل سيأتي على البشرية يوم يُطالَب فيه بالفاحشة لتُقَنَّن وليكون الشذوذ رجال مع رجال ونساء مع نساء ويكرروا عملية قوم لوط؟!! لاستقذرها الكلّ بطبعه؛ مُسلم وكافر! لكن انظر إلى الانحطاط عند البشرية اليوم! يصدرون فيها قوانين في الدول! ويَصِلُون إلى مثل هذا الحد! (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ).
(وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ) هذا الذي تُكَلِّمهم به وتُبَلِّغهم إيَّاه عنَّا من القرآن الكريم، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21)) مجيد: حَسَن، شريف، كريم، طاهر، مُعجِز، عظيم (قُرْآنٌ مَّجِيدٌ)، بخلاف ما يقولون هذا سحر شعر كَهَنَة (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ)، طاهر، نقي، عظيم، مُعجِز، فصيح، يُخبِر عن الماضي وعن الحاضر وعن الآتي، يُخبِر عن الكواكب، وعن النجوم، وعن الأرض، وعن السماء، وعن البحار، وإلى أن تقوم الساعة، ولا كلمة من كلماته، يُقَال: لا ما البحر كذا، لا ما النجوم كذا، لا ما القمر كذا، لا ما الشمس كذا؛ كما تحدَّث به هو، وكلّما ازدادوا اكتشافات: كما قال.. كما قال.. كما قال، إنه مُنزَل من عند خالق كل شيء -جَلَّ جلاله- مُكَوِّن الكون.
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)):
ونزل جبريل ونزل القرآن كله إلى بيت العِزَّة في السماء الدنيا، ونزل جبريل بالخمس الآيات (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5]. -عَزَّ وجل-.
(قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22))، بعد ذلك له أسرار وأنوار تحفظُها ألواح قُلوب الصادقين المُخلصين من العُلماء، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت:49]
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22))، في قراءة نافع (فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٌ)، أي: قرآنٌ محفوظٌ لا يتغيَّر ولا يتبدَّل. كم طوائف أرادوا تغيير القرآن من عهد النبي إلى اليوم، ولا أحد قدر، ولا أحد قدر، ولا أحد يقدر (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
ربّما كثير من الناس يغيب عنه، أن بعض أرباب الأفكار والسياسات في العالم يرسمون خطط وترتيبات، يريدونها للأجيال من بعدهم.. فماذا يعملون؟ يُثبِتُونها بلغاتهم، ويطلبون مَن يَثبُتها بالعربية ويبقونها بالعربية للأجيال من بعدهم.. لماذا؟ الكتب التي معهم من قبْل مائتين سنة.. ثلاثمائة سنة، اليوم لا يقدرون هم يقرأونها بلغتهم هم، اللغة تتبدل وتتغير من جيل إلى جيل.. بعد ذلك، فإن اللغة التي قبل مائة سنة.. مائتين سنة ما عاد يعرفونها ولا يقرأونها لا بالإنجليزية ولا بالفرنسية ولا بأيِّ لغة من هذه اللغات الأخرى.. إلا العربية، بسبب ما كُتِب من أيام الجاهلية وقبله إلى اليوم نقرأه ونعرفه، الله، فما عندهم طمأنينة إلى لغتهم.. يكتبونها باللغة العربية من شأن الأجيال مستقبلاً. وأكثر الناس لا يعرفوا هذا لا من المسلمين ولا من الكفار، أمَّا المسلمين قليل الذين يعرفون عظمة هذا والذين يعرفون قدره ومن أين جاء.
وبسبب هذه اللغة حُفِظَت علينا، اليوم هات لنا شِعر من أيام الإسلام، من قبل الإسلام.. واضح عندنا معروف كلماته، هات كتاب من أول ما كُلِّف في الإسلام.. نقراه، أحاديث النبي نفسها نفس النصوص، نفس الألفاظ، الله أكبر! لغة عجيبة محفوظة ما تُبدَّل غير اللغات الأخرى كلّها! ما هذا؟ هذه العظَمَة، يقول الله تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:195]، (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)) محفوظ من التغيير والتبّديل، واللوح المحفوظ هذا العظيم ما تمسَّه أيدي الفسقة ولا يصل إليه أحد؛ محفوظ عند الله -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه- الحمد لله على هذه النعمة.
اللهم احفظنا بالقرآن، واحفظنا بما حَفِظتَ به الذكر، وانصرنا بما نصرتَ به الرُّسُل، واجعلنا من الهُدَاةِ المهتدين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وبَرَكَةً مِنك لنا فيما بقي مِن شهرنا يا رب، تجديدا للهمَّة في الإقبال عليك حتى نحوزَ بركات الخواتيم، ونرقى إلى المقام العظيم، نَثبُتَ على المنهج القويم والصراط المستقيم، لا تخدعنا النفوس ولا الشيطان اللئيم أو الرجيم،
اللهم ثبِّتنا على ما تحب، واجعلنا فيمن تحب، واجعلنا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، واغفر لنا يا غفور، وأذقنا لذَّة مودَّتِك ياودود، وأدخلنا في دائرة زين الوجود، واحشرنا يوم القيامة في زمرته في اليوم الموعود، وأَسكِنَّا معه في جنات الخلود وأنت راضٍّ عنَّا، ونجِّنا من النار ذات الوقود والنار التي (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) [التحريم:6]، اللهم نجِّنا من النار، وأدخلنا الجنة وأهلينا وأولادنا وذريَّاتنا ومن يسمعنا وأحبابنا وأصحابنا.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
18 رَمضان 1437