تفسير سورة البروج -3- من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18))
الحمدُ لله باسط موائد فضْله، ومُهيء أهل السَّوَابِق العُلا لكريم وصْله، نشهد أنّه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، كلّ مَن في الأرض والسماوات مُفتقرون لجوده وطَوْله، ونشهد أن سيدّنا ونبينّا وقرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، سيِّدَ أنبيائه وخاتم رسله، اللهم أدم مِنك الصلوات عنَّا في كُلِّ الآناء والأوقات على مَن بعثْته بالرحمة إلينا، وجعلْته أعظم النِّعم والمِنن علينا؛ عبدك المصطفى محمد وعلى آله أهل الطهارة، وأصحابه أهل الصدق والإخلاص والإمارة، وعلى مَن سار في مسارِهم صادقًا معك مُخلِصاً لوجهك، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وعلى آلهم وأصحابهم ممن أقَبل عليك وتوجَّه إليك، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد،،
فإنَّا،، والأيام تتوالى بما فيها لأهل الإقبال من نورٍ يتلألأ، وبما يُحِيطُ من ظُلمةٍ وبُعدٍ لمن أعرضَ وتولَّى، فإنَّنا في الاجتماع على الله؛ إذ نستمع إلى قوله الفصْل وما هو بالهزل، وبلاغ خاتم الرسل، ونتأمَّل تلك المعاني لتقوم بها في الأرواح والأسرار مِنَّا مباني؛ يَبنِيها الحقُّ -سبحانه وتعالى- من أسرار الوحي والمثاني لأهل الخصوصية، وذوي المَزِيَّة من هذه البريَّة.
فيَا فوز أهل السَّوابق من كرَم الإله الخالق، ويَا فوز مَن والاهم من أجل الله وتَشَبَّه بهم وتابعهم وانتمى إليهم فَقُبِل، ويَا خَيْبَةَ المُعْرضين المُدْبرين والذين يُقْصَون ويُمَازُونَ ويُبعَدون عن دوائر المقربين:
- (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس:59].
- (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة:88-95].
- (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].
- (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) لا أحسن من مرافقتهم في الدنيا ولا في البرزخ ولا في مواقف القيامة ولا في الجنة (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].
- (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27-30].
- (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت:9].
في التَّعرُّضِ لكُلِّ هذا العطاء، في شهر الفضل والعطاء، وغفْر الزَّللِ والخطأ، وشهر كشف الغِطاء، نَمُرُّ على معاني الآيات البَيِّناتِ الواصلة من الله المُوصِلَة إلى الله؛ وصلَت إلينا من الله على يد حبيبه، وتُوصِلُنا على يَدِ حبيبه إليه؛ إذا أحسنَّا استقبالها وقُمنَا بحقِّها، وأعطيناها أعمالها وما لها، "إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ" فطُوبى لمن رُفِعَ بالقرآن؛ فرفْعه أبديّ وشَرَفه سرمديّ، ومَن خُفِضَ بالقرآن فهو المخفوضُ إلى الأبد، -اللهم ارفعنا بالقرآن، وانفعنا بالقرآن، واجمعنا بالقرآن عليك بمن أنزلته عليه يا أرحم الراحمين.
ومررنا على المعاني في سورة "البروج" والحقُّ يُحَدِّثُنا بأخبار خَلْقِهْ وبأوصاف نَفْسِه وسُموّ قُدسِهِ وبأفعاله مع العباد في العمر القصير وفي المَعَاد، وبنهاية الجميع وعواقب الجميع ومرْجع الجميع وعاقبة الجميع.
يُحَدِّثنا الحقُّ -جلَّ جلاله- ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..) وهم أهل النُفوس التي تُغرِيهم نُفوسهم أن يَصدوا عن سبيل الله، ولا يجدون شيئاً ينْقمونه على مَن يعادونه إلا إيمانه بالله؛ فمن كان كذلك ومات ولم يتب (..فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10))، (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) [الفجر:25] وذلكم العذاب الأشق -أجارنا الله منه-.
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..(11)) وكم كرَّرَ الله في كتابه وصْفِ الإيمان والعمل الصالح؟! وبهما تنتظم الاستقامة عند الإنسان، وخروجه من الرِّجس والطغيان، والوهم والكذب والفسوق والعصيان؛ إلى جَنَانٍ طاهر، وعمَلٍ صالحٍ مُنَوَّرٍ حَسَن (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
وأرسل الحق على هذين الوصفين بشائره، ومِنَحه، وفُتوحاته، وتجلِّيَّاتِه، وجنَّاته، وواسع عطيَّاتِه، من أول سورة البقرة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) [البقرة:25]. ثم تكرَّرَ ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات في سورة البقرة، ثم ذُكِر فيما بعدها من السور "السورة تلو السورة ….“، وكم كَثُرَ ذكر ذلك في القرآن (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) [الفرقان:70]… (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96]، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) [الكهف:107].
يقول جَلَّ جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11))، (ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)، (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]، فقد عَلِمنا بحكم إيماننا واعتقادنا أنَّ كُلَّ ما يُسمَّى بالفوز، فقَاصِر ومجازيٌّ حتى يتمَّ النَّجاة من النار والدخول إلى الجنة، ومَن لم يحصل له ذلك؛ والله ما هو بفائز، والله ما هو بفائز، والله ما هو بفائز -كائنًا مَن كان- من جميع المُكلفين الذين في زمننا ومَن قبلنا أو سيأتي بعدنا، فإننا نتكلَّم عن حُكمِ حاكم الأولين والآخرين، وخالق الأولين والآخرين، ومُوجِدُ الأولين والآخرين؛ فمُستندنا قوي، لا يساويه مُستند كُلِّ غبيٍّ استجاب للشيطان المُغوِيّ فغَوَى، هذا القول الفصل الذي ليس بالهزل، هذا كلام الحيِّ القيّوم الدائم المُلك الذي لا يزول -جلَّ جلاله-.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)) الجبَّارُ إذا أراد الانتقامَ، فذو الانتقام الكبير، لا يكون انتقامه إلا صعباً كبيراً
- (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أضاف الربوبية هُنا إلى محمد؛ كأنه يقول له: كُلُّ مَن آذاك وكُلُّ مَن صَدَّ عنك وقَلَاك، ما تدري ما سأعمل به، ما تدري ما عواقبهم، صعبة شديدة وخيمة
- (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)) الذي أرسلك، ربّك الذي فضَّلك، ربّك الذي أحبّك، ربك الذي ختم بك رسله
- (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)) والبطش: الأخذ بعنف؛ فإذا أُضِيف إليه "شديد" كان المُبالغة في القُوَّة، وأمر لا يُطاق،
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12))، وقد قال -تعالى- في هذا المعنى بعد أن ذكرَ نبيه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63] وقال في هذا المعنى: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء:42]؛ إذًا فالبطش شديد لكل مَن خالف رسول الله، ولكل مَن عاند رسول الله، ولكل مَن آذى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛
- (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) [التوبة:63]،
- (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب:57]،
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:61] -اللهم أجرنا من عذابك-.
يقول: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)) وقد فَعَلَ بالذين كذّبوا الرسل المُبَشِّرين بك من قبلك ما فعل؛ كمثل طائفتين هُمَا في التاريخ من أعظَمِ مَن جاء أو من أبرزَ مَن أُظهِرَ وحُدِّثَ الناس عنهم -فرعون وثمود- كما سيذكر.
يقول: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)) فما فَعَلَ بأولئك الأقوام.. أفيتْرك الذين يؤذونك ويُكَذِّبونك ويؤذون مَن آمن بك؟! وقد انتقم لمن قبلك وأنت أعزُّ وأنت أكرم! (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12))، وأوصاف ربك تأمَّلها.. فأنت صاحب الاعتزاز بالعزيز الأعظم (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)) يُبدئ الخَلْق هو، ويُعيدهم هو (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104] في ضِمن ذلك يُبدئ ويُظهِرُ أيضا نِقمته على الفُجّار والكفار المعاندين في الدنيا، ويُعيدها عليهم أشَقُّ وأعظم وأخزى في الآخرة؛ يُبدئ الخَلْق ويُعيده، ويُبدئ أصنافاً من العذاب ويُعيدها على أربابها (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) [الرعد:34] كما قال الله تعالى: (كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم:33] كما أنه يُبدئ ويُعيد مِنحَاً وعطايا للمُقبلين والمُتوجهين والمُخلصين (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17] جلَّ جلاله.
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)) فبداية كُلِّ شيء وعوْدته بيده وأمره وتحت قُدرته وإرادته، -أنت مَرسولٌ من هذا الرَّبِّ، وأنت مُتَوكِّل على هذا الإله ومُستند إليه، وهو الذي تولَّاك وكفاك- (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)) -جَلَّ جلاله- يَعظُمُ انتقامه وشِدّته وعذابه وعِقابه على المُعرضين المُتَولّين الكافرين المُعاندين ويَعظُمُ رحمته وفضله وإحسانه على المُقبلين والتَّائبين والصَّادقين والمُخلِصين والنَّاصِرينَ له ولرسله.
- يقول سبحانه وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21].
- وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ۖ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) [الحديد:19].
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) بمُختلف معاني البداية والإعادة؛ في ذَوَاتِ الخَلْقِ ونفوس الخلق، وفي أعمالهم ومصانعهم وما يَقومون به، ولذا تجد حياة الناس على ظهر الأرض -في معناها ومضمونها- مُتكررة.. يُبدئ ويُعيد .. يُبدئ ويُعيد، حتى طريقة التفكير ومَنْح الأقوال والتي تصدر من الطوائف مُتكرّرة، من بداية الحوِار، ما بين صاحب نوازع الخير والاستجابة لدعوة الحق وبين صاحب نوازع النَّفس وغلَبَتها وسلطانها (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) نفْسُ الطريقة في الحوار والتفكير -في الجيل الثاني والجيل الثالث والجيل الرابع- إلى عصرنا هذا، والمسارات في اختلافهم وظهور فضل هذا على هذا -بأيِّ معنى-: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) أنواع التمييزات في العطاء والتخصيصات بالفضل قائمة؛ وهي مثار غلواء النفوس عند قوم (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) [المائدة:27] وماهو العيب ؟ وماهو الذنب؟ أنَّ الله تقبل منه! كان قال لأُحِبِّنك فهي أحسن.. واجب يقول لأُحِبَّنَّك؛ أنت ربي أحبَّك، وتقبَّل منك واجب أنا أحبك! لكن هذه طريقة التفكير الموجودة اليوم! حتى لو أراد أن يتميَّز بشيء حقير من أمور الدنيا يقول: لايتميّز عليّ، حتى بأسلحة الدمار، لا يريد أحدا أن يتميَّز عليه! -(لَأَقْتُلَنَّكَ) انت تصلِّح كذا سأقتلك!- لا حول ولا قوة إلا بالله!.
طريقة التفكير هذه، ابنيَ آدم من صلبه، وكثير من أفكار العصر اليوم على مستويات مختلفة، هي هي نفس الطريقة!. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)) واحد بعد الثاني، واحد بعد الثاني.. وتتكرر:
- (كذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [البقرة:118]،
- (مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) [فصلت:43]، الكلام الذي قالوه للرسل من قبلك، هو هذا يقولونه الجماعة هؤلاء الذين عندك يتكلمون بنفس الكلام.
- (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد:6]،
يقول سبحانه وتعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰؤُلَاءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ)،
رأيت النتائج فيمن قبل؟ والذين عندك؟ (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ) [هود:109] نفس النتائج تكون.
هكذا.. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)) ولو كان الذي عند الإنسان اعتبار صحيح ما تكرَّرت هذه النتائج، ولا تكرَّر الطغيان، ولا تكرّر الكِبر، ولا تكرّرت الغطرسة، ولا تكرّر الظلم للعباد.. لكن واحد بعد الثاني، واحد بعد الثاني.. نفس الطريقة في التفكير والكلام، يقوله لهذا ويجي هذا يقوله لهذا…، المضمون واحد.. قد تختلف من لُغة إلى لُغة، من عِبارة إلى عِبارة، من اسم إلى اسم، من عصر إلى عصر، لكن طريقة التفكير والمضمون هو.. هو، هو.. هو نفسه مُتكرر في البشر! لا إله إلا الله.
ولذا كان ينطق العرب في أمثلتهم: ما أشبه الليلة بالبارحة! وهكذا يحصل في واقع البشر وواقع الناس تكريرٌ للأمثلة تكريرٌ للأمثلة.. والعجب أنَّ العُمر الكريم الذي أقسم الله به في القرآن -عُمر محمد- (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر:72] هذا العُمر حوَى الأمثلة والنماذج لكُلِّ ما كان من قبْل، إلى مبعثه ولِمَا سيحصل في أمته من بعده إلى يوم القيامة؛ أهل الكتاب، أهل الإلحاد، عبدة الأصنام، المُشركين، المُنافقين.. وطريقة تفكيرهم وتخطيطاتهم وتدبيراتهم وأعمالهم التي في حياة المصطفى، نموذج لكل ما حصل من عهد آدم إلى وقته ولكل ما سيحصل بعده إلى أن تقوم الساعة؛ فتجدها في عُمر محمد جليَّة؛ وكأنَّ هذا العُمر هو مقصود الحياة كلها والنموذج الأول والآخر منها.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هكذا اقتضت حِكمة الله -جل جلاله وتعالى في علاه-.
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ) الذي يتجاوز عن الذنب ويُبَدِّل السيئة حسنة، فيُجَازِي الإحسان عليها، ويستر العيب والقبيح (غفور)
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)) إذا انفتح بينه وبين عبده باب الصِدق والإخلاص من عبده وباب الفضل والإحسان منه فهو ذو الوداد: المحبَّة والإفضال والإحسان والإنعام الواسع الكبير الجميل الجليل؛ يُوَالِي ويُكرِم ويُنعِم ويتفضَّل ويُبعِد السوء ويُراعي ويَرعَى ويحفظ ويؤيِّد وينصر ويُسَدِّد ويؤيد ويُقَرِّب ويرفَع ويحفَظ ويُنعِم بإنعامات عجيبة من سر "الوداد" (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) [مريم:96].
ولذا نقرأ في مناقب الصالحين منهم الإمام محمد بن حسن جمل الليل كان في الوادي يمرُّ على هذه الآية في الليل فيغْرق في معنى "الود" ويسْبح، فلا ينقْطع عن كلمة: ودّا.. ودّا.. ودّا.. إلى أن يطلع الفجر والرجل يُكَرِّر: ودا، ودا، ودا (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) جلَّ جلاله.
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)) ويفتح لهم من أبواب محبته ما يطيقون ويقدرون فيُحِبُّونه، محبة صادقة.. على قدرٍ يطيقونه (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ..) [البقرة:165] (أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) فعلى قدر إيمانك.
اليوم الناس منهم من عندهم أصنام مال، وعندهم أصنام سلطة، وعندهم أصنام هوى؛ فإن زادوا عليك في محبتهم لتلك وتفانيهم فيها على محبتك لله فابحث عن الإيمان (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) كما يحرص هؤلاء ومن أجل أموالهم، ومن أجل سلطاتهم، ومن أجل دنياهم، خرجوا إلى الساحات وسافروا وقاتلوا وتعرّضوا لما تعرّضوا له، وأين محبة الله عندك؟ أهذا أعزُّ عليهم من الله عليك!؟ هذه أصنامهم وهذه أندادهم وآلهتهم تفانوا فيها هذا التفاني وبذلوا لها هذا البذل، وأنت "الله" ربك ما بذلتَ له! (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) من الذين اتخّذوا (..مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) من أجل الأصنام، ومن أجل الحُطام؛ يُغضَب ويُقَام ويُرفَع السِلاح ويُقاتل الناس ويتكلَّف المصاعب.. ومن أجل الله ما يُفعَل شيء!؟
الله أحق أن يُعظَّم وأن يُغَار على شرعه وعلى دينه وأن يُبذَل كُلُّ وُسعٍ في نُصرته -سبحانه وتعالى-. وسمعْتَ قول جماعة الأصنام التي كسَّرها سيدنا إبراهيم (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ …) [الأنبياء:68] فمن أجل نُصرة آلهتهم سيحرِّقون آدمي مثلهم بالنار! وما بالوا، جمّعوا نار وجعلوا لها وقود شديد، من شدة لهبها كان إذا مَرَّ الطائر في الهواء لحقهُ لهب النار.. فكان جوّها لا تحوم حوله الطيور من شدِّة لهيبها!
لمَّا أرادوا أن يلْقَونه ما قدروا يقْربون منها من شدة لهبها، فقالوا: إذا رميناه سيكون في طرفها، نحن نريده أن يدخل داخل وسطها.. -فجاء الشيطان يصوّر لهم- قال: أنا معي طريقة لكم، بالمنجنيق يحركونه، يرمون به إلى فوق، يصل إلى بعيد.. وضعوه وسط المنجنيق وداروا بسيدنا الخليل حتى دخل إلى داخل النار! وفي الطريق تعرَّض له جبريل: ألك حاجة؟ قال:أمَّا إليك فلا، -في هذا الحال! في هذه الشدةّ!- قال: فسلْهُ؟ قال: علمه بحالي يُغني عن سؤالي، وما عاد وصلَ في هذه اللحظة إلى وسط النار إلا قد أوحي إليها من قِبَل خالقها: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69].
ووصل وسط النار فانتصبَ يُصَلّي مُرتَاحاً مُطمَئناً، وأُمِر جبريل أن يأتيه بالطعام من الجنة ويجي الطعام من الجنة ويصلّي إلى الرَّب.. أول يوم.. ثاني يوم.. ثالث يوم.. رابع يوم.. أسبوع، حتى خفَّ لهيب بالنار، بل أربعين يوم في بعض الروايات حتى انطفأت النار، ولمَّا بدأت تخف وصاروا يرونه، يقولون: إبراهيم يتحرّك! إبراهيم حيّ وسط النار! إبراهيم يقوم ويقعد! إبراهيم يسجد! انتهت الأربعين يوم، وانطفأت النار، وخرج وقميصه أبيض ما فيه أثر من النار، ولمَّا سُئل آخر عُمره عن أحسن أيام مرَّت به في الدنيا قال: أيام كنت في نار النمرود. (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات:98]، (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:70] وقد سمَّاه "خليله" وصبَّ عليه من سرِّ الوداد ما لم يصُب على كثير من خلْقه، بعد محمد ﷺ صُبَّ على الخليل إبراهيم أسرار وداد الرحمن الرحيم -جلَّ جلاله-.
حتى في بعض لياليه لم يجد عشاء له ولا لأهله فخرج لأهل بيته يبحث عن عشاء يستدينه من أحد.. فقصد بعض الناس فاعتذروا له، رجع إلى البيت فأوحى الله إليه: ما أخرجك من بيتك؟ قال: ربِّ، أردتُ أن آخذ عشاء لأهلي فقصدتُ بعض العباد استدينهم فردّوني، قال: أمَا إنك لو قصدتَ خليلك لم يردك، قال: يا رب استحييت أسأل منك عشا -شيء من الدنيا- قال: سَلْنِي ولو ملْح عشاك. حتى عندك عشاء بدون ملح، قل: يا رب أريد ملح، فهذا أدبهُ مع الإله تعالى، وهذا محلّه عند الله -جِلَّ جلاله وتعالى في علاه- ومع ذلك هو أبو الأضياف كُنيته، وإن تمر بعض هذه الليالي بهذه الصورة ولكن مطبخه قائم ويستقبل الضيوف في كل يوم عليه السلام.
حتى وفدَ يوما مجوسي من عَبدة النار.. قال: له أسلِم؛ وأطعِم وكُلْ معنا، قال: لا، أنت تشترط علي؟ ما عاد أريد طعامك.. ومشى، فأوحى الله إليه: إن هذا يُشرِك بي، ويكفر بي، وأنا أرزقه منذ خلقته، واستطعمَك يوم واحد وما أطعمته! ولمَّا جاء العتاب من الله؛ راح يبحث عنه حتى جاء إليه قال اتفضل تعال.. قال: لماذا؟ قال: عاتبني فيك ربي! قال: ربّك!؟ يُعاتبك فيّ وأنا كافر به!؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأنت رسول الله! وأسلم وجاء معه إلى المكان، قال: ما هذا الرب؟ يُعاتبك وأنت نبي؟! وأنا الكافر به! يقول لم لا تطعمه؟ هذا رب عجيب هذا.. فأسلم قبل أن يرجع إلى ضيافة سيدنا الخليل عليه السلام.
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)) غفور: فعول؛ عند أهل العربية إشارة إلى الكثرة والمُبالغة.. ليس غافر فقط، بل غفور: كثير الغُفران. مراتب في الغُفران؛
- فأعلاها جعلها للأنبياء والملائكة؛ حالَ بينهم وبين الذنوب حيلولة من بعيد، لا تحوم حولهم.. هذا أعلى الغفران؛ جعل لهم ساتر بينهم وبين الذنوب لا تصل إليهم أصلا فعصمهم.
- ثم أنواع الغفران لمن يقع في الذنوب،
ولم يُعطِ هذا النوع للكل حتى يَظهَر فضله وتجاوزه ومسامحته، ولمَّا كان يُلِح بعض الصالحين عند الكعبة ويسأل الله أن يرزقه العصمة الكاملة، رأى مَلَك يقول له؛ أنت تسأل الله العصمة، وفلان يسأله العصمة، وفلان يسأله العصمة.. وإذا عَصَم عباده كُلّهم، يتكرَّم على مَن!؟ ويظهر فضله على من؟ يُخطي ويغفر ويعفو.. وهو غفور!؟
حتى قال ﷺ: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم أتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" يعني اقتضت حِكمته أن يَظهَر معنى غُفرانه وصفحه ومُجاوزته في عِباده وبريّته فلابُد من وجود ذلك، ويأتي لهؤلاء.. ومنهم من يغفر له في درجة.. منهم في درجتين.. في ثلاث.. في أربعة، حتى يأتي للصادقين المخلصين يغفرها غُفران يُنسيها الملائكة يمحوها من الصُّحُف يُنسّيها الأعضاء يُنَسِّيها الأرض.. ولا أحد يدري بها، حتى صاحبها لو قعد يفكر يفكر لن يذكرها.. هو ينسى خلاص.. لمَّا تجيء القيامة يجيء به وحده، بينه وبينه ينشر عليه كنفه ويقول له: تذكر يوم كذا؟ آه يا رب.. آه يا رب.. آه يا رب، ما عفوتَ عني وغفرتَ لي! قال: عفوتُ عنك وسامحتك، سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، قُمْ -ثم يُظَهِّر الستارة-: قُمْ ادخل الجنة برحمتي، -يسمعونه الملائكة الآن، ومن أول ما سمعوه لمَّا كان يكلّمه-.. رأيت الغفران هذا؟ وبعد ذلك من عجائب الغفران يصلِّح ويعمل… يجيء للسيئة يقْلبها حسنة يعطي عليها ثواب، هذا شيء ما يقدر عليه غيره -جلَّ جلاله- ما هذا الغفور؟! (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)).
حتى جاء في الحديث أن بعض الناس ممن عفا الله عنهم وغفر لهم، وتفضَّل بتبديل سيئاتهم حسنات.. يقول الله لبعض الملائكة: أذكر له بعض صغائر سيئاته -ذكّره بها-.. يقول: آه! يا رب! -يظن الهلاك- يقول: يا رب، أما غفرت لي؟! يقول له: أخبره أنها بُدِّلَت حسنات، -إلا هذه المعاصي التي ذكرناها لك قد بدَّلها الله حسنات-.. قال ﷺ يرجع يقول: باقي ذنوب أخرى..! باقي سيئات أخرى غير هذه.. لأنه ما ذكّروه إلا بالصغيرة … يقول: باقي ذنوب أخرى، يقول: له كُلّها قد بُدِّلَت إلى حسنات.. هذا الإله ما أعجبه! ما أعظمه! يا خَيْبَة المُعرضين عنه "لا يهلِكُ على اللهِ إلاهالكٌ"، لا يهلك على الله إلا النَّادُّ الشَّارد كما يشرد البعير النَّادُّ على أهله، هذا الذي يهلك -والعياذ بالله- ومَن عرَف عظمة الله ورجع إليه فما أعجب كرمه! وما أعظم عفوه ومغفرته!
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ) صاحب السُّلطة والعظَمَة، (ذُو الْعَرْشِ) هو مالكُ وخالقُ هذا العرش؛ الشريف العظيم الكبير الذي جعله فوق السماوات السبع، محيطٌ بالسماوات السبع، والأرضين السبع وما بينها وما فيها من أنواع الكواكب والنجوم والمخلوقات والملائكة ومافي السماوات والأرض.. محيط بها من فوقها كُلّها.. (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15))، (الْمَجِيدُ) كما هو قراءة الأكثر (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وفي بعض القراءات (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ) صِفة للعرش وصِفة لربِّ العرش -جلَّ جلاله-.. سبحان رب العرش العظيم، (الْمَجِيدُ) صاحب المَجْد، القُدْس والعطاء والإفضال والإحسان والمنّ والإكرام والفضل الواسع، الأعلى الأجلّ (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ).
ووصْف إلهك هذا، ربَّك هذا:
- (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16)) لا يتأخر عليه شيء، لا يَفلُتْ منه شيء، لا يتأبّى عليه شيء، لا يستصعب شيء، لا يَعسُر عليه شيء
- (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) كلُّ شيء تحت إرادته وفعله، وإذا أراد امراً أنما يقول له: كن فيكون
- هذا الإله (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)، ربُّك هذا الذي أوحى إليك هذا الوحي، فويلٌ للذين كذّبوا بك.
(فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) ثم ذكر: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)). وختم السورة بالتذكير بهذا القرآن العظيم، وقال بعض أهل التفسير من التابعين والصحابة: "إنّ القسَم، جوابه في (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)“ هذا جواب القسم.. أقسمَ الله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أين جواب القسم؟ (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) لا يُطيق أحد بطْشه ولا انتقامه -أعاذنا الله من ذلك-
اللهم سِرْ بِنَا مسار أهل الرحمة، وكُنْ لنا في كُلِّ مهمة، واكشف عنَّا كُلَّ غُمَّة ومُدلهِمَّة ومُلِمَّة، وتولَّنا في الدنيا ويوم القيامة، واجعلنا في زُمرة المُظَلَّلِ بالغمامة، أدخلنا في عبادك الصالحين، ألحقنا بعبادك الصالحين، ألحقنا بعبادك المتقين، في دار الكرامة وأنت راض عنَّا ياأكرم الأكرمين.. حتى تجمعنا في:
في مقعد الصِّدقِ الذي قد أشرقت *** أنواره بـ"العِنْدِ" يــــــــا لك مِن سَنَا
والمُتَّقُونَ رجاله وحضوره *** يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربَّنا
يا ربِّ ألحقنا بهم يا ربّنا
بمحض فضلك وجودك من غير سابقة عذاب ولا عِتاب ولا فِتنة ولا حِساب، واغفر لنا يا غفور، وأذقنا لذَّة وِدادك مع خيار عِبادك، وأمدِّنا بواسع إمدادك، وأسعدنا بأعظم إسعادك.. في لُطفٍ وعافيةٍ.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
18 رَمضان 1437