تفسير جزء عمَّ - 72 - تفسير الآيات الأولى من سورة البروج
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9))

الحمد لله باسط بُسُطِ الفضل الوسيع، وصلى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده ذي القدر الرَّفيع والجاه الوسيع، فهو لذلكمْ أوَّل وأعظم شافع وشَفيع، اللَّهم أدم الصَّلوات والتَّسليمات منك يا عليُّ يا عليم يا سميع، على عبدك المُجتبى المُصطفى سيدنا محمَّد هادينا إلى سواء السَّبيل، وعلى آله الأطهار وصحبه خير جيل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الكرامة والتَّبجيل، وعلى مَن آمن بهم واتَّبعهم من صحبهم وآلهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الهَول المُهيل، وعلى ملائكتك المقرَّبين وعبادك الصَّالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا وليُّ يا رحيم يا سَميع يا بصير يا حيُّ يا قيُّوم يا كَفيل يا وكِيل.

وبعد،،،

 فإنَّنا في مُواصلة تلقِّينا وترقِّينا وتنقِّينا عن سيِّئاتنا وذميم صِفْاتنا وظُلماتنا وما يَعْلق بِنا من التفاتاتنا عن إلهنا وخالقنا إلى الكائنات المخلوقة، نواصل التَّأمل فيما أوحاه إلى مُصطَفاه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ونبَّأنا به ولا يوجد في العالم نَبأٌ خير من نَبأ الإله الحقِّ الخالق، ولا تتشرَّف العقول بتأمُّل خَبَرٍ أعظم من أخبار الإله الذي خَلَق وما قصَّهُ علينا على لسان رسوله الأصدق صلى الله عليه وآله وسلَّم ولا تتشرَّف القلوب بمثل كلام إلهِها -سبحانه وتعالى- (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف:204]، 

وقد مررنا على معاني في سورة الطَّارق حتى انتهينا إلى آخرها يقول الله لنبيِّه: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق:15-17] لا تَعمل على الانتقام مِنهم ولا تَستعجل بدعوة عليهم، فإنَّنا قد ضَبطَنا الأمور بمقادير فوق تصوُّرات الخلق وأنظارهم، والمصير ما نقول لك، لا يكون غيره. 

(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق:15-17]، ليكون بذلك مُتخلِّقاً بأخلاق الحقِّ الذي يُمهِل ولا يُهمِل، فيُمهلهم بكيده -جلَّ جلاله- عسى أنْ يَرجع مَنْ يَرجع، وليشتدَّ العذاب والغضب على مَن لمْ يَنقَد ولمْ يَخضع، ويُقابِل كيدهم الضَّعيف كيد الله القوي؛ فلا يكون كيدهم شيء، فلا تكون الغَلبة إلا عليهم، كذلك طوائف الكافرين فيما يَكيدون، قال -تبارك وتعالى-: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، يَرجع على أهله،

فإنَّه -جلَّ جلاله- كما أَوْحَى إلى النَّبي موسى -عليه السَّلام- أو النَّبي عيسى من بني إسرائيل، إلى بني إسرائيل: أنَّكم إذا أَحسنَتم إلى النَّاس وتجنَّبتم الإساءة إليهم، وعَفوتُم عنهم وسامحتموهم؛ كنتُ لكم فأحببتُ محبَّكم، وأَبغَضتُ عدوَّكم، وكنتُ المُدبِّر لكم فيمَن يَكيدكم.

ولذا يرى الكثير من النَّاس ظُلْم الإنسان لنفسه عندما يمتدُّ إلى ظُلْم الغَيَر، فيُخرِج نفسه عن عناية الله وعن محبّة الله (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40] وعن فضله وإحسانه -سبحانه- ويَجعل الآخر -الرَّحمن- في صفِّه، فيكون الرَّحمن معه بل وعامَّة الخَلق يكونون مع المظلوم فيَخرج هذا عن صفِّ الرَّحمن -جلَّ جلاله- بظُلمه، ويجعل الآخر مُشرَّفاً بأن يكون الله معه.

 وهو القائل -جلَّ جلاله-: "أنا الظَّالم إن لم أنتقم للمظلوم من الظَّالم"، ويُنادي مُناديه في القيامة: "أنا الله ملك الملوك العدل الذي لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنَّة أن يدخل الجنَّة وعنده مظلمة لأحد من أهل النَّار حتى اللَّطمة فما فوقها حتى آخذها منه، ولا ينبغي لأحد من أهل النَّار أن يدخل النَّار وعنده مظلمة لأحد من أهل الجنَّة حتى اللَّطمة فما فوقها حتى آخذها منه"، فيقتصُّ لبعضهم من بعض فيتمنّى كل واحد في ذلك الموقف أنّه مظلوم وكل الظالمين يتمنّون أنهم ظُلِموا ولم يَظْلِموا،

ويفرح المَظلومون بما ظُلِموا فيُلاقون الجزاء الوافي مِنْ حضرة الله -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- و إن كان الذين ظَلَموا ماتوا على الإسلام والإيمان فتُؤخذ حسناتهم حتى لا تبقى لأحدهم حسنة فيُؤخذ من سيئات مَن ظَلَموهم فتُطرح عليهم -والعياذ بالله- فهم المفلسون حقيقة، وإن كانوا من أهل الكفر فلا حسنات لهم -والعياذ بالله- فيُوضع فوق سيئاتهم من سيئات مَن ظلموهم، حتى يُقتصَّ ما بين النَّاس والحيوانات، بل ما بين الحيوانات بعضها البعض، حتى يُقاد للشَّاة الجمَّاء التي لا قرون لها من الشَّاة القرناء التي استغلَّت قرونها في الدُّنيا فتُنطِّح أُختها عند الأكل وعند المشي، وذيك المسكينة ما عندها قرون- ما تقدر توجع أختها فيُحوَّل قرون هذه إلى قرون هذه، ويقال: "نطِّحيها بقدر ما نطَّحتك في الدُّنيا" يُقتصٌّ للشاة الجماء من الشَّاة القرناء عدلٌ من الله -تبارك وتعالى الملك العدل-، ثمَّ تصير الحيوانات تراب فيصيح الكفار يقولوا: يا ليتنا تراب، يا ليتنا نكون تُراب (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ:40] يتمنى أنه كان شاة وإلا بقرة!

ما كنتَ رئيس! ما كنت وزير! ما كنت مدير لشركة! قال: ياليت أنا كنت بقرة أو شاة أو حمار! اليوم أرجع إلى تراب أحسن ولا هذا العذاب الذي أمامي، لا إله إلا الله (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ:40] ما كانوا يصفِّقون لك! ما عاد نفع شيء من أمورهم، روَّحوا وذهب كل شيء وبقي عدل الحيِّ القيوم -جلَّ جلاله-، يقول: (وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق:16] فالخير في أن يستقيم الإنسان على منهج مولاه ويصدُق معه والعواقب له قطعاً قولاً واحداً.

فيا ربِّ ثبتنا على الحق والهدى *** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملَّة

ألهمنا رُشدنا وما هو أحب إليك فيما نقوله ونفعله وما ننويه وما نعتقده وما نقصده، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين بحقك عليك يا الله..

ثمَّ نأتي إلى سورة البروج وفيها أيضاً تكرير القسم بهذه السَّماء وما جعل الله بيننا وبينها مما يتراءى لنا، ونحن على ظهر الأرض من تِلك الكواكب العظيمة والأبراج الكبيرة، فيقول الله:

  • (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)) التي زيَّناها بهذه الأبراج والأفلاك والكواكب والنُّجوم (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصافات:6] 
  • (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) صاحبة البروج، تلك الكواكب العِظام الكبيرة. 

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) ويُقسِم بيومٍ سمَّاه (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2))، (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)) يوم القيامة، اليوم الموعود (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ) [هود:103] ذلك الذي وعد الله عباده بالغيب (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يوم القيامة. 

(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)) حلفَ بالشَّاهد والمشهود فكان في معناها أقوال: 

  • منها ما جاء في الحديث يرويه أبو هُريرة عن النبي ﷺ: "الشَّاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة" فيوم الجمعة يوم شاهد لمن جاء، والملائكة يكونون على الطُرقات وعلى أبواب المساجد التي تُصلَّى فيها الجمعة يكتبون الداخل الأول فالأول، حتى إذا دخل الخطيب طَوَوا صُحفهم والتفّوا حول المنبر يستمعون الذِّكر، فالذي يأتي بعد دخول الخطيب لا حظَّ له من شهادة هؤلاء الملائكة بذاك اليوم؛ قد طووا صحفهم، إنما يكتبون الذي يدخل قبل، يكتبون الداخل الأول فالأول.
  • (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)) وجاء معناً آخر "أنَّ الشَّاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النَّحر" لأنه الذي يجتمع فيه الحجيج كلُّهم في مِنى. 
  • جاء أيضاً في معنى الشَّاهد أنه المَلَك الذي يكتب على الإنسان، والمشهود الإنسان يشهد عليه. 
  • وجاء في معنى الشَّاهد أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والمشهود يوم القيامة فإنه الشهيد (وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41] (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) [الحج: 78] 
  • وجاء في معنى الشَّاهد أنهم هذه الأمة والمشهود الأمم السَّابقة (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] 
  • وجاء في معنى الشاهد أنهم الأنبياء والمشهود رسول الله. 
  • وجاء في معنى الشَّاهد أنه الحق -جلَّ جلاله- الحاضر مع كل شيء، في كلِّ شيء، والمشهود يوم القيامة وما يجري فيه. 

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)) (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ) [هود:103-104]  ما يتأخر فيه أحد الكل يجتمع في ذلك اليوم (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة: 49-50] فذاك يوم مشهود سواء، ما أحد يتخلَّف ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47] ولا احد يتخلَّف من الأوَّلين والآخرين، (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق:21].

يقول: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)) على ماذا تحلِف يارب؟ 

  1. القول الأول: أنَّ هذا الحلِف على لعْن أصحاب الأخُدود ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ(4)) أي: لقد قُتل أصحاب الأخدود. 
  2. الثاني: أنَّ الله حلف بهذا، والجواب قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج:12-15] وحلف الحقُّ -تبارك وتعالى-.

 وذكر لنا قصّة أصحاب الأخدود، وهي قصة عظيمة وقد تكرَّرت الأخاديد في التَّاريخ التي أُوقدت فيها النِّيران وعُذِّب فيها النَّاس، ومنها: بالعراق، ومنها: بالشَّام، ومنها: بنجران، والقصّة تُشير إلى أخاديد نجران.

 الآيات تشير إلى أخاديد نجران، وقد جاء في صحيح مُسلم خبرها، عن سيدنا صُهيب عن النبي ﷺ أنّه كان بنجران ملكٌ يدَّعي الرُّبوبية، يدْعو النَّاس إلى عبادته، وكان له ساحر يستعين به كما هو شؤون المُلوك في الاستعانة بالكهنة والسَّحرة وما إلى ذلك، وبكل من رأَوه أنه يُحافظ على ملكهم أو يُمكِّنهم من شيء من أغراضهم لأنهم ضعاف، حتى الذين يدَّعون الرُّبوبية، أما تسمع فرعون؟! تعالوا يا سحرة تعالوا تعالوا هنا تعالوا تعالوا انصرونا.. أنتَ رب تعمل كذا! ماهذا؟ كيف أنتَ تقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] بعد ذلك تقول تعالوا أنصرونا! تعالوا أنقذونا! ما أنتَ رب! أنتَ ضعيف، محتاج إلى هؤلاء، وهكذا الملوك.

فسبحان المَلِك هو، هو المَلِك وحده -جلَّ جلاله- وهذه صور كلها يغترُّ بها النَّاس، وإلا هذا المَلك مسكين مُحتاج إلى الخادم، ومُحتاج إلى الجيش، ومُحتاج إلى الفلوس، ومُحتاج إلى الأكل، ومُحتاج إلى النُّوم، ومُحتاج إلى الشَّم.. كلِّ شيء فسد عليه من هذا،يذهب ويبحث عنه، يطلبه.. هذا مُلك هذا! والمُلِك ما هو؟  هذا مُلك الدُّنيا، وهذه مُلوك الخلق، 

المَلِك واحد اسمه الله (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون: ومع 116]، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك:1] هذا هو المُلِك، لا يحتاج إلى شيء، ولا يحتاج إلى أحد والكل يحتاج إليه، هذا المَلِك موجود بذاته لا أحد يخلقه، لا ابتداء لوجوده -الله أكبر- هذا هو المُلِك، حي.. قيوم ..لا يموت، -سبحان مَلِك الملوك-.

فهذا الملِك ذكر ﷺ: أنَّ هذا السَّاحر الذي كان يستعين به كَبُر، قال له: الآن كبرت وأوشكت على الموت فابعث لي أحد تختاره، غُلام أُعلِّمه حتى يقوم عندك مقامي، فاختار واحد غُلام وكان الغُلام ذكي وعاقل ومرعي من قِبَلِ الله، أرسله إلى السَّاحر يذهب عنده كل يوم، فيذهب إلى السَّاحر يُعلِّمه، ولكن نفسه ما أحبَّت السِّحر هذا!! في الطَّريق الذي يمضي فيها من بيتهم إلى عند السَّاحر، راهب واحد على عبادة الله، باقي على دين سيدنا عيسى -عليه السَّلام- بعد رفع سيدنا عيسى وعنده الإنجيل يقرأ ومُستقيم فكان يُعجبه ويسمع كلامه، ويسمع الكلام الذي يتلوه، يرى عليه نور؛ مال إليه، فكان يمر عليه كل يوم قال له: أنا معك أسلم وأؤمن بالله -تبارك وتعالى- ولا أعبد ملك ولا غيره، قال له: انتبه واحذر واكتم علي، واكتم على نفسك الوضع حرج!

وهذه القوانين المُتعجرفة موجودة في الأزمنة المُختلفة، كل ساعة صورة تأتيك، كل مَنْ مَلَك هكذا يعمل، وكُلهم عبيد ولكن، قليل العبيد الذين يعرفون أنهم عبيد فيحوزون السِّيادة في الدنيا والآخرة، وإلا (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق: 6-7] وعبَّد النّاس، وما عاد أحد يقدر يقول في رب غيرك أبداً، فأكّد عليه أن لا يخبر أحد : مرحبا، وصار يمّر عليه، إذا جاء إلى عند أهله، يقولون له: أبطأت.. يضربونه، وإذا جاء إلى عند السَّاحر، يقول: أبطأت، يضربه.. شكا إلى الرَّاهب قال له: إن سألك أهلك تعذَّر لهم بالسَّاحر قل كنت عند السَّاحر، وإن سألك السَّاحر تعذَّر لهم بأهلك، قل: أهلي حبسوني، كان يفعل كذلك.

دخل الإيمان في قلبه، امتلأ إيماناً بربه، ومع ذلك هو مُهيَّأ لمنصب عند الملك ولكن خرج صاحب المُلك الصُّوري الحقير من قلبه لمّا عرف صاحب المُلك الكبير، لمّا عرف صاحب المُلك الحقيقي -جلَّ جلاله-، فما عاد له قيمة عنده -للملك- ولا غيره، ومن جملة ما أيَّده الله به ذكر ﷺ يقول: "اعترض يوم للناس دابة -حيّة كبيرة- في الطريق وفزعوا النَّاس ووقفوا.. فجاء، قال: اليوم أختبر إيماني بيني وبين ربي، يارب إن كان كلام الرَّاهب حق وصدق وأحب إليك من كلام السَّاحر وغيره فاقتل هذه الحية بهذه الحصاة ورمى بها فماتت.. ومشى الناس وتعجَّبوا ما هذا الغلام قالوا: هذا يدهب الى السَّاحر، رجع إلى عند الرَّاهب وأخبره قال له: هذا مظهر إيمان أنتَ اليوم أفضل مني عندك يقين وأظهر الله على يدك هذه الكرامة فاثبت واحذر إنك بهذا الإيمان ستُبتلى لابد يكون لك بلية، لا تُخبر عنّي. 

وصار بما تعلَّمه من إيمان ويقين وذكر يُجري الله على يديه يُبرئ الأكمه والأبرص ويُعالج الناس ينتفعون يظنونه أنه من السَّاحر وهو إلا جاء به من طريق الإيمان بواسطة هذا الرَّاهب.. حتى كان يوم من الأيام عمِي جليس للملك فدلُّوه قالوا: صاحبكم الغلام هذا، غلام الملك الذي يتعلَّم السِّحر فجاء إلى عنده، جمَّع له أموال وقال له: أعطيك وأُزيدك ما عندي وترد علي بصري، قال له: أنا ما أرد على أحد بصره، وأنا ما أُعافي أحد؛ إلا الله،  الله ..الله من هو؟ الله الذي خلقني وخلق السَّماوات والأرض.. هذا هو الله، أنا ما قد عافيت أحد ولا شافيت أحد أنا ما أشفي، أنا أدعو الله، الله هو الذي يشفي، ستُؤمن به؟ ادعو لك، قال له: كلامك كلام حق، آمنت بالله، ربي وربك ورب الملك هذا ورب الناس كلهم ورب الخلق، دعا له ففتَّح عينيه.

رجع دخل إلى عند الملك، أوب! مَن ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي، ربك؟ ألَكَ رب غيري؟ قال: الله، ربي وربك. :ها هكذا.. احبسوه؛ حبسوه.. اضربوه؛ ضربوه وعذَّبوه،

من أين جئت بهذا الكلام؟ دلَّهم على الغلام.. تعال يا غلام، جاء الغلام، أنت لك رب غيري؟ قال: ربي وربك ورب السَّماوات والأرض، رب الخلق، الله الذي خلقنا وخلقك.. ها! هكذا تفعل؟ فأخذ جماعة من أصحابه قال لهم خذوه إلى شاهق الجبل فإن يرجع عن دينه وإلا ارموه، طلَّعوه، لما طلعوا وصلوا في القمَّة في الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل سقطوا وماتوا، ورجع هو إلى عند المَلك، قال: ها، ما فعل أصحابي؟ قال: كفانيهم الله، الله كفانيهم وسقطوا.. استدعى جماعة آخرين قال: خذوا هذا الغلام اركبوا في السَّفينة ادخلوا إلى البحر حتى تتوسطوا البحر، يرجع عن دينه هذا وإلا ارموه في البحر وارجعوا، حملوه وركَّبوا وسط البحر وغُبَّة البحر، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، تقلَّبت عليهم سفينتهم غرقوا ورجع هو إلى عند المَلك.. ما فعل أصحابي؟ قال: كفانيهم الله، هم غرقوا في البحر.. ها، ماهذا؟ قال: ما تقدر علي إلا طريقة واحدة، : كيف؟ قال: تريد تقتلني؟ قال: نعم، قال: ما تقدر أن تقتلني إلا جمِّع أهل المملكة -شعبك كلهم- اصلبني وخذ سهم من كنانتي، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، واضربنا، ممكن تقتلنا، بغير هذا ما تقدر! 

رأى الآيات والعجائب وخاف أنه يفتن الناس بفكرته، يعني يهدي الناس إلى الحق ويهديهم إلى ربهم، لابد أن نتصرف معه هكذا، إذًا مافي طريقة إلا هكذا؛ جمَّع أهل المملكة، والنَّاس بدؤوا يتسامعون الخبر ويتناقلونه، إنهذا الغلام حملوه إلى الجبل، وهلك الجماعة الذين سيُهلكونه وأرسلوه إلى البحر، وهلك الجماعة الذين سيُهلكونه، والغلام آمن بالرَّب -سبحانه وتعالى-، عذّبوه وآذوه حتى دلَّ على الرَّاهب، جاؤوا به إلى عندهم، وقتلوه وما تمكَّن يقتله، إذا رموه بسهم يذهب كذا ويذهب كذا، ما يدق فيه شيء قال: ما هذا؟ سيفتن عليّ الناس!

قال له: أردت أن تتخلص مني؟ هذه الطريقة.. قال: اجمعوا الناس، جمَّعوا الناس وأحضروا الغلام وقد الكلام منتشر بين الناس بأن هذا مؤمن بالله وكافر بالملك وبأي شيء غير الله -تبارك وتعالى- فجمَّعوا.. 

صلبوا الغلام ويقول: باسمي، ما يُصيبه، يحاول ثاني.. ثالث.. رابع، ولما قال بسم الله ربِّ الغلام، دقّ فيه فجاء السَّهم في صدغه وضع يده عليه ومات..

ضجَّ النَّاس: آمنا بالله ربِّ الغلام، ها.. آمنا بالله ربِّ الغلام، ماذا؟ رجع إلى البيت وقال: اسمع الذي كنتَ تفزع منه وتخافه، هذا ضحك عليك، قال لك جمِّع الناس ورأوا بأعينهم وما قدرت تقتله إلا بسم الله ربِّ الغلام، والآن آمنوا بالله.. ما هذا؟ قال: المملكة كلّهم آمنوا، والآن ما عاد معك أحد إلا قليل! إيه! قولوا لهم يؤمنون بي و يكفروا بهذا.. ما رضوا.. قال: أخاديد، ابحثوا وشقوا أخاديد في الأرض،

 بحثوا أخاديد مستطيلة وأخاديد.. و ملؤوها بالحطب.. أشعلوا النَّار.. وخرج وجماعته وقومه جالسين على الكراسي يقول: أي واحد من هؤلاء يكفر بي ولا يرجع عن هذا الدين، ارموه في النَّار، فُتِن الناس.. النَّار أمامهم تلتهب وأخاديد.

يأتي واحد يقول: تؤمن بهذا الملك إلهاً أو معك رب غيره؟ 

  • إذا قال: آمنت بالملك، قالوا له اذهب،
  •  قال: آمنت بالله، قال: ارموه في الأخدود، تحرقه النار..

 ثاني ..ثالث.. رابع ما بين اثناعشر ألف، وفي رواية: إلى سبعين ألف، وفي رواية: ثمانين ألف، أُحرِقوا ذاك اليوم! حتى منهم امرأة معها ثلاثة أولاد - واحد مازال رضيعا- 

تكفرين بالله وتؤمنين بالرَّب؟ قالت: أبداً، مسكوا ولدها الأكبر رموه في النَّار، احترق أمامها، قال: أتكفرين بالله وتؤمنين بي؟ قالت: لا، حملوا ولدها الثاني ووضعوه، قال: أتكفرين بالله وتؤمنين بي؟ قالت: لا، أخذوا ولدها الطِّفل -رقَّت وأرادت أن ترجع عن الإسلام-؛ فنطق الطفل: اثبتي يا أمَّاه، إنّكِ على الحق، قالت: نعم، رموا ولدها ورموها وراء ولدها، من جملة الذين أحرقوهم 

(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (3) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5)) مُتوّهجة من كثرة ما جعلوا فيها من الحطب (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6)) جالسين يتفرّجون (وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)) حضور أمام أعينهم، انظر الظُّلم إلى أين يصل، 

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) ماذا عابوا عليهم، ماهو العيب الذي عندهم؟! (إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(9)) فقصَّ الله هذه القصَّة على نبيّه يقول له: لا تتعجَّب إن أخرجوك من مكة، وإن آذوك، وإن آذوا أصحابك، وإن وضعوا السَّلا فوق ظهرك، وإن قاتلوك.. عندنا حكمة في خلْق الوجود وأقضية وأقدار قد مضت ومنها ومنها ومنها.. فلا تقلق أنت ولا أصحابك، اثبتوا على منهج الحقِّ والهدى، ولا تتزعزعوا للحوادث الحاصلة على الأرض.. وهكذا إلى آخر السورة..

رزقنا الله الاعتبار والادِّكار والاستنارة والإيمان القوي الكامل التَّام.. هذا الرَّاهب لمَّا أبى أن يكْفُر، جِيء بالمنشار ووُضع على رأسه ونشروه كأنه خشبة، نشروه وشقّوه وما رجع عن دينه، وهكذا.. 

فالله يرزقنا كمال الإيمان وكمال اليقين، ويبعد عنا الفتن والمحن والابتلاءات وعن الأمة، ويكشف الغمة ويعامل بمحض الجود والرَّحمة ويُثبِّتنا أكمل الثَّبات..

بحُرمة هادينا ومُحي قلوبنا  *** ومرشدنا نهج الطَّريق القويمة

دعانا إلى حقٍّ بحقٍّ منزَّل  *** عليه من الرَّحمن أفضل دعوة

أجبنا  قبلنا  مُذعنين  لأمره  *** سمعنا أطعنا عن هدىً وبصيرة

فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهدى *** وياربِّ اقبضنا على خير مِلَّة

فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهدى *** وياربِّ اقبضنا على خير مِلَّة

فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهدى *** وياربِّ اقبضنا على خير مِلَّة

وعُمَّ أصولاً والفروع برحمة *** وأهلاً وأصحاباً وكلَّ قرابة

وسائر أهل الدِّين من كلِّ مسلم *** أقام لك التوحيد من غير ريبة

وصل وسلم  دائم الدَّهر  سرمداً  *** على خير مبعوث إلى خير أمة

محمَّد المخصوص منك بفضلك *** العظيم  وإنزال الكتاب وحكمة

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

11 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

16 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام