تفسير سورة الانشقاق -3- تتمة السورة من قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.
نص الدرس مكتوب:
﷽
(فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ۩ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25))
الحمد لله على تيسير الوِِجهة إليه، ومُواتاة أسباب الإقبال لمن أراد عليه، الذي كرم وعده فوعد مَن أقبل عليه، بأن يُقبل هو عليه، له الحمد مِن إله كَرمه ما له مِن حَدّ، ونعماؤه ليس لها مِن عَدّ، فأعظِم بالواحد الأحد، الفرد الصّمد، الذي اختار النّبيّ محمّد، وجعل اسمه المشهور به في السماء أحمد، وقدَّمه على الخلائق في الدّنيا والبرزخ، ويوم غد.
اللّهمّ أدم الصّلوات على هذا المُجتبى المصطفى، وعلى آله الطّاهرين الشرفاء، وعلى أصحابه الأكرمين الحُنفاء، وعلى مَن أحبهم و والاهم واتّبعهم واقتفى، وعلى الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعد،،،
فإنّا في الغدوات المُباركات، غدوةً بعد غدوة، في غدوات وبُكرات الشّهر الكريم المبارك المنوّر، نتأمّل كلام مَن فطر، وتوجيه العليّ الأكبر، وخِطاب الرّحمن الذي استوى عندهُ ما بَطن وما ظَهر، فيما أنزل إلينا وخاطبنا على لسان حبيبه الأطهر، خيرِ مَن بشَّر مِن البشر وأنذر.
مررْنا على آيات كريمات ونسأل الله أن يُلصق أنوارها بقلوبنا، وأن يجعلنا مِن المُتّصلين بها صلةً لا إنقطاع لها حتّى نجتمع في أعلى الدّرجات بمحبوبنا، فإنّ القرآن حبلُ الرحمن، وأقوى أسباب الصّلة به وبالمُنزل عليه سيّد الأكوان، اللّهمّ اجعلنا عندك مِن أهل القرآن.
تأمّلنا ما تأمّلنا مِن المعاني حتّى جئنا إلى سورة الإنشقاق وفيها الخلَّاق يُخبر عن شؤون ما خلق والغايات والمصير والنّهايات والأحوال المُختلفات التي تنتاب هؤلاء المخلوقين، ومَن أصدَقُ حديثًا عن الخلق مِن الخالق، هوأعلم بهم (أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ) [الملك: 14]، فلا يُمكن أنْ يتحدّث عن الإنسان في شأنه ولا في زمانه ولا في حاله ولا في أعماله ولا في وِِجهته ولا حاضره ولا مستقبله ولا جسده ولا روحه؛ لا يُمكن أن يتحدّث أحد أعلم أو أصدق أو أعرف مِن الذي خلقه وصوّره، وكوّنهُ وفطَره وهو الله.
تحدّث لنا عن الكائنات، وتحدّث عن هذا الإنسان المخصوص بالخصائص مِن بين الكائنات، فإذا أضاع الأمانة صار أخسّ تلك الكائنات؛ وإلاَّ فهو المميَّز بأنواع مِن الخُصوصيّات، والميزات، وأعطي مُعطيات ربّانيّات تهيّأ بها لأن يُدرك مِن أسرار القدرة وأسرار العظمة الربّانيّة ما لا يدرك غيره.
يقول سبحانه وتعالى: (إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ (1) وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ (2) وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ (3) وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ (4) وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ (5) يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ)، خطاب مِن رَّب الإنسان للإنسان (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ (6))؛ ملاقي الرَّب، وملاقي الكدح الذي كدحْتَ إلى الرَّب
ودخل بعضهم على كَهْمَس بن الحَسن عليه رِضوان الله فقال في تفتيشه عن الكدح وانتباهه منه وإنزاله الأمر المنزلة التي يستحقّها، قال له: إنَّ لي أربعين سنة أبكي على ذنب أَذْنبته، قال: وما هو الذنب؟ قال: نزل بي ضيف فاشتريتُ له سمكًا بِدَانِكْ، أطعمته إياه، ثم جئتُ إلى جدار جاري فأخذتُ قطعة مِن تُرابهِ يغسل بها، مِن دون إذن صاحب الجدار، فلي أربعون سنة أبكي على هذا!!.
هؤلاء الذين حسبوا الحساب و وزنوا الميزان؛ لكدْحهم الذي يلقون به ربّهم، ومَن كان حاسب نفسه هكذا فالرّحمن أكرم مِن أن يُحاسبه في الآخرة، إلاَّ ما كان مِن حسابٍ يسير في مجرّد العرض وفي الأمّة وأخيار الأمم السّابقة مَن يدخل الجنّة بغير حساب، فلا يوقَف لميزان أو لمحاسبة على شيء مِن الأعمال وفي الأمّة منهم سبعون ألفًا أوّل ما أُخبرﷺ، قال: "فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي قُلْتُ قَلِيلٌ مِن الأُمّةِ سَبْعُونَ أَلْف، قَالَ: فَزَادَنِي مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِن السَّبْعِينَ أَلْفَ سَبْعِينَ ألفًا، وَثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِن حَثَيَاتِ رَبِّي" فقرَّت عينه ﷺ.
كان كثير مِن صُلحاء الأمة وأوليائها يقولون: إنّ طَمَعَنَا في حَثَيَات الرَّب سبعين ألف مع كلّ واحد منهم سبعين ألف، أين نصِلهم؟ كثير والأمّة ملآنة أولياء، وصلحاء مُقرّبين والسّبعين ألف، ومع كلّ واحد سبعين ألف؛ لكن الحَثيَات الرّبانيّة هذه، ما فيها عدد محصور، حَثَيّة إلهيّة، كم يأخذ فيها؟ كم؟ وثلاث حَثيات مِن حَثيات ربّي؛ فنِعْمَ المُنْعِمُ وجزى الله عنا المستزيد الذي طلب لنا هذا الطلب؛ فأُجيب محمّد خير الجزاء، وأشرف الجزاء؛
- هل في أحد خدمنا مثله؟! في أحد انْتبه منا مثله؟! في أحد نفعنا مِن الخلق مثله؟! في أحد يهتمّ بشأننا و أمورنا العظمى الكبرى مثله؟ فلا أرحم بنا في الخلق منه؛ فليس بعد الحق إلاَّ سيد الخلق…
- وهو حُقَّ أن يقول الله عنه: (ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ) [الأحزاب: 6]، خدمات ما يقدر يُقدّمها لا حكومات، ولا دول، ولا مؤسّسات، ولا هيئات، ولا علماء، ولا صُلحاء، ولا أوّلين، ولا آخرين؛ لكن محمّد قدّمها،
وفي كلّ ليلة مِن ليالي حياته كان يبكي ويسأل للأمّة، ويطلب للأمة، ويسترحم للأمّة، ويستوهب للأمّة وتَذكّر ليلة آيةً لإبراهيم، وآيةً عن عيسى ابن مريم إبراهيم يقول: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) [إبراهيم: 36]، وعيسى بن مريم يقول: (وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [المائدة 117-118]، تذكّر هذين الحالَين لإبراهيم، وعيسى وطار النّوم مِن عينه وبكى كثيرا، فلم يزل يبكي؛ ولِما كان مِن بكائه مِن سُوَيْدَاِء قلبه، قال الله لجبريل: انْزِلْ قُلْ لعبدي محمّد ما يُبكيك والله أعلم بذلك،
خَرج سيّدنا جبريل، يا محمّد أرسلني الحقّ إليك يقول: مَا يُبْكِيك وَهُوَ أَعْلَم، قال: يا جبريل
- ذَكَرْتُ قول إبراهيم في أمته: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ) [إبراهيم: 36]،
- وذكرت قول عيسى يقول لربّه في القيامة: (وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [المائدة: 117-118]،
فَذَكْرْتُ أمَّتي وما يُفعل بهم مِن بعدي ويوم القيامة، فلذلك بَكَيْت، وعاد جبريل: ربّي أَنت أعلم بما قال عبدك محمّد، قال: كذا، كذا قال: ارْجِع إليه وقل له: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أمَّتِكَ ولن نَسُوءَكَ فِيهِم؛ فعاد جبريل بالبِشارة إلى سيّدنا الجليل.
اللّهمّ اجْعل ممّا تُرضيه به فينا، نَقاء قلوبنا وتصفيتها عن شَوائبها وحِيازَتنا الخير الوفير مِن هذا الشّهر وبقية العمر على ظهر الحياة، موفين بعهدك الذي عاهدْتنا عليه، حتّى يلقاك كل واحد مِنّا على أتمّ الوفاء، وأكمل الصّفاء وأنت راضٍ عنّا، يا الله!
واجْعل ممّا تُرضيه به فينا، أن تَجمعنا كما جمعتنا في الدّنيا ومَن يحضر معنا ومَن يسمعنا في دائرته، وفي زُمرته تحت رَايَته، وعلى حوضه عند مروره على الصّراط، وفي الجنّة، يا الله! إنَّا سنُرضيك في أمّتك ولن نَسوءك فيهم.
ويُروى أنّه فَرِحَ يومًا مِن السّيدة عائشة أمّ المؤمنين فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ بِنْت أبي بكر مَا قَدّمَتْ، وَمَا أَخَّرَتْ، وَمَا أَسَرَّتْ، وَمَا أَعْلَنَتْ، وَمَا أَظْهَرَتْ، وَمَا أَبْطَنَتْ"، أعْجِبَت بالدّعاء، فكادت تطير مِن الفرح، قال: "أسُرِرْتِ؟"، قالت: "كَيْفَ لَا أُسَرّ وَأَنْتَ تَدْعُو لِي بِهَذِه الدّعَوَات"، قال: "وَالله إنَّهَا لَدَعْوَتِي لِأُمَّتِي كُلَّ لَيْلَة"؛ قال: أنا كلّ ليلة أدعو لأمّتي بهذا الدّعاء، اللّهمّ صلّ عليه وعلى آله؛ مَن خَدمنا مِثلُه؟ مَن أحسن إلينا مِن الخلق مِثلُه؟ ومَن نفعنا مِن البريّة مِثلُه؟ فحقّهُ أعظم الحقوق بعد حق الله؛ اللّهمّ اجْزه عنّا خير الجزاء، وهو السّبب في تلاوتنا لهذا الكتاب وهذا الكلام وإلاَّ ما وصل إلينا شيء:
- (فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا) [مريم:97].
- (فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان:58].
- (لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ) [الرعد:30]، لتبيِّن لهم ما أُنزل إليك.
يقول جلَّ جلاله: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ (6))، والنّتيجة للكدح ما أشار إليه كما سبق معنا، (فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ (7))، أَعْطِنا كُتبنا بأيماننا وأَدْخِلنا جنّتك بغير حساب.
(فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ (7) فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا (8))، حساب المُسامحة، حساب العفو، حساب الصّفح، حساب التّجاوز، ويجعل الله مِن يُسْرِ ذلك الحِساب أن يُخفيَ في صحيفته سيِّئاته ويُبرز له حسناته، له الحمد، (وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا (9)) في جنّة الله تعالى، اللّهمّ اجعلنا مِن أهل الجنّة.
وكلٌ ينقلب إلى أهله ولكن أهل الثاني بئس الأهل وقد تقدّم على نفسه كذبًا أنه كان يبحث عن السّرور في أهله في الدّنيا ويعصي الله فذهب عنه سرور الأبد، (وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ (10) فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا (11))، هلاكًا، يدعو على نفسه بالهلاك، كُلّما اسْتَلَم كتابه بشماله (يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُوتَ كِتَٰبِيَهۡ * وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِيَهۡ * يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ * مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ * هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ) [الحاقة: 25- 29]، يا وَيْلاه، وا ثُبُوراه، وا هَلَاكاه.
قل ما شئت، وابْكِ كما شئت، قد أُنذِرت، قد بُيِّن الأمر لك، قد وَصَلَتْكَ الرِّسالة، ذهبت تلعب إمّا مع أحزاب، إمّا مع ألعاب، إمّا مع فِرق، وتركت أمر الله، وأمر رسوله، واليوم تبكي! ابكِ لمَّا تشبع ما ينفع شيء، لمَ لمْ تَتذكّر وقت تنفع الذّكرى (أَوَ لَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ) [فاطر:37].
(فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا (11) وَيَصۡلَىٰ)؛ أشرنا إلى القراءة الأخرى (وَيُصَلَّىٰ سَعِيرًا (12))، نارًا محرقة أجارنا الله منها، (إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا (13))، أصحابه، وأصدقاؤه، وجماعته، وأهله الذين كانوا في الدّنيا، كان يعمل نفسه مسرورا بينهم، وإذا تأمّلنا حالهم، ما وجدنا حقيقة السرور، يصنعون سينمات، يرقصون، يشربون خمر، يصنعون ...، والسّرور يتكلّفونه؛ وإذا نظرت حقيقة حياتهم هموم، غموم، وأكدار، وتعب، وإن تظاهروا لك، حتّى أنَّ مِنهم مَن يبحث عن الإنتحار في الدّنيا، وفي تاريخ البشريّة القريب، لا نسبة بين الإنتحارات في بلاد المسلمين مع بُعد المسلمين الأكثر منهم عن ربّهم، وعن صِلتهم به، وعن ذِكرهم له، وعن قِيامهم بواجب حقّه، وعن حُسن طمأنينة قلوبهم بذكره.
ومع ذلك لا نسبة بين المنتحرين فيهم، والمنتحرين في الدّول الكبرى حيث الحضارة، انتحارات وصلت في بعض بُلدانهم إلى أن يجعلوا لها أماكن رسميّة، انتحار، انتحار، انتحار، زاد عليهم في كلّ محلّ، قاموا عملوا محلّ رسمي، و صنعوا أنواع، تريد بكهرباء، تريد بالرّصاصة، تريد أيّ نوع مِن الأنواع، تفضّل بالفلوس، يأتي بفلوسه ويدخل محلّ الانتحار، ويُسلِّم فلوسه، مَن هم؟ فقراء؟ لا! ما بِهم فقر، لشدّة مرض في أجسادهم؟ لا! ماذا معهم؟ ضَنْكٌ في قلوبهم، (وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا) [طه: 124]، كم حصّل واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، عدد مِن الذي يملكون عمارات في الولايات المتحدة أوغيرها مِن مائة طابق، يطلع إلى أعلى طابق، يرمي نفسه، ينتحر، عمارته كلّها مائة طابق وهذه المائة طابق ماذا فعل بك هذا الطابق.
(لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، ماذا فعلت لك طوابقك هذه؟ إذا لا يوجد طمأنينة في القلب، إذا لا يوجد سكون في النّفس، ماذا تنفع؟، ولا طمأنينة إلاَّ مع أهل الله، لا يوجد مع الكفار مهما كانوا، مهما تظاهروا بالنّجاح في أمورهم، وإشارات الفشل تُطاردهم مِن زمن إلى زمن، ومِن وقت إلى وقت، فشل، ومِن فشلهم يفتنون النّاس بعضهم ببعض، ويلعبون على الناّس ويضحكون وما يُبالون بالقيم ولا بالنّاس وهكذا، حتّى إنّ مَن بقي معه مُسْكة مِن عقل في مثل تلك الحضارات، والاتجاهات، يقول: الآن نذهب بالإنسان إلى أين؟ إلى أين نمشي بالإنسان؟ هلاك الإنسان، ضياع الإنسان، فقْد الإنسان لإنسانيّته،
مباني وأُسُر ومادة ويخلطها ما يخلطها مِن مصايب وهكذا؛ ومع ذلك كلّه، مادّة ومظهر وذات الإنسان نفسه تنحطّ، تنحطّ، تنحطّ، فلا يتوقّع إلاَّ تردِّيات أخلاقيّات، ترديات اجتماعيّات، ترديّات في العلائق بين الإنسان والإنسان، ترديّات كبيرة، وإنّما يُصْلحْ الإنسان منهج ربَّ الإنسان الذي حَمَلُه خيار النّاس مِن الأنبياء، والمرسلين، وخَتَمُوا بسيِّدهم أَكْيَس الأَكْيَاس، خَيْرُ مَن بَنَى على أساس، سيّد النّاس.
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْنِ ** وَالفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ
نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فَلَا أَحَدٌ ** أبَرَّ فِي قَوْلِ لَا مِنْهُ وَلَا نَعَمِ
يقول سبحانه: (فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا (11) وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا (13))، صنع منه هذا السّرور الباطل، يقول لك تعال وتسلّى، وتعال تمتّع، وتعال وما أدري ماذا، وتَعَب في تَعب، (إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14))، كان يعتقد إنه لن يرجع إلينا، قال سيدنا ابن عباس: "ما كنت أعرف معنى "يَحُورَ" حتى مَررت بإعرابيّة، تنادي بنتها، تقول: حُورِي، حُورِي؛ تقصد ارْجِعِي"؛ قال: "عَرَفْت معنى يَحُورأي يَرْجِعْ"؛ (إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14))، يرجع إلينا:
- (كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ) [الأنبياء:104].
- (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ)، الله! (فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ) [المؤمنون:115-116]، ليس لعب هذا..
- (وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ) [ص:27].
وأولي الألباب يقولون: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:191]، والثانيين فويلٌ لهم مِن النّار، وهؤلاء قد قالوا: "قِنَا عَذَابَ النَّارِ"، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران:195]، أدركوا الحقيقة.
الحمد لله على نعمة الإسلام، اللّهمّ زدنا مِن الإسلام، زدنا مِن الإيمان، زدنا مِن الإحسان، وارزقنا العرفان، وارفعنا إلى أعلى مكان، وبارك لنا في رمضان.
قال: (إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَىٰٓۚ ..(15))، كلّ يرجع إلينا
- (كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُ) [الأنبياء:104].
- العجَب حتّى الحيوانات يرجِّعْها (وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ) [الأنعام:38]، (ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ) الدّابّة في الأرض، طائرة تطير بجناحين، (ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ).
خذ زيادة على ذلك، أيّ طير ظلم طير؛ خُذْ يا طير حقَّك مِن هذا الطير، أي غنمة ظلمت غنمة؛ خُذي حقّك مِن هذه الغنمة، الله! الله! الله! الله! كلّ ما بينهم حتى يقاد للشّاة الجَمّاء مِن الشاة القرناء، وإن واحد مِن الناس ظلم واحد منها، تصرّف فيها بغير حقّ أو رَفَسَها برجله وإلاَّ قال كلمة، قال: تعال هات الرّفسة لهذه، ماذا؟ في اليوم الفلاني، السّاعة الفلانية، مررت، قلت برجلك كذا، لماذا؟ اسْتَهْوَنْتَهَا، اسْتَحْقَرْتَهَا، نحن خَلَقْناها، لماذا ترفسها برجلك؟ هات حقها، ما حقها؟ حقّها، انْبَطِحْ تَرْفسك، ويُبطَح الذين ظلموا الحيوانات على صفائح مِن النّار وتجيء الحيوانات تَرفّسهم، وترمّحهم، وتَضربهم كما آذوها في الدّنيا، الله! الله! الله! عدل، عدل، (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) [الأنبياء:47]، نفس أيّ نفس، (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
هكذا (بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)) كان بصيرًا بتكوينه، وخلقه بمُراداته، برغباته، بهِواياته، بأعماله، بسرّه، بظاهره، بعلنه؛ بما يُخفيه بمقاصده، بحركاته؛ إنه كان به بصيرا؛ ما يُفلت مِنه شيء، ولا يَضيع شيء.
- (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَة) [المجادلة:7].
- (بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا (15)).
- (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].
- (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80].
- (إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا).
حتّى أنّه قد يخفى في بَاطِنِ بَاطِنِ الإنسان قصدٌ لغير الله ما تَعْلَمَهُ حتّى الملائكة، فَيَكشفه الله،؛ تقول الملائكة: هذا عمل صالح عمله كذا، أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرّقيب على قلبه، لم يُردني بهذا العمل؛ فَتَتَبَرّأ منه الملائكة، يقولون: حسبنا الله، كنّا نظنّ أنّه يُرِيدُكَ فَأُفٍّ لَه، لا إله إلاَّ الله! ( إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا (15)).
ثم يكرّر الحق علينا الأيمان، (فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16))، أقسمَ بالشّفق، الشّفق أوّل ما تغرب الشّمس مِن أيّ مكان في الأرض، تبدو حُمرة في الجانب الغربي، أو هي أوّل اللّيل فهي الشفق وهي وقت المغرب إلى أن يغيب هذا الشفق، يخرج وقت المغرب.
(فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16))، وقيل المراد بالشّفق، البياض ليس الحُمرة وعلى هذا يكون المراد بياض النّهار، مقابل سواد اللّيل، (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) [البقرة:187].
(فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16))، يعني بالنهار، (وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17))، كما جاء في سور أخرى (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ) [الليل:1-2]، (فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16) وَٱلَّيۡلِ)، كلّه، ( وَمَا وَسَقَ (17))، غطّى بظُلمته، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ) [الليل:1]،وسقًى أيضًا، جَمَعَ، لفّ في الليل؛ فإنّ اللّيل محلّ السّكون والاجتماع ويَأْوِي كلّ شيء إلى مَنزله وإلى مَكانه ومَرقده.
(وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17))، ما غطّاه بظلامه وما جمعه مِن حيوان، وإنسان، وكائنات، (وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ(17) وَٱلۡقَمَرِ)، أقسم بالقمر، (إِذَا ٱتَّسَقَ (18))، ٱتَّسَقَ: استوى، استكمل دورته في ليلة الثّالث عشر، الرّابع عشر، الخامس عشر مِن الشّهر، (وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18))، تكاملت استداراته وبدأ ضوءه، (وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ)، استوى واستدار واستكملت دورته.
(وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18) لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، جاء في قراءة (لَتَرْكَبَنَّ):
- فإمّا أن تكون لتركبَنّ مخاطبة للإنسان (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ)،
- وإمّا أن يكون المراد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فإذا جيئ على معنى أنَّ المراد رسول الله والمخاطب بها يقول له: أنت الذي تعتلي رتبةً بعد رتبة وترتفع درجةً بعد درجة وتخرق السّبع الطباق (لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، وتترقّى مِن حال إلى حال.
وإذا كان المعنى (لَتَرْكَبَنَّ) أيّها الإنسان، أو(لَتَرۡكَبُنَّ)، يا معاشر النّاس، (طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19)) المعنى، تمرّ بكم الأحوال إلى أطوار تتطوّر، وأحوال تتحوّل وتغيّرات ومنها:
- مِن بداية نشأكم نطفة، علقة، مضغة إلى الهيكل العظمي، إلى اللحم، إلى خلق آخر، إلى وليد، طفل، إلى مميز، إلى مراهق، إلى بالغ، إلى شاب، إلى كهل، إلى شائب.
- وتمرّ بكم في هذه الأحوال مرض، صحّة، غنى، فقر، خطر، أمن، خوف، فرح، حزن، طبق طبق، طبق، بعد ذلك موت.
- (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) -طور- (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ) [عبس:19-22].
العجب إن واحد يقف عند طور واحد ويريد يحكم به الذي قبل والذي بعد، اسْكت سَاكت يا جاهل! هذا طور مِن الأطوار، المُطوِّر أين هو؟ أين الذي قبل هذا والذي بعد هذا؟ ما في طور مِن الأطوار يُحكم كل شيء أو هو مُحوّل يُحوِّل، فإذا أُخبروا عن شيء في أحوال الآخرة، يحكمون طور الدّنيا، الدّنيا كلّها طور مِن الأطوار تمرّ به، أنت قبل الدّنيا، كيف كان حالك؟ أنت الآن في طور الدّنيا تعرف كيف تأكل وتشرب، وأيّام كنت نطفة مِن أين تأكل وتشرب؟ وعلقتك مِن أين تأكل وتشرب؟ مُضغتك مِن أين تأكل وتشرب؟ وبعد ما تكوَّن جسدك ووضعوا فيك الرّوح أيضًا، كيف طريقة أكلك وشربك؟ ما يمكن يحكمها الطور الآن الموجود.
قُلْ لي لماذا بهذا الطّور الموجود تحكُم الماضي، تحكُم المستقبل البعيد، تحكُم القيامة، وتحكُم الجنّة إذا تسمع أخبار عن الله ورسوله، تحلّل بالحال، الطّور الذي أنت فيه، هذا يا أبله! يا جاهل! هذا طور مِن الأطوار، الآن المُطوّر يُخبرك عن الأطوار المُقبلة، اعْقل! أنت بالطّور هذا كلّه آية مِن آياته؛ ولكن قُدرته لا هي محصورة عندك، أو ممسوكة لك، أو داخلة في حسابك، أو إرادته، أو تكوينه جلَّ جلاله (وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) [النحل:8]، سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء.
قديم واحد مِن هؤلاء الباحثين وهو نصرانيّ "وِلْيَمْ جُونْسْ" اسمه وبعد ذلك يتأمّل أخبار الحياة وبعد ذلك يتكلّم يقول: "كلّ عاقل يعرف أنّ القدرة التي خلقتْ هذا الكون بهذا النّظام البديع ليست عاجزة عن أن تُضيف إليه شيء أو تَحذف شيء منه".
القدرة التي خلقت هذه العجائب، ما هي عاجزة تُضيف شيء وتحذف شيء، الله! هذا بلا شك، بلا ريب، كيف خلقت هذه الأشياء؟ وهي قادرة أن تحذف ما تشاء، وتضيف ما تشاء، وهذا يعلم بعقله وهو كافر، يجيء مسلم مؤمن (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:20]، وقوله: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، كيف يكون هذا؟ ليس معقول! أنت ما عرفت ربّك؟ مازلت إلى اليوم؟ يرجع مثل الذين يتولّعون بسؤال: أين ربّك؟ أين ربّك؟ وكأنّ الرَّب جسم، أو شي يحتاج مكان، أعوذ بالله مِن غضب الله ونحن نقرأ، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) [الحديد:4]، هو ما يحتاج إلى مكان، أمّا الأماكن كلّها مُحتاجة إليه.
جاء عنده واحد مِن أهل الخير مِن صنعاء وهو يُعتبر عامّيّ، يقول: أين الله؟ يقول: أنت يا قليل الأدب ضيّعت ربّك وجئت تبحث عنه هنا عندي، قال: تبحث عن ربّك، تبحث عليه عندي هنا، ضيّعته، ما تعلم به أين؟ يقول: ما عدت تعلم ربّك هذا أين؟ جئت تبحث له عندي هنا، تبحث عن ربّك، لا إله إلاَّ الله!
- وهذا جاء واحد عند بعض العارفين والصّالحين يسأله: أين الله؟ قال له: بالمرصاد، بالمرصاد (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:14]، هل هو كائن مِن الكائنات؟! أو جسم مِن الأجسام تضعه في مكان يا قليل الأدب، ما تعرف ربّك؟
- والثّاني هذا يجيء في أمر يتحدّث عنه نبيّه، يتحدث عنه وليّ، يتحدث عنه صالح أو شيء مِن أمور الآخرة والغيب، يقول: كيف هذا معقول؟ أنت ما عرفت ربّك أصلًا، ما عرفت القادر؟! ما عرفت القويّ، ما عرفت الذي يخلق ما يشاء، في أيش هذا عندك، ما هذا الوسواس الذي عندك، ما هذا الرّيب هذا؟! لما هذا شكّ! (وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الحديد:2]، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82]، كيف خلقك أنت، تَعجّب كيف خلقك؟، لو عرفت كيف خلقك ستسكت، ما هو عاجز عن شيء، (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [البروج:16]، جلَّ جلاله.
يقول جلَّ جلاله: (بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا (15) فَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلشَّفَقِ (16) وَٱلَّيۡلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ (18) لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، يأتيكم بعد ذلك القيامة، أحد في ظلّ العرش، وأحد تحت الشّمس، وهذا العَرَق مَاسِكُهُ إلى كعبه، وهذا إلى رُكبته، وهذا إلى سُرّته، وهذا إلى كتفيه، وهذا إلى فِيِهِ، وهذا فوق هذا، وهذا تحت هذا، وهذا..، (لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ)، حال بعد حال.
وأولئك الذين كانوا يعتنون بالصّوم في الدّنيا في ظلّ العرش، موائد تُبسط لهم، ما هذا؟ قال: كُلُوا، واشْربوا، واتْركوا النّاس في الحرّ والشّمس، أنتم أيّام النّاس كانوا في حرّ الدّنيا يشربون، ما كنتم تشربون، تصومون مِن أجل الله؛ أيّام كانوا يأكلون أنتم ما تأكلون، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، صَبرتم قليلا والآن لكم، انْظر هذا اليوم، مقداره خمسين ألف سنة، وأنت تصوم، كم ساعات في اليوم أيّام كنت في الدّنيا؟ في كلّ يوم وليلة تصوم، كم ساعات مِن اليوم والليلة؟ خمسة عشر، أربعة عشر، سبعة عشر ساعة وإذا طالت عليكم ونحو ذلك، عمّتْ هذه الجُزر والأماكن.
لكن هناك مقدار خمسين ألف سنة كلّها عطش، يا الله! خمسين ألف سنة كلّها جوع، خمسين ألف سنة؛ فَيَا وَيْل مَن لا يصوم رمضان، وأمَّا الذين عَشِقوا الصّيام وصاموا رمضان وأتبعوه ستّ مِن شوال، ويصوم ثلاثة أيّام مِن كل شهر، يصوم يوم عرفة، يصوم يوم عاشوراء؛ تعال اتْرك الناس في الخمسين ألف سنة جوع وعطش، وأنت كُلْ واشْرَب، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:24]، (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ: 26]، الله أكبر! مَن عطَّش نفسه لله في يوم صائف، كان حقًا على الله أن يسقيه يوم العطش الأكبر، اللّهمّ اسْقنا.
ولكلّ نبيّ له حوض، وأشرف حوض حوض نبيّنا، ونَرِدُ عليه إن شاء الله، اللّهمّ أَوْرِدْنَا عليه، اللّهمّ أَوْرِدْنَا عليه في أوائل الواردين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وكلّ نبيّ يجلس على حوضه وينتظر مَن يَرِدُ مِن أمّته ويتباهون يقول: انْظُر المؤمنين مِن أمّتي أكثر، انْظُر المؤمنين مِن أمّتي، وهذا يقول للثّاني وهذا يقول للثاني؛
حتّى بدا في صورة له ﷺ عُرضت عليه مِن أخبار القيامة ويرى طوائف الأمم تَرِد على أنبيائهم وبعضهم رَهَطْ، وبعضهم تسعة، وبعضهم عشرة، وخمسة، وبعضه واحد، نبيّ ما تبعه إلاَّ واحد، يُقدم عليه إلّا الواحد على الحوض، وبعد ذلك قال: "رأيت جمع كثير ظننتهم أمّتي، فرفعت رأسي قيل لي هذه أمّة موسى لكن انظر"، قال: "وإذا سواد أعظم، سدَّ الأفق ما بين المشرق والمغرب"، قيل لي: "هذه أمّتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنّة بغير حساب"، الله يُوردنا على ذاك الحوض.
قال سبحانه وتعالى: (لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، وهنا بعد حرّ الشّمس والشّفاعة العُظمى لسيّدنا محمّد المخصوصة به والمَقام المحمود الذي يقومه ويحمده فيه الأوّلون والآخرون انْتِقَال
- وهناك أعطاه كتب،
- عَرَض على الرّحمن وُقُوفًا بين يديه،
- ميزان يُنصب فيه الأعمال، تُوزن فيه الأعمال ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، الحسنات، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:6-11]، اللّهمّ أجرنا مِن النّار، نسأل الله العفو والعافية في الدّنيا والآخرة.
- وبعد ذلك مرور على الصّراط،
و هذا يصيح، وهذا يبكي، وهذا يتبرأ مِن أصحابه، وهذا يبحث عن أصحابه، صاحب الحالة الحسنة مع الله، يقول: "يا ربّ، لي أصحاب" يقول: "هات" و هذا يتبرّأ من أصحابه يهرب؛ (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:66-67].
المتّقين يقولون: تعال يا صاحبي، تعال يا صاحبي، أين أنت يافلان؟ أين أنت يا فلان؟ وهؤلاء بعضهم لبعض عدوّ، أعوذ بالله.
- إلاَّ المتقين، أين المتّقين يا ربّ، قال: اسمع نخاطبهم كيف؟ (يَٰعِبَادِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَآ أَنتُمۡ تَحۡزَنُونَ)، مَن هم؟، (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)، الله أكبر!، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)، الله! الله!، (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 68-72].
- سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [الزخرف:74]، (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون:104]، أعوذ بالله مِن غضب الله، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف: 74-76]،
نَادُوا: يا مالك! يا مالك! يا مالك! مِن شدّة العذاب الذي هم فيه، حتّى ما يكْملوا الكلمة، يقولون: يا مل! يا مل! يا مل! ألف سنة، يَلتفت مالك خازن النّار، ما لكم؟ (لِيَقْضِ علينا ربّك) قُل لربّك يُنْهِينَا، يُهْلِكْنَا، يُمَوِّتْنَا، مَا عَاد نُحس العذاب، لِيَقْضِ عَلينا ربّك؛ إنّكم ماكثون، ما في موت، هنا اجْلسوا مَحَلَّكُمْ والعذاب مُستمرّ، إنّكم ماكثون، يَرجعون يُنادون الربّ سبحانه: يا ربّنا! يا ربّنا! بعد ألف عام، يُجيب الجبّار: "مَا لَكُم يا أهل النّار"، (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا) [المؤمنون:106-107].
الحين كثير مِن المتكّبرين الموجودين، هؤلاء الذين لهم ذكِر في الإذاعات، وفي الفضائيات، هم هناك موجودين، يقولون هذا الكلام: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) [المؤمنون: 106]، منهم العائشين معنا في عصرنا، يقولون: (غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)، والجواب، (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، لماذا؟ قال: "في أيّام حياتكم ناس كانوا في مجالس ذِكري ودُعائي تستهزئون بهم، تسخرون"، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)، قُلْتُم عنهم أنهم مغفّلين أو ما هم عارفين بالحياة، هؤلاء عقولهم، ما أدري في أيّ قَرْن، ما أدري أين هؤلاء، (وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)، قال يقول ربنا: "فاغفر لنا وأنت خير الرّاحمين، (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)، انْظُرُوا مَا نِهَايَتُهُمْ، (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:106-111].
وأنتم أيّام كنتم في الدّنيا كم جلستم؟ كم قرون؟ كم مدّة؟ كم مِن مسافة معكم؟ كم مِن زمن؟ (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، أعمارهم تكون في تلك السّاعة في نظرهم بعدما رأوا الأوقات، والمسافات، والبرزخ، والقيامة، يرونها مثل يوم أو نصف يوم، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) [المؤمنون:112-114].
هذه السّنوات التي أعطيناكم إياها هي قليلة في الحقيقة، فقط أنتم اسْتكبرتوها واغْترّيتم فيها، (قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، فقط تأتون في الدّنيا تصنعون لكم مصانع وتصنعون لكم أماكن وتَظلمون الناس كما شِئتم وتَلعبون بالحياة وتمشون؟! (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [المؤمنون:114-116]، لا يوجد لعبة عند ربك، كلّ واحد يأخد جزاؤه، كلّ واحد يأخد عمله هكذا.
يقول سبحانه وتعالى: (لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ (19))، وبعد هذه الأشياء والعلامات، (فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20))، مَا لَهُمۡ؟ أيّ مانع لهم مِن الإيمان؟ ما الذي يَحجزهم؟ الذين في وقته ﷺ والذين في وقتنا، ما لهم لا يؤمنون؟! الدّلائل واضحة، مناهج الله قائمة، صلاح المجتمعات في منهج الحقّ، آيات الكون كلّها، تدلّ على عظمة القرآن ومَن أُنزل عليه.
تُجرّب كلّ الأنظمة والاتّجاهات فتفشل، ومنهج الله وحده النّاجح كلّ كلام قاله محمّد محفوظ، ما حُفظ كلام أحد كما حفظ كلام محمد، هات لي مَن قبله، ومَن بعده، مَن حُفظ من كلامه كما حفظ كلام محمد، من؟ حُفِظ كيف يقوم، كيف يقعد، كيف يمشي، كيف يتكلّم، كيف يضحك، وكلّ كلمة تكلّم بها مرّت ألف وأربعمائة سنة وكلامه صواب، حقّ، صِدق ما يَنكشف شيء خلافه ولا ضدّه ولا ما يُقابله في الكائنات أبدا (فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20))! (مَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)! كل يوم يأتون لنا بنظرية ويلعبون علينا، وبعد ذلك تطلع فاشلة ويأتون بنظرية ثانية، (مَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ)، تعال! عندنا خبر واضح، عندنا أمر جاهز، مِنهاج مِن الرَّب وهَدْي مِن محمّد، نجح وأفلح وفاز مَن اتّبعه، (فَمَا لَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩ (21))، وكان سيّدنا أبو هريرة إذا تلى الآية سجد ويقول لهم: "إنّ النّبيّ كان يسجد إذا تلاها"، (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقُرۡءَانُ لَا يَسۡجُدُونَۤ۩)؛ اللّهمّ حقِّقْنا بحقائق السّجود، وارْبُطْنَا بصاحب المقام المحمود.
وطال الوقت معكم، لكن ننهي السّورة باختصار يقول الله: (فَبَشِّرۡهُم)، هؤلاء، تُنذرهم، وتُبيِّن لهم، وتُبرهن وتُقيم الحُجج ولا يؤمنون، (فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24))، سوف يتألّمون مِن إعراضهم هذا، مِن استكبارهم هذا، مِن إصرارهم هذا، مِن تولّيهم هذا.
نعم! مِن العَجب أنهم يَبثّون في عقول بعض الناس يقول: أين رحمة الله في هذا العذاب؟، أين؟ وَهُمْ وسط الدّنيا إذا قالوا في أحد اعتدى على أحد و إلاَّ قام، إذا قال: ماذا يَسْتَحِقّ؟ قال: "القَتْل"؛ عجيب! هذا قصَّر في حقوق خلق مثله و نَظَرُكُم لَهُ القَتّل، و هذا عاند الرَّب واسْتكبر على الإله، وما له نار؟! له النّار ونار النّار، كيف لا يوجد نار؟ ويريدون أن ينسون الله وينسون عظمته، انظروا هذا المنطق المُقلّب.
يقول: (فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا)، يعني لكن (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ)، -جزاء وثواب- (غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ (25))، غير مَقطوع، ما ينقطع أبدا، (إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ (25) بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22))، بحقّ واضح صريح وحُجَج قاطعة، (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23))، ماذا يعني يُوعُونَ؟الذي يضعونه في الأوعية.
- يُوعُونَ بما في قلوبهم، الذي يُوعونه في قلوبهم مِن كفر، ومِن تكذيب، مِن عناد، مِن نفاق، ومِن إلى غير ذلك.
- بِمَا يُوعُونَ: يجمعون أيضًا في الوعاء، في الصّحائف؛ الذي يَعملونه، ويقولونه يتجمّع في الصحائف؛ لأنهّم يوعون هذا؛ لأنهم يملأون أَوعِيَتهم وصَحَائِفَهم التي تُكتب عليهم أعمالهم. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ).
- يوعي الشّيء، يضعه في الوعاء، وعاء قلبه، ما وسط قلبه، قال:(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ).
- ويفسّره بعضهم: يَكتمون، يُخبِّئه في الوعاء، مِن أيّ شيء تُخبِّئه، قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ)، اعمل الذي تريد، وقل ما شئت وربّك أعلم، تقول لي وسط قلبك، يعلم به.
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، اللّهمّ اجْعلنا منهم، (لَهُمۡ أَجۡرٌ)، جزاء وثواب بلذائذه وعجائبه وحُسنه وبهائه، (غَيۡرُ مَمۡنُونِۭ (25))، لا يَنقطع أبدا سَرمدا.
اللّهمّ اجْعلنا مِن أهل الهدى، وثبِّتنا فيما خَفي وفيما بَدا، وارْبطنا بنبيِّنا محمّد، وارْزقنا به حسن الاقتداء، واحشُرنا في زُمرته غدا، وأصلح شُؤون أمّته، يا رب! وارفع ما حلَّ بهم مِن البلاء، يا ربّ! واجعل القلوب هذه وقلوب مَن يسمعنا مِن القلوب التي تستجيب لداعِيك، وتُلبّي مُناديك، وتجعلها سببًا للخير للمُسلمين والصّلاح للمسلُمين، وجمع قلوبهم عليك يا ربّ العالمين، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
بسرّالفاتحة
وإلى حضرةِ النّبيّ محمّد ﷺ
اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
20 رَمضان 1437