تفسير جزء عمَّ - 90 - تكملة تفسير سورة الإنفطار {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ (19))

الحمد لله على وصولنا إلى خاتِمة الشهر، اللهم اكْتب لنا عِندك التوفيق في كلِّ سرّ وجهر، واجعلنا اللهم ممن ترعاهم بعين عِنايتك في كلِّ قضية وأمر برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلِّ وسلم على من عرفنا به دعائك وندائك وتوحيدك والإيمان بك، ووهبتنا به خصائص رمضان وأسرار الصِيام، وأسرار القيام، وأسرار التلاوة، وأنواع الخيرات، ودلّنا عليها صلِّ عليه خير الصلوات، صلِّ عليه أفضل الصلوات، صلِّ عليه أكمل الصلوات، صلِّ عليه أشمل الصلوات، صلِّ عليه أجلِّ الصلوات، صلِّ عليه أعظم الصلوات وسلم تسليمًا، وعلى آله القادات، وأصحابه الهداة المُهتدين الهادين بإذنك إلى الطُّرق الواضحات البيّنات، ومن جعلت لهم حميد الصفات، وعلى من تبِعهم بإحسان إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين عليِّي القدر والمقامات، وعلى آلهم وصحبهم ومن سار في درْبهم من أهل الإنابة والإخبات، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عِبادك الصالِحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وفي يوم التوْديع للشهر ذي النور البديع، الذي سيقف هذه الليلة بلياليه وأيامه وساعاته بين يدي ربّنا؛ فيشهد لكلّ واحد أو عليه -فنسألك اللهم أن تجعله شاهدًا لنا لا علينا- يا أرحم الراحمين.

في يوم التوْديع لهذا الشهر الكريم نواصِل تعرُّضِنا لنفحات الله العظيم في تدبّر معاني الوحي الفخيم، الذي أوحي إلى قلب محمد الرؤوف الرحيم.—-

وقد انتهينا إلى أواخر سورة الانفطار، فيما يتلو علينا الجبّار، مِن أخبار، هي أصدق ما يكون في الوجود، وأوثق ما يكون في الواقع والمُستقبل والآتي (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]

يقول أصدق القائلين: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)) صدق ربّي، كُن مِن الأبرار وستبدأ تلمح النعيم وسيمُرُّ بك نسيم مِن النعيم، وستذوق شيئًا من النعيم، والنعيم الذي وُهِب للأبرار، وهم أهل البِر الذين برّوا في عِهودهم مع الله، وبرّوا في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؛ فرضوا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، برّوا أن لا إله إلا الله، فلم يُقدِّموا غير الله على الله، ولم يُبالوا بالكائنات ومن فيها في جنب الله -تبارك وتعالى- ولم يكن قصدهم إلا رضاه، هذا البِر، هذا شغل الأبرار.

فيعُم البِّر مِنهم هذا بِحقائق لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى تأتي أمثلتهم موضّحة في:

  •  مثل قولهم: أنه لا يؤذي ولا الذَّر،
  •  ومثل قولهم: أنّه يبُرُّ الآباء ويبُرُّ الأبناء

 وهذه نتيجة التحقّق في البِّر بشهادة أن لا إله إلا الله، برّت عهودهم في معنى لا إله إلا الله، فلم يقصِدوا إلا الله، ولم يخافوا إلا الله، ولم يرجوا إلا الله، وجاهدوا وبذلوا الوِسِع حتى تحصّلت فيهم هذه الصفات، وحلّت في قلوبهم هذه الخِصال الحميدات، انْتُزِع خوف غير الله، وحلّ خوف الله، اُنْتُزِع رجاء سوى الله، وحلّ رجاء الله، فهم بارُّون بعهد لا إله إلا الله، لا يقْصِدون غيره؛ 

  • قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب:39]،
  • وقال تعالى: (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].

فيجب أن تمتلئ القُلوب بِخوف هذا الإله، وعلى قدر خوْفِه يكون أمْنُنا، الأمن في الدنيا والآخرة على قدر خوْفِك من الله، أمْنك في الدنيا والآخرة على قدر خوْفِك من الله، كلّما خِفْته أكثر، فأمنُك أكبر وأكثر في الدنيا والآخرة، الله.. الله. 

(فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، ويعزّ علينا أن يخرج رمضان وقُلوب مِن المُسلمين كثيرة تعْصي الله تعالى بخوف أولياء الشيطان (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) الحق قال: (فَلَا تَخَافُوهُمْ)  فإقرار القلب على خوفِهم؛ معْصية.. ذنب.. خطيئة، إثم، أن تُقِرّ قلبك أن يخاف أولياء الشيطان (إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يُفزِّعكم من أوليائه، من الكفار والمُجرمين (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) فإذا خِفتُه كفاك إيّاهم، كائناً من كانوا (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، نظر الله إلى قُلوب المؤمنين، وجعل فيها حقيقة البر. 

(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)) أتظن أن مُتجرئاً على الله -تبارك وتعالى- مُنْتمٍ للإسلام يتْرُك الصوم عمدًا وأفطر في خِلال هذه الأيام وهذه الليالي، يصل إلى هذا اليوم في راحة؟ أو في لذّة؟ أو طمأنينة؟ وعِزّة الذي خلقني وخلقك وخلق السماوات والأرض ما في قلب الصائم، المُخلص الصادق مِن النور والطمأنينة والسرور والحُبور ما يُحصّل مِنه ولا عُشر ذرّة هذا الذي كان يُفْطِر، ولا هو في مثل هذا اليوم إلا في خزي (وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰ) [فصلت:16] -والعياذ بالله تعالى-.

وكذلك كلّ أنواع المعاصي، فإن مُرتكِبوها، لا تظن؛ وهماً وخيالًا وضلالًا أنهم في راحة.. وعِزة الله، خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، مهما غالطوا أنفسهم ولُبِّس عليهم ففي بواطنهم ضنْك (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً) والمعيشة الضنْك تفنى، قال: لك اصبر (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124] لو كان فقط عيشة الضنْك فهذا سهل، لكن (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) هذه مُصيبة ( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه:125-126].

صِيامنا خلال ثلاثين يوما، هذا يوم الثلاثين، وقيامنا في خِلال ثلاثين ليلة مضت، كلها تجديد عهود ومواثيق مع الخلاق، يجب أن نبِرّ بهذه العُهود في مُستقبل أيامنا وليالينا، بداية مِن الليلة ليلة التكبير، الله أكبر شِعار المؤمنين تكبير الله، في كلّ نصْر لهم، في كلّ فرح لهم، في كلّ سُرور لهم تعبيرهم؛ الله أكبر، فينبغي أن تُزيّن أعيادهم بالتكبير وقد كانت شِعارا يظهر في بيوت المُسلمين، وشوارع المُسلمين، وأسواق المُسلمين، ومساجد المسلمين  تزخر في الليل وإلى وقت صلاة العيد بالتكبير.

والتكبير في عيد الفطر كلّه مُرسَلٌ، ليس فيه شيء مُقيّد بالصلوات، ولكن مِن غُروب الشمس إلى أن يحْرِم بصلاة العيد هذا وقت التكبير المُرسل، فإذا صلّوا المغرب فليقرأوا أذكار ما بعد الصلاة، ثم لِيُكبّروا بعد ذلك، بِخِلاف عيد الحج فيباشرون بالتكْبير بعد الصلوات تكبير مُقيّد، قالوا والتكبير المُقيّد أفضل مِن المُرْسل، ولكن التكبير المُرْسل في عيد الفطر أفضل من التكبير المُرْسل في عيد الأضحى، لِم؟ لأنه منصوص عليه في القرآن (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ) عدّة رمضان أكملناها الحمد لله، فاليوم نُكْمِل العدّة، (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].

ولكن نُحِبُّ مع إحياء سُنة التكبير هذه أن يكون النُطق بها صحيح والقصْد صحيح، وأن يُسْتبعث نور التكبير وحقيقته وسرِّه في القُلوب، حتى يكون الله أكبر عندنا وهو الكبير وحده ولا شيء معه كبير -جلّ جلاله- نسأل الله يُحقّقنا بذلك.. نسأل الله يُحقّقنا بذلك الله أكبر.

أي فينبغي مِن حين المغرب تُعْمر؛ الغرف، الممرات، المُصليات، الشوارع، أماكن البيع والشراء وغيرها بـ الله أكبر -بالتكبير- الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يُكرِّرون ذلك ثلاثاً، نقول: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده

الأحزاب الذين تحزّبوا على النبي في عهْدِه هزمهم هو وحده، أو لا؟ وكل الأحزاب الذين يتحزّبون عليه في أي وقت كان هازِمهم هو، هازِمهم نفسه، وهزم الأحزاب وحده، جعله النبي شِعار لنا، وفي طِيّ هذا يشار إلى أنه ستحصل تحزّبات في الأمّة كثيرة وستُضاد ولكن شِعاركم وهزم الأحزاب وحده سبحانه -عز وجل-.

نبرّ إن شاء الله؛ لأن ما مضى علينا في رمضان عهود -تجْديد عهود-، 

  • القيام؛ تجْديد عهد، 
  • الصيام؛ تجْديد عهد، 
  • الاجتماعات على الختم القرآن؛ تجْديد عهد بيننا وبين الله

هو ربُّنا ونحن عبيده، له منْهج نقوم به في الحياة، واللقاء يأتينا عمّا قريب؛ نلقاه، نُحِب أن نلقاه وهو راضٍ عنّا، ويُبوئنا بالنعيم الأبدي السرمدي وسعادة الخُلود إن شاء الله، الله يجعلنا من أهل ذلك.

يقول: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)) والصادِقون في البِرِّ يُفتح لهم أبواب ذوق العِبادة، حلاوتها ولذة المُناجاة -الله أكبر-

إذا كانت هذه النفوس أحيانا حتى في الحِسّيات؛ بعض المطاعم أو المشارب قد لا تألفها في البداية وقد تشْمئز مِنها ثم تتعلمها قليلاً قليلاً، بعد ذلك تُحِبها قليلاً، ثم تكون أحسن شيء هذا عندها.. الله، وهكذا.. واقِع في حياة الناس.

 فكيف إذا ألِفتْ نفْسُك عِبادته؟! لذّتُها لا هي من لذّة المطاعم ولا لذّة المشارب، وترى هذا المُعْجَب بأي لذّة يقول لك: لا أقدر أصبر عنها، لا بُدّ منها، مع أنه لو هناك عزيمة وقوة فهو يقول هذا في مكان، ثم يذهب الى مكان آخر ممنوع فيه، قدرت تصبر؟! نعم قدر، عجيب! ولِمَ هُناك ما قدرت تصْبِر؟ إلا استسلام الإنسان لِنوازع نفسه.

والحق يُحِب أن المؤمن يكون كريم حُر، لا تغْلِبه نفسٌ ولا هوى ولا شياطين ولا اعْتِبارات الخلق، ولا شي هو أكبر من هذا، خاضِع لواحد إسمه؛ الله، خاضِع لله دائماً، هو يعْتز بهذا الخُضوع للحق- جلّ جلاله- وله به الشرّف؛ فالحق يُربّي عِباده المؤمنين على هذه الرِفعة والعِزّة والكرامة، فما يستدلون ويستسلِمون لنوازع نُفوسِهم وأهوائها وشهواتها ولكن يُحكِمونها، يضْبِطونها، يقول:

الحمد لله  نفسي  قد عرفت  لها *** والقُلب مِنّي بِسْرِّ الذِّكر مُنْتبها

وغُصْتُ في الفكِر بعد الذِكْر مُنْغمسا *** في بحر نور  سما  سِرِّي بها وزها

كنت  عبد  الهوى  واليوم  مالِكـــــــه *** وصِرت مولى الورى مُذ ذُقْت سلسلها

يقول تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى  فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-41]؛ هؤلاء أهل المُلك الذين قهروا أنفسهم ونِعم القوم، الآن تُعرض دعوات تقول: اخْضع لِنفسك، تذلل لِنفسك، اتركنفسك تستعبِدك، وأعطِها هواها، وإلا ما فائدة الحياة؟! أرأيت المُغالطات؟ أنت ما أنت إلا أعط نفسك هواها؟! وهذه هي الحُرية! ويأتون بالألفاظ الكاذِبة كلها ويضعونها لكي تكون عبدًا لنفسك لا لربك.

 فبئس ما يدعوننا إليه.. بئس ما يدعوننا إليه، إن سمّوه حُرّيّة! وإن سمّوه تقدم! يريدون أن نتحوّل من العبودية لله إلى العبودية للنُفوس والأهواء! لأنهم اسْتعْبدتهم أنفسهم وأهوائهم؛ فيُحُبون أيضاً الناس الآخرين كذلك (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].

(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمٍ (13))  فالنعيم في الدنيا من سِرّ الصِّلة بالله تعالى، تجنُّب الآفات، وأنه يكسب في الحياة درجات، ويكسب في الحياة مغْفِرة الذنوب والسيئات وذلك بطاعته، بإنابته؛ هذا نعيم، وإنه لا يُعرِّض نفسه لسوء عاقبة، ولسوء مصير، هذا نوع من النعيم مُسْتنِد إلى قوّة لا تُغْلب، مُتوكّل على الله، وهذه آية عجيبة!

رأيت النعيم الذي كان فيه سيدنا هود وقومه يتكلّمون عليه؟! وقالوا: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) -يقولون- إن كلامك هذا بسبب أن آلهتنا غضبوا عليك وجُننت، ويأتون لك بهذا الكلام الفارغ، من سبب هذا، (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا) -أنتم وآلهتكم هؤلاء الأصنام!- (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) ولا تتأخروا لحظة، أي قوّة معك؟ قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ) قال: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) [هود:54-57].

لا شيء في رسالات الأنبياء -من يقول- إن توليتم سأُقطِّعكم قِطْعة قِطْعة، سأُمزِقكم، أدقُّ رؤوسكم بالجبل، قال: (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وجاءت العاقِبة التي هي سُنّة الله في الحياة، والمصير الحتْمي (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا) [هود:57-58]. 

أرأيتَ النعيم الذي هم فيه؟! (وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ*وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) [هود:58-60]. فماذا حصّلوا؟! (وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ) [الانفطار:14] ما حصّلوا نعيم، النعيم كان مع هود، هؤلاء مع الذين آمنوا مع النبي هود، وإلى الآن النبي هود يُذكر، أو لا يُذكر؟! بالتعظيم أو بالتحقِير؟ الله أكبر، يُحَب ولا يُحَب، كل مؤمن على ظهر الأرض يحِب النبي هود، ويذكر النبي هود، ووسط القرآن مذكور؛ سورة باسمه شخصياً: سورة هود، سورة باسم الوادي الذي بعثه الله فيه؛ سورة الأحقاف، في مكان إنذاره هذا، وهكذا يكرّر الله ذِكْرُه في القرآن.. عجيب! والقوم الذين كانوا يقولون من أشد منّا قوة، بماذا يُذكرون؟! وموسم زيارتهم في أي شهر؟  أحد يزورهم؟! لكن النبي هود يُزار ويُذكر في القرآن، وتُذْكر أخباره

 (إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمٍ (13) وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14))؛ 

  • ولا يُخفى عليك أن الفجار هؤلاء كانوا أهل بطر وأشر ورياء، وكانوا مُعْتزّين بما عِندهم مِن قوّة، يقولُون: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15،
  • ولمّا مظاهِر حضارتهم هذه تكلَّم عنها النبي هود حتى لا يغْتروا بها، قال: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128-130] أسلِحة وقوّة عندكم، وجيش (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)، (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء: 184].
  • وأنذرهم وحذّرهم وبشّرهم ولكن ما أطاعوه، إلى أن أُرسِلت عليهم سحابة تحمل ريحا، أمرها الله بالنُزول عليهم (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف :24-25] ومساكِنهم مُكسّرة، غابوا انْتهوا.. لا إله إلا الله -سبحان القوي-.

(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمٍ (13) وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)) فمبادئ الجحيم قد تُغالطهم أنفسهم، يُغالِطُهم الشيطان، أنهم ليسوا في جحيم؛ بل ربّما ادّعوا أن خير الحياة عندهم، وأنّهم هم الذين أدركوا أسرار الحياة، وهم الذين سيعيش بعض روادهم في الفضاء، وبعد ذلك؟! ماذا أدركتم من سرِّ الحياة؟! مِن مقْصد الحياة؟! مركبة فضائية! يذهب يجلس شهرين .. خمسة أشهر في الفضاء ثم جئت، وبعده؟! من خلقك؟ إلى  أين ترجع؟ مصيرك ما هو؟ بعد الموت أين تذهب؟

إصعد مائة مرة إلى الفضاء وارجع، أنت جاهل أصلاً، ما عرفت لم خُلِقت، والجو هذا الذي تذهب تجري فيه؛ تلعب، ولم تدرِ من صنعه، لماذا صنعه؟! ماذا أستفيد أنا؟! وما الفائدة الحسية التي  حصَّلتها؟! .. تبجُّح وتشطُّح، إئتوا لنا بفوائد، هؤلاء رواد الفضاء حوّلوا ديارهم أو أولادهم أو أهلهم أو بُلدانهم إلى نعيم أو إلى جنان أو إلى ماذا؟! العصابات في بُلدانهم، والزلازل في بُلدانهم.

وحتى استقرار أحدهم مع زوجته ليس مُسْتوي، ليس قويم، وبعد ذلك ماذا معك؟ حياتك إذا أنا تأملتها بعقل ما أرضاها لنفسي، فوق ذلك أنت جاهل، تجهل مَن خلقك، وقريب مصيرك إلى هذا الخالق بوجه أسود، ما الذي فيه أنت؟! أنت في الجحيم، ولكنهم لا يشعرون الآن، أنواع من الجحيم ومع ذلك أيضاً شيء من الإنْشِغال بهذا وذاك، كائن في كائن، ومخْلوق في مخلوق، لكنه يقول: وأنا اكتشفت، ما شاء الله -مرحبا- اكتشفت، هات فائدة لنا، ماذا اكتشفت؟ اكتشفت هذا، فماذا الآن فعلت لأهل الأرض، ماذا قوّمت مِن شؤونهم؟ ماذا ثبّتت من أخلاقهم؟ ماذا فعلت؟! 

وفي وقت قريب يتعجبون في أنفسهم بأنفسهم، يقولون: مائة كوكب اُكتشفِت في وقت واحد. مئة أومئتين حتى أكثر من ذلك، مملكة ربِّنا أوْسع، لكن قل لي من خلقها؟! ولِمَ خُلِقت؟ وما الفائدة؟ ولِم هي هكذا؟ وكيف هذا التسيير؟ وما هذا النظام؟ كل المُتأملين للنظام يقولون هي قوّة خفية، لا نعرف ما هي! دعتكم.. دعتكم إليها هذه القوّة، وعرّفتكم عن أوصافها، وأرسلت لكم رسول، كيف ما عرفتم!

على كل الأحوال،،ودعاوى كثيرة، وتخالُفات في كثير من شؤون الحياة، وعجز اقتصادي، وعجز اجتماعي، وعجز في دولهم الكبرى، وكثير من سداد شؤونهم مُرتّب على أن يعْتدوا على الخلق، وأن يظلموا ويأخذوا حق الخلق، ويأخذوا ثروات الخلق من القارات الأخرى والأماكن الأخرى، وللأسف أن أكثرها في جزيرة العرب، "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعت الأكلة إلى قصعتها"

 ولكن ما المُصيبة التي أصابت الناس؟ حُب الدنيا وكراهية الموت "غثاء كغثاء السيل" ضيّعتم سِرّ العلاقة بالحق، ووعي وحْيُه الذي يبيّن لكم لِمَ خُلِقتم؟ ولماذا؟ وما عليكم خلال هذا الوجود، حتى لمّا ضيّعتوا هذا؛ لعِبوا عليكم هؤلاء، وكنتم بهذه الصورة، أنتم كثير ولكن "غثاء كغثاء السيل".

ولكن حتى هذه البلايا لها حُدود، ومع ذلك أيضًا لا تنال الأبرار في نعيمهم مهما كان الأمر، فيحيون موفون بعهِد ربِّهم، سخّر لهم الأسباب مُؤديين رسالتهم وما كُلّفوا به مِن أمانة، وملطوف بهم، مدفوع عنهم أسواء وبلايا في ضِمن هذه السياسات كلّها، وهذه الخُطط التي تمشي، وهؤلاء تحت كنف رعاية الحق مُيسّر أمرهم، مدفوع الشرّ عنهم، قائمين بواجبهم (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)،  (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) [النور:55] أين؟ في هذه الأرض التي فيها الفوضى، التي فيها اللعب وفيها اللّعابين هؤلاء، فيها سيستخلِفكم هُنا؛ (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن  قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور:55] -الله أكبر- هذا واقع في الحياة.

(إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمٍ (13) وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)) لكن هؤلاء الفجّارلا يشعرون بهذا الجحيم، يريد الخلاص من الجحيم بزيادة حطب الجحيم؛ فلا يخرج، مسكين؛ فيسعى الى حصول انفلات، وتبرج؛ وانْحِلال، وسماح بخمر، يُصلّح مخدّرات؛ ولم يخرج من المشكلات، فهو في الجحيم مكانه، لا زال  في الجحيم، يتعامل مع الربا، وما خرج من الورطة.

(وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)) وكل هذا الجحيم مهما تعاموا وتغاموا عنه، صلْيهُ المُباشر وانْكِشاف حقيقته (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)) هذا جزاء الذين يكذّبون به في ذاك اليوم،  سيرَون الجحيم الذي هم فيه (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ)هم في الجحيم من الآن ولكن (يصْلونها) يُلازِمونها ويُحرَقون فيها باسْتِمرارية يوم الدين (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)) لا أحد يستطيع أن يخرج ويذهب إلى مكان آخر.

 (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ) [الواقعة:49-50]، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف:47]، (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم) [الكهف:53]، يعني أيقنوا أنهم (مُّوَاقِعُوهَا) (هَٰذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [يس:63] أي أنه لا يمكن لأحد منهم أن يجري اتصال إلى مكان آخر، أو يجد له صاروخ، أو يجد له سيارة أو شيء، ليُخلّصه، مِن هُنا!، إلى أين يذهب؟ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير:26]، (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33] محْكومين بِحكم الملك الديّان يجمعهم كلّهم، لا أحد يتخلّف، الجسد يتكون والروح يدخُل، يقال له: قُم (وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) [الكهف:48].

يقول: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)) يعني أين سيذهب؟ من الآن نقول لهم: ممكن قليل يفكرون معنا، نحن نعتقد أن القوّة التي تتحدّثون عنها والتي تسيّر السماء وهذه الكواكب من حولكم والكوكب الأرضي الذي أنتم عليه هو الله! -الحمد لله- اعتقدوا ما شئتم! لكن نحن ممكن نتحداكم قليلاً؛  نقول: صاحِب القوّة هذا الذي خلق هذا هُنا، تجاوزوه! ابحثوا لكم عن محل غير الأرض وغير السماء؛ تخرجون مِن فوق أرضه ومن تحت سمائه، ابحثوا لكم عن أي مكان؛ أنتم متقدِّمين، مُتطوّرين، ناس مُخترعين، اتركوا أرضه -هذا الإله الذي نحن نعْبُده- نحن نعتقد هذا، وأنتم تسمُّونها قوّة وتتخيّلوا أي خيال؛ تقولون: مِن نفسها خُلقت الأشياء، فلا نعرف من العاقل ومن المجنون؛ إذا الأشياء تخلق نفسها مِن نفسها، دعوا أرضه، لا تكونوا فوق أرضه ولا تحت سمائه، ابحثوا لنا عن أي مكان، أنتم تُبْدعون! إلى متى تتطورون تتطورون ولم تجدوا لنا مكان آخر!.

 أنتم لاتزالون تُحاولون؛ ساعة تقولون: هل يمكن العيش في القمر؟ لا ممكن! هل ممكن أن يسكن ناس هُناك؟ هل يمكن أن يذهبوا إلى الكوكب الثاني؟ لا يمكن، ولا أحد طلع منكم! باقون هنا، حتى ذاك الثاني هو نفس القوة لكن هيا سنرضى ونقول؛ خذوا كوكب آخر من كواكبه واتركوا هذا الكوكب  الذي  رتّبه هو! لأنكم لم تأتوا في هذا الكوكب بترتيبكم! هل يقدرون أن يقولوا أتينا بترتيبنا؟! من منهم يقدر أن يقول بترتيبنا؟ عسى ما كان رئيس دولتهم بترتيبه هو جاء الى الأرض؟! لا ترتيب عنده، على رغم أنفه جاء الى الأرض، وهذا ترتيب إلهنا جعلكم في هذه الأرض، لكن حتى في كواكبه الأخرى؛ لو قلنا لكم خذوا كوكب آخر، أنتم فقط اكملوا قوتكم وقولوا سنترك كوكبك هذا ما نريده، اذهبوا الى كوكب آخر، كوِّنوا هُناك دولة كما تريدون؛ لا يقدرون!

 الله.. انظر كيف هم مقْهورين، خاضِعين: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [الرعد:15] ومع ذلك يستهزئ بالآيات! يستهزئ بالأنبياء! يستهزئ بالأولياء! وبهذه الصورة هو مغرور مسْكين، وهو في أرض الله، في مواد الله، في مخلوقات الله، وهو مخْلوق لله ولكن الغرور كثير (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ *أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) [العلق6-7].

صعب نقول لكم انتقلوا الى كوكب آخر، ابْقوا معنا في الكوكب،  فقط نريد منكم إن المواد هذه التي هي موجودة في الكوكب هذا - والتي مِن قبل أن تُخْلقوا أنتم هو الذي خلقها- اتركوها واسْتحدثوا مواداً مِن عندكم، لكن لا تمسّوا مواد المُكَوِّن هذا الذي كَوَّن الأرض، موجودة من قبل أن تُخْلقوا! حديد ورصاص ونُحاس وذهب، هو خلقها من قبل ما توجدون أنتم، من قبل حضارتِكم هذه، نريد مِنكم حضارة هي تصْنع مواد جديدة ونستعملها، من أين تصنعوا جديد؟ من أين؟.. الله 

(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) الأحقاف:4]  شي؟! سنرى أي من الكواكب هي لكم أنتم، وليست لربّنا -هذا الذي خلقنا-؟! ونريد أن نعرف أيُّ شبرٍ في الأرض أنتم الذي صنعتُموه، وليس ربّنا؟! هذا الذراع من الأرض؟! فضلاً عن مدينة، عن قرية أنتم خلقتوها؟! هاتوا! في شيء؟!… ما في.. الله!..اخضعوا لربّ الأرض والسماء -سبحانه عزَّ وجل-!

يقول: (وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)) هم لا يشعرون الآن بكثير من العذاب، وقد يشعر من يشعر مِنهم مع البُكاء فلا يُغالِط نفسه، -يا أبا جهل ما تقول في محمد؟ بيني وبينك الآن لا أحد يسمع! ما كذب محمد قط، والعناد هذا لماذا؟ قال: هؤلاء بني هاشم جعلوا فيهم نبي، وما منّنا نبي، نحن وإياهم كفرسي رهان- معاداة! لا حول ولاقوة إلا بالله.

 جاء حُيي بن أخطب -والد سيدتنا صفية وأخوه، كانوا من علماء التوراة! علماء في التوراة مِن اليهود- رجعوا من عند النبي وهي تسمعهم :ما رأيك؟ كيف رأيت الرجل؟ هو الذي بُشِّر به موسى -الصِفات نفسها التي يتكلّم في التوراة عِندنا، مَطبّق فيه هو.. هو هذا- هذا الذي كان موسى يُبشّر به، فما قرّرت نحْوه؟  قال: مُعاداته إلى الأبد، وعلِمت أن الله أنزل خبره في الكُتب، وعِندك التوراة التي تقول إنك تُتابِعها ومؤمن بها، وموسى هذا نبيّك يُبشر به، ومع ذلك تُقرِّر مُعاداته إلى الأبد!

كثير مِن الكفار الموجودين الآن مثل هذا، موجودين مثل هذه الصورة! موقِنون بأنّ مُحمد صادِق! هم فجّار، كُفّار ربّما قادوا بعض الحُروب للمسلمين والأذايا بينهم البين، وهو يعلم أنّ أصل الدين هذا هو الحق، وأن خلاص العالم فيه !..يعرف! وأنّه حل المشاكِل التي عِنده والتي عِند هؤلاء؛ في هذا الدين، ولكن مع ذلك يُعاديه ويسِّبه ويتكلّم ويشْتِمه! ويتظاهر بِمظْهر عقْلانية، يقول: أصلاً ترتيبها كذا! ويحاول يجيء له بمنْطِق في الكلام، ومن داخِله هو يدري أنّه كلام فارِغ، هذا الدّين هو الحق (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) [النمل:14] كما كان قوم فرعون! قوم فرعون يدرون أن موسى هذا صاحب حق، ومع ذلك يقول: (أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، وفرعون يقول: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]،  

  • ما الفساد في دعوة موسى؟!  
  • ما الفساد في مبدأ موسى الذي جاء به؟!
  • ما الفساد في منْهج موسى الذي جاء به أمامكم الآن؟!

تُقتِّلون وتُضطِهدون وتظْلِمون وتدّعون الألوهية لبعض، ثم تقولون؛ ليس فساد؟! ودعوة إلى أن يخْضع الكلّ إلى إله واحد وأن لا يُظلم أحد! هذا هو الفساد؟! لا حول ولا قوة إلا بالله (أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)  [غافر:26].

  ماذا تعمل يا فرعون أنت؟! من المُفسِد مِنكم؟! (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) ستجيء عِندها بعد قليل، لِتُريَك (أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، أنظر! يتكلّم على النبي موسى! (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) في لِسانه ثِقل، وماذا تريد؟ (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ) عقْلُه في الذهب والاعتِبار عِنده في الذهب (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) الله عمل هكذا مع أحد؟! يُنزِّل ملائكة على الناس؟! يُنزِّل الملائكة على الأنبياء وعلى الرُسل، يقول الله: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف:51-54].  ولكن كلّ مُنْصِف مِنهم قلْبه يقرأ: ليس مع فرعون الحقّ، الحقّ مع ذاك. 

قالوا لبعض أتباع مُسيلِمة، أترى أن مُسيلمة هذا حقاً نبيّ؟ قال: لا، كذّاب، قالوا: ومحمد؟! قال: محمد نبي، وكيف تتبع مُسيلِمة وتُخالِف محمد؟ قال: كذاب ربيعة أحسن لي من صادِق مُضر! -لا حول ولا قوة إلا بالله- فهي عصبية قبَلية قال: كذّاب مِن قبيلة ربيعة أحسن لي من صادِق من  هؤلاء -إنا لله وإنا إليه راجعون- (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل:14].

يقول تعالى: (وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)) لكن انْكِشاف الأمر وصلْيه يوم الدين، يوم الجزاء (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16))، لا أحد يقدر أن يفْلت ولا يذهب هُنا ولا هُنا، لهذا حكمة في تأخير الله لكثير من الأشياء، ناس يمشون في شرّ وظُلم وأذى ويتركهم مُدّة ثم تجيء النقّمة، لِم؟ لئلا يستعجل من يخاف الفوات، وأما الذي لا يفوت عليه شيء، لِمَ العجلة؟! يُقيم الحُجّة -سبحانه وتعالى-. 

وإن الله ليملي للظالم:  (وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف:183] وأما الإنسان فهو مُسْتعجل ويريد كل شيء بِسُرعة، وقالوا أن النبي موسى لمّا دعا (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ *قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس :88-89]،  أي أنت صادِق؛ وقلب فرعون والذين معه لن يؤمن أبدًا، ولكن الآن أنا أجبتُ دعوتكم، لكن استمر في الطريق، قُمْ بالدّعوة واستمر.. واستمرَّ (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس:89] . وبعد ذلك؟ الغرق لِفرعون بعد أربعين سنة! أرْبعين سنة والدعوة قد أُجيبت مِن قبل أرْبعين سنة، وتحْقيق الغرق لفرعون بعد أربعين سنة مِن إجابة الدّعوة (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا) إمْشِ في الطريق، ما أمرْتك ما نهيتك قُمْ بواجِبك، ورِسالتك في الحياة أدِّها، قُمْ (قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس:89].

حتى جاء الوقت: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) [يونس:99] هو ذاك، إله بني إسرائيل! وإله موسى وهارون وجماعته هو ذاك الربّ، أنا لست ربّ، الآن أنا كذّاب؛ هو شهِد على نفسه (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) [النازعات:24] أنا ربكم الأعلى، والآن قال: ما عاد أحد إلا هو ذاك إله موسى وإله هارون وإله بني إسرائيل، هو ذلك الربّ ( لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:99] وأنا معهم.. أنا معهم، الآن عند الغرق؟! ما عاد نفعه شيء! (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ) [يونس:91]، (وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16))[الإنفطار:14-15] لا أحد يقدر أن يفلت.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)) هوّل الله شأن الأمر العظيم، فما أعظمه! كان نبينا إذا ذكره في المنبر احمر وجهه وعلا صوته وانتفخت أوداجه وكأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم، وذلك من هول الأمر (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)) أي شيء أعلمك بهذا الجزاء الدقيق الصّعِب الذي إذا أُقيم على أحد هلك! إلا من رحم الله.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)) هذا اليوم قال: الصّوَر هذه الكاذِبة والأوهام كُلّها تبْطُل وتبْدو الحقيقة بيِّنة (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا) الله ..يعني ماكثون هم في الدنيا، يكوِّن له علاقات هُنا، وترتيبات هُنا، وتخْطيطات مع ذاك، واستعدادات، وإذا وقع كذا كذا وإذا وقع كذا؛ ويتّصل بفلان ابن فلان أن يُحرِّك الجيش الفُلاني ليعْمل كذا، هذا في الدنيا، هذا كله يذهب (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ..(19)) ولا عاد أمير ولا مأمور ولا جيش ولا جندي ولا قائد ولا.. 

الصورة التي كانت في أذْهانِهم مِن الوهم والخيال كلّها اضْمحلّت وبقيت الحقيقة، ما هي الحقيقة؟ أنّ ربّ الدنيا الآخرة، الله! أن خالِقهم الله! وأنّ الأمر لله! وأنّ الحُكم لله! هذه الحقيقة هي ثابِته دائمًا، لكن في ذلك اليوم؛ كل الأوهام تذهب، كلّ الصور التي كانت عِند هذا وعند هذا؛ هذا يمْلُك قوّة وهذا يمْلُك جيش، وهذا يمْلُك أرض، وهذا يمْلُك طائرات، تلاشتْ ما عاد شيء (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)  ؟ ما عاد شيء (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار) [غافر:16].

أصلاً هو المُلك له، هذه -فقط- الصورة التي كانت عِندهم في الدنيا أوْهمتهم أنّ هناك مُلك لِغيره، لا مُلك لِغيره، اخْتبَرهم ونجح من نجح، وفشِل من فشِل ثم انْكشفت السِتارة وظهرت الحقيقة (لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا) الله،  وإلا كيف الحُكم؟ المسألة أين؟ (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ (19)) 

مِن اغْتِرارهم اليوم! من اغْتِرارهم بمُلْك النفس! لاتوجد نفس تملك لنفس، لكن من اغْتِرارهم بهذا، يرون حتى الترْكيبة التي جعلها الله في الأرض، وهذا يرجع إلى هذا وهذا، وفي مرْجعيات سياسية، ومرْجعيات دينية، ومرْجعيات قبلية، ومرْجعيات اجتماعية، هُنا وهُناك.

 كثير مِنهم الآن في الأرض يُفكِّرون، أنهم هم حل مرْجعيات هذا، لِيبقى هو فقط، لا يُحِبون أن يُوقر كبير، ولا أن يرجِع الناس إلى عُلماء، ولا إلى عُقلاء، ولا إلى صُلحاء، ولا إلى حُكماء، حتى فكّروا في إيجاد هذه؛ وسائل التواصل الاجتماعي من أجل أن يرتبط أهل كلّ فِكر بأهل فِكر هُنا وهُناك، لا مرجعية في البُلدان؛ لا لِحُكومة ولا.. جعلوا الثورات تقوم، لعب، ولا عاد أحد.

 أين الرئيس؟ وأين المرؤوس؟ وأين هذا.. المرْجعيات بِأنواعِها يُريدون إخْفاتها؛ مِن أجل أن يكون المرجِعية الوحيدة ثُلّة مِنهم، يظنّون أن تعود مرْجِعية الأمور في العالم إليهم، ولن يكون ذلك! ولن يكون ذلك!

 نعم يُحْدِثون خلل في واقِع الأمّة، وأكثر الناس خلل من ضَعُف اتّصاله بالحق ووحْيه ورسوله، هم أكثرهم من يخْتل بِدعوة هؤلاء، ولكن (وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر:19] ويأتيهم ما ليس في الحُسبان، وكما فوجئوا بأن الذي يدْعون لِمحْوِه، يظهر بِصور غريبة؛ ومِنه الإسلام، حتى في بُلْدانهم داخل، الله، كما هذا يُفاجأون بأشياء كثيرة تأتي من هُنا ومن هُنا، لا يدرون كيف هذا قام، ولا يدرون إلا واسم محمد يُعظَّم في بيوت الأرض كلّها، لا بد أن يجيء هذا اليوم، لا بد أن يجيء "وأن ديني سيصل إلى ما وزي لي منها -من الأرض-" يعني شرْقها وغرْبها صلى الله على سيدنا محمد، الله يجعلنا مِن أنْصاره.

 هذا الاسم المرفوع هذا، حتى في مواقِف القيامة كلّها وعلى قوائم العرش، وعلى أبواب الجنّة اسم هذا موجود مع اسمه الإله تعالى، "لا إله إلا الله محمد رسول الله" اللهم صلِّ عليه وعلى آله، الله يجعلنا من أنصاره حقيقة ولا تأخذنا اغترار بهذا ولا بذاك.

يقول: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّه (19)) فلمّا اتْضحت الحقيقة؛ الناس من أهل الموقف الذين يقْدِرون على الحركة، من غير الذي مشتد عليهم الخِناق، الذي يقْدِرون على الحركة والتفكير، الذين لازالوا في هذا العذاب الشديد؛ يطلِبون الآن وسيلة إلى هذا الذي بيده الأمر؛ الله، يطلِبون وسيلة، يطلِبون مدْخل، يطلِبون.. ماذا معهم؟ زعمائهم؟ لا، وزراءهم؟ لا، المُثقّفين فيهم؟ لا، ماذا معهم؟ كانوا مُخترعين عباقرتهم؟ لا.

 أين أحباب هذا الذي بيده الأمر؟ من هُم؟ أنبياء؟ أولياء؟ هؤلاء الآن، عرفتوا قدرهم! وعِشْتم في الدنيا تسْتهزؤون بهم وتضحكون بهم، الآن عرفوا أن الذي بيده الأمر، الوسيلة إليهم؛ أنبياؤه، فلهذا يلوذون كما قال نبينا؛ بآدم -يذْهبون عند آدم-: اشِفع لنا، كلِّم هذا الذي بيده الأمر، أنت أبو البشر، وأنت خلقك الله بيده .

يقول: إن ربّي اليوم غضِب غضبًا لم يغْضب قبْله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح -يدلهم سيدنا آدم على نوح- فيأتون إلى عند سيّدنا نوح: يا نوح ترى ما نحن فيه، تشفّع لنا عِند ربِّك، يقول: نفسي نفسي! إن ربي غضِب اليوم غضباً لم يغْضب قبْله مِثله ولم يغضب بعده مِثله، اذْهبوا إلى غيري، اذْهبوا إلى إبراهيم، ونفس الجواب عند إبراهيم، موسى، عيسى، اذهبوا إلى محمد صاحِب الأمر لمّا خصص هذا وميّزه وقرّبه جعله يقوم يتكلّم يقول: "أنا لها"، ولماذا هذا وحده يقول أنا لها؟ لأن الأمر لله، ولا أحد يُحِبُّه الله في العالم هذا مثل هذا، فالذي ما رضيتم تعرِفوا قدْره، أنظروا كيف! ما قدْرَ زُعماؤكم؟ ما قدر رُؤساؤكم؟ ما قدر الخُبراء فيكم؟ ما قدر المُهنْدسين فيكم؟ ما قدر المُخططين لكم؟ وما قدر محمد؟ في أحد فيلسوف أو مهندس ويقول أنا لها؟ ما أنا لها؟! وقت حتى الأنبياء يعْتذرون، لكن محمد يقول: "أنا لها"، فالذي ما عرف قدْرُه الآن يخْسر!

هذا أعظم من في المملكة عِند الملِك، أقرب من في المملكة إلى الملِك، أحبُّ من في المملكة إلى الملِك، فعلى قدْر ما تعرف الله تُعظِّم محمد! ولهذا يقول الشاعر، أنظر أثر الإيمان حتى في عوامِهم، هذا الشاعر الفرزدق ما كان يُعد مِن العُلماء، ولا كان يُعد مِن الصُلحاء، ولكن لمّا قام بِتعْظيم علي ابن الحسين، محبّة لله وبِدافِع الإيمان يقول في أبياته:

مَنْ يَعْرِفِ اللَهَ يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ ذَا *** فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الاُمَمُ

قال هذا مُنْحدر مِن محمد، محل نظر الله- تعالى- فإذا عرفنا الله نعْرف تقْديم هؤلاء، تفْضيل هؤلاء.

مَنْ يَعْرِفِ اللَهَ  يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ  ذَا *** فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الاُمَمُ

هذا ابنُ فاطمَةٍ إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ *** بِجَدّهِ  أنْبِيَاءُ  الله  قَدْ  خُتِمُوا

هكذا (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ (19)) وحتى اليوم الأمر له، لكن اليوم الدنيا ملآنة أوْهام وخيالات، وهذا يظن أنّه يُقدِّم ويُؤخِر، وهذا يظن أنه يتصرّف، وكلّها اخْتِبارات أعطاهم إيّاها، وفيما بعد تنْكشِف السِتارة ويعْرِفون أن الأمر أوله وآخره (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ) [الروم:4].

بِسم الله (ألم) -في حوادِث الحياة- (غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) تتقلّب أحوال في السنوات بسرعة، وتُنقلب الموازين الدُولية على مُستوى العالم (فِي بِضْعِ سِنِينَ)، ثم قبِلوا (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)؛ لكن بعض الأحْداث يميل إليها نُفوس المؤمنين (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم:1-7]:

فنسألك اللهم يارب الدنيا والآخرة أن تخلّصنا من الغفلة عنك وعن الآخرة، وأن لا تجعل لنا اختياراً إلا ما تحب، وما شرعت وما دعوتنا إليه فاجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيك.

هذه آخر بُكْرة في رمضان لهذا العام، لا تدع فينا رقبة إلا أعتقتها، ولا خطيئة إلا محوتها، ولا زلّة إلا كفرّتها، ولا ذنبًا إلا غفرته يا الله، ولا قلبًا إلا أصلحته ولا عقلًا إلا زكّيته، وبارك لنا في الساعات الباقية من رمضان بحقك عليك لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد غربت جميع الأكدار والبلايا والآفات عنا، وظلمات ذنوبنا وسيئاتنا، اللهم وأخرجنا من رمضان، بخير ما يخرج به المقبولون في رمضان، وخير ما يخرج به الصادقون في رمضان، وخير ما يخرج به الرابحون من رمضان، فيستمر معنا إلى وقت اللقاء يا كريم يا منّان، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا ننسى قبل أن نخْتم أن نُؤكد على ما ذكرناه في الرّوحة من أننا نحتاج قبل غروب الشمس هذا اليوم، أن نعامل الله بمُسامحة قلوبنا لِمن أساء إلينا تعرُّضًا لأن يسامحنا هو لأن من سامح سُومح، وأن يحطّ المسلمون -ومن فيه خير من المؤمنين- حقوقهم في بعضهم البعض يتسامحون فيها، نريد الحق أن يرى أثر السماح في الأمة، فيتكرّم هو بالسماح بعد ذلك عليهم وحينئذٍ ترتفع آفات الذنوب عن الأمة وموجبات الشدّة التي نزلت بالمسلمين، فنحب منا من الحاضرين معنا ممن يسمعنا أن يصفي قلبه عن المؤمنين ويسامح أقاربه .. جيرانه أصحابه.. أصدقاءه.. من عرف من لم يعرف في كل حق يخصه ابتغاء وجه الله، فلننشر هذا استرحاماً واستلطافاً واستعطافاً.

 لأننا ننتظر مِنه كشْفا للكُرُبات ودفْعاً للشدائد وصلاحاً للأمة ولا بد من أسباب لذلك، وهذا من أقوى أسبابه أن يرى في قلوبنا صفحاً وعفواً ومسامحة فيعفُ هو ويغفر -سبحانه وتعالى- من عفا عُفي عنه، فحينئذٍ تنكشف عنا شؤم الذنوب التي أوقعت هذا الحال الرديء في الأمة، اللهم اكشف الغمّة عنا وعن المسلمين.

الليلة ليلة إحياء العيد، وغدا الموكب يمشي هنا في الساعة السادسة والربع فتقام الصلاة في الروضة الساعة السادسة والنصف تقام الصلاة في الجبانة الساعة السابعة إن شاء الله في بتوقيت الزوال في صباح الغد ويجعله الله من أبرك الأيام على الأمة إن شاء الله، والجوائز الليلة والجوائز الليلة وكلٌّ يأخذ نصيبه إن شاء الله ولا تقطع نفسك عن الجائزة بنية سيئة لك لا تنوي نية سيئة فيما بعد رمضان وأحسن حالك بينك وبين الله وأرحامك وجيرانك واستلم الجائز الليلة مع الذين يستلمون الجوائز، وتحصل النداء في الصباح؛ "اغدوا إلى ربِّ كريم يرضى بالقليل ويُعطي عليه الجزيل" سبحانه وتعالى، الله يُكرِمُنا وإيّاكم وينظر إلينا بعين رحمته إنه أرحم الراحمين

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

30 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

05 يوليو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام