تفسير سورة الأعلى -2- متابعة التفسير من قوله تعالى: ( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى)

تفسير جزء عمَّ - 66 - متابعة تفسير الآيات الأولى من سورة الأعلى
للاستماع إلى الدرس

يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ.

نص الدرس مكتوب:

 ( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15))

الحمد لله مولانا الكريم الرّحمن، الواحد الأحد الفرد المنَّان؛ شرَّفنا بالقرآن الذي ابتدأ إنزاله على سَيِّدِ الأكوان في شهر رمضان. صَلِّ اللهم وسلِّم وبارك على مَن أنزلتَ عليه القرآن، عبدك المصطفى محمّد بن عبد الله، صلاةً تَتَّصِلُ بها أجزاؤنا وكليّاتنا بأسرار الوحي الذي أَوْحيتَ إليه والتّنزيل الذي نَزَّلتَ عليه؛ حتّى تَسْرِي سِرَايَةُ ذلك الوحي في الوعي مِنَّا وكلّ شأنٍ من شؤوننا سِرايةً نمتزج بها بسِرِّ كتابك ونفقه بها كريم خطابك، وتَكسُوَنَا معها حُلَّة الآداب التي أدَّبتَ بها خِيرتك من أحبابك، وصَلِّ معهم على آله خير آلٍ وأصحابه مَشرِق النّور والهُدى والاتّصالِ وعلى مَن اتّبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآلِ وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب العَوَال وآلهم وصحبهم ومَن له بهم شريفُ الاِتِّصَال، وعلى ملائكتك المُقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم يا بَرُّ، يا كريمُ، يا وَال.

وبعد،،،

فإنَّنا عند طلوع شمسِ أوَّلِ يوم جُمعةٍ من شهر رمضان هذا، في عامِنا هذا و"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ" في تعرُّضِنا لِعِتق رِقابنا من النّار ومن الأوزار ومن الآفات والأكدار، في مواصلتِنا لتأمُّلِ ما أَوْحَى ربُّنا إلى حبيبه المُختار-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- نَرفَعُ أكفّ تَضرّعنا إلى عالِم السِّرِّ والنّجوى: أن يتولَّانا بما هو أهله في جميع أحوالنا، ويُثَبِّتَ أقدامنا على ما يُحبّه مِنَّا في مقاصدِنا ونيَّاتِنا وأقوالِنا وأفعالِنا، وأن يرعانا بعَيْنِ عِنايتِه في جميع تقلُّباتِنا وأطوارِنا وأحوالِنا، ويَهَبَ لنا من الخَيرات في الدّنيا ومآلنا فوق آمالِنا ممَّا هو أهله، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وقد تأمَّلنا بعض المعاني في أوائل "سورة الأعلى" التي كان يحبها ﷺ ويُكثِرُ القراءة بها وخُصوصا في يوم الجمعة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))؛ 

  • وقد جاء في الحديث أنه قال ﷺ: "لَمَّا نَزَلَ قَولُهُ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ.
  • ولَمَّا نَزَلَ قَولُهُ تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:96]، قال: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ". 

وبذلك ثَبَّتَت السّنّة من التّسبيح:

  • في الرّكوع بـ "سبحان ربي العظيم وبحمده"
  • وفي السّجود بـ "سبحان ربي الأعلى وبحمده“ 

وقلنا إنَّ الحق تعالى أَمَرَ نبيّه بالتّقديس وأَمَرَنَا مِن خَلفِهِ أن نَنْتَهِجَ ذلك المَنهج القوِيم وذلك التّأسيس في تَنْزِيه الحَقِّ جَلَّ جلاله وتعالى في علاه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قَدِّس ونَزِّه رَبَّك عَنْ كُلّ ما يَصِفُه بِه الكافرون والمُشركون وكلّ مَا لَا يَليقُ بِأُلُوهيّتِه وربُوبِيّته وعظمته، كما يُقَدِّسُ أسماء الله تبارك وتعالى. (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)) وما من خالقٍ غيره: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62] سَوَّى ما خَلَقَ وأقامه في خير المقادير والصُّور والأشكال التي هي أنسب لمصالح ذلك الكائن. 

(خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)) ولقد قال بعض صُلحاء الأمّة: "لَوْ تَكَلَّمْتُ عَلَى مَا عَلَّمَنِي الله فِي قَوْلِهِ: (قَدَّرَ فَهَدَى)، لَأَعْجَزْتُ كَتَبَةَ الدُّنيا في معنى (قَدَّرَ فَهَدَى) قَدَّر المقادير قبل خلق السماوات والأرض، ثم خلقها فسوَّاها، ثم هدى كلّ شيءٍ إلى مصلحته وإلى حركته وإلى ما يليق به".

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)) أنواع النباتات والزروع:

  • (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)، تَتَعجَّبون وتستغربون، تقولون: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ)، خاسرون: خَسِرنا بَذْرَنا وما وَضَعْنا في الأرض، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة:63-67]، لكنّه يُنبِتُه لكم فضلاً.
  • قال سبحانه وتعالى: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ)، لا إله إلا الله، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل:60].

مَن يدخل أوأيُّ قُوَّةٍ من قوات التكنولوجيا أو قوَّات البشر أو قوَّات الشرق والغرب تدخل إلى داخل الأرض وتأمُر الحَبَّة أن تفقس وتأمُرها أن تُنبِت وتأمُرها أن تَتَوَجَّه اتّجاهها المَخصوص؟ (أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) [الواقعة:64]، مَا كَان لكم أن تُنبِتُوا شجرها.

فسبحانه قال تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4)) بترتيبٍ وتقديرٍ، وجعل لهذا أصولاً ولهذا أصولاً يخرج منها؛ فلا يمكن أن يخرج التّفاح من التّين ولا التّين من التّفاح، ثمّ يُرَتِّبُها تُسقََى بماءٍ واحدٍ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد:4] ويلوِّنها وبعضها حبوب، يُرتِّب حبوبها صغاراً أو كباراً بتَناسب وتَناسق بديع ويجعل بين بعض الحُبوب كما في الرّمان هذه الأغطية الخفيفة والثقيلة بين هذه المجموعة وهذه المجموعة؛ فيكون ذلك ألْيَق وأَوْفَق بالمصالح.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4)) وأنواع النّباتات والزّروع تنبتُ بقدرته جَلَّ جلاله ومنها بتَسبّب الآدميّين بما يَبذُرُوُنَ ويَحرُثُونَ ويَسقُون، ومنها من غير تَسبّبهم بِما يجعل الله تعالى من الأمطار نباتاتٍ أين بَذْرُها؟ لا نعلم، مَن الذي بَذَرَها؟ فَمجموعات نحن نعرف بذرها وبذرناها، لكن مجموعات كثيرة في العالَم مِن أين بذرها؟ ينزل المطر يَمتلىء الجبل كلّه أنواع من الخضروات، أين بذرتك؟! من أين جاء؟ وكيف وُضِع؟ وكيف نَبَت؟ 

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4)) وبعد أن أَخرجه واستوى بِخُضرته وَرَوْنَقِه، يعود فييبس إذا شاء، (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) -يَابِسَاً ذَابِلَاً- (أَحْوَىٰ (5))، مُسْوَدَّاً مِن كَثرة ما مَرَّ عليه مِن الوقت أو ما جلبَ إليه السَّيْلُ مِن التّربة؛ (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ)، جَلَّ جلاله، آيات بيِّنات يَعِيش بَينَها النّاس ويَنسون ويَغفِلون.

قال لحبيبه: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى(6))، (سَنُقْرِئُكَ) نُقرئك بتنزيل الوَحْي وأَمرِنا لِجبرِيل لِيَتْلوه عليك (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء:193-195]، وذلك أنه كان ﷺ يخشى ويخاف أن ينسى شيئاً مما أنزل الله عليه؛ حتى قد يسارع في القراءة ويسمع من جبريل ويتلو بعض الذي تلاه جبريل قبل أن يُنهِيَ الوحي: 

  • فأنزل الله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه:114]. 
  • وقال في الآية الأخرى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)؛ (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) -في صدرك- (وَقُرْآنَهُ) -تِلاوَته عليك وبَيانه- (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة:16-19]. 

طَمَّنه الحقّ أنّه لن ينساه: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى(6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (7)) استثناءٌ للتَّبَرُّكِ بهذه الكلمة، وقد أخبر أنه شاء أن لا يَنسى فلن يَنسى؛ فكان بمرة واحدة قد يسمع تلاوة الآيات تَقِلُّ وتكثُر، وإن كان في الغالب تكون خمس وقد تزيد وتكون أقل وقد تكثر وقد تكون أقل؛ فبمجرد قراءتها مرة واحدة من جبريل يحفظها، تَثْبُتُ في صدره كما أُنزِلَت ﷺ. 

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (7)) إنَّ إلهك الذي أنزل عليك الوحي وأمرك بالتّبليغ، يعلم الجهر وما يخفى؛ فأنت تستند إلى قويٍّ، عظيمٍ، أحاط علمه بالجهرِ والسِّرِ، بالظَّاهِرِ والباطن؛

  • ما يستَقِرُّ ويستَتِرُ في النّفوس والعُقول والقُلوب 
  • وما يبدو على صَفحات الأعضاء
  • ما يُجهَرُ به من الأقوال وما يُخفَى
  • ما يُظهَرُ مِن الأفعال وما يُتَسَتَّرُ به
  • ما يَبرُزُ لمَنظر العين وما يكون وراء مَنظر العين من المَخفِيَّات. 

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7))، ومَن عَلِمَ صفة إلهه -جَلَّ جلاله- اِنْتَشَى بالانتساب إلى العُبودية لهذا الإله، واعتمد، وتوكَّل، واطمأنَّ، وأحسن الاستناد إلى العليِّ الأعلى -جَلَّ جلاله- (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى).

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)) فلا يكون مِنك النّسيان لِمَا أَوحَينا إليك؛ وذلك أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم يجوز عليهم النِّسيان، في الأشياء التي لا يتعلّق بها حُكم من الأحكام، ومن جملة الأعراض البشريّة الجائزة في حقهم؛ ولكن لِمَا يأمرهم الله بتبليغه، يَعْصِمهم من أن ينسوا شيء منه؛ فيُبَلِّغون ما أُمِرُوا به (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)[المائدة:67]؛ نشهد أنّه بلّغ الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)) وفيه أنَّ المُرسَلَ إلى النبيّ محمد بوحي الله جبريل يَنوب عن الله في التّبليغ؛ فقال الحق: (سَنُقْرِئُكَ) ولم يقل "سَيَقْرَأُ عَلَيْكَ جِبْريل"؛ (سَنُقْرِئُكَ) نحن، وإِنْ كان بواسطة جبريل؛ فإنَّ ذلك مُجرد سببٍ وقالَبٍ نُقِيمُهُ لك، وإلّا الأمر مِنَّا ومِن عندنا، ومَن يكون جبريل إِنْ لم نَخلُقه وإِنْ لَم نَرْفَعه وإِنْ لَم نُوحِ إليه وإِنْ لَمْ نَأْمُرْه؟ ماذا يَقْدِر أن يَقول هو أو غيره! فعَدَّ تلك القِراءة، قِراءةً مِنه جَلَّ جلاله (سَنُقْرِئُكَ) كما أمر النبيّ:

  • بِبَيَانِ ما نُزِّل إليه؛ (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:44]، 
  • ثم قال في تلك الآية: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) أي نحن نُبَيِّنُهُ على لِسَانِكَ للأمّة فَلا يَنقُص من بَيَانِك شيء؛ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) فتُكمِلُ البيان كما أَحْبَبْنَا مِنك بِعِنَايَتِنا ورِعَايتِنا لتُبَيِّنَ للنّاس مَا نُزِّل إِلَيهِم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة:19]. 

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6))، وقال في الآية الأخرى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ)، ما قال: فإذا قَرَأَهُ جبريل، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة:18] وهذه الإثباتات البديعة العجيبة التي عند جهل المعارف والعقول تجهل بها، يأتي التّجرُّؤَ ونسبة هذه الأقوال إلى حُلُولٍ أو اتّحادٍ أو شيءٍ من هذا الكلام الفارغ الباطل؛ جَلَّ الله أن يَحِلَّ به شيء أو أن يُحِلَّ فيه شيء؛ ولكن أن يقوم مَن اُرْتِضِيَ ومَن أُمِرَ ومَن اُصْطُفِيَ؛ فيُنسَبُ فِعله مِن حيث أنّه الوَاسِطة إلى الحقّ جَلَّ جلاله؛ فلا إشكال في ذلك؛ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) في هذا شرك؟ أستغفر الله! في هذا حُلُول؟ أستغفر الله! في هذا اتّحاد؟ استغفر الله! فَمَا بَالَهُمْ يَتَلَقَّفُونَ كلام أهل المَعرِفة ويَنسِبُونه للحُلُول والاتّحاد وهو دون هذا الكلام في البَيَان!. 

(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة:18]، (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)) ثمّ يَظهرسيِّدنا جبريل هو الذي يَقْرَأُ وهو الذي يتَّبِعُهُ ﷺ ويَسْتَمِع إليه؛ وهذا أيضاً يدلُّنا على صحّة المعاني التي تَدُلّ على الشّرف والكرامة في مثل قوله تعالى لهذا النبيّ: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح:10]؛ (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) -جَلَّ جلاله- لأنّك مُصطفاه الذي أَنابَكَ للقيام في أخذ هذه العُهُود مِن خَلْقِهِ له؛ فمَن بَايَعك فقد بَايَع ربّه 

ومَن بَايع المُختار بَايع ربَّه *** يَدُ الله من فَوْقِ الآيادي الوَفِيَّةِ.

وهل في هذا الكلام مبالغة؟ أستغفر الله! كلام ربي، هل في هذا الكلام غُلُوّ؟ أستغفر الله! كلام إلهِنا، هل في هذا الكلام حُلُول أو اتّحاد أو شيء من الاعتقادات الفاسدة؟ أعوذ بالله؛ هذا الحقّ الواضح الصريح، كلام ربّ العالمين جَلَّ جلاله وتعالى في علاه: 

  • (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]. 
  • (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122]. 
  • (قَوْلُهُ الْحَقُّ)، جَلَّ جلاله، (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام:73].

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)) وفي هذا المعنى نقرأ في "سورة يس"، إثنين أرسلهم سيدنا عيسى إلى بعض القرى في بني إسرائيل يَدعونَهم إلى الله ويَأمرونَهم بالإيمان؛ ثمّ عزَّزهم بواحد ثالث؛ فأنزل الله على نبيِّه: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ)؛ أنطاكية، هذه الذي أرسل إليها الرسل، سيدنا عيسى، (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ)، ما قال: إِذ أَرسَل عيسى، (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس:12-14] وعلى يد عيسى رتَّب هذا ولكنّه أَمره. 

بهذا المعنى تفْقه قول سيدنا رِبْعِي بن عامر لمَّا يُخاطب رُستُم قائد لجيوش الفُرس: "الله ابْتَعَثَنَا لِنُخرِج العِبَاد مِن عِبادة العِباد إلى عِبادة ربِّ العِباد، ومِن جَوْرِ الأديان إلى عَدْل الإسلام، ومِن ضِيق الدّنيا إلى سِعة الدّنيا والآخرة"، "الله ابْتَعَثَنَا" إنما بَعَث رَسُولَه محمد، ولكنّ رسوله محمّد قال لهم: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة" وقال: "أَلَا فَلْيُبَلِّغ الشّاهِد مِنكُم الغَائب"؛ فعَدَّ ذلك ابْتِعَاثًا من الله، ابتعثهم على يد رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بلا إشكالٍ ولا دعوى رسالة ولا نبوّة ولا شيء من هذا.

(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ(7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ(8)):

  • (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ) نُيَسِّرُكَ للشّريعة الغرَّاء والمِلَّةِ السَّمحَاء. 
  • (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ) نُخَلِّقُكَ بأحسن الأخلاق، نَصِفُكَ بأشرف الصّفات، نُسَهِّلُ عليك أمر الخَيْر والبِرِّ والهُدَى. 
  • (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ) نُهَيِّؤُكَ للطّريق الموصِل إلى الجنّة. 
  • (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ) نُعَلِّمُكَ أحكام المِلّة الغرّاء والشّريعة النقيّة. 

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ(8) فَذَكِّرْ(9))، ذَكِّرْ بنا عِبادِنا، اتْلُ عليهم أَحكامَنا، مُرْهُمْ يَقرُبُوا مِنَّا ويتّصِلُوا بِنَا بِاُمتِثَال الأوَامِر واُجتِنَاب النّواهي.

(فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9)) بمعنى: تَوَخَّى مَوَاطن النّفع بالأسلوب والوقت والحال؛ فَتَرَقَّب، متى يكون الكلام أَنفَع؟ وكيف يكون أَنفَع؟ فألْقِهِ عليهم (إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ). 

(فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9)) تَخَيَّر الأسلوب وتَخَيَّر الوقت والحال المُناسب الذي يكون فيه الجدوى، وهذه مُهمّة الدّاعي إلى الله؛ يقول هو  فقط ويتكلّم هو  فقط، ومَا كُلّ الحقّ يُقَال؛ (إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ)؛ ولذا قال سيدنا عليّ كما قال ابن مسعود: "ما حَدَّث قومٌ أحداً بِحَدِيثٍ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إلَّا كانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً" يذكِّر بالشيء النّافع. 

وبذلك تَعلَم أنَّ مَن يَدَّعِي تَذكِير النّاس بإثارة بعض حَوادث، ووَقَائِع وَقَعَت قبل قرون ويقول أنَه يُريد تَذكِير النّاس؛ فيُحدِث فيهم شِقَاقاً وقتالاً -يَكْفِي إذا تَقاتل النّاس قبل قرون- لماذا يُريدننا أن نتقاتل اليوم؟! نحن مسلمين مؤمنين، اترُكنا نتفق واترُكنا نتعاون على المحبّة فقط، واترك الذين راحوا راحوا! (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) [البقرة:134]، قال: لا .. لا سنُذَكِّر النّاس بالحقيقة! 

(إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)) هل عندك منفعة أنت! أو قصدك  عَرْبَدَة فقط! حتّى وإن تَضرّروا، حتّى وإن تَسَابُّوا، حتّى وإن سَبَّوا الأحياء والأموات؛ فأنا سأتكلّم! أعوذ بالله من غضب الله! أنت مُؤذي؟! أنت ضارّ؟! أنت شرير؟! إن كُنت صاحب حقّ وهُدى، فتَرَقَّب أين النّفع؟ أين الفائدة؟ أين المصلحة؟! (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى).

لمَّا أقبل إلى الإسلام عِكرمة بن أبي جهل، قال النبيّ لمن عنده من الصحابة: "إنَّ عِكرمة يُقبِلُ راغبًا فلا تذكروا أباه أمامه بسوء" أبوه -أبوجهل- فرعون هذه الأمّة! قال أمامه لا تتكلموا على أبيه، تمام؟ هذا الأنفع، هذا الأصلح وهذا أدب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

قال: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9)) وفي الوقت الذي تَذكيرُك يورِثُ سوءاً وشراً، توقَّف! توقَّف! (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ)؛ فإذا قُمت بالذّكرى فسينتفع بها مَن سبَقَت له السّعادة والخير وسَتُوردها المورد الطيِّب وفي وقتها وعلى الأسلوب الحسن، وتَنْفر منها مع ذلك قلوب مَن سبقت عليهم الشّقاوة؛ فالأمر ليس إليك، أنت تَوَخَّى الأنسب والأطيب والأقرب؛ ثم ما عليك مِن هداية النّاس ولا إضْلالهم. 

قال تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)) مَن في قلبه خَشية من الله وخوفٌ سيذَّكَّر وسيتأثَّر وسينتَهِض، (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا) -يَرمِيها جانباً- (الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)) يَدخل النّار ويُلازمها ويُشوَى فيها؛ كُلّما نَضِجَ جِلده بُدِّل جِلدا غيره. 

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)): 

  • (النَّارَ الْكُبْرَى): نار الآخرة. 
  • والنّار الصّغرى: نار الدنيا. 

جعل الله لنا نارا صغرى لِتُذكِّرنا بالنّار الكبرى؛ فنار الدّنيا بكُلِّ حَرِّها صغرى، وقد فُضِّلَت عليها نار الآخرة في الحرارة بسبعين ضعف؛ حتى يُقال: إنَّ نار الدّنيا التي أنشَأ الله شجرتها في الدنيا، أَمر جبريل أن يَأخذ شَرارة من شَرَرِ نار جهنّم، ثمّ يَعرضها على الماء سبعة مرات ثم يُلقِيها إلى الأرض؛ فتكون منها النّار كلّها؛ فالنّار الكبرى هناك، الله أكبر!. 

ومهما كان في الدنيا من جَنَّاتٍ وبساتينٍ فالجنة الكبرى قُدّام، هذه الصّغرى، ومهما كان في الدّنيا من نارٍ تحرق؛ فهي صغرى، والنار الكبرى هناك. (وَيَتَجَنَّبُهَا)، يَجعلها جانباً ويُعرِض عنها -عن الذِّكرى- (الأَشْقَى)، مَن سبقت عليه الشّقاوة. 

(وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11))؛ الذي مآله ومصيره أن (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)) وفي تلك النّار لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة الهناء والسّرور والأُنس؛ ولكن حياة يَزداد بها أَلمه وعَذابه؛ فأيُّ حياةٍ هذه؟! لا يُقضَى عليهم فيموتوا، لا يوجد موت؛ (لاَ يَمُوتُ فِيهَا)، ولا يُخَفَّف عنهم العذاب، (وَلاَ يَحْيَى (13))، مَا هِي حياة، لا يخفَّف عنهم من عذابها، لا هُو حيّ ولا ميِّت، مَا هو حيّ حياة هناء، حياة كريمة، حياة طيّبة؛ ولكن حياة يزداد بها الألم، يزداد بها العذاب ويُحسّ بها العذاب بسببها؛ فيُفَضِّل عليها المَوت ولا يقدر على المَوت؛

  • (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، قُل لربِّك: يموِّتنا ونسلَم من هذا العذاب، (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) [الزخرف:77] أنتم أصحابي، هنا اِجْلسوا عندي الى الأبد، لا خُروج، ولَا موت (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ).
  •  (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:106-108] 

(لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى(13))، اللهم أَجرنا من النّار.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ(14)، تطهَّر وتنقَّى، اللهم اجعلنا منهم. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15)) وها هو يوم الذِّكر ويوم الصّلاة للجُمعة ويوم الصّلاة على محمّد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم- "إنَّ مِنْ خَيْرِ أَيَّامِكُم يَومَ الجُمُعَة فَأَكثِرُوا فِيه مِن الصّلاة عليّ، فَإنَّ صَلَاتَكُم عَلَيَّ تَبلُغُنِي حَيث كُنتُم" ﷺ ، كيف تَبلُغُك صلاتُنا وقد هَرِمْتَ إذا بَلِيتَ في القبر؟ قال: " إنَّ الله حَرَّم على الأَرضِ أَن تَأكُلَ أَجسَادِنَا، مَعَاشِرَ الأَنبِيَاء".

زَكَّانا الله، وَفَّقنا لَكثرَة الصّلاة عَلى مَن يُزَكِّينا على يَدِه وهو عَبده ومُصطفاه، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [الجمعة:2]. اللهم ارزقنا كمال التّزكية، ورَقِّنا مَراتب القُرب مِنك والفهم عنك خَير التَّرقِيَة، وأَعِذنَا مِن الآفات والعَاهات ظاهراً وباطناً.

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

06 رَمضان 1437

تاريخ النشر الميلادي

11 يونيو 2016

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام