(535)
(363)
(339)
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ..
﷽
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5))
الحمدلله مولانا العليِّ الأعلى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ)، و (قَدَّرَ فَهَدَىٰ)، وبعث إلينا عبده المُصطفى بالهُدى، محمد بن عبد الله، فدلَّ وبيَّن وأرشد وهدى، بأمر ربِّه إلى ربِّه، وكان أحبَّ محبوب إلى الرَّب وأقرب قريب إليه وأكرم كريم عليه، ونسأل الحقَّ تعالى أن يُصلِّيَ ويسلِّم على مبعوثه بالحقِّ، المخصوص من بين المُبتعثين من الأنبياء والمُرسلين، أفضل الصَّلوات وأزكاها وأعلاها وأحلاها وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وعلى آبائه وإخوانه من النَّبيّين والمُرسلين وآلهم وصحبهم، وعلى الملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم.
وقد مرَّ بنا الكلام في المجالس الرَّمضانيّة المُباركة، التي تأتي في بُكرة كل يوم: "وبورك لأمَّتي في بُكُورِهَا" يقول نبينا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ بعض المعاني حَوَتْها سورة الغاشية، وهي والسُّورة التي قبلها التي نبدأ تفسيرها الآن، ممّا اعتنى بهما رسول الله ﷺ قراءةً في كثير من الصَّلوات، وترجمةً لمعانيهما بكثير من أقواله وأحواله -عليه الصلاة والسّلام-، والسُّورة مكية.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، يذكُر الحقّ تبارك وتعالى فيها أخباره وصِفاتِه وشؤونه العليَّة الرَّبانيّة:
يقول سبحانه وتعالى بعد بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: (سَبِّحْ) قدِّس، نزِّه، عظِّم؛ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)):
ولمَّا قرأ مرَّة ﷺ: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، قال: "سبحان ربي الأعلى"؛
وهكذا يقول الحقُّ لعبده وبأمره يأمر كل مَن آمن به واتّبعه والكائنات من وراءه فإنّه سيُّدها.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، قدِّسوني وعظّموني، وقدِّسوا أسمائي، وصلُّوا باسمي (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))،
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، أعلى من كلِّ تصوُّر، من كلّ فكر، من كلّ تشبيه، من كلّ الكائنات والمخلوقات التي خلقها، أعلى! (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، الأعظم الأجلّ، العلوُّ المُطلق الذي لا دخل له في مسافات ولا في شيء من الجسمانيّات، علوُّ الذَّات العليَّة المعنويِّ القدسيِّ الجليل، سبحان العليِّ الأعلى الوهَّاب،
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وانظر إلى مظاهر علوِّه فيما أمامك؛ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2))، خلق ماذا؟
خلق الهواء وسوَّاه بمعانيه وأنواعه وإلى مسافاته المحدودة، خلق الجسم لأي شيء؟! مختلف الأجسام، الحيوانات مثلاً، جسم الإنسان في أحسن تقويم، متناسب مع مُهمَّاته، مع ما أُوتي، مع ما هُيِّء له، وكلّ حيوان آخر؛ طولاً وقِصَراً ومتانةً وجزالةً ونُحفاً بتقديرٍ وتسويةٍ، لا يمكن أن يكون في أنواع كلّ الحيوانات في مُناسبة تركيبها ومقصود خلقها أحسن من التَّسوية التي هي عليها في أعضائها، في أجهزتها، في أجنحتها، في أرجلها.
فما كان أنسب لخِلقتِه وتكوِينِه وفائِدتِه والمصلحة منه أن يمشي على أربع فعلى أربع؛ تسوية ما يقوم غيرها محلّها، أو على اثنتين فاثنتين، أو على بطنه فعلى بطنه؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ) [النور:45]. وكلَّها ممَّن؟ لماذا هذا كذا؟ وهذا كذا؟ هذه التّسوية أنسب ما يكون لكل واحد، لا إله إلا الله!.
فإذا تحوَّل حال الإنسان إلى مُعذَّب بسبب بُعده عن الله، وجحوده بالله، ومعصيته لله، وأُدخل النَّار؛ تحوَّل المقصود والمُراد منه، والمُراد به؛ فصار يمشي على وجهه! في الدُّنيا ما كان يمشي إلّا على رجلين، هذا أنسب ما يكون لمعيشته الدُّنيوية، وللمُراد منه في الحياة الدُّنيوية؛ لكن (يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ) [الفرقان:34]، الله! يُحشرون على وجوههم! على وجوههم؛ لأنّه يُريد إهانته، المقصود الآن آخر، كان خَلَقهم ليُكرمهم في عالم الدُّنيا؛ فأبَوْا الكرامة، وعاندوا الجبَّار، وفعلوا كلَّ موجبات الغضب والطَّرد؛ فأهانهم وأذاقهم العذاب المُهين؛ فصاروا يمشون على وجوههم، كما تسمع قوله تعالى: (وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء:97].
لمَّا سُئل نبيُّنا كيف يُحشرون على وجوههم؟ وقف أمام الحقيقة مباشرة: "أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يُمشيهم على وجوههم؟"؛ كيف يمشون الآن على أرجلهم؟ بترتيب مَن؟ بتقدير مَن؟ مِن عند مَخزن مَن؟ بتخصيص مَن؟ كيف تمشي على رجليك أنتَ الآن؟ كيف؟ بتقديره؛ هو نفسه الذي قدَّر يُمشيك على رجليك، يمشيك على وجهك، يمشيك على إصبعك، يمشيك على بطنك، القدرة قدرته، لا يوجد عندك شيء أنت تتحكَّم فيه؛ هو خلقك كذا وحصَّلت نفسك كذا وإذا ردَّك حالة ثانية تقول: كيف رددتني؟! كوَّنك كما يشاء ويردَّك كما يشاء جلَّ جلاله:
ثم يأتي بعض منهم من يجحد، ويعاند، ويكفر، ويكذِّب، ويعصي، بدل مُقابلة الإكرام هذا الواسع بالأدب والاحترام والتَّعظيم والشُّكر، يعمل هكذا! فيُهان، (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، لا إله إلا الله! (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:48-49] وقد قدّرنا لكم أجساماً حسنة وطيِّبات ونسيتم كرامتنا وتقديرنا وخالفتم؛ فقدَّرنا مَن يفعل هكذا له هكذا، مَن يفعل هكذا له هكذا (جَزَاءً وِفَاقًا)؛
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قدِّسه، عظِّمه، خُذ من مدرسة رمضان، شَربة هنيئة من تعظيم الرَّحمن؛ يا مخلوقاً له وعبداً من عباده! أنعمَ عليك فجعلك في خير أمَّة وجعلك من أهل الإسلام والإيمان، أتبقَى مع نوازِع النَّفس في كذبها وغيَِّها وما يدعوك له الشَّيطان وجنده في تعظيمات فانيات وحقيرات وأصناف من المطروحات عليك وتنسى عظمة الإله؟! أنقذ نفسك! (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، خُذ كأساً من تعظيم الرَّحمن في رمضان؛ فهي الكؤوس التي تُدار في مدرسة رمضان.
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2)) تسويةً تامَّة، سوَّى حاجبيك، سوَّى عينيك، سوَّى أنفك، سوَّى أُذنيك؛ تسوية؛ شيء يزيد منها، شيء ينقص، يتغيَّر! يتغيَّر الشَّكل، يتغيَّر الأثر، يتغيَّر الفائدة، الله!
كان الحقيقة المحمديّة والرُّوح التي خلقها الله قبل كل شيء؛ ممكن أن يُبرزها في الملائكة، ممكن أن يُبرزها في الجانّ في أي شيء من الكائنات، أَبرزها في القالب الإنساني؛ فخُصِّص النَّوع الإنساني بخصائص:
وخاطبنا نحن قال: (وَيُعَلِّمُكُم) -على محمد هذا- (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي)؛ أنا الذي بعثت إليكم محمَّد وأرسلته وخصَّصتكم (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة:151-152].
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، وقد جعل الله تبارك وتعالى غذاء الرُّوح المَلَكي (التَّسبيح)؛ فالملائكة تتغذَّى أرواحهم بتسبيح الرَّب.
وطائفة من المؤمنين؛ وقت الفتنة الكبرى على ظهر الأرض أيام الدَّجال ما يجدون طعاماً؛ فيجعل الله تغذيتهم بالتَّسبيح؛ يُسبِّحون، يشبعون! يسبِّحون، تنشط أجسامهم بالحركة من دون أكل؛ فإذا دخلوا الجنَّة أُلهموا التَّسبيح كما يُلهمون النَّفَس في الدُّنيا، تتنفَّس كم مرَّة في اليوم؟ على طول ما تتوقّف أبداً ولو أحد قال لك تعُدَّها، تتعب! تعدّ كم أنفاس في اليوم واللَّيلة؟ في كلِّ ساعة كم؟ على طول تتنفَّس.
فهُم لمَّا أراد إكرامهم ألهمهم في الجنَّة التَّسبيح كما أُلهموا النَّفس في الدُّنيا، مثل الأنفاس! يُسبِّحون بحمد ربِّهم في دار الكرامة وبذلك صار كل شيء في الجنَّة تحت أمرهم وطَوعهم، مُلْك كل واحد منهم طَوْع خاطره (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) [يونس:10]، إذا سبَّح الله على أي شيء انقاد له كما يريد "يُلهمون التَّسبيح والتَّقديس كما تُلهمون النَّفس" قال ﷺ: "فيا فوز المسبِّحين"، قال الله لسيِّدهم:
وأشار أيضاً إلى أوقات الصَّلوات وأنَّ المقصود من الصَّلاة، أن يترسَّخ فيك معنى قدسيَّته بتسبيحه وتنزيهه؛
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) [الروم: 19]، لا إله إلا هو!
(خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2))، كم في البحر من حيوانات؟ كل واحد له مُهمَّات ويأكل بعضها بعضاً بترتيبات، ولو أحد يحوِّل حجم هذا إلى حجم هذا، تفسد الحكمة، يفسد المقصود، ما يستمرّ أمر البحر! وكذلك حيوانات البر وما فيها (خَلَقَ فَسَوَّىٰ)،
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)):
مهمَّتك هي الأرض، سكن! سكن مرحباً، نبات! نبات مرحباً، هذا المحل يُنبت، هذا المحل صَبغ، خلاص أنت ما عندك، أنت عندك نبات، أي أحد يحطّ فيك البذرة، ما تقول هذا يريد، هذا ما يريد، بس نفِّذ!.
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3))، (قَدَّرَ)، خَلَقَ كلِّ كائن وهداه لمصالحه، يا نحل كُلي من كل الثّمرات، (اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [النحل:68-69]، تمام! يخرج من بطونك هذا الشَّراب وهذا النَّوع، أحد يقدر يحوِّله؟ خلاص! هذا النَّحل موضة قديمة، نحل يجيء لنا بالعسل، نموذج قديم هذا! نريد الآن نحل يأتي لنا بدل العسل يأتي لنا بشراب ثاني، ممكن؟ في أحد غير الله يعمل هذا؟ وإذا النَّحل نفسه قال: أنا ما عاد أريد هذا، أريد شيء ثاني! لا يوجد شي ثاني، أنتَ محلّك هكذا.
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) لكم ملكة ترجعون إليها، ما يمكن ملكين في محل واحد، تمام! كل النُّوُب يمتثل لأمر الملك، طريقة البيت هندسي وسداسيّ الشَّكل، أنسب لأقراص العسل، ما يُناسبها غير هذا، تمام؟ اصنع! (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [النحل:68-69].
أنتَ أكلك كذا، أنتَ أكلك كذا، كل واحد يهتدي لأكله؛ إن كان غنم وإن كان بقر وإن كان حيوان وإن كان حشرة وإن كان كلب وإن كان سَبُع، كل واحد له أكل مخصوص، إنتَ أكلك كذا، وإنت أكلك كذا، ولا يخطر على بال أحد، أنت تأكل ملكه ولا يأكل ملكك، أونبدّل، هذا هو! من متى؟ من أيام خُلقت على طول القرون.
والحضارات ماذا صنعت؟ الحضارات تدور حول الحواشي تلإرادات والترتيبات الربانية، لا تقدر أن تبدِّل ولا تغيِّر! إلّا تستفيد منها أو تتضرَّر بها، الله أكبر! و مَن ذا الذي خلق؟ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3))، (قَدَّرَ) شّأن البصر، فكلُّ خليّة عاملة بعملها مهديَّة لذلك؛ فهداك تفتح عينك، تغمض عينك بأوقاتها، ويفاجئك شيء؛ غمِّضت! مَن قال لك تغمِّض؟ افتح!
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) وهدى كل شي لمصالحه، يا أيها النَّمل رتِّبوا مساكنكم المناسبة لكم في الصَّيف والشِّتاء، خذوا طعامكم، إذا أخذتم طعامكم هذا الذي نُعطيه للآدميّين الذي تأكلونه من أين؟ إذا جئتم به إلى مخبأكم، طَرَفه الذي نُنبت منه الشَّجر اقرضوا عليه، حتى إذا جاء المطر لا يُنبُت عليكم؛ فيذهب قوتكم، فيأخذ النَّمل هذه الحبَّة وتأتي إلى الموضع الذي منه النَّبات تقرضه، وخلاص تبقى الحبَّة ما تنبت أبداً؛ حتى لو جاء المطر ما تنبت، مَن قال لها؟ مَن الذي رتَّب لها هذا؟ وأنتم في مَسكنكم هنا، وأنتم مَسكنكم هنا، يأتي واحد ثاني من غير هذا المسكن، في اثنين حرَّاس من النَّمل هنا، موجودين عند المدخل، ما الذي أتى بك هنا؟ ما يمكن يدخل، يوقِّفونه على الباب، هذا ما هو مسكنك! الله أكبر!.
وجدوا في مساكن النَّمل، إذا مات الميِّت فيهم مكان يخصِّصون له مقبرة، وسط المسكن داخل، يحملون أي واحدة تموت، يزفّونها، يحطّونها هناك، يدفنونها، محلّ للمقبرة مخصوص! الله الله !
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) سبحانه، وهكذا جاء بعض النَّاس ووضع حبَّة كبيرة محلّ التّمر، هنا جاءت النّملة تحاول ما قدرت ذهبت، أتت بعدد كثير من النَّمل معها و هو أبعدها هذه الحبَّة؛ فداروا في نفس المكان ورجعوا وردَّ الحبَّة، وهذه النَّملة رجعت وجدت الحبة! رجعت ثاني مرَّة للقوم، جاؤوا بمجموعة وهو أبعدها، داروا في المكان ورجعوا، ثالث مرة عمل هكذا؛ فرآهم بعد ثالث مرة بعد ما جاؤوا، لم بجدوا شئ، تجمَّعن على هذه التي دلَّتهن، يضربنها! كيف تكذب؟ ما يجوز الكذب حتى عند النمل! حرام.
بل واجب التَّناصح، حتى أشاد الله بنصيحة النَّملة لأخواتها، لتسليم أخواتها من الآفة: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ)، انظر تؤدي مهمَّتها وواجبها في المجتمع! (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)، ابتعدوا من الطريق، ماذا هناك؟ (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) وعندها خَبَر عن سليمان والجنود، ومشكلتهم يحطمّونهم إذا مشوا (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:16]، ما هم عالمين بكم، يحطّمونكم، اشردوا منهم
فلمّا تكلَّمت بالرَّحمة لأصحابها وإرادة إنقاذهم، سطَّر الله خبرها في القرآن، قال خذوا انظروا نملة تقول هكذا، ماذا تعملون أنتم؟ أنتم تقتِّلون بعضكم البعض! نملة حافظت على صاحباتها؛ فرفع الله شأنها، وحطّ كلامها وسط القرآن لتكون عبرة لنا! نملة قامت بمحبّة الآخرين وبإنقاذ الآخرين؛ فسيروا في هذا المسار، وأنتم ما تُنقذوا بعضكم البعض؟ وما تراعوا مصالح بعضكم البعض؟
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا)، سيدنا سليمان، (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل:16-17]، وهؤلاء الأنبياء يُطالعون عظمة الله وحكمته في الوجود والخلق ويعلّموننا أنّنا عبيد وآلة تحت حُكمه (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
ثمَّ أنزل سورة سمَّاها سورة النَّمل، وذَكر خبر النَّملة هذه وماذا قالت لقومها، لمَّا حرَصت على جماعتها أن لا يُصيبهم شرّ، شكر الله لها هذا المسعى وأتى بأعظم الكتب النَّازلة من السَّماء ووضع خبر النَّملة فيه وكلام النّملة فيه، سبحانه! فلو صَدَقْتَ في إنقاذ بني آدم وإرشادهم وإسعادهم لرَفعك وحَفِظ لك المكانة -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- "الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) سبحانه، أنواع وعجائب في مصالح الحيوانات والنَّبات حتّى الحشرات تُذهلك، ترتيب بديع، حركات مُتناسبة، وإنزال كل شيء في منزله، لا إله إلا الله!
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4)) النَّبات من الأرض، من حبوب؛ فصارت خضراء، (أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ) بعد ذلك ييبس، وبعد ذلك يسوَدّ (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) يابس يَصْفّر بعد أن كان أخضر، (أَحْوَىٰ) ييبس يسوَّد، يصير مُسودّ، الله!، يتقلَّب شأنه (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5))، وكم في آيات الله في هذا الوجود (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]، لا إله إلا الله!.
يا ربّ! أكرمنا في رمضان بشرب الكؤوس من تعظيمك وإجلالك ومحبَّتك وتسبيحك وتقديسك وتنزيهك؛ حتّى نخرج وقد ذُقنا حلاوة الإيمان وحلاوة الرَّحمة، يا رحمن! ولذَّة المُناجاة وبَرْد العفو منك والرِّضا؛ اللَّهم إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفو فاعفو عنَّا برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
04 رَمضان 1437