تفسير سورة الأعلى -1- من أول السورة
يواصل الحبيب عمر بن حفيظ تفسير قصار السور، موضحا معاني الكلمات ومدلولاتها والدروس المستفادة من الآيات الكريمة، ضمن دروسه الرمضانية في تفسير جزء عم من العام 1437هـ..
نص الدرس مكتوب:
﷽
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5))
الحمدلله مولانا العليِّ الأعلى (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ)، و (قَدَّرَ فَهَدَىٰ)، وبعث إلينا عبده المُصطفى بالهُدى، محمد بن عبد الله، فدلَّ وبيَّن وأرشد وهدى، بأمر ربِّه إلى ربِّه، وكان أحبَّ محبوب إلى الرَّب وأقرب قريب إليه وأكرم كريم عليه، ونسأل الحقَّ تعالى أن يُصلِّيَ ويسلِّم على مبعوثه بالحقِّ، المخصوص من بين المُبتعثين من الأنبياء والمُرسلين، أفضل الصَّلوات وأزكاها وأعلاها وأحلاها وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وعلى آبائه وإخوانه من النَّبيّين والمُرسلين وآلهم وصحبهم، وعلى الملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم.
وقد مرَّ بنا الكلام في المجالس الرَّمضانيّة المُباركة، التي تأتي في بُكرة كل يوم: "وبورك لأمَّتي في بُكُورِهَا" يقول نبينا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ بعض المعاني حَوَتْها سورة الغاشية، وهي والسُّورة التي قبلها التي نبدأ تفسيرها الآن، ممّا اعتنى بهما رسول الله ﷺ قراءةً في كثير من الصَّلوات، وترجمةً لمعانيهما بكثير من أقواله وأحواله -عليه الصلاة والسّلام-، والسُّورة مكية.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، يذكُر الحقّ تبارك وتعالى فيها أخباره وصِفاتِه وشؤونه العليَّة الرَّبانيّة:
- وقال سيدنا أُبيّ بن كعب لرسول الله: "لعلَّ أفضل المسبِّحات (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)" قال: "نعم".
- وجاء في صحيح الإمام مسلم كما هو أيضاً عند الإمام أحمد وابن أبي شيبة و ابن أبي داود الترمذي والنّسائي وابن ماجه عن سيدنا النُّعمان بن بشير: "أنَّ النبي ﷺ كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(هَلْ أَتَاْكَ حَدِيْثُ اَلْغَاْشِيَة)"،
- قال: "وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعاً"؛ وهكذا جاء في عَدَد من الرِّوايات، اعتناؤه بالقراءة بهما في الجمعة وفي العيدين يقرأ بهما أحياناً وأحياناً بـ(ق) و(اقْتَرَبَتْ) -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ وكثيراً ما يَمزج خُطبته في العيد بآيات كثيرة من سورة (ق)، صلوات ربي وسلامه عليه.
- وجاء في رواية البزّارعن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: "كان ﷺ يقرأ في الظهر والعصر بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(هَلْ أَتَاْكَ حَدِيْثُ اَلْغَاْشِيَة)"؛
- وإنَّما عَلِم ذلك أنه كان أحياناً في الظهر أو العصر أثناء تلاوته للسُّورة، يسمعون منه بعض آياتٍ؛ فيعرفون أنه قرأ السُّورة الفلانية، قال قائلهم: "وكان يُسمِعنا السُّورة أحياناً"؛ يعني من خلال قراءته مع نفسه من دون أن يجهر، تظهر منه بعض الكلمات وبعض الآيات فيَسمعونها؛ فيعرفون أنه قرأ هذه السُّورة في ظهرٌٍ أو في عصرٍ، من جملة ذلك ما سمعوه يقرأ في الظُّهر وفي العصر بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(هَلْ أَتَاْكَ حَدِيْثُ اَلْغَاْشِيَة).
- وهكذا جاء عن سيدنا جابر بن سمرة: "أن النبي ﷺ كان يقرأ في الظهر بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)" رواه الإمام مسلم في صحيحه وابن أبي شيبة،
- وجاء أيضاً عن عمران بن حسين في رواية الإمام مسلم، وابن أبي شيبة والبيهقي "أن النبي ﷺ صلَّى الظُّهر فلمَّا سلَّم قال: هل قرأ أحدٌ منكم بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)؟ قال رجل: أنا، قال: قد علمتُ أن بعضكم خالجنيها، دخل معي في قراءتها" ﷺ.
- وهكذا جاء في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والدارقطني و الحاكم والبيهقي عن سيدنا أبيّ بن كعب قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم- يُوتر بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(قُلْ يَا أَيُّهَاْ الْكَافِرُوُنْ)".
- وجاء في رواية أبي داود والتَّرمذي والنَّسائي وابن ماجه والحاكم وصحَّحه والبيهقي عن عائشة قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم-، يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ(سَبِّحْ اسْمَ) وفي الثانية: (قُلْ يَا أَيُّهَاْ الْكَافِرُوُنْ)، وفي الثالثة: (قُلْ هُوَ الله أَحَدْ) والمعوذتين"،
- وجاء عن ابن عمر في ما رواه البزَّار "أن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كان يقرأ في الوتر(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(قُلْ يَا أَيُّهَاْ الْكَافِرُوُنْ) و(قُلْ هُوَ الله أَحَدْ)"؛
- فمن الأئمة مَن اقتصر على سورة الإخلاص كالإمام أحمد وغيره، ومنهم مَن أضاف إليها كما جاء في الرواية الثانية المعوذتين (قُلْ أَعُوُذُ بِرَبِّ اَلْفَلَق) و(قُلْ أَعُوُذُ بِرَبِّ اَلْنَّاْس) في الرَّكعة الأخيرة من الوتر، وكان يواظب على ذلك؛ فيختم ركعات الوتر الثَّلاث بهذه السُّور، لا يقرأ فيها غيرها.
- و طوَّل مرة سيدنا معاذ بن جبل في صلاة المغرب، مرَّ غُلام من الأنصار كان مُتعباً من عمل، كان يعمل على بعير له، فأطال بهم معاذ؛ فانطلق ذلك الغلام وذهب في طلب بعيره وجاء الخبر إلى النبي ﷺ فقال له: "أفتَّان أنت يا معاذ؟ ألا يقرأ أحدكم في المغرب بـ(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(الشَّمْسِ وَضُحَاْهَاْ)؟" بشيء من هذه السور القريبة، فنصَّ على: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(الشَّمْسِ وَضُحَاْهَاْ).
- و هكذا جاء في رواية ابن ماجه أيضاً "أنَّ النَّبي ﷺ أرشد معاذ بن جبل إلى أن يقرأ بـ(الشَّمْسِ وَضُحَاْهَاْ) و(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و(الْلَّيْلِ إِذَاْ يَغْشَى)؛ ليكون ذلك أقرَبَ على النَّاس وأبعد عن المشقَّة عليهم.
يقول سبحانه وتعالى بعد بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: (سَبِّحْ) قدِّس، نزِّه، عظِّم؛ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)):
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)؛ فلا تذكر اسماً من أسمائه إلّا بتعظيم، لا تذكر شيئاً من أسمائه إلا بحضور وخشوع.
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ) لا تُسمي غيره بأسمائه ولا تخترع له اسماً إلا ما علمّك وسمَّى به نفسه .
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) لا تفسِّر شيئاً من أسمائه بما يُشابه الكائنات أو المخلوقات ولا يليق بجلاله وعظمته، لا تُفسِّر أعلى بعلوّ مكان؛ فإنَّ الأمكنة كلها شؤون جسمانيّات مخلوقات لا دخل فيها للعلوِّ الإلهيّ، وذاك علوٌّ معنويّ في الدَّرجة والمكانة والرُّتبة.
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ) نزِّه وعظِّم أسمائه، وأنذر المُلحدين في أسمائه،
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) صلِّ باسم ربك.
- (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، قدِّس ربَّك وعظِّمه، جلَّ جلاله.
ولمَّا قرأ مرَّة ﷺ: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، قال: "سبحان ربي الأعلى"؛
- وهكذا جاء في رواية الإمام أحمد وابن داود وابن المَردَوِيَّه والبيهقي عن ابن عباس: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- إذا قرأ: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأعلى".
- وهكذا جاء في رواية عبد الرَّزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس: "أنَّه إذا قرأ: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأعلى"،
- وهكذا يقول ابن عباس إذا قرأتَ: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقل: سبحان ربي الأعلى".
- وهكذا قرأ سيدنا علي بن أبي طالب بما جاء في رواية ابن أبي شيبة والفريابي وعبد بن حميد (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، فقال: "سبحان ربي الأعلى"، وهو في الصَّلاة ثم كمَّل: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2))، قيل له: "أتزيد شيء من القرآن؟"، قال: "لا لا لا، إنما أمرنا بشيء فقلته"، أمرنا الله أن نسبح سبحنا! وكان ﷺ كما نُعت في صلواته في اللَّيل، لا يمرُّ بآية تسبيح إلا وقف وسبَّح، ولا بآية رحمة إلا وقف وسأل الله الرَّحمة، ولا بآية عذاب إلا وقف واستعاذ من العذاب، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
- وهكذا جاء عن أبي موسى الأشعري فيما رواه أيضاً الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر، أنه قرأ في الجمعة (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقال: "سبحان ربي الأعلى".
وهكذا يقول الحقُّ لعبده وبأمره يأمر كل مَن آمن به واتّبعه والكائنات من وراءه فإنّه سيُّدها.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، قدِّسوني وعظّموني، وقدِّسوا أسمائي، وصلُّوا باسمي (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))،
- (الْأَعْلَى): الاسم الأعلى، هوالرَّب الأعلى، جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه؛
- (الْأَعْلَى): العلوُّ الكبير، العلوُّ الذي لا يُستطاع الإحاطة به، العلوُّ الذي لا يُمكن أن تُتصوَّر حقيقته، العلوُّ العظيم اللَّائق بجلاله وكبريائه وعظمته، سبحان الأعلى.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، أعلى من كلِّ تصوُّر، من كلّ فكر، من كلّ تشبيه، من كلّ الكائنات والمخلوقات التي خلقها، أعلى! (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، الأعظم الأجلّ، العلوُّ المُطلق الذي لا دخل له في مسافات ولا في شيء من الجسمانيّات، علوُّ الذَّات العليَّة المعنويِّ القدسيِّ الجليل، سبحان العليِّ الأعلى الوهَّاب،
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وانظر إلى مظاهر علوِّه فيما أمامك؛ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2))، خلق ماذا؟
- (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر:62]، هو كل شيء خلقه فسوَّاه،
- (أخسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة:7].
خلق الهواء وسوَّاه بمعانيه وأنواعه وإلى مسافاته المحدودة، خلق الجسم لأي شيء؟! مختلف الأجسام، الحيوانات مثلاً، جسم الإنسان في أحسن تقويم، متناسب مع مُهمَّاته، مع ما أُوتي، مع ما هُيِّء له، وكلّ حيوان آخر؛ طولاً وقِصَراً ومتانةً وجزالةً ونُحفاً بتقديرٍ وتسويةٍ، لا يمكن أن يكون في أنواع كلّ الحيوانات في مُناسبة تركيبها ومقصود خلقها أحسن من التَّسوية التي هي عليها في أعضائها، في أجهزتها، في أجنحتها، في أرجلها.
فما كان أنسب لخِلقتِه وتكوِينِه وفائِدتِه والمصلحة منه أن يمشي على أربع فعلى أربع؛ تسوية ما يقوم غيرها محلّها، أو على اثنتين فاثنتين، أو على بطنه فعلى بطنه؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ) [النور:45]. وكلَّها ممَّن؟ لماذا هذا كذا؟ وهذا كذا؟ هذه التّسوية أنسب ما يكون لكل واحد، لا إله إلا الله!.
فإذا تحوَّل حال الإنسان إلى مُعذَّب بسبب بُعده عن الله، وجحوده بالله، ومعصيته لله، وأُدخل النَّار؛ تحوَّل المقصود والمُراد منه، والمُراد به؛ فصار يمشي على وجهه! في الدُّنيا ما كان يمشي إلّا على رجلين، هذا أنسب ما يكون لمعيشته الدُّنيوية، وللمُراد منه في الحياة الدُّنيوية؛ لكن (يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ) [الفرقان:34]، الله! يُحشرون على وجوههم! على وجوههم؛ لأنّه يُريد إهانته، المقصود الآن آخر، كان خَلَقهم ليُكرمهم في عالم الدُّنيا؛ فأبَوْا الكرامة، وعاندوا الجبَّار، وفعلوا كلَّ موجبات الغضب والطَّرد؛ فأهانهم وأذاقهم العذاب المُهين؛ فصاروا يمشون على وجوههم، كما تسمع قوله تعالى: (وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء:97].
لمَّا سُئل نبيُّنا كيف يُحشرون على وجوههم؟ وقف أمام الحقيقة مباشرة: "أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يُمشيهم على وجوههم؟"؛ كيف يمشون الآن على أرجلهم؟ بترتيب مَن؟ بتقدير مَن؟ مِن عند مَخزن مَن؟ بتخصيص مَن؟ كيف تمشي على رجليك أنتَ الآن؟ كيف؟ بتقديره؛ هو نفسه الذي قدَّر يُمشيك على رجليك، يمشيك على وجهك، يمشيك على إصبعك، يمشيك على بطنك، القدرة قدرته، لا يوجد عندك شيء أنت تتحكَّم فيه؛ هو خلقك كذا وحصَّلت نفسك كذا وإذا ردَّك حالة ثانية تقول: كيف رددتني؟! كوَّنك كما يشاء ويردَّك كما يشاء جلَّ جلاله:
- (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [التين:4-6]، ما يأتي في القيامة؛ لا يمشي على وجهه ولا على بطنه؛
- قال تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر:4]،
- (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [التين:5-6].
- (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا) [مريم:85]؛ مُكرم قَبِلَ الكرامة فدامت له الكرامة، قَبِل كرامة الله فدامت؛ فيافوز المؤمنين الصَّادقين، جعلنا الله وإيّاكم منهم، كرَّمهم فقبلوا كرامته فدامت كرامته لهم، له الحمد والمِنَّة.
- (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء:70].
ثم يأتي بعض منهم من يجحد، ويعاند، ويكفر، ويكذِّب، ويعصي، بدل مُقابلة الإكرام هذا الواسع بالأدب والاحترام والتَّعظيم والشُّكر، يعمل هكذا! فيُهان، (جَزَاءً وِفَاقًا) [النبأ:26]، لا إله إلا الله! (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:48-49] وقد قدّرنا لكم أجساماً حسنة وطيِّبات ونسيتم كرامتنا وتقديرنا وخالفتم؛ فقدَّرنا مَن يفعل هكذا له هكذا، مَن يفعل هكذا له هكذا (جَزَاءً وِفَاقًا)؛
- كما قال تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِّلطَّاغِينَ مَآبًا * لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) -أزمنة غير متناهية طويلة- (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) ولماذا هكذا؟ قال: (جَزَاءً وِفَاقًا)، أعطيناهم الخير، أعطيناهم وذهبوا كذَّبوا وكفروا، خلاص! خذوا الجزاء، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) -ما يؤمنون بالحساب!- (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) [النبأ: 17-30].
- انظروا الفريق الثَّاني (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا) [النبأ: 31-35]، (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) [الغاشية:11]، (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) [النبأ:35-36]، لا إله إلا هو!.
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قدِّسه، عظِّمه، خُذ من مدرسة رمضان، شَربة هنيئة من تعظيم الرَّحمن؛ يا مخلوقاً له وعبداً من عباده! أنعمَ عليك فجعلك في خير أمَّة وجعلك من أهل الإسلام والإيمان، أتبقَى مع نوازِع النَّفس في كذبها وغيَِّها وما يدعوك له الشَّيطان وجنده في تعظيمات فانيات وحقيرات وأصناف من المطروحات عليك وتنسى عظمة الإله؟! أنقذ نفسك! (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، خُذ كأساً من تعظيم الرَّحمن في رمضان؛ فهي الكؤوس التي تُدار في مدرسة رمضان.
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2)) تسويةً تامَّة، سوَّى حاجبيك، سوَّى عينيك، سوَّى أنفك، سوَّى أُذنيك؛ تسوية؛ شيء يزيد منها، شيء ينقص، يتغيَّر! يتغيَّر الشَّكل، يتغيَّر الأثر، يتغيَّر الفائدة، الله!
- (خَلَقَ فَسَوَّىٰ)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ) أجسام، أرواح، مخصَّصة الأرواح بخصائص، وجعل روح للمَلَك، روح للإنسان، روح للجنّ، روح للحيوانات الأخرى وفرّق بينها
- (خَلَقَ فَسَوَّىٰ) ولمَّا أراد لهذا الإنسان كرامة مخصوصة ومهمّة كبيرة، جعل في روحِه خصائص ليست عند الأرواح الأخرى لا عند الحيوانات وتَميَّز أيضاً عن الجانّ بخصائص في روحه، لذلك برز الأنبياء من هذا النَّوع، النَّوع الإنساني وسيِّد الأنبياء برز منهم وفيهم.
كان الحقيقة المحمديّة والرُّوح التي خلقها الله قبل كل شيء؛ ممكن أن يُبرزها في الملائكة، ممكن أن يُبرزها في الجانّ في أي شيء من الكائنات، أَبرزها في القالب الإنساني؛ فخُصِّص النَّوع الإنساني بخصائص:
- وبذلك نقرأ قوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:3-5].
- ويقول: (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4]؛
- فإذا نظرت إلى أي إنسان وجدتَ المُقدَّم والرَّأس محمَّد، فإن كان عُلِّم أحد؛ فهو المُعلَّم الأول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)،
- (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:5]، ونصَّ على ذلك في قوله مخاطباً له: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) [النساء:113].
وخاطبنا نحن قال: (وَيُعَلِّمُكُم) -على محمد هذا- (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي)؛ أنا الذي بعثت إليكم محمَّد وأرسلته وخصَّصتكم (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة:151-152].
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1))، وقد جعل الله تبارك وتعالى غذاء الرُّوح المَلَكي (التَّسبيح)؛ فالملائكة تتغذَّى أرواحهم بتسبيح الرَّب.
وطائفة من المؤمنين؛ وقت الفتنة الكبرى على ظهر الأرض أيام الدَّجال ما يجدون طعاماً؛ فيجعل الله تغذيتهم بالتَّسبيح؛ يُسبِّحون، يشبعون! يسبِّحون، تنشط أجسامهم بالحركة من دون أكل؛ فإذا دخلوا الجنَّة أُلهموا التَّسبيح كما يُلهمون النَّفَس في الدُّنيا، تتنفَّس كم مرَّة في اليوم؟ على طول ما تتوقّف أبداً ولو أحد قال لك تعُدَّها، تتعب! تعدّ كم أنفاس في اليوم واللَّيلة؟ في كلِّ ساعة كم؟ على طول تتنفَّس.
فهُم لمَّا أراد إكرامهم ألهمهم في الجنَّة التَّسبيح كما أُلهموا النَّفس في الدُّنيا، مثل الأنفاس! يُسبِّحون بحمد ربِّهم في دار الكرامة وبذلك صار كل شيء في الجنَّة تحت أمرهم وطَوعهم، مُلْك كل واحد منهم طَوْع خاطره (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ) [يونس:10]، إذا سبَّح الله على أي شيء انقاد له كما يريد "يُلهمون التَّسبيح والتَّقديس كما تُلهمون النَّفس" قال ﷺ: "فيا فوز المسبِّحين"، قال الله لسيِّدهم:
- (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ) [طه:130]،
- (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم:17-18].
وأشار أيضاً إلى أوقات الصَّلوات وأنَّ المقصود من الصَّلاة، أن يترسَّخ فيك معنى قدسيَّته بتسبيحه وتنزيهه؛
- (حِينَ تُمْسُونَ) صلاة العشاء،
- (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر،
- (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا) صلاة العصر والمغرب،
- (وحِينَ تُظْهِرُون) صلاة الظهر،
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) [الروم: 19]، لا إله إلا هو!
(خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2))، كم في البحر من حيوانات؟ كل واحد له مُهمَّات ويأكل بعضها بعضاً بترتيبات، ولو أحد يحوِّل حجم هذا إلى حجم هذا، تفسد الحكمة، يفسد المقصود، ما يستمرّ أمر البحر! وكذلك حيوانات البر وما فيها (خَلَقَ فَسَوَّىٰ)،
- (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) [لقمان:11]، ماذا خلقوا؟ إذا جئنا إلى عالم الحيوانات؛ نقول: تعالوا أصغر حيوان، اصنعوا حيوان من عندكم! من فضلكم! أنتم متقدِّمون متطوِّرون، هاتوا حيوان!، يقولون: "نصنع طائرات"، نريد حيوان، اترك الطائرات، نريد حيوان! أشتهي أرى قُدرتكم، اصنعوا لكم حيوان، من أين؟، صغير، صغير! حتى صغير فقط، ذباب! هاتوا ذُبابة!؛ لا ذبابة ولا غيرها؛ هو إنت إنسان متقدِّم كبير طويل ما تعرف تصنع ذُبابة؟! من أين يصنع ذبابة؟ ما يقدر يصنع.
- (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا)، النَّبي يقول هذا الكلام من قبل ألف وأربعمائة سنة، وبعدين ممكن بعد مئة سنة، مئتي سنة، الناس يخلقوا ذباب، ما في هذا، هو كلام واحد! إلى بعد ألف سنة وألف وأربعمائة، ألف وخمسمائة، هذا هو كلام واحد! (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج:73]، هم والذُّباب كلَّهم ضعاف، القويُّ الله وحده.
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)):
- (قَدَّرَ) السَّعادة والشَّقاوة، (هَدَىٰ) إلى الرُّشد والضَّلال،
- (قَدَّرَ) سبحانه وتعالى الذَّنب والمعصية، (هَدَىٰ) إلى التَّوبة،
- (قَدَّرَ) مهمَّات كل كائن و(هَدَىٰ) كل كائن إلى مهمَّته،
مهمَّتك هي الأرض، سكن! سكن مرحباً، نبات! نبات مرحباً، هذا المحل يُنبت، هذا المحل صَبغ، خلاص أنت ما عندك، أنت عندك نبات، أي أحد يحطّ فيك البذرة، ما تقول هذا يريد، هذا ما يريد، بس نفِّذ!.
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3))، (قَدَّرَ)، خَلَقَ كلِّ كائن وهداه لمصالحه، يا نحل كُلي من كل الثّمرات، (اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [النحل:68-69]، تمام! يخرج من بطونك هذا الشَّراب وهذا النَّوع، أحد يقدر يحوِّله؟ خلاص! هذا النَّحل موضة قديمة، نحل يجيء لنا بالعسل، نموذج قديم هذا! نريد الآن نحل يأتي لنا بدل العسل يأتي لنا بشراب ثاني، ممكن؟ في أحد غير الله يعمل هذا؟ وإذا النَّحل نفسه قال: أنا ما عاد أريد هذا، أريد شيء ثاني! لا يوجد شي ثاني، أنتَ محلّك هكذا.
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) لكم ملكة ترجعون إليها، ما يمكن ملكين في محل واحد، تمام! كل النُّوُب يمتثل لأمر الملك، طريقة البيت هندسي وسداسيّ الشَّكل، أنسب لأقراص العسل، ما يُناسبها غير هذا، تمام؟ اصنع! (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) [النحل:68-69].
أنتَ أكلك كذا، أنتَ أكلك كذا، كل واحد يهتدي لأكله؛ إن كان غنم وإن كان بقر وإن كان حيوان وإن كان حشرة وإن كان كلب وإن كان سَبُع، كل واحد له أكل مخصوص، إنتَ أكلك كذا، وإنت أكلك كذا، ولا يخطر على بال أحد، أنت تأكل ملكه ولا يأكل ملكك، أونبدّل، هذا هو! من متى؟ من أيام خُلقت على طول القرون.
والحضارات ماذا صنعت؟ الحضارات تدور حول الحواشي تلإرادات والترتيبات الربانية، لا تقدر أن تبدِّل ولا تغيِّر! إلّا تستفيد منها أو تتضرَّر بها، الله أكبر! و مَن ذا الذي خلق؟ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3))، (قَدَّرَ) شّأن البصر، فكلُّ خليّة عاملة بعملها مهديَّة لذلك؛ فهداك تفتح عينك، تغمض عينك بأوقاتها، ويفاجئك شيء؛ غمِّضت! مَن قال لك تغمِّض؟ افتح!
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) وهدى كل شي لمصالحه، يا أيها النَّمل رتِّبوا مساكنكم المناسبة لكم في الصَّيف والشِّتاء، خذوا طعامكم، إذا أخذتم طعامكم هذا الذي نُعطيه للآدميّين الذي تأكلونه من أين؟ إذا جئتم به إلى مخبأكم، طَرَفه الذي نُنبت منه الشَّجر اقرضوا عليه، حتى إذا جاء المطر لا يُنبُت عليكم؛ فيذهب قوتكم، فيأخذ النَّمل هذه الحبَّة وتأتي إلى الموضع الذي منه النَّبات تقرضه، وخلاص تبقى الحبَّة ما تنبت أبداً؛ حتى لو جاء المطر ما تنبت، مَن قال لها؟ مَن الذي رتَّب لها هذا؟ وأنتم في مَسكنكم هنا، وأنتم مَسكنكم هنا، يأتي واحد ثاني من غير هذا المسكن، في اثنين حرَّاس من النَّمل هنا، موجودين عند المدخل، ما الذي أتى بك هنا؟ ما يمكن يدخل، يوقِّفونه على الباب، هذا ما هو مسكنك! الله أكبر!.
وجدوا في مساكن النَّمل، إذا مات الميِّت فيهم مكان يخصِّصون له مقبرة، وسط المسكن داخل، يحملون أي واحدة تموت، يزفّونها، يحطّونها هناك، يدفنونها، محلّ للمقبرة مخصوص! الله الله !
(قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) سبحانه، وهكذا جاء بعض النَّاس ووضع حبَّة كبيرة محلّ التّمر، هنا جاءت النّملة تحاول ما قدرت ذهبت، أتت بعدد كثير من النَّمل معها و هو أبعدها هذه الحبَّة؛ فداروا في نفس المكان ورجعوا وردَّ الحبَّة، وهذه النَّملة رجعت وجدت الحبة! رجعت ثاني مرَّة للقوم، جاؤوا بمجموعة وهو أبعدها، داروا في المكان ورجعوا، ثالث مرة عمل هكذا؛ فرآهم بعد ثالث مرة بعد ما جاؤوا، لم بجدوا شئ، تجمَّعن على هذه التي دلَّتهن، يضربنها! كيف تكذب؟ ما يجوز الكذب حتى عند النمل! حرام.
بل واجب التَّناصح، حتى أشاد الله بنصيحة النَّملة لأخواتها، لتسليم أخواتها من الآفة: (حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ)، انظر تؤدي مهمَّتها وواجبها في المجتمع! (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)، ابتعدوا من الطريق، ماذا هناك؟ (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) وعندها خَبَر عن سليمان والجنود، ومشكلتهم يحطمّونهم إذا مشوا (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:16]، ما هم عالمين بكم، يحطّمونكم، اشردوا منهم
فلمّا تكلَّمت بالرَّحمة لأصحابها وإرادة إنقاذهم، سطَّر الله خبرها في القرآن، قال خذوا انظروا نملة تقول هكذا، ماذا تعملون أنتم؟ أنتم تقتِّلون بعضكم البعض! نملة حافظت على صاحباتها؛ فرفع الله شأنها، وحطّ كلامها وسط القرآن لتكون عبرة لنا! نملة قامت بمحبّة الآخرين وبإنقاذ الآخرين؛ فسيروا في هذا المسار، وأنتم ما تُنقذوا بعضكم البعض؟ وما تراعوا مصالح بعضكم البعض؟
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا)، سيدنا سليمان، (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل:16-17]، وهؤلاء الأنبياء يُطالعون عظمة الله وحكمته في الوجود والخلق ويعلّموننا أنّنا عبيد وآلة تحت حُكمه (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
ثمَّ أنزل سورة سمَّاها سورة النَّمل، وذَكر خبر النَّملة هذه وماذا قالت لقومها، لمَّا حرَصت على جماعتها أن لا يُصيبهم شرّ، شكر الله لها هذا المسعى وأتى بأعظم الكتب النَّازلة من السَّماء ووضع خبر النَّملة فيه وكلام النّملة فيه، سبحانه! فلو صَدَقْتَ في إنقاذ بني آدم وإرشادهم وإسعادهم لرَفعك وحَفِظ لك المكانة -جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه- "الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله".
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)) سبحانه، أنواع وعجائب في مصالح الحيوانات والنَّبات حتّى الحشرات تُذهلك، ترتيب بديع، حركات مُتناسبة، وإنزال كل شيء في منزله، لا إله إلا الله!
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4)) النَّبات من الأرض، من حبوب؛ فصارت خضراء، (أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ) بعد ذلك ييبس، وبعد ذلك يسوَدّ (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) يابس يَصْفّر بعد أن كان أخضر، (أَحْوَىٰ) ييبس يسوَّد، يصير مُسودّ، الله!، يتقلَّب شأنه (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَىٰ (5))، وكم في آيات الله في هذا الوجود (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]، لا إله إلا الله!.
يا ربّ! أكرمنا في رمضان بشرب الكؤوس من تعظيمك وإجلالك ومحبَّتك وتسبيحك وتقديسك وتنزيهك؛ حتّى نخرج وقد ذُقنا حلاوة الإيمان وحلاوة الرَّحمة، يا رحمن! ولذَّة المُناجاة وبَرْد العفو منك والرِّضا؛ اللَّهم إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفو فاعفو عنَّا برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
بسرِ الفاتحة
وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صل عليه وعلى آله وصحبه،
الفاتحة
04 رَمضان 1437