شرح كتاب تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب - 09

للاستماع إلى الدرس

الدرس التاسع للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في كتاب: تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب للشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي ، في مسجد النقشبندي - السبت 25 شوال 1445هـ .

 

نص الدرس مكتوب:

في النبوّات وهي المسائل التي يبحث فيها عمّا يتعلّق بالأنبياء

"3 ـ ويجب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- تبليغ ما أُمروا بتبليغه للناس، وأنهم لم يخفوا على الناس شيئًا من ذلك لا عمدًا ولا نسيانًا على الوجه الذي أُمروا به، من كونه لعموم الناس أو لبعضهم. والدليل على وجوب التبليغ في حقّهم واستحالة ضدّه وهو إخفاء شيء من ذلك عقلاً واضح من دليل الأمانة، لأنهم لو كتموا شيئًا مما أمروا بتبليغه لكانوا خائنين، مع أنهم معصومون من الخيانة، ونقلاً قوله تعالى: (الذِينَ يُبلِّغُونَ رَسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخَشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب: 39]. وقد صرّح القرآن العزيز بكمال التبليغ في حقّ نبيّنا ﷺ قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: 3].

4 - ويجب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- الفَطَانَة؛ أي: التيقظ، ويستحيل عليهم ضدّها وهي: الغفلة والبلادة، والدليل على ذلك عقلاً أنهم إنما أرسلوا لإقامة الحجج على الخصوم وإبطال دعاويهم الباطلة، فلو انتفت عنهم الفَطانة لما قدروا على إقامة حجة على الخصم وذلك باطل، ونقلاً قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ)[الأنعام:83] وقوله تعالى: (وَجَادِلْهُمُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النمل: 125] أي: بالطريق التي هي أحسن، بحيث تشتمل على نوع رفق بهم.

فجُملة الواجبات في حقهم أربعة: 

1 - الصدق.             2 - والأمانة.             3- والتبليغ.             4- الفطانة.

ويستحيل في حقهم أضدادها، وهي أربعة أيضًا:

1 - الكذب.             2- والخيانة.             3- والكتمان.            4 - والبلادة.

وأما الجائز في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- فالأعراض البشرية التي لا تنافي علو رُتبتهم العلية مع الغنى عنها بالله تعالى، 

والدليل على ذلك عقلاً مشاهدة وقوعها بها، ونقلاً قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُون في الأسواق) [الفرقان: 20] يعني وأنت مثلهم في ذلك ونحوه.

فإن قيل ما الفائدة في اتصافهم بهذه الأعراض؟ قلت زيادة قدرهم وعلوّ مرتبتهم وتعظيم أجورهم، ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام "أَشَدُّكُم بَلاءَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأولياء ثم الأمْثَلُ فالأمثل"، رواه الطبراني. وقال: "وإذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرّعه" رواه البيهقي في شعب الإيمان والديلمي في مسند الفردوس. وحصول التسلي بأحوالهم إذا نزل بنا ما نزل بهم، والتنبيه على حقارة الدنيا وخسة قدرها، فإذا نظر العاقل في أحوالهم -عليهم الصلاة والسلام- من أمراض وأسقام وقلة مال وأذيّة الخلق لهم، علمَ أنها لا قدر لها عند الله تعالى فأعرض عنها بقلبه وقالبه، وعلّق قلبه بربه، والإرشاد من الله تعالى إلى أنهم عليهم الصلاة والسلام عَبيده، حتى لا يفتتن الضعفاء بما يظهر على أيديهم من باهر المعجزات، وقولنا التي لا تنافي علو مرتبتهم، احتراز من الأعراض التي تؤدي إلى نقص في حقهم كالعمى والجذام والبرص والجنون ونحو ذلك من المنفرات، وكالأكل على الطريق والحجامة ونحوها من الحرف الدنيئة، والاحتلام الصادر من الشيطان وغير ذلك.

ومما يجب علينا معاشر المكلفين: أن نعرف الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تفصيلاً فيمن علم منهم تفصيلاً، وإجمالاً في غيرهم.

فأما إجمالاً فيجب علينا أن نعتقد أنّ لله تعالى رسلاً وأنبياء ولا يجب التعرّض لمعرفة أسمائهم وعددهم لقوله تعالى: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ من لم نَقْصُض عليك)[غافر:78]. وأما ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر الغفاري أنه قال: قلت لرسول الله ﷺ: كم الأنبياء؟ فقال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً فقلت: وكم الرسل؟ فقال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً" فلا يكفي في الاستدلال هنا؛ لأن خبر الواحد على تقدير اتصافه بالصحة لا يفيد إلا الظن، وهو لا يعتبر في الاعتقَاديات، بل في العمليات.

وأما الذين تجب علينا معرفتهم تفصيلاً: فهم خمسة وعشرون وهم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، ذو الكفل، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، وسيد الكائنات محمد ﷺ وعليهم أجمعين.

 

وأما أولو العزم؛ أي: زيادة الصبر وتحمّل المشاق من غيرهم، فَخمسة مجموعة في قول بعضهم:

محمد إبراهيم موسى کَلِیمَهُ *** فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم"

 

الحمد لله على توالي نِعمه العظيمة وأياديه الفخيمة، ومِننه الجسيمة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خصّنا بحبيبه محمّدٍ صاحب الأخلاق العظيمة، من هدانا إلى الربِّ سبحانه وتعالى بالمناهج القويمة، اللهم أدِم صلواتك وتسليماتك على أكرم خلقك عليك، وأعلاهم منزلةً لديك، سيدنا المجتبى المختار سيدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الأطهار، وأصحابه الخيّرين الأبرار، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان على ممرّ الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأسرار والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلى عبدك سيدنا بهاء الدين محمد النقشبندي وأصوله وفروعهم، وعلى والدينا ومشايخنا وذوي الحقوق علينا، وعلى المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعدُ،،،

فإننا في قراءتنا لأوائل كتاب (تنوير القلوب في معاملة علّام الغيوب) للشيخ العلامة الشيخ محمد أمين الكردي الإربيلي النقشبندي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- قد مررْنا على ذكر الصفات الواجبة في حق إلهنا وربّنا وسيدنا وخالقنا تعالى، والمستحيلة والجائزة، وابتدأ يذكّرنا بأحوال الأنبياء والمرسلين وما يجب لهم من صفات، وذكر من الصفات الواجبة في حقّهم عليهم الصلاة والسلام: الصدق والأمانة، وهاهو يذكر لنا الصفة الثالثة الواجبة في حق كل نبيٍّ ورسولٍ أُرسل إلى أحدٍ من الخلق، وقد كان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصّة، حتى جاء نبيّنا المصطفى محمّد فبُعث إلى الخلق كافة، وكلٌّ منهم بلّغ فأحسن البلاغ وأدّى الأمانة، عليهم صلوات الله وتسليماته.

قال: "3 ـ ويجب في حقهم -عليهم الصلاة والسلام- تبليغ ما أُمروا بتبليغه للناس، وأنهم لم يخفوا على الناس شيئًا من ذلك لا عمدًا ولا نسيانًا على الوجه الذي أُمروا به، من كونه لعموم الناس أو لبعضهم"

فبلّغوا كلّا بحسب ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- لعموم من أُرسلوا إليهم، ولخصوص من أُرسلوا إليهم؛ كما خصّ ﷺ كثيرًا من المعارف واللطائف والشؤون بسيدنا أبا بكر الصديق والسابقين الأولين، وسيدنا حذيفة بن اليمان خصّه بسرّ علم المنافقين، وسيدنا عليّ ابن أبي طالب؛ الذي قال عنه: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها".

ولكن ما أُمر بتبليغه لعموم الأمة فقد بلّغه ﷺ على العموم وأدّاه على التمام والكمال -صلوات ربي وسلامه عليه- قال الله له: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ..) [المائدة:67]؛ وكل ذلك واجبٌ من حيث اختيار الحقّ تبارك وتعالى لأنبيائه ورسله وتأييدهم بالمعجزات فلا يُعقل بعد ذلك قطّ أن يكون هذا الذي اختاره الله واصطفاه وائتمنه على الرسالة كاتمًا لشيءٍ أمَره أن يبلّغه، أو مُخْفيًا لشيءٍ أمره أن يُظهره للخلائق، فذلك يتناقض مع اختيار الله، ويتناقض مع اصطفاء الله، ويتناقض مع أداء المهمة التي اختاره الله تبارك وتعالى لها؛ فذلك مستحيلٌ في حقّهم أن يكتموا شيئًا أمرهم الله بتبليغه، أو يخفوا شيئًا أمرهم الله تعالى بإظهاره، صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد علِمْنا أن هناك أمور مخصوصة يخصّون بها من شاء الله تعالى من أُممهم، ثمّ إنّ للأنبياء اطّلاعات ومعارف لا يطّلع غيرهم عليها صلوات الله وسلامه عليهم. وقال الحق فيما يتعلّق بتبليغهم: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) [الجن:26-27]؛ أي: يجعل له رصدًا من الملائكة من بين يديه ومن خلفه عند نزول الوحي والبلاغ؛ حتى يؤدي الأمر كما هو، (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:28] جلّ جلاله. 

(لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ..) حتى يؤدوا الرسالة ويبلّغوها كما أراد سبحانه وتعالى، محفوظين، محروسين، مؤيدين بالملائكة في ذلك البلاغ، من بين أيديهم ومن خلفهم؛ يجعل لهم الرصد من الملائكة يمنعون أن يختلط كلامهم بأي كلام، أو أن يقرب منهم أي جنّي أو أي شيطان ليزيد أو ينقص، (لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:28] صلوات الله وسلامه عليهم.

ومع ذلك كلّه، فشؤون هذا التبليغ قائمة على وجه الكمال، وساريةٌ أسرارها على مدى الأيام والليال، يشير إليه قوله ﷺ: "بلّغوا عنّي ولو آية"؛ فقائمٌ البلاغ منه، وقائمٌ البلاغ عنه به ﷺ، "فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع"؛ أي: فيكون قد حشا ﷺ وجعل فيما بلّغه معانٍ لمختلف هذه الأمّة في درجاتها المختلفة على مدى القرون، فهي مكنونة فيما بلّغ، وفيما قال، فيتلقّفها بعض من يتلقّفها في القرن الأول أو الثاني أو الثالث، فيصِلُ شيءٌ ممّا أبطنه ﷺ في الكلام إلى صاحبه من أمّته في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس… على توالي القرون؛ "فربّ مبلّغٍ أوعى من سامع"، في رواية: "أوعى لها من سامع".

وهكذا يقول العارفون: وقد ترتفع الوسائط؛ فعندما يُبلَّغ هذا الذي خُصّ بالفهم والمعنى تتّصل روحه بالجناب الشريف فيأتيه البلاغ فيما حُشيَ في هذا الكلام، أو فيما أُبطن في هذا المقال، فيفهمه ويتلقاه عن رسول الله ﷺ، كما حصل التلقّي في المنام وفي اليقظة لكثير من أولياء هذه الأمة وصلحائها عنه ﷺ.

فشؤون بلاغه مع كونها كاملةً تامّةً في عالم الحِسّ والظاهر في تبليغ كل ما تحتاجه الأمة، فهي أيضًا بمعنوياتها وروحانياتها قائمةٌ في هذه الأمة على مدى القرون؛ نظير ما جعل الله من سِرّ قراءته عليه الصلاة والسلام، وتيسير القرآن بقراءته، وهو أعظم ما بلّغنا عن الله، هذا القرآن وأسراره، وفيه يقول أيضًا سيدنا علي: "إلا فهما يُؤتاه أحدنا في كتاب الله" -جلّ جلاله وتعالى في علاه- فهو من بلاغ المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو قارئه علينا على مدى القرون، وحينما نسمعه بالواسطة ممّن تلقّى القرآن عن شيوخه بِسندهم إلى رسول الله ﷺ، فإنه يبطن في ذلك سرّ قراءته، فإنه لم يتيسّر لنا القرآن إلا بلسانه؛ (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوْمًا لُّدًّا) [مريم:97]، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَٰهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان:58].

فهذا اللسان النبوي يصِل أثره عندما تسمع الآية من آخذها بالسّند، أو عندما يردّد آخذها لها في معانيها الواسعة، فقد كان سيدنا عمر بن الخطاب يردّد الآية وهو يُصلي مرارًا حتى ربما سقط ممّا يُنازله من أسرارها ومعانيها، وأُغشيَ عليه، وربما أُخذ إلى البيت، وقد يبقى أيامًا يُعاد في البيت من آثار آيةٍ في كتاب الله سبحانه وتعالى.

ولمّا كرّر سيدنا جعفر الصادق -عليه رضوان الله- آية، فلم يزل يكررها حتى أغميَ عليه، ثم سُئل بعد ذلك، قال: ما زلت أكرّرها حتى سمعتها من المتكلّم بها -جلّ جلاله وتعالى في علاه- ولا شك أن ذلك بواسطة الروحانية النبوية، وما أُنزل على رسول الله ﷺ وهو من معاني قوله: (..لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ..) [الإسراء:106]؛ تقرأ هذا القرآن على مكثٍ، ما دامت الأمة عليه، فأنت قارئٌ لهذا القرآن فيمن يتلقّى ممّن ترقّى وتنقّى واتصل بسرِّ الوحي الذي أُنزل عليك من خاصّة أمتك، فهو قارئه بيننا، لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، فنِعم التالي ونعم القارئ -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.

 وهذه وسائط،،

  • إما مقتصرة على جانب الظاهر فيما نسمعه من الألفاظ ونتأمّله من المعاني.
  • وإما منبسطةً ومترقيةً إلى ما هو أجلّ وأكمل في الاتصال الروحاني بصاحب المثاني؛ من أُنزلت عليه المثاني؛ صاحب الشرف العدناني محمّد بن عبد الله ﷺ.

فنِعم المبلّغ هو، وما بلّغ المقرّبون والصدّيقون والعارفون معاني السلوك إلى الله، وتزكية النفس عن هواها وعن معايبها؛ إلا في نيابةً كاملةً عنه، فبلاغه سارٍ في مظاهر الأصفياء والأتقياء من الصحابة، ثم من التابعين، ثم من تابعي التابعين فمَن بعدهم… على ممرّ القرون. وبذلك نرى أمثال هذه الآثار لهؤلاء الأكابر -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- وما بقي من شؤون بلاغهم عن الله في النيابة عن محمّد بن عبدالله -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

يقول: لا يُمكنهم كتم ذلك لا عمدًا، ويحميهم الله تعالى أن ينسوا شيئًا ممّا أُمروا بتبليغه؛ لكونهم محل الأمانة من قِبله والاختيار، "والدليل على وجوب التبليغ في حقّهم واستحالة ضدّه وهو إخفاء شيء من ذلك عقلاً واضح من دليل الأمانة، لأنهم لو كتموا شيئًا مما أمروا بتبليغه لكانوا خائنين، مع أنهم معصومون من الخيانة" مع أنهم معصومون من الخيانة، "ونقلاً قوله تعالى: (الذِينَ يُبلِّغُونَ رَسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخَشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب: 39]. وقد صرّح القرآن العزيز بكمال التبليغ في حقّ نبيّنا ﷺ قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة:3]"، فبلّغوا وأحسنوا البلاغ -صلوات الله وسلامه عليهم- وفي هذا يأتي من يخْلفهم؛ فيُحسنون البلاغ للأمة عامة ولخاصّتهم خاصّة، فيما انتهى إليهم من آثار بَلاغه وعِلمه ﷺ،

  • والمؤمن الذي يمتلئ قلبه بتعظيم الله، وتعظيم شريعته
  • ثم يحرص على البلاغ، ويحرص على النصيحة؛

يتهيأ لأن يَرِثَ من أسرار البلاغ الروحاني والمعنويّ نصيبًا؛ إذا قام بحقّ النصيحة، وحق البلاغ، فيما برز، وفيما ظهر له ممّا وصل إليه من أخبار المصطفى ﷺ، وما بلّغه عن الله تعالى، جعلنا الله وإياكم ممّن يقوم بحقّ هذه الأمانة حق القيام، حتى يرفعنا إلى أعلى مقام.

قال: "ويجب في حقهم عليهم الصلاة والسلام"، الصفة الرابعة في حق الأنبياء "الفَطَانَة أي التيقظ" يعني أن الله يختار من الأنبياء أكمَل الناس عقولاً، وأوفرهم حظًّا من المعارف والمدارك؛ وهذا اللائق بجلال الله تبارك وتعالى؛ إذ هو الذي يُقسّم العقول على العباد، وجعل هذه العقول أهم وأعظم ما يُوصَل به إليه، أو يُفهَم به أسرار خطابه -جلّ جلاله- فلا يمكن أن يخصّ بعقلٍ، أحدًا دون الأنبياء بأكثر مما يَهَبُ أنبيائه الذين اختارهم للبلاغ عنه؛ فهم أيقظ الناس وأنبههم وأعظمهم ذكاءً وفطنةً وتيقظًا للمعاني، وبذلك أيضًا يؤدون الواجب في إلزام الخصم بالحجة، وإيضاح الدليل والبرهان لكل مستبصر، ولكل مسترشد، بقوّة عقولهم، وما آتاهم الله من قوّة الإدراك واليقظة والفطنة، فكلّ الأنبياء ذوي فطنة، وإن كان أعلى ما يُتقرّب به إلى الله هو العقل والوعي عن الله -تبارك وتعالى- لأسرار وحيه؛ فهؤلاء هم محل الوحي فهم أعقل الخلق لخطاب الحق -جلّ جلاله- وهم أنبه الناس وأحسنهم يقظةً وإدراكًا للأشياء والحقائق.

قال: "ويستحيل عليهم ضدّه، وهي الغفلة والبلادة، والدليل على ذلك عقلاً أنهم إنما أرسلوا لإقامة الحجج على الخصوم وإبطال دعاويهم الباطلة، فلو انتفت عنهم الفَطانة لما قدروا على إقامة حجة على الخصم وذلك باطل. ونقلاً قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ..)[الأنعام:83] وقوله تعالى: (وَجَادِلْهُمُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) [النمل: 125] أي: بالطريق التي هي أحسن، بحيث تشتمل على نوع رفق بهم" وقد فعل ذلك ﷺ.

وهكذا قال سيدنا إبراهيم للنمرود: ربّي الذي يحيي ويميت، ولم يفهم عُمق المعنى فيما يخاطب سيدنا إبراهيم به أمّته، فقال النمرود: وأنا أحيي وأميت! كيف تحيي وتُميت؟ جاء باثنين؛ قتل أحدهما، وترك الآخر.. قال أحييتُ هذا! يعني أبقيت حياته، ما أحييته بعد الموت!! ولكن هذا مبلغ تصوّره أنه يحيي ويميت، وقتل الثاني! فجاءه مباشرة سيدنا إبراهيم بآيةٍ واضحة أمامه لا يقدر على أن يقول فيها شيء، قال له: (..فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ..)؛  ربي الذي أعبده وأدعوك إليه هو الذي يطلع بالشمس كل يوم من جهة من المشرق، فإن كان عندك ألوهية فأتِ بها من المغرب، ما قدر يقول شيء (..فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258].

 وهكذا شأن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- في حججهم، فهم أعقل الناس. وجاء في بعض الأخبار: أن الله لمّا خلق العقل جزّأه مئة جزءًا؛ فجعل منه جزءًا لعموم خلقه من الملائكة والنبيين ومن سواهم من الناس، وأوفر الخلق حظًّا من ذلك أنبياء الله ورُسله، وجعل التسعة والتسعين لسيّدهم المؤتمن على الشفاعة العظمى، والمقام المحمود، المرسل إلى الخلق كافّة، محمد زين الوجود ﷺ.

 ومع ذلك كله، وكونه أعقل الناس وأوعاهم لخطاب الله تبارك وتعالى، أمره أن يشاور من حواليه من الصحابة ليسنّ ويشرّع لأمته، وقال: (..وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ..) [آل عمران:159]، فلو كان ذو عقلٍ مستغنٍ عن المشاورة لكان زين الوجود أولى بذلك ﷺ، ولذلك قال بعض الصحابة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله ﷺ. 

 قال: "فجُملة الواجبات في حقهم أربعة : 

1 - الصدق.             2 - والأمانة.             3- والتبليغ.             4- الفطانة."

أرسل أنبياء ذوي فطانة *** بالصدق والتبليغ والأمانة

 

"ويستحيل في حقهم أضدادها وهي أربعة أيضًا:

11 - الكذب.             2- والخيانة.             3- والكتمان.            4 - والبلادة." 

صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أعقل الخلائق.

"وأما الجائز في حقهم عليهم الصلاة والسلام، فالأعراض البشرية التي لا تنافي علو رُتبتهم العلية مع الغنى عنها بالله تعالى"، فَأعراض البشر يُجريها الله على أنبيائه، وهم خاصّته من الخلائق يُجري عليهم الأعراض البشرية؛ من طعامٍ وشرابٍ، ومنامٍ، وقضاء حاجة الإنسان، ومن صحةٍ ومن مرضٍ، وأمثال ذلك.. بل قد يشتدّ المرض على كثيرٍ من الأنبياء ومن المقرّبين، وقال سيّدهم: "إنّي أوعك" -يعني: بالحمّى- "إني أوعك كما يُوعك الرجلان منكم"؛ -مثل وعكة الاثنين تجيء له واحدة ﷺ- قال له بعض الصحابة: ذلك أن لك أجرين يا رسول الله؟ قال: أجل! ﷺ. ولمّا قالت السيدة عائشة: وارأساه! قال: "بل أنا وارأساه!"؛ يعني: الوجع الذي برأسي من الصداع أشد من الذي في رأسك -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهكذا أكثر الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، صلوات الله وسلامه عليهم.

 قال: يجوز في حقهم الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية ولا تنافي علوّ مراتبهم كالمرض والجوع والفقر والأكل والشرب والنوم، إلا أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، هكذا الأنبياء، فبهذا لا ينتقض وضوء أحد من الأنبياء بالنوم؛ لأنه لا تنام قلوبهم، بخلاف غيرهم  فإنه مهما بلغ من اليقظة -وإن ورث حالاً في هذا فأنه لو نام في غير المتمكن أو الهيئات التي استثناها المجتهدون من الأئمة عليهم رضوان الله أنه لا ينتقض بها النوم- فإنه ينتقض وضوء أي أحد من غير الأنبياء، نام بتلك الكيفيات التي قال أئمة الاجتهاد من علماء الشريعة أنها ناقضة للوضوء.

 وقال: "ولا تنام قلوبهم" وقال: "والدليل على ذلك عقلاً مشاهدة وقوعها بها ونقلاً قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُون في الأسواق) [الفرقان: 20] يعني وأنت مثلهم في ذلك" فَرَدَّ عَلى الكفار الذين قالوا: (مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشِي فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ) [الفرقان:7]، فجميع الاعراض البشرية التي لا تؤدي لنقص في مراتبهم، الذي يؤدي إلى نقص هو الذي يمنعهم من حسن البلاغ والأداء أو شيء تنفر منه الطباع، فيقصِّرون عن حسن البلاغ والأداء، كمثل: برص أو جذام مما تنفر منه الطباع السليمة  فلا يكون لأحد من الأنبياء شيء من ذلك، ومثل العمى كذلك، فلا يكون نبي أعمى. 

  • وما طلع من الغشاوة على عين سيدنا يعقوب عليه السلام فإنما كان ذلك من الحزن الذي تغشَّاه ورُفع عنه بمجرد أن شمّ رائحة يوسف وألقي قميصه عليه -عليه صلوات الله وتسليماته (ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا وَأۡتُونِي بِأَهۡلِكُمۡ أَجۡمَعِينَ) [يوسف:93]. (وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيمٞ) [يوسف:84]؛ فكان ذلك من اثر ما تغشى العين مع صحّةِ البصر في حد ذاته ورفُعت هذه الغشاوة بمجرّد إرسال هذه الخرقة من سيدنا يوسف عليه السلام لأبيه. 

في هذا أيضاً فقه الأنبياء لحِكم الله -سبحانه وتعالى- في أسرار أخذ هذه الأسباب والأمور المعنوية، وكان يمكن كما يتسنّى لعقول بعض الغافلين من المسلمين المدّعين منهم أن يقول: يدعو الله له وهو محلّه، او هو بنفسه يعقوب يدعو الله تعالى، أمّا إنهم يحملون قميص وخرقة من بلاد إلى بلاد ويضعونها فوق الوجه هذا إلا عمل الصوفية! كيف هذا؟ لماذا هذا كله وانتم تقولون: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ) [غافر:60]؟ حتى فدعْ يوسف مكانه، يدعو من دون ما يرسل شيء، او هو يعقوب هناك يدعو بنفسه من دون مايرسل شيء، لكن هؤلاء أنبياء (ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا) وبعد ذلك تمسّح به! (فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي) فإذاً الأنبياء صوفية! هذا شأن الأنبياء وهذه طريقتهم وهذا طريق من تبعهم (ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي) [يوسف:93].

والعجيب محاولة بعضهم أنّه يقول: عرَق الانسان له تأثير على العين وكذا، والعجيب إن العرق غير موجود  في فلسطين! ولا شيء موجود عند سيدنا يعقوب! وهو لا يعرق  وأولاده الآخرين لا يعرقون؟! لا أحد إلا يوسف وحده يعرق؟! ويجي بعرقه! وهات لنا واحد تغشَّى بصره غشاوة، وهات عرقك لنرى، ماذا يعمل؟ ضعه فوقه! (ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي) [يوسف:93]؛ الأمر بركة، الأمر معنوي، الأمر نور، الأمر سر، الأمر صلة بالرحمن، ليس عرق إنسان، ايش عرق إنسان! 

وقال سبحانه وتعالى في بيان هذه الآيات وهذه المعجزات أنه: (لَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ) يعني خرجت من مصر، وبينه وبين فلسطين مدة، شمَّ الريح سيدنا يعقوب (وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلۡعِيرُ قَالَ أَبُوهُمۡ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ) [يوسف:94]،  قد تقولون إن هذا ذهب حسّه من قوة ولَعهِ بيوسف، وتقولون أصابه جنون، أنا أقول لكم شممتُ ريح يوسف، (قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ) يعني شغف قلبك القديم، المحبة القوية يقال لها ضلال، قوة الشغف والتعلق بالأمر، (قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ) يعني عشقك ليوسف جعلك تشمّ كل شيء أمامك، ماتعرف إلا يوسف (قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَٰلِكَ ٱلۡقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِـِٔينَ قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ) [يوسف:95-98]. قال: فأخّرهم إلى الليل، فكان آخر الليل يستغفر لهم، وكانت ليلة جمعة، وكانت ليلة عاشوراء، فاستغفر لهم ابوهم عليه السلام، ثم وردوا كلهم على يوسف. 

وابتلي يوسف بوضعه في البئر، وابتلي بسجنه؛ كل هذا جائز في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وفيهم من سُلِّط عليهم بعض الكفار فقتلهم، وفيهم من رُمي بالحجارة حتى سيدهم ﷺ ووضع السلا على ظهره وكلها أعراض بشرية، سبحانه صاحب الحكمة العلية الجبار الأعلى -جل جلاله- الذي أظهر سرّ العبودية في كل ملك وفي كل نبي وفي كل أجزاء الوجود كلها خلق له في العبودية له ثم يخصهم بعد ذلك بالخصائص الكبيرة ويميزهم بالمميزات العظيمة سبحانه وتعالى.

وَأَيْنَ فِرَارُ النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسْلِ، كما يقول الشاعر الصحابي لسيدنا رسول الله ﷺ.

"ما الفائدة في اتصافهم بهذه الأعراض؟ قلت زيادة قدرهم وعلو مرتبتهم وتعظيم أجورهم، ويشهد لهذا قوله عليه الصلاة والسلام "أَشَدُّكُم بَلاءَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأولياء ثم الأمْثَلُ فالأمثل" رواه الطبراني. وقال : "وإذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه" البيهقي في شعب الإيمان والديلمي في مسند الفردوس. وحصول التسلي بأحوالهم إذا نزل بنا ما نزل بهم والتنبيه على حقارة الدنيا وخسة" -هذا الحكم في جري الأعراض هذا عليهم صلوات الله عليهم- "فإذا نظر العاقل في أحوالهم عليهم الصلاة والسلام من أمراض واسقام وقلة مال وأذية الخلق لهم، علم أنها لا قدر لها عند الله تعالى فأعرض عنها بقلبه وقالبه، وعلق قلبه بربه والإرشاد من الله تعالى إلى أنهم عليهم الصلاة والسلام عَبيده، حتى لا يفتتن الضعفاء بما يظهر على أيديهم من باهر المعجزات وقولنا التي لا تنافي علو مرتبتهم، احتراز من الأعراض التي تؤدي إلى نقص في حقهم كالعمى والجذام والبرص والجنون ونحو ذلك من المنفرات، وكالأكل على الطريق والحجامة ونحوها من الحرف الدنيئة، والاحتلام الصادر من الشيطان وغير ذلك" 

قال: فالاحتلام برؤيا يراها النائم، لا يكون هذا للأنبياء، والاحتلام بمجرد امتلاء الأوعية وخروج المني بلا رؤيا لا يستحيل في حق الأنبياء، لايستحيل في حق الانبياء خروج المني لهم في نوم احدهم من دون رؤيا، ولكن بإمتلاء الأوعية بالمني فيخرج المني من دون رؤيا، وهذا قد يحصل لغير الأنبياء من دون رؤيا، أما الاحتلام برؤيا فمستحيل على الأنبياء صلوات وسلامه عليهم، لأنه لا مجال للشيطان للتلاعب عليهم ولا لإظهار شيء، وقد قالوا كما حكى الإمام زروق: أن احتلام الإنسان، إن كان:

  •  بصورة محرّمة في الشرع، فهذه عقوبة تعجّلت له، عقوبة على خواطر وعلى نظر كان منه في عالم اليقظة، ويأتيه الرؤيا بالحرام في المنام 
  • وان كان بصورة حلال، وهو أن  يرى أهله وزوجته فإن ذلك كرامة من الكرامات 
  • وإن كان بغير صورة فهي نعمة من النعم وهي غير مستحيلة فحتى على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وهكذا قالوا في هذه المعاني: أنه: 

من يحتلم بصورة شرعية*** فإنها كرامة مرضية

 وإن يكن بصورة قد حرّمت*** فإنها عقوبة قد تعجّلت

 أو بدون صورة  فتلك نعمة *** حكاه زروق عليه الرحمة

وهكذا الأعراض البشرية ما لا يتناقض مع الكمال وشأن البلاغ للأنبياء جائز على الأنبياء ، وما تناقض مع الكمال فهو مستحيل عليهم صلوات الله وسلامه عليهم.

ومما يجب علينا معاشر المُكلَّفين "أن نعرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفصيلاً فيمن علم منهم تفصيلاً وإجمالاً في غيرهم، فأما إجمالاً فيجب علينا أن نعتقد أن لله تعالى رسلاً وأنبياء ولا يجب التعرض لمعرفة أسمائهم وعددهم "، ولكن نؤمن أيماناً قطعياً بكل رسول أرسله الله وبكل نبي ابتعثه الله ونبأه الله تعالى فنؤمن بهم جميعا على الإجمال ويكفينا ذاك، لكن فيمن مذكورة أسماءهم في القرآن وهم خمسة وعشرين، يجب علينا أن نؤمن بهم تفصيلًا، أي نؤمن أن فيمن أرسل الله رجل يقال له آدم، أن ممن أرسل الله رجل يقال له نوح، أن ممن أرسل الله رجل يقال له إبراهيم، إن ممن ارسل الله رجل يقال له هود، فيعلم أن هود نبي وأن صالح نبي وهذا الإيمان التفصيلي في الأسماء المذكورة في القرآن وهم خمسة وعشرون ذكرهم الله تبارك وتعالى في صفحة واحدة، ذكر منهم ثمانية عشر في قوله تعالى: (وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ * وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) [الأنعام:83-86]. 

ثمانية عشر ذكرهم في صفحة واحدة في القرآن، بقي من الخمسة والعشرين سبعة، وهم آدم عليه السلام، من ماذا ذكر في القرآن سيدنا هود وسيدنا شعيب وسيدنا ذو الكفل، وسيدنا محمد -صلى الله وبارك عليه وعلى آله- من غير المذكورين في هذه الآية ويبقى سبعة وهم: هود وصالح وآدم وذا الكفل وإدريس وسيدنا محمد ﷺ وشعيب؛ سبعة هؤلاء كمال الخمسة والعشرين، هم المذكورون في القرآن الكريم صلوات الله وسلامه عليهم.

 يقول:"لقوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ من لم نَقْصُض عليك)[غافر : 78]".  

وأما ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر الغفاري أنه قال: قلت لرسول الله ﷺ: كم الأنبياء؟ فقال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً فقلت: وكم الرسل؟ فقال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً" فلا يكفي في الاستدلال هنا؛ لأن خبر الواحد على تقدير اتصافه بالصحة لا يفيد إلا الظن، وهو لا يعتبر في الاعتقَاديات، بل في العمليات.

اذاً فالصحيح عدم حصرهم لهذه الآية ونقول نعم آمنا لكن قد يكونوا أكثر من هذا العدد وهو الذي ذكره رسول اللهِ لهذا الصحابي، فإذاً لا يمكن أن نحصرهم، فلو كانوا أكثر من ذلك لكنا كذّبنا باللذين زادوا على ذلك، و لهذا أن نقول آمنّا بكل رسول أرسله الله وبكل نبي أوحى الله إليه آمنّا بهم أجمعين. وإن جاء في الأثر أنهم "مائة ألف وأربعة وعشرون ألف" فلا يناقض أن يكونوا أكثر من ذلك، وأن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر بل وقيل أنه وأربعة عشر وقيل وخمسة عشر. إذاً فآمنا بكل رسول ارسله الله وبكل كتاب أنزله الله. 

وأما الذين تجب علينا معرفتهم تفصيلاً : فهم خمسة وعشرون وهم: آدم، إدريس، نوح، هود، صالح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، ذو الكفل، داود، سليمان، إلياس، اليسع، يونس، زكريا، يحيى، عيسى، وسيد الكائنات محمد ﷺ وعليهم أجمعين، وأما أولو العزم أي زيادة الصبر وتحمل المشاق من غيرهم فَخمسة مجموعة في قول بعضهم: 

محمد إبراهيم موسى کَلِیمَهُ *** فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم" 

هم في الفضل على هذا الترتيب، قال المحقق الأمير في حواشيه على "الجوهرة"  بعد ما عدّ من يجب الإيمان بهم تفصيلاً من الأنبياء: أما نحو "اليسع" فأكثر العامة يجهلون اسمه فضلاً عن رسالته، فالظاهر أنه كغيره من المتواتر لا يعد الجهل به كفراً إلا بعناد بعد التعليم في حق العوام وهو تحقيق نفيس، فاعرفه.

فمن عُلِّم من العامة أن "اليسع" احد الرسل ثم أنكر فقد كفر، اما من قبل أن يُعَلَّم شيء من ذلك -ما كان يعلم- قال: فالعامة مغتفر لهم وأما خاصة المسلمين ممن قرأ القرآن فلا يعذر بأن يعرف هذه الأسماء كما جاء بها القرآن الكريم، صلوات الله وسلامه عليهم ورزقنا محبتهم ومتابعتهم وحشرنا في زمرتهم. 

اللهم كما خصصتهم بالرسالة والنبوة وجعلتهم سادة أهل الصدق والفتوة، صلِّ عليهم وعلى سيدهم سيدنا محمد وعلى جميع آلهم واصحابهم وتابعيهم وألحقنا بركبهم، وادخلنا في حزبهم واحشرنا في زمرتهم ولاتفرّق بيننا وبينهم، فإنّنا آمنّا بهم وصدّقنا بماجاؤا به عنك. آمنا بهم ولم نرهم، اللهم فاكتبنا في خواص أعجب الخلق إيمانا، واجمعنا بهم في الدرجات العلية مع خيار البرية وأنت راضٍ عنّا ياحي ياقيوم يا أرحم الراحمين، وزدنا زيادات وأسعدنا سعادات، واختم لنا بأكمل حسن الخاتمات أنّك قريب مجيب الدعوات. 

 

بسر الفاتحة 

إلى حضرة النبي محمد ﷺ 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

27 شوّال 1445

تاريخ النشر الميلادي

05 مايو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام