(229)
(536)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على هذه الإرسالات والعطاءات والتوجيهات والمنن من رب البريات، التي انفتحت لنا أبوابها بحبيبه الهادي الذي ختم الله به الرسالات، ورفعنا به عليَّ الدرجات وجعلنا به خير أمة، فيا رب أتمم علينا النعمة، وتتلقون دعوةً بعد دعوة في كل مجلس تحضرونه وكل ساعة من ساعات التعرُّض لنفحات الله تعالى في جماعة تقيمونها، أو في قراءة تجتمعون على تلاوة القرآن فيها، أو على مجلس ذكرٍ تعقدونه، أو على زيارة رحِم، أو على إحسانٍ إلى والدين أو إلى جيران، إلى غير ذلكم.
كلها دعواتٌ من الرحمن تلبونها، ثم يتسعُ المجال إذا اجتمعت فيها معانٍ من الذكر من العلم من التلاوة من الدعاء من التوجه من الموعظة من التذكر من ليلة جمعة إلى غير ذلك، كما جمع الله لكم محاسنَ في هذه الجمعية وفي هذا الحضور، جعلنا الله وإياكم ممن يحسن التلقي لفائضات الجود الذي يجود به على من استجاب لدعوته جل جلاله، فيزوِّده حيث يستجيب، (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيزودهم ويجود عليهم سبحانه وتعالى.
ويأتي تنويرُ البصائر، ويأتي صفاءُ السرائر، ويأتي غفرُ الذنوب والجرائر، وهكذا يقول مولانا في الحديث القدسي ( أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم) إلى غير ذلك من المنافع التي حُدِّثتم عنها، ومنها أن ينفتح باب في المحبة إما لمن كان حظه من المحبة قليل أو لم يكن له عنده حظ أو كان حظه كبير، فينفتح له باب أكبر من الحظ الذي كان معه والمَقام الذي كان فيه والقدر الذي قد حصل له، لِمَ؟ لأن هذا الإله الأكبر الحي القيوم الباري، خزائنُه لا تنفد وعطاياه تؤبّد، لا غاية لها ولا انتهاء، فإذا تعلّقتَ بها رأيتَ العجب العجاب وتعجبتَ في من اغترَّ بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها كيف لا يملّ من الطلب ويزداد عنده الرغب ويزداد عنده الجشع والطمع شيئاً فشيئاً حتى يجمع ما لا ينفقه بل ربما كان من أجشع الناس وأشدهم طمع أوسعهم مالاً وأكثرهم تحصيلاً لهذا المتاع، مع أنهم يتيقنون أنهم يزولون عنه ويزول عنهم، ويُفرَّق بينه وبينهم، ولا يبقى لهم منه شيء، تتعجب في هؤلاء إلى الحد الذي ذكره صلى الله عليه وسلم (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثان، ولو كان معه ثانٍ لابتغى إليه ثالث، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)
ثم قارن بين اثنين، طالب لهذا المتاع والمال الذي يفنى، وطالب للعلم الذي ينفع ويقرِّب ويرفع الحجب ويفهِّم حقائقَ الأحكام ويقيم الإنسان مقام الصدق والإحكام، والرابطة بالملك العلام، فقال ( منهومان لا يشبعان: منهوم مال، ومنهوم علم) منهوم المال لا يشبع ولا يزال..
وهذا الحال الذي ترونه اليوم وتتيقنون أن من الأموال والممتلكات على ظهر الأرض ما لو أُنصف فيه بحكم الإنسانية وحدها والفطرة وحدها، لردّ هذا على هذا ولم يبقَ على ظهر الأرض مُحتاج ولا فقير ولا مَن يموت من الشدة، ولا من يشتد عليه الجوع، ولكن مع ذلك نرى تسابقاً عند أهل الأموال الكثيرة الكبيرة، وعقداً مشاريع بعد مشاريع وتفرُّجاً على من تشتد عليه المجاعة وعلى تشتد عليه الأزمات، تفرج وضحك عليهم، هذا في زمن التطور والتقدم، كما يقولون لتعلموا أن الشعارات المنشورة شعارات كذب، ولو كان أولو الأمر وكما يسمونهم في لغتهم صنّاع القرار على صدقٍ مع إنسانيتهم، لكان الحال غير الحال.
وكان أهلُ الصدق المستجيبون قائمين بأمر الله في ما تحت أيديهم وفي ما يلزمهم، وحال أحدهم كما كان ذلك العارف بالله سيدنا أويس القرني من سادة التابعين، يتصدّق بما معه ويمضي إلى بيته، فيقول "يارب مَن مات جوعاً لا تؤاخذني به" ما في بيتي شيء، "من مات ظمأ فلا تؤاخذني به، من مات عارياً لا تؤاخذني به" ما معي إلا ثيابي هذه، وما بقي عندي في بيتي شيء.. فأدى ما بينه وبين الله في ما يملكه وفي ما تحت يديه.
ويبقى رجال الصدق كذلك في كل زمان، في ما يدخل تحت أيديهم وفي ما يملكونه يقيمون أمرَ الله في لأن الصدق معدنُه واحد، مِن حضرة الرحمن أرسل لنا بالصدق واحد ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) اللهم اجعلنا ممن به صدَّق، (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) وما الجزاء عندما يبذلون ما في وسعهم؟ أن يفتح عليهم وسعه الذي لا حد له (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ)، (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ* لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ)، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)
وكم تخويف بالذين من دونه اليوم سرى إلى قلوب إخواننا أهل الملة، الله يخلصهم من هذا، الله يعافيهم من هذا، الله يطهِّرهم من هذا، خوفوهم ممَّن دونه، سبحانه وتعالى، (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) وليس بيد مَن دونه شيء! ولكنها ابتلاءات يبتلي اللهُ بها من يشاء، وإلا قد أعطانا أمراً صريحاً قال (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ)، (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فإن خفتموني أمَّنتكم دنيا وآخرة، ومن يكابر الجبار الأعلى جل جلاله؟ ومن ذا يقدر على أن يهتك سترَه؟ أو يهدم حِماه؟ سبحانه وتعالى.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجو أحداً غيرك، واشفِ قلوب إخواننا المسلمين من مرض الخوف ممن دونك، الخوف من الذين دونك، أحيانا يخوِّفونهم بالأسلحة، وأحيانا يخوفونهم بالحرب، وأحيانا يخوفونهم بالفقر، وأحيانا يخوفونهم بقطعِ المواد عليهم، وأحيانا يخوِّفونهم بالوظائف وإلى غير ذلك من التخويفات (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) والعياذ بالله تعالى.
ويردِّد أرباب ذكر الله من المؤمنين: ( بسم الله آمنا بالله، ومن يؤمن بالله لا خوفٌ عليه ) فآمِن به وحقِّق الإيمان ولا تخَف (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا)، إيمان وعمل صالح ولا خوف! لا خوف ما هو في الدنيا بس، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
في الأيام الماضية، قبل العشرات القريبة من السنين لما كان أهل قوى مادية يخوِّفون أكثر أهل الأرض كانوا، قوى روسيا قبل انهزاماتها الأخيرة، التي مرت عليها وكانت عبرةً للمعتبرين، ولما قاتلوا جماعات في أفغانستان كان منهم مَن لا يملك بندقية ولا مسدس، قابلوا أعتى التطورات في الأسلحة الفتاكة في العالم، ولكن لا خوف! كان يقابل أحدهم الدبابة الحديثة الفتاكة ، يحمل حجرة من الأرض يرميها فتحترق، تحترق دبابة بحجرة، هذا صنع من فوق، حوَّل في الحجرة شيء، وسرت فيه سراية ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
حدثنا بعض الذين حضروا بعض تلك الوقائع، قال بعض الأسرى لما خاطبناهم في ما بعد، كيف استئسرتم وأنتم عندكم كان أسلحة قوية ما هي عندنا؟ قالوا كانت ترجف قلوبنا لما ترددون كلماتكم وخصوصا كلمة نسمعكم فيها تقولون "بر بر بر" يقصدون الله أكبر، قال لما تقولون هذه الكلمة قلوبنا ترتجف والأسلحة اللي عندنا ما عاد تنفع فما نقدر نستخدمها.
هذا مثل من الأمثلة وحصل قبله وحصل بعده وعلى مدى القرون، لكن لماذا بقاء الخوف من غير الله؟ (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) مرض.. نسأل الله أن يشفي قلوب المسلمين منه، والله يطهر ساحات قلوبهم من الركون إلى غير الله جل جلاله وتعالى في علاه.
وأنتم تجددون عهودكم مع الله في هذه المجالس وتجددون تطهير بواطنكم، وتجددون استعدادكم للقاء، للقاء المولى جل جلاله، فالحمد لله على هذا الخير وامتداد هذا المنّ والإحسان الرباني بواسطة صاحب الشرف العدناني، والله يحشركم جميعاً في زمرته، يا رب ومن يسمعنا، يارب ومن في بيوتنا، يارب وأهالينا وأقاربنا، ارحم الجمع وانظر إليه، واجعلنا في المكرَمين عليك يا حي يا قيوم، وارحمنا يوم الوقوف بين يديك، يا مرسل السيد المعصوم، وبلِّغنا به في الحياتين ما نروم وفوق ما نروم، مِن جودك الواسع وغيثك الهامِع وعطائك المتتابع، يا كريم يا واسع، يا حي يا قيوم يا الله.
سألناك لقلوب المسلمين عامة، والحاضرين والسامعين معنا انظر إلى قلوبهم، ما فيها من هذا المرض، وغيره من الأمراض، من كل وصفٍ لا ترضاه خلِّصنا وخلِّصهم يا الله، طهِّرنا وطهِّرهم يا الله، صفّنا وصفِّهم يا الله، نقِّ قلوبَنا وقلوبَهم يا الله، يا مقلب القلوب سألناك، يا مصرِّف القلوب طلبناك، يا مَن يحول بين المرء وقلبه رجوناك، هذه قلوبنا بين يديك، والحال لا يخفى عليك، فبِأثبتِ خلقِك قلباً انظر إلى قلوبنا، يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك، واجعل سرَّ المجالس سارياً في أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، وما يقومون به في بيوتهم ومنازلهم وبين أهليهم ومع أصحابهم وفي أماكن أعمالهم وفي أماكن انطلاقهم، لا يغيب عنهم تقواك ومراقبتك طرفة عين، ولا لحظة ولا خطرة.
يا الله ثبِّتهم على ذلك إلى الممات، فلا يموت الواحدُ منا إلا وأنت راضٍ عنه، يحب لقاءك وتحب لقاءه، آمين يارب.. يا فاتح أبواب الجود، يا صمد يا معبود، يا حي يا مقصود، يا ذا العطاء، يا ذا السخاء، يا ذا المنّ يا ذا الإحسان يا كريم يا منّان، يا رحيم يا رحمن يا الله..
هل سألك ملَك أو إنسي أو جني من دون إذنك؟ هل دعاك أحدٌ من الكائنات من دون توفيقك؟ ما كان ذلك إلا منك فهو منك وإليك.. هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، فأصلِح لنا كلَّ شان وطهِّرنا عن جميع الأدران وزِدنا إيمان وزدنا يقين وزدنا إحسان وزدنا توفيق وزدنا نورا، واجعل لنا نورا، واجعلنا نورا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على المصطفى نورِ الله المبين، وآله وصحبه والتابعين، والحمد لله رب العالمين.
10 جمادى الآخر 1435