(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 23 جمادى أول 1439هـ بعنوان: إدراك حقيقة عن الحياة وغد وشرف امتداد اليد إلى الواحد الأحد.
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
اللهم أجِرنا مِن ( بئسَ المصير)، وارزقنا حسنَ الحاضرِ والعاقبةِ والمصيرِ، يا مَن إليه المصير، وإليه كلُّ العبادِ يسير، لا إله إلا أنت وحدكَ لا شريكَ لك، آمنَّا بك فزِدنا إيماناً، وزِدنا يقيناً، وارزقناَ التحقُّقَ بمقتضى الإيمان، وبحقائقِ الإيمان، وبأنوارِ الإيمان، وبأسرارِ الإيمان، وبأذواقِ الإيمان، وبمعارفِ الإيمان، وبِبُسطِ الإيمان، وموائدِ الإيمان، ولذائذِ الإيمان، وحلاوةِ الإيمانِ، المتصلةِ بحلاوة الجِنان، المتصلةِ بحلاوةِ النظرِ إلى وجهِ الكريمِ المنان، المتصلةِ بحلاوةِ المرافقةِ لسيدِ الأكوان، والنبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضلُ من الله، مرافقةُ هؤلاءِ لمَن آمنَ وعملَ صالحاً، لمن يطيعُ اللهَ والرسول، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) خبرُ صدقٍ مِن المولى الحق، مَن يطعِ اللهَ والرسول، مَن يتخذ قرارَه أمامَ مشتهياتِ نفسِه ورغباتِها ونوازعِ ما يقولُ الناس، ودوافع ما يدفعُه مِن الأطروحاتِ المختلفةِ على ظهرِ الأرض، يقررُ أمامَ كلِّ ذلك أن يطيعَ اللهَ والرسول، أن يتبعَ اللهَ ورسولَه، أن يصدُقَ مع الله والرسول، أن يعبدَ اللهَ ويتَّبعَ الرسول صلى الله عليه وسلم، أصحابُ هذا القرارِ خيارُ الناس، أكياسُ الناس، فضلاءُ الناس، صالِحُو الناس، أشرفُ الناس، أعزُّ الناس، أصحابُ هذا القرار إذا طبَّقوه وقاموا عليه هم الخيرة مِن جميع مَن على ظهر الأرض، وفي البرازخ هم الخيرة بين أهل البرازخ، وفي القيامة هم الخيرة بين أهل القيامة، ولا يدخل الجنة إلا هم. ومَن سواهم مِن كل مَن خالفهم فلهم فبئس المصير، والعياذ بالله تبارك وتعالى، ما يعفيهم عن بئس المصير أنَّ الواحدَ منهم نُشرت له أخبار، ونُشرت له أعلام، وكان رئيس دولة عظمى، فإذا هو في ( بئس المصير)، ما يعفيه؟ ما ينفعه ما يفيده، ماذا كسب من ورائه!؟ فضلا عن إذا كان رئيس شركة كبرى، رئيس مؤسسة كبرى، رئيس حزب كبير.. وبعدين؟ إذا وقع في بئس المصير، ماذا ينفعه هذا؟ نسوا مستقبلهم، ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فيا أهل نعمةِ الإسلام والإيمان، يا أهل نعمة لا إله إلا الله، يا أهلَ القُربِ مِن نعمةِ طاعةِ الله وطاعة الرسول، ولا يكون بينكم وبين تحقيقِها على التمامِ إلا يسيرٌ مِن صدقِ الوجهةِ والعزيمة، إذا صدقتُم في وجهتِكم وعزائمكم تحققتُم بحقائقِ الطاعة للرسول فإذا بكم من الرفقاء للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أفي غيرهم معشَق؟ أم في غيرهم رغبة؟ أم إلى غيرهم التفات؟ مَن هو غيرهم هذا!؟ هؤلاء خيارُ خلقِ الله على ظهرِ الأرض، وفي البرازخ ويومَ القيامة، وهم أهل الجنة، اللهم اجعلنا فيهم يا الله، ثبِّت هذه القلوب وقوِّ فيها الإيمانَ واليقينَ حتى نتحققَ بحقائقِه، ونذوقَ حلاوتَه يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
بين يديه اجتمعتم لتنتفعوا نفعاً عظيماً، لا يمكن أن تضمَّه خزائنُ دولِ الشرق ولا دولِ الغرب، فوالله ثم والله ثم والله، كثيرٌ من القائمين على خزائنِ دول الشرق واليوم تتقطع قلوبُهم حسرات أن لا يكونوا اتصلوا بمثل هذه الساعات وهذه المجالس، (وأنذرهم يوم الحسرةِ إذ قُضيَ الأمرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون * إنا نحن نرثُ الأرضَ ومَن عليها وإلينا يُرجعون) اغترُّوا بزينة جعلناها على ظهر الأرض؟ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هذه الزينة كلُّها بأنواعِها، كلُّ ما لم يُستعمَل بحسبِ منهاج الأنبياء، بأن يؤخذ مِن حلِّه ويُصرف في محلِّه ويُستعان به على طاعة الله كله مصيره ونهايته: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) أي مفرق مشتت، ما له بقاء، وينتهي، ما كان منه استُعمل على وجه الاتباع للأنبياء أصحابه فرحون، وماعدا ذلك فهو ندامة وينتهي، واستعمالهم له ندامة، وقيامه به ندامة.
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) بهجة وعظمة، وتشوفها تدلُّك على العظيم، وإلا فما هي عظيمة في حد ذاتها، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ) لا تبقى الزنية ولا السماء ولا الكواكب المزيَّنة للسماء، كلها انتهت..
ولكن المزيِّن خلق زينة، كتبَ أن لا تبيدَ، أن لا تنقصَ، فضلاً عن أن تبيدَ، أن لا تخبُو، بل تزيد وتزيد بهاءً وجمالاً وإشراقاً، هل تعرفها أو ما تعرفها ؟ هذه زينة الصلة به، الباقي الدائم جل جلاله، رأسُها واحد اسمُه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، رأسُ الصلةِ بالرحمنِ صلى الله عليه وسلم، ما خلق الله شيئاً قبلَ روحِه الكريمة، ونورهِ الشريف، فهو أعظم صلةً بالرحمن، وأول مَن اتصلَ بالرحمن، وكل مَن اتصلَ بعدَه بالرحمنِ فمِن ورائه، ومِن آثارِ أنوارِه، رأسُ الصلةِ بالرحمنِ سيدُ الأكوان، الذي إذا اشتدَّ الأمرُ بأولِ الخلقِ وآخرِهم وقال الكبارُ مِن أهل حضرة الكريم الغفار: نفسي نفسي، قال هو: أنا لها.
هذا رأس الصلة بالله، سيدنا محمد بن عبد الله، هذه الزينة، زينةُ أخلاقِه ومنهاجِه وشرعه، المصدِّق لشرعِ الأنبياء مِن قبل، المصدِّق لنُبوَّةِ الأنبياء مِن قبل أجمعين، مِن آدم إلى آخرِ نبيٍّ قبلَه صلى الله عليه وسلم، وهو سيدنا عيسى بن مريم عليهم السلام، هذه الزينة، زينةُ بلاغِه، زينةُ جهادِه، زينة سيرته، لا كزينةِ النجومِ ولا كزينةِ ما على ظهر الأرض، لا كواكب ولا نجوم ولا قصور ولا حدائق ولا بساتين، كلُّها زينة، والله خلقها، منِ استعانَ بها على مرضاتِه، واستعانَ بها على تنشيطِ قواه لطاعةِ مولاه فازَ بخيرِها، ومَن لم يستعملْها على هذه الصورة هي زائلة، واستعماله لها ندامة عليه، هذا أمرٌ ثابتٌ قائمٌ واقعٌ، نؤمن به، ويوقنُ به كلُّ مؤمنٍ، لا ريبَ فيه ولا شكَّ، واقعٌ مِن دونِ استثناء، كل مَن استعمل شيئاً مِن زينةِ الأرض صغُر أو كبُر مِن أبسط الأشياء، مِن كحلٍ، أو مِن نظارةٍ يلبسُها، أو من خاتم، أو مِن نعالٍ.. كلُّ منِ استعملها على مخالفةٍ لشرعِ الله، ومخالفةٍ لمنهاجِ الله نادمٌ عليها وخسران باستعمالِها بالإطلاق، ومَنِ استعملها في مرضاةِ هذا الإله وعلى منهاجِه رابحٌ باستعمالِه، ونتيجةُ الاستعمالِ له حسناتٌ يجدها يومَ القيامة.
فما هذه الزينةُ التي تغرُّ الناسَ الكثيرَ، ثم يذهبون ويتركونَها!؟ والعجيب أن هذه العقليات القائمة اليوم على ظهر الأرض تهرب مِن ذكرِ الموت، تقول: لا تذكر الموت، لماذا!؟ هم يوقنون أنهم سيموتون، ولكن يقول لا تذكره اليوم، أنا سأموت.. لكن لا تذكره، يعني مثل النعامة تهرب من الأسود فتغطي رأسها وتدفنه، وإذا غطت رأسها ما تشوف أحد.. فتظن أنه لا يراها أحد!! فتأتيها الأسود ويأكلونها.. ما هذا التعامي!؟ هذا هو العمَه.
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) لكن مِن الزينة الساقطة، من الزينة الزائلة المنتهية (فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أولئك الذين لهم سوءُ العَذابِ وهم في الآخِرةِ هم الأخسرُونَ ) أهل العمَه هذا، جاءهم الرسولُ فما سمعوا، ربُّ العالمين بعد ما أعطاهم الأسماعَ والأبصارَ أنزل كتباً وأرسلَ رسلاً، وهذا صوتُ الرسولِ يناديهم في شرقِهم وغربِهم، أحياناً ينصرفُ إلى أهل الغرب، وأهل الشرق كذلك ممَّن كفر، المسألةُ مسألة إيمان وكفر، عليها يقوم الأمرُ ويُفصل، هنا وهناك ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ)
فما المستقبلُ الكبير للفريقين يا رب؟
قال: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ) ومع ذلك فالتنبيهاتُ قائمةٌ معهم إلى الآن (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى) الأدنى المنتهي، كل متاعب الدنيا ومشاكلها عذاب أدنى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بعد إقامةِ الحُجَجِ وإرسالِ الرسلِ لا زال الحق يذكِّرهم ، وهم يمشون في نظام وخطط، وتحصل أخطاء فيقوم إلى خطأ ثاني وثالث، أمامك الطريق.. تنبَّه وارجع، هنا نظام رباني، التفِت إليه! لا.. لا.. لا.. فإذا أصر على ذلك فبئس المصير مصيرُه (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) (وهم فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أجارنا الله من الخسران ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
ومع اليقينِ بالموت، حتى سيدنا علي كان يتعجبُ في أحوال الناس يقول: ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من الموت. هو يقين لكن عند الناس كأنه شك، كأنهم يشكون هل يموتون أو لا يموتون، لا أحد يشك أنه لن يموت، مات مَن هو أكبر منه، ومن هو أصغر منه، ومن هو في سنِّهِ كلَّ يوم، كلُّ يومٍ يموتُ مَن في سنِّك ومَن هو أكبر منك، ومن هو أصغر منك، في كلِّ يومٍ على ظهرِ الأرضِ أعدادٌ ممن في سنِّك وأعدادٌ ممَّن هو أكبرُ منك، وأعدادٌ ممن هو أصغرُ منك، والأمرُ دائرٌ على الجميع، ولكن مَن أحسنَ الاستعدادَ فالأمرُ كما سمعتم، وردنا وفاة هذا السيد، الأسبوع هذا ممن فقدنا في وادينا المبارك السيد الحبيب حسين بن أحمد بن علوي بن علي بن محمد الحبشي عليه رحمة الله تعالى، والسيد علي بن سعد الحمودي، توفي في شريوف كان قد يحضر معنا في هذه المجالس، وحضر معنا بعض الدورات، ودرس سابقاً في رباط تريم عند الحبيب عبد الله بن عمر الشاطري، ذكَّرنا فقْدُ هؤلاء وانتقالهم قولَ الإمام الحداد:
فالموتُ للمحسنِ الأوابِ تحفتُه** وفيه كلُّ الذي يبغي ويرتادُ
لقاء الكريم تعالى مجدُه وسما ** مع النعيمِ الذي ما فيه أنكادُ
رضي الله تعالى عنه، مضى في هذه الحياة وآثرَ الربَّ، وآثر الإله، وصبر على الكلام، وصبر على المجاهدةِ لنفسه، كانت له صدقاتُ السرِّ ما يعلمُها كثيرٌ ممَّن حولَه مِن قريبٍ فضلاً عمَّن غيره، له البكاءُ في الليالي، له الخشوعُ، له الخضوع، ومضى على ذلك سنين مِن صِغره بتربية، رباه والده أحمد، وكان ممَّن صحبهم من الشيوخ الكبار في المنطقة الوادي منهم الحبيب محمد بن علي عمه، وغيره من كبار شيوخ الوادي كالحبيب محمد بن هادي السقاف، وجماعة مِن الذين اتصل بهم وانصبغ بصبغتهم، وهؤلاء الذين أخذ عنهم أخذوا عن جدِّه الحبيب علي بن محمد الحبشي، ومُسلسلَة إلى عند ( أدَّبني ربي فأحسنَ تأديبي )، هؤلاء إذا انقضى عمرُ أحدِهم جاءت الفائدةُ، وصار جميع ما على الأرض من الزينة التي أغوَت ذا وضرَّت ذا، بالنسبة له درجات مرتفعة لأنه اتقى اللهَ فيها، لأنه تعامل معها بمنهاجِ إلهِه جل جلاله، لأنها لم تُغوِه ولم تَغرَّه ولم تلوِ رقبتهَ ولا قدمَه عن سواء السبيل، وآثرَ اللهَ جل جلاله وتعالى في علاه، وهكذا أرباب الصفات الحسنة يبدأ استثمارُهم لعظيمِ هذا الخيرِ من هذه الأعمال مِن عند الغرغرة فما بعد.
والعجب يجي حتى مثل الخاتمة هذه، يحضر في المدرس في قبة جده الإمام علي الحبشي ويقرأ في المدرَس، ويخرج على عادته، يَبشُّ في وجوه الناس ويصافحونه ويصافحهم يرجع إلى البيت ليلقى النداء إلى فوق في لحظات وينتقل إلى رحمة ربه جل جلاله وتعالى في علاه، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ إذا أراد بعبد خيراً عسَله" قالوا: وما عسَله؟ قال: يوفقه لعملٍ صالح قبل موتِه يقبضه عليه، ما هو عمل طيب؟ قبض عليه؟ لا إله إلا الله، ويا الله بحسن الخاتمة.
ثبِّت هذه القلوبَ يا رب، لا يتزعزع منهم قلبٌ، لا يغتر بزُخرفِ الأرضِ ولا بزينةِ السماءِ يا ربَّ الأرضِ والسماءِ، أنت خيرٌ لنا مِن الأرضِ والسماءِ، كيف تُلهينا أرضٌ أو كيف تُلهينا سماءٌ، خلقُك وصُنعك، وإذا شئتَ أبَدتَهما، وعن قريبٍ تبدِّلهما (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا..) تعالوا يا أحزاب، يا دول، يا صغار، يا كبار، تعالوا (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) والذين كانوا يستعرضون عضلاتِهم في الحياة الدنيا ويقولون أنهم صناع القرار.. أين هم؟ ( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّـهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ) (هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) بلاغ.. يا رب ونبيُّك بلَّغه كاملاً، ونشهد أنه بلَّغه، فانظر إلى قلوبِنا واجعل البلاغَ راسخاً فيها مستفيدةً منه قائمةً بحقَّه (هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) اللهم اجعلنا مِن أولِي الألباب، وارزقنا نصيباً واسعاً في التذكرة، ورتبةً عاليةً في التذكُّر والتبصُّر يا عالمَ الجهرِ والسرَّ.. يا الله يا الله.
أنتم قصدتموه، وبهذه المائدة التي بسطها ربُّنا لنا ولكم، ولمَن أراد في هذا الزمن، يقصدها كثيرٌ مِن الناس، يقصدها كثيرٌ مِن الجانِّ، يقصدها كثيرٌ من الأرواح، يقصدها كثيرٌ من الذين يتابعونكم هذه الساعة عبرَ هذا الجهاز وهذا الجهاز هنا وهناك، كلهم قصدُوه، كلُّهم أرادُوه، وكلُّهم تعرَّضُوا لكَرمِه، وفيهم مَن قصَر صدقُه في الإرادةِ أو جاءته المشاركة مصادفة.. دخل في حديث: (هم القومُ لا يشقى بهم جليسُهم )
فحمداً لباسطِ هذا البِساط، حمداً لمَن مدَّ هذا السِّماط، حمداً لخالقِ الأرضِ والسماءِ، حمداً لربِّ العالمين، وجزى الله عنا نبيَّه الأمين، فببركتِه نِلنا هذا المدَّ، مِن حضرةِ الأحد، بواسطة أحمد مَن دعانا بإذنِ ربِّنا إليه سبحانه وتعالى، الحمد لله على ذلك، والله يوفِّر حظَّنا وإياكم مما يبسطُه مِن الخير في هذه المجالس وفي هذه الوجهات والتوجُّهات والتنفُّسات والعطايا الربانيات، يا معطي لا تحرِم منا صغيراً ولا كبيراً ولا ذكراً ولا أثنى.. يا الله.
لك الحمد شرَّفتَ الأيدي بالامتدادِ إليك، يحقُّ لنا أن نمدَّ الأيدي إليكَ يا رب، ما أشرفَ يد عبدٍ عاصٍ عبدٍ غافلٍ عبدٍ مقصَّرٍ، ثم تأذن له في كبريائك وجلالك وجبروتِك أن تمتدَّ اليدُ مِن ذلك العبدِ العاصِي إليك، كم مِن أيادٍ مُدَّت إلى غيرِك، وطلبت سواك، وهذه أيادي شرَّفتَها وأذنتَ لها أن تمتدَّ إليك أنت في عظمتِك وجلالِك.. فلَك الحمد، لك الحمد، لك الحمد..
وقلتُ يا أملِي في كل نائبةٍ ** ومَن عليه لكشفِ الضرِّ أعتمدُ
أشكُو إليك أموراً أنت تعلمُها ** ما لي على حملِها صبرٌ ولا جلَدُ
وقد مددتُ يدي بالذلِّ مفتقراً ** إليكَ يا خيرَ مَن مُدَّت إليه يدُ
فلا تردنَّها يا ربي خائبةً ** فبحرُ جودِك يروي كلَّ مَن يردُ
أنتم ومَن معكم ومَن يسمعكم، نمدُّ أكفَّ الافتقار إليه، والتذلُّل بين يديه، ومَن معنا مِن ملائكتِه، كما أخبر خاتمُ رسله، إلهي، إلهي، إلهي هذه أيدي امتدَّت إليك، ومهما كان منها فقد رجعت إليك، وحضرت بين يديك، يا ربي رحمتَك، وأنت الذي ما زلتَ ترحمُ أهلَ الأرض مادامت أيديهم تمتدُّ إليك بالذلَّ والافتقارِ والاضطرارِ والانكسارِ والشهودِ بربوبيَّتك، ولو أن باكياً بكى في قومٍ لرحمَ الله القوم، يا ربي بتوفيقِك مُدَّت هذه الأيدي إليك، وتوجَّهت القلوبُ إليك يا الله، ومَن معنا ومن يسمعُنا، ومن في توجُّه قلبِه ضعفٌ قوِّه في توجُّهِه إليك يا رب، قوِّ توجَّهَنا إليك، قلوبنا كلنا يا ربي يا مقلِّب القلوب وجَّهها إليك، وارحم هذه الأيدي وهذه القلوب رحمةً واسعة يا واسعَ الرحمةِ يا الله.
ويا حاضر ويا سامع، بعد الكرامة بهذا المدِّ إلى الواحد الأحد، لا تلطِّخ اليد، لا تضرب بها إلا في سبيل الله، لا تسرق بها، لا تؤذِ بها، لا تغش بها، يدٌ قد شرَّفها باريك، فلا تدنِّسها باستماعِ معاديك، شرَّفَ ربُّك يدَك ومدَّها إليه، له الحمد، وأنت تدري مَن في الجمع، وتدري ما أخبر سيدُ الوجودِ أنَّ الملائكة تحفُّهم بأجنحتِها إلى السماء، كم عددهم؟ إذا سبَّحنا سبَّحُوا إذا حمِدنا حمدُوا، إذا هلَّلنا هلَّلُوا، وإذا دعَونا أمَّنُوا، إذا رفعنا أيديَنا رفعوا أيديَهم، وأيدي أهل أرض وأهل سماء وإنس وجن وملائكة ترتفع إلى الواحد الأحد.. هل تظن أن هذا الأمرَ هيّن!؟ أو لا تظن أنَّ وراءه ما وراءه..
يا مَن شُرِّفَ برفعِ يدِه إلى ربِّ العرشِ العظيمِ بارئِ السماواتِ والأرضِ، اخضع له بقلبِك، وانكسِر له، وتوجَّه إليه، فإننا نطلبُ تقريبَ المسافةِ لك، طوَّلَتها عليك غفلتُك، طوَّلَها عليك إعراضُك، طولها إيثارُك لبعضِ اللذائذِ الحقيرةِ الزائلةِ الفانية، طوَّلها أنك في الخلوة غير ما أنت في الجلوة، لا تراقبه، لا ترعى عظمتَه وحرمتَه، ونحن نطلبه لنا ولك يقرب هذه المسافة ويطويها لنا، يا رب وجِّه هذه القلوب إليك، أما هو.. فأقربُ إليك مِن حبل الوريد، لكن أنت غفلتَ، أنت أعرضتَ، أنت اغتررتَ بشهواتٍ، بغضبٍ سبَبت به مسلما، ظلمت به صغيراً أو كبيراً، بعَّدتَ نفسَك، اقرب إلى مَن هو أقربُ إليك مِن حبلِ الوريد.
يا رب الأيدي بالفقرِ والذلةِ والاضطرارِ تائبة، فيا تواب نناديك بالبابِ، وندعوك في الرحاب، متوجهين بالكتاب، ومَن أنزلت عليه الكتاب، وأحبابِك نِعم الأحباب يا الله يا الله..
أيقنتُ أنك محسنٌ وهابُ ** فقرعتُ بابَك وهو نِعم البابُ
وطفقتُ ألتمسُ الوصولُ ** وإنما بالاجتهادِ أُقيمتِ الأسبابُ
ما سرَّني مني سِوى حبِّي ** لمن أحببتَهم فهم هم الأحبابُ
عرفُوا جليَّة أمرِهم فتوجَّهُوا ** بالصدقِ نحوك بعد ما قد طابُوا
يا الله.. ما وقفَ ببابِك واقفٌ متذلِّلٌ فخابَ قط، يا ربَّنا ما لَنا إله غيرُك، وما لنا رب سواك، يا ربنا ادفع كيدَ النفوس، وادفع كيدَ الشياطين وكيدَ الأهواء، واجعل هؤلاءِ في تبعيةِ حبيبك محمد، صغيرَهم وكبيرَهم، ذكرَهم وأنثاهم، مَن هو حاضرٌ ومَن يسمعُنا يا ربَّنا أجِبنا يا ربَّنا اقبلنا، ألستَ أنت الحيِيُّ الكريم.. ربي إنما نتذلَّلُ لك، إنما نستجدِي عطاءَك، إنما نستكرمُك، لسنا بمحتجِّين عليك..
يا ربي، حبيبُك نبيُّك صفوتُك قال لنا: إن اللهَ حيِيٌّ كريمٌ يستحي إذا مدَّ العبدُ إليه يديه أن يردَّهما صفراً.. يا ربَّنا صدقَ نبيُّك، وهذه أيدينا وراءَ يدِه، فيدُه خيرُ يدٍ امتدَّت إليك، فبِما بينك وبينه اقبل هذه الأيدي يا ربَّنا، بعض مَن رفع يدَه كان وسخَ القلب، يا ربي فقبل أن يردَّها، طهِّر قلبَه، يا الله.
يا ربَّنا ما مدَدنا أيديَنا إذ مدِدناها، ولكن أنت مددتَها إليك، فالأمرُ منكَ وبكَ وإليكَ وعليك، قلتَ لسيدِنا: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) ونقول يا ربَّنا أتباعُ حبيبِك ما مدّوا أيديَهم إذ مدّوها ولكن أنت تفضلتَ فمددتَها إليك، فالأمر بكَ ومنكَ وإليكَ وعليك، يا الله.. فاجعل هذه الأيدي التي امتدَّت تتصافحُ على حوضِه الشريف.
يا أحبابَنا: يا نِعم مَن دعوتمُوه، ما أكرمَ مَن رجوتُموه، نسأل اللهَ أن يتمَّ علينا وعليكم النعمةَ، الله يجعلها توبةً مقبولة، لا مدخولة ولا معلولة، الله يجعلها توبةً صادقة، الله يجعلها توبةً خالصة، الله يجعلها توبة نصوحاً، يزكينا بها قلباً وجسماً وروحاً يا الله، ولتستمع قلوبُكم إلى صوتٍ عجيب لذيذٍ يقول فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( فإني منتظرُكم على الحوض ) سمعناها فيما رُوِي عنه، وفيما ورد عنه، لك الحمد يا ربي، فاجعلنا ممَّن يَرِدُون على حوضِه المورود، يا ربي في أوائل الواردين، يا ربي في السابقين مِن الواردين على حوضِه المورود، يا الله، وتوجَّهوا بكلياتِكم إلى الله، واحمدُوه على ما آتاكم..
والحمد لله رب العالمين، وتضرَّعوا له وقولوا كلكم:
يا تواب تب علينا ** وارحمنا وانظر إلينا
24 جمادى الأول 1439