(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 16 جماد أول 1439هـ، بعنوان: شرف تبعية الهوى لما جاء به صفوة الله وعَمَهُ المكذبين.
الحمد للهِ على حكمتِه البديعة، وغيوثِه الهانئةِ المريعَة، وعطاياه الكبيراتِ الوسيعة، لا إله إلا هو وحده لا شريكَ له، آمنا به، ورضينا به سبحانه وتعالى ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ورسولاً، وقد شرَّفَنا به وجعلنا خيرَ أمة، وختمَ به النبواتِ والرسالاتِ، وأنزل عليه الآياتِ البينات، فيها الضياءاتُ والأنوارُ لكل مستنيرٍ على ممرِّ الأوقاتِ في جميعِ الجهات، فيها شفاءُ الصدور، وفيها نورُ القلوب، وفيها غفرُ الذنوب، وفيها رضا الحقِّ خير محبوب جل جلاله، وفيها الرابطةُ بحبيبِه المصطفى محمدٍ نورِ دربِ الحقِّ والهدى، وفيها نيلُ وسعادةُ الدنيا والآخرة، والدخول في أهل الوجوه الناضرة، التي هي إلى ربِّها ناظرة.
الحمد لله على هذا الغيثِ الهطَّال والتنزيل والإنزال، وختمِ الإرسال بجامعِ صفات الكمال، ومفيض النوال، وسادنِ حضرة الجلال، محمد بن عبد الله شريفِ الخصال، لم تعرفِ الأرض ولا السمواتُ قلباً أعظمَ تواضعاً مِن قلبِه لمولاه جل جلاله، ولا أكثر خضوعاً ولا أكثر خشوعاً ولا أعظم عبادةً ولا أعظم زهادةً في كل ما سوى الله جل جلاله وتعالى في علاه، فهو أعرفُ الخلقِ بالخالق، وأقربُ الخلق إلى الخالق، وأحبُّ الخلائق عند الخالق، وهو الشفيعُ الأعظمُ للخلائق لدى الخالق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هو في البريةِ أصدقُ ناطق، وأعظمُ صادق، دعا إلى أقوم الطرائق .. فحمداً لربٍّ خصَّنا بمحمدٍ
اللهم فمكِّن نورَ هذه النعمةِ مِن قلوبنا وأفئدتِنا وعقولِنا، حتى يكونَ هوانا تبعاً لما جاء به، حتى يكون هوانا تبعاً لما جاء به، حتى يكون هوانا تبعاً لما جاء به عنك ومنك يا الله.
كم تلعبُ الأهواءُ بالناس على ظهر الأرض وتهلكُهم وتُرديهم، وتُورِدهم مواردَ الهلكةِ والخسران، ويخسرون بسببِها الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ذكِّرنا يا رب، واذكرنا في حضرتِك العلية بأسنَى ما تذكرُ الصالحين والمحبوبين مِن عبادِك أهلِ ودادِك يا الله..
يا أيها الذاكرون لله، المجتمعون على ذكرِ الله: شرفُكم أن يذكرَكم ربُّ العرش العظيم، أن يذكرَكم برحمتِه وأن يذكركم بعفوِه ومغفرتِه، وأن يذكرَكم برضوانِه، وأن يذكرَكم بإفضالِه وإحسانه، وأن يذكرَكم بإسعاِده وإمدادِه، فهي مجالي ذكرِه للمحبوبين، وبها كلُّ رُقِيِّهم، وبها كلُّ عُلوِّهم، وبها كلُّ نعيمِهم، وبها الجنةُ وما فيها، وبها كلُّ ما وُصفَ بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشر، كلُّه مِن سرِّ ذكرِه لهم، برحمتِه، برأفتِه، بلُطفِه، بعفوِه، بمغفرتِه، بجودِه، بإحسانِه، برضوانِه.
وإذا أراد إجلاءَ سرِّ الذكرِ الأعلى منه برضوانه نادى أهلَ جنانِه: يا أهل الجنةِ هل رضيتم؟ يقولون: يا ربَّنا كيف لا نرضى؟ ألم تنجِّنا من النار؟ ألم تبيِّض وجوهَنا؟ ألم تُدخِلنا الجنةَ وتُعطينا فيها وتُعطينا؟ فيقولُ ربُّنا: ألا أعطيكم ما هو أفضل مِن ذلك؟ يقولون: يا ربَّنا وما أفضلُ من ذلك؟ يقول الله، -ونِعم القول قول الله-: أُحلِّ عليكم رضواني، فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً.. والله إنها كلمةٌ سوف يقولُها جل جلاله، في حضرةٍ يهنأُ مَن حضرها، ويسعدُ مَن كان مِن أهلِها؛ ونُقسِم على ربِّنا الرحمنِ أن يجعلَنا وإياكم في حاضريها، وضمنَ أهلِيها، السامعين هذا النداء العذب الرطب الشيِّق الطيب الجميل اللذيذ مِن حضرةِ الواحدِ الأحدِ الفرد الصمد الجواد القادر المقتدر المُنعم المنان الرحمن، جل جلاله، يا الله رضا يا الله رضا والعفو عما قد مضى.
وهذا عطاؤه لمَن صار هواه تبعاً لما يرتضيه، ولمن يرتضيه، فإنَّ الأهواءَ هي اللاعبة بعبادِ الله على ظهر الأرض، في شرقِها وغربِها، وبها عظَّموا ما هو حقير، وكبَّروا ما هو صغير، وأجلُّوا ما هو ساقط وهابط، فاختلَّت عليهم الموازين (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) قل لي عن أي نظام موجودٍ في عالم الأرض أبهرَ عقلَك لضعفِك في النظر ولضعفِك في الإيمان أو أبهر عقلَ غيرك لقومٍ لا يؤمنون بالآخرة، فنظامُهم الذي كبُر في عقلك بالدعاياتِ الكاذبة وزخرفِ القول هو في ميزانِي تبعاً لميزان محمد، تبعاً لميزان ربي عَمَهٌ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) ماذا يعملون في الحياة هذه؟ حضارات واستراجيات وترتيبات (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) عندك يعمهون أو لا يعمهون؟ إن ما كانوا عندك يعمهون فهم عند ربي يعمهُون، وعند نبيِّه يعمهُون، وعندي يعمهُون، وعند كلِّ مَن آمنَ بالله ورسولِه يعمهُون، وسيرونَ نتائجَ العمَهِ والعمَى والصمَم الذي فيهم لكلِّ مَن بلغتهُ منهم دعوةُ الله ودعوةُ رسوله فلم يؤمن (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)يقول جل جلاله: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) وخفَّفَ الوطأةَ على القلبِ الرحيم (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).
ويلٌ لمَن امتلأت أفواهُهم زوراً وكذباً بمراعاةِ حقِّ الإنسان وإصلاحِ شأنِ الإنسانِ وتنظيمِ مسلكِ الإنسانِ وحركة الإنسان، وعلى أيديهِم وتحت أنظارِهم يُصابُ الإنسان بأسوءِ درجاتِ الإنحطاطِ والاستخفافِ بروحِه ودمِه وعقلِه ومالِه وثرواتِه وحياتِه، على أيديهِم وتحت أنظارِهم يجري الاستخفافُ بدمِ الإنسان، وعقلِ الإنسان، ودين الإنسان، وقِيم الإنسان، ومالِ الإنسان، وعِرضِ الإنسان، ثم لا يستحيون أن يقولوا أغلى شيء عندكم بعدَ الأرواح أعراضُكم، فلنقنِّن قوانين لانتهاك الأعراض ولنجعل مِن وجوهِ حضارتنا أن نجعلَ لها سماحاً قانونياً رسمياً لتعيثُوا بأعراضِكم ما لم تعِثه البهائمُ ببعضِها البعض.. ما هذا؟ هذا العمَه الذي هم فيه يعمهُون، ثم يتشدَّقون!!
ألا إنَّ الحقَّ عند الحقِّ، وأرسل رسولَه بالحق ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فثبِّت اللهم هذه القلوبَ، ونوِّرها بنورِ الشريعة، وارفعها المراتب الرفيعة، وأسكنَّا حصونَ قُربِك وحُبِّك المنيعة.. يا الله، اللهم إنَّ الهوى أقوى سلاحٍ يستغلُّه عدوُّك ليأخذ مَن تمكَّن فيه مِن خلقِك فيهوي بهم إلى الهاوية، اللهم ردَّه عنا خائباً، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به حبيبُك.. آمين يا الله يا الله.
كم مِن حاضرٍ معنا وسامعٍ لكلامِنا كان قبل لحظاتٍ وخيوطُ سوءِ الهوى مبتثَّةٌ في جوانحِه مِن جوانبَ متعددة، وهذه أيدي الضعفاء الفقراء الراجين إليك ممدودة، أن تنزعَ عنهم هذه الظلمةَ وترفعَهم في المنزلةِ، لأن يكون هواهم تبعاً لما جاء به نبيُّك.. يا الله، فتكتب في ليلتِنا هذه كم مِن رافعٍ بعد أن كان ساقطاً هابطاً، وكم مِن مقرَّبٍ بعد أن كان منتزِحاً بعيداً، وكم مِن سعيدٍ بعد أن كان شقياً، فإنا بك نستسعد وأنت أكرم مِن أن تشقيَ مَن استسعدَ بك.. يا الله، اجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيُّك سيدُنا محمد.
ولعبتِ الأهواء، ولكم في مواجهتِها إن رأيتم كثرتَهم، فما جاءتكم مثلُ غزوة مؤتة إلا لتعلمُوا السبيلَ، حتى تُسقَوا من السلسبيل، وتَلحقوا بخيرِ جيل، كان ما سمعتم مِن اعتناءِ النبي الجليل، وتمثيل ركبِ أهل البيت والمهاجرين والأنصار في الإمارةِ، لمقابلة قوةِ كفرٍ مِن قوّات الطغيان المادية الكثيرة، ذات ما يسمى بالنظام، وما يسمى بالتكتيك، وما يسمى بالهندسة، وما يسمى بدقَّة التخطيط، كانت قوى مادية مِن هذه، هي أقوى القوى المادية بأيدي الكفار في ذاك الزمن على ظهر الأرض، واجهَها هؤلاء الثلاثة الآلاف مِن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيهم مَن أسلم قريباً، حتى لما سلَّموا الرايةَ لسيدنا خالد قال: السابقون السابقون، أكثركم سبقتموني بالإسلام.. أنا جئت هذه السنة، فقالوا: ليس لها إلا أنت، فأخذها عليه الرضوان، والمصطفى يصفُه هناك يقول: والآن حملها سيفٌ من سيوف الله، سلَّه على المشركين خالد بن الوليد، هذا قبلِ سنة كان كافراً، هذا قبل سنة كان خاسراً، هذا قبل سنة كان مظلماً، هذا قبل هذه الوقعة بأربع سنوات كان سببَ هزيمةِ المسلمين في أُحُد، اليوم صار يلبس تاجَ سيفٍ من سيوفِ الله، سلَّه على المشركين، حتى قال في آخر حياته وهو يبكي عند الموت: حضرت في الإسلام مائةَ معركة، تمنَّيتُ الشهادةَ في كل واحدة منها، فلم أُقتل، واليوم أموت هكذا كما تموت العجوزُ، وكما تموت الشاة والبعير، فلا نامت أعينُ الجبناء.
قال أهل السيرة: وإنما لم يُقتل خالد في شيء من تلك المعارك لأنَّ رسولَ الله سماه سيفَ الله، فلو قتله مشركٌ قالوا كُسِر سيفُ الله، ولا يُكسر سيفُ الله، مائة معركة حضرها وهو يتمنى الموت فيها في كل واحدة، وهو المرويُّ في مواقفِه موقفان عظيمان:
موقف عزلِ سيدنا عمر بن الخطاب له، وتوليةِ أبي عبيدة، وما أن استلمَ الرسالة إلا رتبَ الأمورَ، وصار جندياًّ مِن جنود أبي عبيدة، وقال: لا يهمني أن أكونَ في الإمارة أو أكون في الساقة أو أكون في المقدمة أو أكون في المؤخرة، إذا أنا في سبيل الله.. ما أعجب هذه القلوب، ما أصدقَ هذه الوجهات، ما أعزَّ هؤلاء القوم عليهم رضوان الله.
والموقف الثاني: كان يحتفظ في عمامتِه بشعراتٍ من شعرات رسول الله التي كانت بعد حلقِه في حجة الوداع، يضعُها داخلَ قلنسوتِه في عمامتِه، فسقطت يوماً وهو في الجهاد، فخرج مِن على الفرس، ودخل بين المشركين حتى حمل العمامة والقلنسوة وردَّها ورجَع؛ رقبَه بعضُهم فقال: يا خالد تعرِّض نفسك للهلاك!؟ قال: إن في هذه القلنسوة شعرًا من شعرِ رسول الله، لا أجعلُها تحت أقدامِ المشركين، والله لو لم أصل إليها إلا أن أُقطَّع قطعة قطعة لوصلتُ إليها، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
هؤلاء كان هواهم تبعاً لما جاء به النبي، وقابلوا أقوى القواتِ الكفرية على ظهر الأرض، فما كان في عالم الحس إلا أن برزت حكمةُ الله بالجمع بين اختبارِ عبادِه المؤمنين وتأييدهم ونصرتهم، وخذلِ هؤلاء الكافرين الذين كان يمكن أن يُخذلوا في لحظة ويُردُّوا، ولكن قيل: خذوا لقد أرسل إليكم ملك الروم مائة ألف مِن نصاراه، وانضم إليه مِن نصارى العرب مائة ألف، وجاء في بعض كتب السيرة انضم إليهم خمسون ألف من قبائل أخرى، فصاروا مائتين وخمسين ألف، وهؤلاء ثلاثة ألف، انظروا، جاؤوا إلى معان فتشاوروا بينهم البين، فقالوا جاءوكم بمائة ألف ومائة ألف، فمِن قائل نكتب إلى رسول الله إما أن يمدَّنا بمدد أو يرى رأيَه، فنمضي حيث أراد، وبينما هم يتشاورون.. قال عبد الله بن رواحة: يا قوم إنَّ ما تهربون منه للذي خرجتُم مِن أجله، إنها الشهادةُ في سبيل الله، إنا لا نقاتل بعددٍ ولا عدَّة، ولكن بهذا الدين، وما ترون أمامكم إلا إما النصر وإما الشهادة، قالوا: صدق عبد الله بن رواحة.
ومشى القومُ ثلاثة آلاف مقابل مائتين ألف وخمسين ألف، وكان في النهاية أن حوَّل خالدُ المقدمةَ مؤخرة والمؤخرة مقدمة، والميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، فتقابل كلٌّ مِن فريق مع فريق ما كانوا يرونهم في الأيام الماضية، فقالوا: مدد وصل، وبعث مِن ورائهم مَن يبعثُ التراب، فرأوا الغبار فقالوا: مِن محمد وصلهم المدد، وقلوبهم ملآنة بالرعب، وقد قُتل منهم مائة، ومائة من الكفار، مئات من الكفار، ولم يُقتل من المسلمين إلا أربعة عشر شهيداً، قوى الكفر على ظهر الأرض كان تبيدُهم ولا تبقِي واحد منهم ما قدرت، وإن قويَت وإن كثُرت، أليس فوق القُوى قوي؟ (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) واللهِ إنَّ القوةَ له كلَّها، يتقوُّون علينا بدعاويهم وباطلهم، ولو آمنا بالقويِّ لكفانا قواهم كائنةً ما كانت، لو تبعوا هواهم ما كان هذا النصر، ولا كان هذا التاريخ، ولا كان تسلسل هذا النور إلى أن يصلَ إلينا، وأن يشرِّفنا اللهُ بذكراهم وأخبارهم وما كان منهم، إنهم قوم ارتضوا لأنفسِهم أن تبعدَ أهواؤهم عن كلِّ ما يستدعيها يمنة ويسرة، ويطلعون إلى فوق فيلبُّون نداءَ الحق على لسان رسوله..
تماماً مثَّل هذا المعنى سيدنا سعد بن معاذ ذاك الشاب، وهؤلاء الشباب الذين هم أمراءُ الجيش كلهم لا أحد منهم شيخ كبير كلهم في الشباب، سيدنا زيد بن حارثة عليه الرضوان في نحو شيء والأربعين، سيدنا جعفر بن أبي طالب سبعة وثلاثين، ما بلغ الأربعين، قد مضى في التاريخ، هذا سافر إلى الحبشة وكان سفيرَ المصطفى وخاطبَ ملكَ الحبشة، وتوطد الأمر هناك، ورجع بعد ذلك في عام خيبر في السنة الثانية بعد أشهر مضت أرسله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة في هذا السن، أبو المساكين أبو الفقراء، فقدَه فقراء المدينة، في السنة التي جاء بها من الحبشة إلى المدينة كان أهل الصفة وفقراء المدينة يلوذون بجعفر ويترددون على بيت جعفر، حتى في بعض الأيام لا يبقى شيء من الطعام عنده، فيُخرج لهم زقَّ السمن الذي عنده والقربة التي كان يضعه فيها ويقول لهم: العقُوها، ما يجدون الطعام عنده فيلعقون عنده السمن، ويجمع شيئاً آخر يتصدقُ عليهم، يقولون: فقدنا جعفر حين مات عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وهو الذي خوطب بقوله: أشبهتُ خَلقي وخُلقي، هنيئاً لجعفر عليه رضوان الله.
ومِن سرِّ تلك الوجهةِ إلى الرحمنِ جل جلاله وتعالى في علاه كان أولَ مَن عقرَ جواداً في سبيل الله، خرج على الفرسِ وقال أواجهُهم على رجلي، فعقر الفرسَ في سبيل الله، وصار على رجلِه يواجه القوم، فقُطِعت يمينُه فحمل الراية بيسارِه، ثم قُطعت يسارُه فاحتضنها بعضُديه وبقيَ ثابتاً، البخاري يروي عن ابن عمر يقول عدَدنا له تسعين طعنة فيما أقبل مِن جسدِه، تسعين جرحاً كلُّها فيما أقبل، ليس في جنبِه ولا ما أدبر شيء، لأنه لم يلتفت كذا ولا كذا، مُقبلٍ غيرُ مدبِر، عليه رضوان الله تعالى، حتى وقع على الأرض وهو ماسك الراية مِن شدةِ الجروح، قال: خذوا عني الراية، فحملوها وانتحَوا به ناحية، عرضُوا عليه الماءَ، قال: إني صائم، يا جعفر أفطِر وتصومُ يوما غيرَ هذا، قال: أشتهي أن أفطرَ في الجنة..
ثم هناك في المدينة رفعَ النبيُّ وهو جالسٌ بين أصحابه رأسَه قائلا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فأخذ يتكلم ثم سكت، الصحابة نكسُوا رؤوسهم، ولما كمل المكالمة رفعوا رؤوسهم، قال: هذا جعفر بن أبي طالب، وقد وقف عليَّ في نفرٍ من الملائكة يسلِّم عليَّ، قد أبدله اللهُ مكان يديهِ جناحين يطيرُ بهما في الجنةِ حيث شاء، هذا طيَّارُنا، قبل ألف وأربعمائة سنة يطير، ما هو مِن دولة إلى دولة، ولا مِن بلدة إلى بلدة، ولا ليصل القمر ولا المريخ، بل فوق فوق فوق فوق فوق السماوت كلها، لا أرض ولا سماء ولا كواكب، فوقها، هل عندهم طيار كما هذا؟ يفتخرون بالطيارين، اخترعوا طائرة بدون طيار، حديد بأجهزة مخلوقة، بعدين تسقط ، بعدين تتخرب، هذا طيار ما يسقط، طيار ما يتخرب جناحاه، كان سيدنا عمر كلما قابل عبد الله بن جعفر يقول: السلام عليك يا ابنَ ذي الجناحين، كل ما يلاقيه في الطريق يقول: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
كان هواهم تبعاً لما جاء به نبيُّهم، وإلى أين تأخذ بنا أهواؤنا أيها الأحباب أيها العباد؟ اصدُق مع مولاك في مجمعك الذي جمعك فيه بملائكة وأصفياء، واجعل هواك تبعاً لما جاء به خاتمُ الأنبياء، حتى تهوى اللقاء، وتهوى المرافقةَ في دار البقاء.
اللهم اخلع علينا خِلعةَ التقى وألحِقنا بأولئك الأتقياء، وأرِنا وجوهَهم يا حيُّ يا قيومُ يا الله، مَن يداوي قلبَ المتكلمِ والسامعين والحاضرين معنا، ومَن يسمعُنا، بأن يخلِّصَه مِن هوى غيرِ مرادِك وغيرِ قصدِك، يا ربَّنا يا قويُّ يا سميعُ يا بصيرُ يا مطَّلعاً على البواطنِ يا عالماً بالسرائر.. مَن لِقلبِ المتكلمِ ومَن لقلوبِ الحاضرين ومَن لقلوبِ السامعين، يا ربنا مَن يا إلهنا لهذه القلوب، يا ربَّ العرش يا سميع يا مجيب، يا جامعَنا على التَّعرُضِ لنفحاتِك، مَن لِقلبِ المتكلمِ، ومَن لقلوبِ الحاضرين، ومَن لِقلوبِ السامعين، يداويها، يصفِّيها، ينقِّيها، لا يُبقِي فيها هوىً إلا تبعاً لما جاءَ به الهادي إلى طريق السَّواء، يا الله، أنت أنت أنت لقلوبِنا فطهِّرها ونوِّرها وصفِّها ونقِّها واصطفِها وقرِّبها يا الله، مَن يبيتُ الليلةَ على ظهرِ الأرض وهواه بكليَّته تابعٌ لما جاء به حبيبُك محمد، فاجعلنا منهم، أدخِلنا فيهم، اجعلنا في غمارِهم يا حيُّ يا قيوم، يا منان يا كريم يا رحمن يا رحيم يا الله، شرِّفنا بنصرتِك ونصرةِ هذا النبي، ثبِّتنا على ما تحبُّ منا، وتولَّنا في الحسِّ والمعنى برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
17 جمادى الأول 1439