(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة للحبيب عمر في جلسة الاثنين بساحة مسجد الجامع بالسوق ليلة الثلاثاء 25ذوالحجة 1429هـ بعنوان:
وحي الحج وشأن المرافقة لأكرم الخلق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمَنا بهذه الرسالة الكاملة الخاتِمة، وهذا الرسول المصطفى، لله الحمد أولاً وآخراً في الظاهر والخفاء، نشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أحاط بكلِّ شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، ونشهد أن نبيَّنا محمداً عبده ورسوله جاءنا منه بالهدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولو كره الكافرون أبداً سرمداً، فعبدُه المصطفى محمدٌ هو المؤيَّد المنصور الظاهر هنا وغداً، تحقيقاً لما قال رب العباد: ( إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
فصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على مَن جاءنا منك بالبينات، وجعلتنا به خيرَ أمة أخرجت للناس بين البريات، وصلِّ معه على آله المخصوصين منك بأسمى الطهارات، وعلى أصحابه الممنوحين منك بالارتقاء في الدرجات الرفيعات، وعلى مَن تبعهم بإحسان على الإنابة والإخبات، على ممرِّ الأعصار والدهور إلى يوم الميقات، وعلينا معهم وفيهم يا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات.
تخرجُ الأمة من هذا الموسم، موسم الحج المبارك، موسم الوفادة على الحق، والوفادة على مَن دلَّ على الحق على حبيب الحق، على الدال على الحق على المبعوث بالحق، على النبيِّ الحق صلوات ربي وسلامه عليه، وهُم بهذا الموسم يودِّعون واحداً من الأعوام التي تشتمل على عدد من الليالي والأيام، هي منازل السعي، وهي أجزاء كل مكلف على ظهرِ هذه الأرض، إنما الأيام عمرُك، وإنما هي أنت، فإذا مضى منها يومٌ فقد مضى بعضك، مضى بعض منك، فإنما أنت في هذه الحياة الدنيا روح وجسد في مدة محدودة، هذه المدة هي أنت، كلما مضى منها شيء مضى منكَ حتى تتجمَّع الأبعاض وينتهي الكل، فتنتهي بكلك.
هذه الأيام والليالي التي لا يشعر الناس بقيمتِها وعظمةِ مكانتها وعَليِّ ما فيها، إنما يشعر ويدري بذلك خواصٌّ مِن أولي الألباب على ظهر هذه الأرض، علموا أن اللهَ جعل الليل والنهار خِلفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورا. فكل ما اكتسب الناس في شرق الأرض وغربها من خلال الأيام والليالي غير التذكُّر والشكور فليس هو المقصود من هذه الليالي والأيام، ولم يصيبوا الهدفَ منها، ولا الغرضَ من إيجادها ولا الحكمةَ مِن قيامها، كل ما اكتسبوه غير زيادة التذكُّر والشكور للإله الذي خلقهم فهو خارجٌ عن الحكمة الأساسية لِخَلق هذه الليالي والأيام، وخَلق هذا الوجود بهذا الشكل الذي نحن عليه، وخَلق هذا الإنسان بهذه الهيئة وبهذه الصورة.
تمر به الأيام والليالي وظروف وأحوال وتقلُّبات وحوادث، شيءٌ في الأجواء مِن حر وبرد، في فصول مرتبة في السنة، من صيف وشتاء وربيع وخريف، كلها تمر بأنواع من الأحداث والتقلُّبات والأطوار الأُخر، أنواع من المرغوبات وأنواع من المكروهات للإنسان، أنواع من الاختبار بالنِّعم والرخاء، وأنواع من الاختبار بالشدائد والآفات، كلها جاريةٌ تحت نظرِ صاحب القدرة، ومن بيده الأمر كلُّه سره وجهره جل جلاله، ثم يُوفَّى الناس ما كان منهم في خلال هذه الليالي والأيام.
اجتمعت ثُلةٌ عظيمة من الأمة، وردَت على الباري جل جلاله وتعالى في علاه بوفادة خاصة مشروعة مبينة مدعوًّا إليها على ألسن الأنبياء بالوفادة على البيت الحرام والمشاهد العِظام والشعائر الفِخام، والوفادة على خير الأنام ومهاجَرِه ومسجدِه وروضتِه وحجرتِه ومآثرِه ودارِه التي اختاره الله له، صلوات ربي وسلامُه عليه وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربِه.
وكانت هذه الثُلَّة نائبةً عن بقية الأمة في المشارق والمغارب، كان للقلوب أيام الموسم توجهاتٌ متنوعاتٌ مختلفاتٌ في صفائها وفي صدقها وفي مراتبها وفي إصابتها للهدى وحيازتِها المنزلة لدى الرحمن مِن رضاه، ومن قبوله جل جلاله وتعالى في علاه، فاتصلت الأجسام والقلوب والأرواح التي وفدت بالقلوب والأرواح التي لها سر تعلُّق بالوفادة على الله جل جلاله وتعالى في علاه، في أي مكان كانت، واختلفت المشاركاتُ وتنوَّعت التوجُّهات، ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها فاستبِقوا الخيرات، ما هو خيرٌ في كلِّ حالة، استبقوا الخيرات: من كل كل شأنٍ خيرُه، مِن كلِّ نوعٍ خيرُه، مِن كلِّ حالٍ خيرُه، فاستبقوا الخيرات، أينما تكونوا، حيثما كنتم كونوا سبَّاقين إلى الخيرات، دعوةٌ من الله بالسباق، فهذا ميدان السباق، ونتائج السباق إنما تبرز في يوم التلاق، فمن سَبق سَبق، ومن سُبِق سُبِق، إلا أن هذا السباق شأنه خطير لبقاء أثرِه أبد الآباد بلا نهاية، تبقى آثار السبق فيه والتخلُّف فيه كذلك إلى الأبد بلا انقطاع قط سرمداً، فكان الأمر جدا خطير لكل بصير، ولكل ذي تنوير، ولكل مَن وصل إلى قلبه نداءُ العلي الكبير، بواسطة السراج المنير صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، شرَّف الله قلوبنا بوصول النداء وأشرق فيها شمسَ الهدى وجعلنا ممن بهذا السراج اقتدى ظاهراً وباطناً إنه أكرم الأكرمين.
اتصلت تلك القلوب بتلك القلوب، واتصلت بها قلوبٌ في السماء، من الملائكة الكرام الذين يباهي بهم الملك العلام أهلَ تلك القلوب والأجساد الواقفة موقفَ التعرُّض للرحمة والتذلل والمسكنة للعلي القدير المتَّبِعة للأثر الواقفة بعرفة والمُفيضة إلى مزدلفة والواردة إلى منى والمتطوِّفة بالبيت العتيق، فكان مِن جملة ما في ذلك من الشأن طرقُ باب الملك الديَّان والرحيم الرحمن، والوهاب المنان جل جلاله وتعالى في علاه، وكان مقتضى سُنتِه في التعامل مع الخلق وخصوصاً هذه الأمة إفاضاتٌ من الجود والكرم، تحدث عنها النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد كان إمامَ أهل التوجه في كان شأن، وقد توَّج هذه المناسك بحضوره فيها آخرَ عمرِه الشريف بعد أن تتوَّجت قبل، لكن كان التاج الأكبر بحضوره في حجة الوداع، مبيِّناً مودِّعاً موضحاً مؤدياً مبلِّغاً تاركاً الأمة على المحجَّة البيضاء، وهناك ظهر آثارُ القلوب في معاملتها لعلامِ الغيوب واضحةً بيِّنةً في حالتها مع الحبيب المحبوب، فهناك الإصغاء والإنصات والاستماع والإتباع والتسابق إلى الرؤية والسماع والأخذ والتلقي والتدافع إلى التبرُّك واقتناء الآثار، حتى تنافسوا على شعرِه الكريم، فمنهم من أصابته شعرتان ومنهم من نال بيده شعرة واحدة.
كان من المواقف الموقف الذي أبكى أبا بكر الصديق وهو يشاهد سهيل بن عمرو يدافع ويسابق ليأخذ شعرةً من شعر رسول الله، فلما ظفِر بالشعرة قبَّلها بشفتيه ومسح بها عينيه، فبكى أبو بكر فقال: قبل وقت يسير عام صلح الحديبية كان هذا ينازع في كتابةِ محمد رسول الله ويقول ما أعلم أنك رسول الله، ولو أعلم أنك رسول الله لما قاتلتُك، أكتب محمد بن عبد الله. واليوم يسابق على الشعر ليقبلها ويمسح بها عينيه، فبكى أبو بكر لما رأى من فيض الرحمة التي رفعت هذا الشخص من ذاك المستوى الهابط إلى هذا المقام العلي، فما مرت الأيام إلا وقد أُكرم بواسطة خير الأنام أن لا يُقبل على الله ولا يلقى الله إلا وهو في مقام التمام في الأدب والاحترام مقام الذوق والإدراك لمعاني التكريم والتعظيم محبة وشوقاً وتعظيماً وإجلالاً، فصلى اللهُ على صاحب القلب الرحيم، لو أمر بقطع لسانه أو قطع عنقه في ذلك اليوم لما حاز شيئا من هذا الخير، ولما ذاق شيئاً من هذا المذاق العالي، ولكن الرحمة الفياضة أوصلته إلى هذه الرياض، وأوردته على هذه الحياض، فصلَّى اللهُ على رحمتِه الكبرى ومنَّتِه العظمى سيدِ أهل الدنيا والأخرى، منقذِنا ومرشدِنا وهادينا ومعلِّمنا الرؤوف بنا الرحيم بنا الشفيق بنا الحريص علينا، الناظر في مصالحنا، المتوجه في شئوننا أبداً، الكثير الدعاء لنا ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلواتُ ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
مضى هذا الموسم بما فيه، وتودِّع الأمة ذكرى حجته الكريمة ووداعه لأمته في تلك المواقف العظيمة ووصاياه التي توجَّه بها إلى تلك هذه الأمة، وكرَّر وركَّز على معاني الإسلام والإيمان والجهاد والهجرة، وأخذ يؤكد ويُثبِّت حرمةَ الدماء والأموال والأعراض، منهج الله الذي ارتضاه لعباده، دعوة حقيقة السلامة والسلام والاستقامة والنور والهدى والرحمة والثبات على ما هو أولى وأليَق وأرفَق وأوفَق بهذا الإنسان، وأوثق له في كل شأن، ( صبغة الله ومَن أحسنُ مِن الله صبغة ونحن له عابدون ) فماذا عند البشر على ممرِّ القرون إلا إدعاءات وتطاوُلات مِن عقلياتهم وتفكيراتِهم، لا ينتهون بها إلى حقيقة إلا بإتباعِ خيرِ الخليقة العروة الوثيقة، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.. رزقنا اللهُ وإياكم حسنَ اتباعه.
وإذ يودِّعون العام من أعوام هجرتِه، ويودِّعون البعض منهم بعضاً من كل فرد منهم يرحل ويُقتطع منهم فما يبقى إلا ما وراء هذا البعض من الأبعاض الباقية لهذا الإنسان الذي يشاهد انتهاء الأبعاض من قرنائه ورفقائه ومشاركيه ومُعايشيه في هذه الحياة، واحداً بعد الثاني ذا صغير وذا كبير، وذا بتوقُّع وذا بغير توقع، وذا بمرض وذا بفجأة، وذا بمرض خطير وذا بمرض يسير، وكلهم على حدٍّ سواء في أنهم تحت المقادير، لا يتجاوزون ما كان من تدبير الملك القدير جل جلاله وتعالى في علاه، ألا إلى الله المصير.
ويستقبلون عاما جديداً مذكِّراً لهم بكل هذه المعاني، وما تحمله إلى الألباب وإلى العقول والأفكار مِن هداية إلى الهدى والصواب، فكان مِن حق كل فرد منا أن يتأمل زيادَة التذكُّر والشكور لديه، ليحصل حقيقة نعمة ربه عليه، ويغتنم قيمة الأيام والليال، أو زادَه أو حظه ونصيبه منها، فكل ما حققه الإنسان من غير زيادة تذكُّره، وتذكُّر يشمل قشعَ الحجب عن الروح لتتذكَّر معهدها الأول، وعهودَها مع الأول جل جلاله، ولتكشف الغبار أيضاً ليمتد نظرُها إلى مصيرها المقبل ونهايتها إلى الأول الآخر الباطن الظاهر جل جلاله وتعالى في علاه.
ومراتب الشكور كل ما يمكن أن يكون على وجه الحقيقة خير ينتفع به المخلوق وينفع به غيره فهو في دائرته دائر، لا يخرج عنها بباطن ولا بظاهر، وقد قال سيد الوجود: أفلا أكون عبدا شكورا. وهو أشكر الخلق للخالق وإمام الشاكرين وسيِّدهم ومعلِّمهم، وبِشُكرِه يشكرون البرُّ الشكور جل جلاله، فهو خير شاكر وهو أكرم مشكور لدى البرِّ الشكور جل جلاله وتعالى في علاه، اللهم اربطنا بعبدِك الشاكر في كل باطنٍ وظاهر، ولا تفرِّق بيننا وبينه في البرزخ والآخر، إلى دار الكرامة والنظر مع خيرةِ الخِير من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
النظر إلى ما يزيد فينا مِن حقيقة التذكر والشكور لنكون ممن أدرك حقيقةً في الليالي والأيام ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) وما هي مجالات ومعالم وأوصاف التذكُّر والشكور؟ تقرأها في أحد عشر وصفاً يقصها عليك العزيز الغفور بنفسه عندما يقول لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا سجدا وقياما ) .. تابِعها وتأمَّلها، وانظر نصيبَك منها، ولا تقنع بمجرَّد المرور على الفِكر، بل تعمَّق، تذوَّق، تحقَّق، توثَّق من ترسيخها فيك، وجريانِها في مواطنِها الأصلية المودوعةِ في ذاتك، فكل وصفٍ من هذه الأوصافِ له مستقَرٌّ في ذاتك، يجب أن يستقر فيك، وإذا أخذ قراره في الذات كنتَ بذاتك مِن عباد الرحمن، وكنتَ في كل يوم تزدادُ تذكُّراً وشكورًا، وفي كل ليلة تزداد تذكُّرا وشكورا، يعِدُّ لك اللهُ مثوبةً وأجورا جلَّ أن يصفَها واصف، أو يكيِّفها مُكيِّف، كما ورد في الحديث القدسي: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
راكِد في نفوس أكثر أهل الإسلام الإيمان معنى إدراك الليالي والأيام، وحقيقة أن يُعدُّوا أعينَهم لرؤيةِ وجهِ خيرِ الأنام ومرافقته في يوم القيام والزحام، والأهوال العظام، ثم في دار السلام، أهذا بالأمر اليسير أم هو بالأمر الهيِّن، أم هو بالأمر الذي لا يستحق أن يأخذ كلَّك، لو كان معك شيء غير كلك لكان يسير أن يأخذه هذا الأمر فكراً وذوقاً ووجداناً وشوقاً ومحبة وتولُّعا وتولُّها وتفانيا، لكن كم أعطيتَ هذا الأمر منك؟ كم أعطيتَ من هذا من فكرك؟ كم أعطيتَ هذا الأمر مِن عملك؟ عمل جوارحك؟؟ كم أعطيت هذا الأمر من صفاتك القلبية؟ كم أعطيت هذا الأمر من ساعات الليل والنهار؟
قد سمعتَ قصة الصديق، تقول أسماء بنت عميس دخل عليَّ في ليلة - وقد كان قد تزوجها- قالت: قام يصلي ثم جلس ناحية البيت، واحتبى ووضع رأسه بين رجليه، وإذا به يبكي وتسمعه يقول: واشوقاه إلى رسول الله، واشوقاه إلى رسول الله.. لم يفارقه سنوات، ما وصلت سنوات أيام مفارقته له الحسية، لم يمكث في الخلافة إلا سنتين وستة أشهر، ما بلغ الثلاث سنوات، لكن ما كان يطيق الفراق، ولكن ما كان يتحمل، ولكن كان الوجد والشوق يحمله على أن يهجر النوم، ويمتلئ بالوجد فيبكي، حتى رقَّت عليه زوجته، قالت: فقمت إليه أسكِّنه وأهدِّئُه، أقول له يا أبا بكر يا خليفة رسول الله: قد صاحبتَه قد جالستَه وقد فديتَه وقد قمت معه وقد نصرتَه وقد أحبَّك وقد رضي عنك وقد أكرمك، وستلقاه وستجيء إليه؛ ولم تزل تهدِّئه وهو في وجده.. واشواقاه إلى رسول الله، ويبيت طول ليلته وهو في هذا الشوق وفي هذا المعنى.
أما دعتنا إليه الحياة بما فيها من مكرٍ وحيلة وعرضَه علينا أعداؤنا يقطعونا عن هذه المعاني قطعا، ويُفقِدنا إياها فقداً، وينزعها من بواطننا نزعا، أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير!!
يا كل من آمن: أمرُ المرافقة لهذا الأطهر، أمرُ المرافقة لهذا الأنور، أمر المرافقة لهذا الوجه الأغر، هو أكبر من جميع ما نتصور، إنه النعيم الأكبر، وإنه الجود الأعظم الأغمر من حضرة العلي الأكبر، إذا أراد ربُّ العرش أن ينعِّمك وأن يلذِّذك وأن يواصلك بأسنى ما يعطي، فإنما يبرز ذلك فيما يجعل لك مِن قدرٍ ورتبة في مرافقة هذا الوجه، في مشاهدة هذا الوجه، في رؤية هذا الوجه، في مخاطبةِ صاحب هذا الوجه، في مجالسة صاحب هذا الوجه، وجه محمد، أوجه الوجوه لدى الله، لا وجه له وجاهة كهذا الوجه قط، من قبل ومن بعد، أوَّلا وآخرا، ظاهرا وباطنا، هذا أوجه وجيه لدى باريه، جل جلاله وإنما قُرب من سواه بحسب ما يُدانيه، ووصلُ مَن عداه على مرتبة ما يواليه ويوليه، بشرٌ لا كالبشر، ومخلوق لا كالمخلوقات، وكائن لا كالكائنات، عبدٌ لا كبقية العبيد، محبوب الملك الوحيد، صفوته من الكل، وخيرته من كل شيء بلا استثناء، وبكل معنى..
أفتعدُّ مرافقته بالأمر الهين!؟ ما تقتضي بكاء عينك!؟ ما تقتضي سهر عينك؟ ما ترتضي امتلاءك بالوجد؟ ما تقتضى أخذَ فكرك؟ مرافقة من؟ مجالسه من؟ مكالمة من؟ مخاطبة من؟ مشاهدة من؟ الساري إلى قوس قاب، سيد الأحباب المُنزل عليه الكتاب، نور الألباب، محمد أحمد، طه ياسين نور الله، رحمة الله، صفوة الله، خِيرة الله، مِنَّة الله، فضل الله، حبيب الله، كيف ما يستحق شأن مرافقته أن يأخذ منا كلَّنا، ولو كان معنا شي غير كلنا لكان رخيصا أن نبذله!! ما للمشاعر عند الأمة تموت، وما لاستبدال الدنايا به الخير الأعظم يفوت!! ولو حيِيت هذه المعاني لبطلت جميع وسائل وأسباب الشر المبثوثة في الظاهر والباطن، ولسلمت الأمة من كل فتنة، إنما وقوعهم في الفتن على قدر النقص في محبة الحق ومختاره جد الحسن، فالله يحيي ما مات في قلوبنا وقلوب هذه الأمة. ويجعل لنا في خاتمة هذا العام فكرا قويماً مستنيرا صادقا في طلب سرور قلبه، بترتيب إصلاح أوصافنا وأخلاقنا ومعاملاتنا والنظر فيما هو دائر في ديارنا ومنازلنا وبيوتنا، وما تحمله القلوب نحو ما دعانا إليه ودلنا عليه من محبة الله، حتى لا يكون شيء أحب إلينا من الله، ثم إذا التفتنا إلى ما نحبه من أجل الله لا يكون في هذا المجال شيء قط أحب إلينا من محمد بن عبد الله.. ولا الأنفُس؟ لا.. ولا الأنفس، ولا الجنة؟ لا.. ولا الجنة، ولا الكرسي؟ لا.. ولا الكرسي، ولا العرش؟ لا.. ولا العرش، ولا الأرض ولا السماء ولا شيء ما في الكائنات يحب الله أن تحبه من أجله كمحمد؛ وما أذن لنا أن نقدِّم عليه شيئا كائنا ذلك الشيء ما كان، كل مخلوق لا يمكن أن يتقدم على محمد صلوات ربي وسلامه عليه، الخالق قدَّمه، فهو المقدم، وعلى قدر طاعتنا للخالق نعرف تقديمه، نقدِّمه على أنفسنا، على قدر تقديمه نقدم هذا العبدَ المحبوب على أهوائنا وعلى شهواتنا وعلى بيوتنا وعلى كلِّ ما عندنا، وعلى الأرض والسماء، وكل ما فيها وعلى الدنيا وعلى الآخرة، محمد أكرم منها كلها، محمد أعظم منها كلها محمد أحب منها كلها محمد أطيب منها كلها محمد أنور منها كلها، محمد أكبر منها كلها، محمد أعظم منها كلها صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله.
فسبحان العظيم الذي خصص بالتعظيم هذا الحبيب العظيم، وقال له: ( وكان فضل الله عليك عظيما ) وقال له ( وانك لعلى خلق عظيم ) ويقول لا يأخذ معنى من معاني صبرك وحلمك إلا أهل الحظ العظيم ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )
ولذا وجدنا سلمة بن ربيعة يقول بعد أن أدرك هذه العظمة، والنبي يقول له سل ما تشاء؟ يقول: ماذا اسأل!؟ كنا في جاهلية وأنقذنا الله بك وأنا بين يديك آخذ شرعك.. ماذا أريد؟ هذه العظمة لم يبق شيئاً أطلبه.. أطلب ماذا؟ هذه العظمة ماذا أطلب؟ كنا في جاهلية وشر، واليوم أنا كيف! ماذا أطلب؟ قد أعطاني فوق ما يمكن أن أطلب!
قال فسأل شيئا؟ قال: ولا بد أن أسأل؟ إن سألتك شيئا من أمر الدنيا فدعوت الله جاء وسُخِّر لي ثم تركته وتركني، فلا أسأل شيئا من الدنيا! فما تسأل؟ قال: إن كان لابد أن أسأل، فأسألك مرافقتك في الجنة.. قال النبي: أو غيرها؟ قال: لا غيرها.. ما في لك رغبة في غيرها؟ قال لا هذه فقط.. فقال له صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود. هيئ نفسك، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قال أنت كثِّر السجود من أجل أن تكون قريبا من الأقرب، أنت تريد قربا من الأقرب؟ كثر السجود من أجل أن تكون أقرب! تتهيأ للقرب مني صلوات ربي وسلامه عليه (فأعني على نفسك بكثرة السجود) معاني السجود اليوم نتبرع بإخراج ما يخالف سننه من بيوتنا، ونقول عام هجرته هذا ينتهي وتنتهي مخالفتنا للسنة من البيت! هذا سجود صحيح ( أعني على نفسك بكثرة السجود) أنت تريد ترافقه ولا تريد توافقه!؟ تريد ترافقه غداً وما تريد توافقه الآن؟! وافقه الآن ترافقه غداً، تريد ترافقه غداً ولا تريد توافقه الآن!؟ رافقه فيما دعاك، ما لا يحب من أي صورة من أي شريط من أي برنامج من أي صوت ما لا يحبه أخرجه من بيتك! أسجُد لله، أبعِد ما لا يحبه رسول الله من بيتك حتى يخرج العام وأنت أدركت معنى من هذا السجود.
يدخل العام الجديد وأنت على مزيد، تتهيأ للقاء خير العبيد، هذه من هدايا الحج والزيارة للمصطفى، نأخذها وقت بسطَها لنا الرحمن أخذَ أهل الصدق والإيقان، والوجهة بالسر والإعلان إلى مولانا الرحمن، يا رب أكرمنا بشريف المرافقة لسيد ولد عدنان ومن أنزلت عليه القرآن، نبي الرحمة كاشف الغمة وجالي الغمة، اللهم كما جعلتنا به خير أمة، فاجعلنا في ركبهِ يوم القيامة، وفي الواردين على حوضه المورود مع أهل الكرامة، وفي النازلين منازل القرب منه في ظلِّ لواء الحوض الحمد، وعند المرور على الصراط إلى دار المقامة، وأنت راض عنا .. يا خير من يُطلب، يا من إليه المهرب يا من ليس لنا غيره رب، يا رب يا رب سألناك بمحبته له وبما أودعته قلبه من محبتك إلا ما جعلتنا في أحبته، إلا ما سقيتنا اللهم من كأسه، وإلا ما أثبت لنا حقيقة مودته، وإلا ما كتبت لنا الحشر في زمرته، بحقه عليك لا تخلفنا عنه، ولا تباعد بيننا وبينه برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين.
ولقد مرت قلوبٌ سُقيت كؤوس الوصال قد سجدت لك في هذه المحال، وركعت لك في هذه الأماكن، وذرفت عيونها لك في هذه المواضع، من بين قائم وساجد وراكع، اللهم أعلِ درجاتِهم، وثبِّتنا على ذاك الذي أذقتهم والمحبة التي قذفتها في قلوبهم والإيثار الذي جعلتَه في أفئدتهم فآثروك على كل ما سواك، وكنت أنت المؤثِر لهم على ما سواهم، اللهم سر بنا في ذلك المسار، وأشرِق علينا ساطع تلك الأنوار وزد أهل تلك العطايا الكبار منك عطايا كبار، يا من يزيد ولا يبالي ويكرم ولا يبالي، ويرفع ولا يبالي، ويعطي ولا يبالي،
يا الذي ما بدا سائل رجع منك خالي
يا الكريم الذي يعطي ولا هو مبالي
فإننا اليوم يا مولانا حطت رحالي
في رحاب أهل ودك ذو حظوا بالنوال
ضيفهم ضيف عندك ربي فأكرم نِزالِ
أكرم نزلنا واقبلنا أجمعين واجعل أعمارنا خالصة لوجهك الكريم، بسر استغفار نبيك للحاج ولمن استغفر له الحاج فاستغفاره قائمٌ على مدى الأعوام نسألك اللهم بسر ذاك الاستغفار النبوي أن تغفر لنا، اللهم اغفر لنا وللحاضرين واغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم أجمعين، واغفر لنا ولأهلينا ولأهليهم أجمعين، اغفر لنا ولمولودينا ولمولوديهم أجمعين، اغفر لنا ولأحبابنا ولأحبابهم أجمعين، اغفر لنا ولذي الحقوق علينا وعليهم أجمعين، اغفر لنا ولجميع من له حق علينا وعليهم ظاهرا وباطنا يا خير الغافرين.
اللهم أوسع الغفران، اللهم أكمل الغفران، اللهم أشمل الغفران، اللهم أعظم الغفران، اللهم أتم الغفران اللهم عم بالغفران جميع سيئاتنا وذنوبنا وخطيئتنا وجميع زلاتنا وجميع معايبنا وجميع إسرافنا في أمرنا، ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أردد عنا كيد الكفار والفجار، واجعلنا في حصونك الحصينة وحروزك المنيعة آناء الليل وأطراف النهار واجعلنا ممن تذكَّر وشكر، واهتدى وتبصَّر، واقتفى الأثر، وتابع خيرَ البشر، وكان هواه تبعا لما جاء به فيما بطن وما ظهر، يا عالم الظاهر والباطن يا عالم السر وأخفى يا لطيف اللطفا ثبِّتنا بأكمل الثبات ووفقنا لما أنت أهله يا مجيب الدعوات، واجعلها ساعة من ساعات الإجابات وارنا بركتها في الحياة وعند الممات وبعد الممات إلى أبد الآبدين يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات يا رب الأرضيين والسموات، يا من دعوناك بسرِّ دعوته إيانا، وصلت دعوتك لنا على لسان حبيبك فنحن بحبيبك ندعوك فاستجب لنا كما وعدتنا، يا من وهبت لنا الإيمان ووهبتنا اليقين ووهبت لنا الإسلام ووهبت لنا الإتباع لهذا المصطفى ، اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارِك لنا فيه فبارك لنا فيه أوسع البركة يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين يا الله...
لنا ولهم سألناك ولمن يوالينا ويواليك وأصحاب وجيران وطلاب وأحباب وذوي الحقوق علينا وأملناك، وطلبناك ودعوناك وتوجهنا إليك وناديناك وتذللنا بين يديك، هذا موقف الأذلاء يا راحم المتذللين، من لنا سواك الضعف كله لنا، والقوة كلها لك والعجز كله لنا، والقدرة كلها لك، يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين، تُقبل على من دعاك ورجاك وأمَّلك فنقول لك يا أرحم الراحمين ارحمنا، وعافنا واعف عنا، وعلى طاعتك وشكرك أعنا، ولكل خير وفقنا، واغفر لنا ما كان منا، واحفظنا في ما بقي من أعمارنا وارزقنا صرفها فيما يرضيك عنا واختم لنا جميعاً بأكمل الحسنى يا محسن يا الله إحسانك القديم ومنَّك الفخيم وجودك العميم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام سبقَنا من أدرك سر التوجه إليك فاغتنموا الأعمار، وخرجوا في الحر مع نبيك المختار، وخرجوا في البرد مع نبيك المختار ولم تعطِهم من الثياب الظاهرة مثل ما أعطيتنا، ولم تيسر لهم من الأسباب المادية مثل ما يسرت لنا ومع ذلك فقد كانوا أهل صدق وجهة إليك بذلوا الغالي والرخيص وخرج من خرج منهم في غزوة الخندق لم يجد ما يستر جسده ويدفئ به إلا مرط زوجته فأخذه في تلك الليالي، وما رضي أن يترك السهر في الخندق ولا أن يأوي إلى بيت ولا أن يستكن بكِنٍّ في داره، اللهم أرضى عنهم رضاً أبدياً وزدنا يا مولانا مِن محبتهم لك ومن أجلك وارفع درجاتهم لديك وأجزهم عنا خير الجزاء، وخرجوا معه أيام شدة الحر حيث قال من نافق فتأخر لا تنفروا في الحر فهددتهم بقولك ( قل نارُ جهنَّم أشدُّ حرّاً لو كانوا يفقهون ) فخرج أولئك القوم والشمس عليهم طالعة ليس لهم مظلات كما نجد اليوم، وليس لهم مستكنات كما يسَّرت لنا اليوم، فرضي الله عن أولئك القوم، اللهم زِدهم ارتفاعا في الدرجات، ومثوبات بلا حساب منك يا معطي العطيات، واجزهم عنا بأفضل الجزاءات، وارزقنا مشابهتهم في تلك التوجُّهات، بما يسرت لنا من كثير الخيرات، ارزقنا شكرك وأعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا التذكر والتبصُّر والتنوُّر يا منوِّر المنوَّرين، يا نور السموات والأرض، يا صاحب الفضل في يوم العرض، لا تخزِ في ذلك اليوم منا أحدا، ولا تكشف له عورة، ولا تُظهر له فضيحة، ولا تُبرز له قبيحة، امنن على قبائحنا وفضائحنا ومساوئنا بشريف سترك الجميل، وامنن علينا يا مولانا بالاستظلال في ظلِّ عرشك الظليل، واجعلنا نقيل في أشرف مقيل، مع أهل المقام الجليل، ونرد على الحوض الزلال العذب السلسبيل، ونمر مع الحبيب الجليل إلى جناتك التي أعددتَها ونعيمك الذي أبيتَ أن تعلمَه نفس من أهل الأرض والسماء، يا ذا الجود يا الله، يا ذا الفضل يا الله، يا ذا الإحسان يا الله، طلبناك وأملناك، ورجوناك ودعوناك، وناديناك وناجيناك، فهل يخيب مَن رجاك يا كريم؟ وهل يُرد من قصدك يا عظيم؟ من أولى بالجود منك يا بر يا ودود، والجود منك إلهنا معهود، سرَت سرايته في أهل الشهود، ومن قام على بابك لم يرجع عن الباب مطرود.
اللهم فافتح لنا الأبواب، واكشف عنا الحجاب، ويسر لنا الأسباب، وسهل لنا الصعاب، ورقِّنا مع الأحباب، واسقِنا من أحلى شراب، مع خاصة الاطياب، يا مسبِّب الأسباب، يا كريم يا وهاب، يا رب الأرباب، يا قريب يا مجيب يا الله، أنت أقرب إلى كلٍّ منا مِن حبل وريده، فنسألك بشكرِ محمد وتحميده، إلا ما أوردتَنا مواردَه، وإلا ما أشهدتَنا مشاهده، وإلا ما جعلتنا من أهل ودادك ووداده، ووفَّرت لنا الحظ مِن إمدادك بإمداده برحمتك يا أرحم الراحمين. يا أرحم الراحمين.. مغفرةً شاملة لنا ولمن والانا فيك، نستغفرك لذنوبنا وللمؤمنين والمؤمنات فمغفرتك الشاملة يا خير الغافرين يا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين.
04 مُحرَّم 1430