نوع وميزان الصلة برسول الله بنور ودلالة القرآن الكريم

كلمة الحبيب عمر بن حفيظ ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف 1447هـ في مصلى أهل الكساء بدار المصطفى 

ليلة الخميس 12 ربيع الأول 1447هـ

 

نص الكلمة مكتوبة:

الحمد لله مفيض النوال، جزيل الإفضال، لم تزل عطاياه في توال، وجوده سبحانه وتعالى هطّال، على المقبلين عليه والمتوجِّهين إليه. فسبحانه من إله كريم، ورب خالق قدير عظيم، خلق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، فهو الغني عنهم وعن خلقهم وعن إيجادهم، وعن إيمان المُكلفين منهم به، وعن طاعتهم له، وهو الذي لا يضره شيء من معاصيهم ولا مخالفتهم ولا جحودهم ولا عنادهم.

ولكن اقتضت الحكمة الربانية الإلهية القُدوسية الصمدانية أن تُميّز بين الفريقين، وتجعل المكلفين إلى غايات ينتهون إليها، تنتهي إلى الجنة أبداً وإلى النار أبداً، والخلود أبداً في الجنة أو في النار، حكمة من إله حكيم (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) جل جلاله وتعالى في علاه.

اختلاف الخلق أمام دعوة الرسل

قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

فاختلف الناس بعد ذلك، والمكلفون من الإنس والجان على ظهر هذه الأرض، في وجهاتهم وفي نياتهم وفي تلبيتهم لنداء ربهم والإيمان به، وفي إعراضهم عنه واغترارهم بما بَثّ أمامهم من شؤون هذا العالم القصير والشؤون الفانية فيه والأمور الزائلة فيه. (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) يقول جل جلاله وتعالى في علاه.

ثم اختلف المُقبلون على الله والمؤمنون به إلى درجات في صِحّة الإيمان وفي تحقيقه باليقين وبالعمل المتناسب معه والمتوافق مع حقائق الإيمان، والاعتلاء في تلك الدرجات بِحُكم الذوق والوجدان، وبِحُكم خالص وصافي العرفان، وما قُسِم لِكُلٍّ منهم من حقائق القرب منه والفهم عنه والمعرفة به والمحبة منه والمحبة له سبحانه وتعالى، والرضا منه والرضا عنه جل جلاله، وهم على ذلك في درجات في الحياة وفي البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة.

والحُكم يظهر فيها لهذا الإله أكثر ما يظهر عند الخواتيم من خلال هذا عمر التكليف وعمر الأرض، ثم يستمر ما بعد هذه الخاتمة إلى الأبد؛ من البرزخ إلى القيامة إلى الجنة.

والذين خالفوا وكذَّبوا كذلك هم على درجات، وفيهم من يُحادّ ويعاند ويؤذي ويحارب، فهؤلاء الذين من أجلهم شُرِع القتال في سبيل الله والجهاد في سبيل الله جل جلاله، لصدّهم عن الظلم والطغيان والعدوان، ولإنقاذ من أراد الله إنقاذه منهم رحمةً بهم من النار إلى الجنة، ومن البُعد إلى القرب، ومن الكفر إلى الإسلام، فضلاً من الله تبارك وتعالى.

شرعه في شريعة قويمة عظيمة كاملة تامّة، لا يصلُح للخلق ولا يُصلحهم إلا هي، جميع المكلفين إنساً وجناً على ظهر الأرض، لا يصلح لهم ولا يُصلحهم إلا هذه الشريعة، إلا هذا النظام الإلهي، إلا هذه الأوامر وهذه النواهي.

ولكن هذه الاختلافات أيضاً جاءت بين الفساق والفجار والكفار، فبعضهم في نفسه وبعضهم يضر غيره، وبعضهم يصدّ عن سبيل الله، وبعضهم يحارب ويقاتل أهل الدين ويظلم ويفتك في هذه الأرض، فهم بذلك على دركات في الجحيم وفي الغضب وفي السخط وفي البُغض من الجبار جل جلاله وتعالى في علاه، وفي البُعد عنه سبحانه وتعالى، وفي الجهالة به، وهم بذلك على دركات في نار جهنم - أجارنا الله وأعاذنا منها - (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

أهمية الصلة بالله ورسله

وهذه الدرجات بِمُختلف ترقِّياتها بالنسبة للمؤمنين لا تنفصل قط عن حقائق الصِّلَة بالله ورسله، كذلك الدركات لهؤلاء المجرمين ما تنفصل قط عن حقائق بُعدهم وانقطاعهم عن الصلة بالله وبِرُسُله، وقوة صلتهم بعد ذلك بإبليس وجنده من قادة ركب الشقاوة وركب النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.

لذلك كله فإنّ هذه الصِّلات الإلهية الربانية تتعلق بالمؤمنين، بالنسبة للملائكة وللأنبياء صِلات متَكوِّن عليها قبول الإيمان عند الله، قبول الإيمان عند الله قائم عليها، من دون الإيمان بالملائكة والرسل ما يقبل الله من أحد الإيمان، ولا يُعدّ عنده مؤمناً إن كذّب بأحد من أنبيائه أو كذّب بملائكته.

فلما سُئِل صاحب الرسالة عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله". فالصِّلات بالكتب وبالرسل وبالأنبياء مُميَّزة، مُميَّزة عند المؤمنين، بل هي ميزة لكل مَن عقل مِن العالمين، لكل من أدرك من العالمين، لكل من فهم من العالمين. عندهم هذه الصلة المُميَّزة، صِلة الشرف والكرامة، صِلة الرفعة والعلوّ، صِلة الإدراك للحقيقة، صلة الترقِّي والاعتلاء في الدرجات مُرتّبة على شؤون الاتصال بالأنبياء والمرسلين والملائكة والكتب المُنزَّلة من عند الله تبارك وتعالى.

في ذلك يقول قائلهم: لا تسأل عنك أحد، اسأل عنك القرآن، إن تعرف نفسك اسأل عنك القرآن، فهذا هو الكتاب الجامع الخاتم للكُتب، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ).

كذلك شأن المرسلين، والحق تعالى رأيناه يقول سبحانه وتعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، للذين آمنوا بالله ورسله.

يقول جل جلاله في خطابه: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، المنهج الذي به الصلاح والفلاح والارتقاء ونَيل حقائق السعادة: صلاة وزكاة على قدم الاتباع للرسل مع تعظيمهم، ثم البذل والتضحية على قدر ذلك الإيمان، (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا).

مكانة النبي محمد ﷺ

وقال في الإشارة إلى رأسهم وخاتمهم عليه الصلاة والسلام: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أولئك هم المفلحون.

فتبيَّن شؤون هذه الصلات التي يجب أن يعضَّ عليها كُل مؤمن بالله وبرسوله، ويبحث عن مكانته عند الله وصِحّة إيمانه به من خلال صِلته بالأنبياء، مِن خلال صلته بالملائكة وسيد الأنبياء محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

فما نوع الصلة به عند كل مكلف من حين بُعِث إلى أن تقوم الساعة؟ لا يجدون صلةً لهم أشرف ولا أكرم في الصلة بالله من الصلة بمحمد بن عبد الله صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، إيماناً به وتصديقاً بما جاء به واتباعاً له وانقياداً وخضوعاً لأمره.

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)

(مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)

(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).

وهكذا جاءت البيانات من الرحمن جل جلاله عن شريف هذه الصلات بهذا الجناب الأفخر الأفخم الأشرف الأنور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

المحبة والاتباع

وبذلك قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواهُ تبعاً لما جئت به"، "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" ﷺ، محبةً وتعلُّقاً وشوقاً.

ثم هو المعصوم وسيد أهل العصمة من الذين عصمهم الله من الملائكة والنبيين، فإن أرشدك إلى اعتقاد أو فكر فقد أرشدك المعصوم، وإن أرشدك إلى سلوك أو قول أو فعل أو ترك أو نهي أو أخذ في جميع المعاملات والعبادات، فهو أمرُ ونهيُ معصوم. 

نبينا الآمر الناهي فلا أحدٌ ** أبرّ في قول لا منه ولا نعمِ

صلوات ربي وسلامه عليه.

ومع هذه العصمة التي آتاه الله إياها، جعل الله في اتّباعه الفوز بأعلى ما يجد العباد في الأرض أو في السماء من الله، وهي محبة الله، أعلى ما يجد العباد من الله، أهل السماوات أو أهل الأرض، أعلى ما يُحَصِّلون من ربهم أن يُحِبّهم ربهم، ما شيء أكبر من هذا، وعلَّقها بهذا الجناب: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

حال الصحابة مع النبي ﷺ

ولا يزال الأمر كذلك حتى تعلَمَ أسرار ما كان مِن ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم، خصوصاً السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ في التعلق بهذا الجناب، في التشوّق لهذا الجناب.

 كان معه، صلّى معه وصافحه وذهب إلى بيته، ويعتلج الشوق في قلبه، يخرج من البيت مرة ثانية يريد أن يراه، ينظر إليه، أين هو، يترك غداه، يقوم من فوق عشاه، يريد أن ينظر إلى طلعته، يريد أن يصافح يده، لا يصبر إلى وقت الصلاة الأخرى، يخرج في أثناء ذلك! هذه حياة الصحابة وهذا حالهم كان مع هذا الجناب الأشرف ﷺ.

واجب المؤمنين في ذكرى النبي ﷺ

 فبذلك كُلّه نعلم واجب المؤمنين في ذكرياته، من ميلاده، من نشأته، من بعثته، من إسرائه ومعراجه، من هجرته، من غزواته، من أوصافه، من أحواله، من أقواله، من أفعاله.

غمرنا الله بصدق الإيمان واليقين، وجعل لنا به أقوى الصِّلات في كل شأن وحال وحين، وقَوَّى لنا هذه الصِّلات حتى تنتهي بنا إلى أشرف المرافقات في الجنات، وفيما قبل ذلك مما يُكرِم الله به مَن سبقت له السعادات منه باتّصالاته به وبعبده الحبيب المصطفى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

الدعاء

اللهم اجعلها ذكرى تُحيي فيها حقائق الإيمان في قلوب المؤمنين، في المشارق والمغارب، وتهدي بها قلوباً لَم تؤمن بعد فتؤمن وتتّصل بك وبرسولك مِن أجلك، ويستقيمون على سبيلك في اتّباع خاتم رسلك.

اللهم ارزقنا حُسن المتابعة له والنُصرة، والقيام ببذل ما نَجِد إقراضاً حسناً سمّيتهُ أنت كذلك تنزُّلاً منك، إقراضاً حسناً لك؛ نحوز به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

اللهم اجعلها ليلة صِلَة قوية بخير البرية، نشرب كؤوس محبتك ومحبته الهنيّة، ونرقى إلى مراتب قُربك العليّة، وننال واسع مواهبك السنيّة، يا من يُعطي ولا يُبالي، يا مولى الموالي.

تدارك أمّته، أغِث أمّته، أصلِح أمّته، اجمع أمّته، ألِّف ذات بين أمّته، ادفع السوء عن أمّته، اجعلنا في خيار أمّته، انفعنا بأمّته عامّة وبخاصّتهم خاصّة، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام، يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

12 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

04 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية