(536)
(204)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع قرية شرقية، بمدينة بشكيك، جمهورية قرغيزستان، ليلة الثلاثاء 28 شوال 1445هـ بعنوان:
نعمة الإيمان والعلم والاتصال بالسند والمحبة في الله
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
الحمد لله الملك الأعلى، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيّوم، خالق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، لنعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، ولنفوز بالإيمان مقروناً بالعمل الصالح مع الإخلاص لوجهه الكريم، فيكون ذلك سبباً ووسيلةً لأن يسعدنا بأعلى السعادة في الدنيا وعند الموت وفي البرزخ ويوم القيامة، وفي دار الكرامة، دار النّظر إلى وجهه الكريم.
فيا فوز المؤمنين ويا فوز الملبّين لنداء رب العالمين، الذي أرسل إلينا الرسل من آدم حتى ختمهم بسيّد المرسلين عبده الأمين، سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى من سار في نهجه واتبعهُ بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين: آدم وشيث بن آدم، ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، ولوط وموسى وشعيب وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم، ومن بينهم من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين، وعلى جميع الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصّالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وقد جمعنا جلّ جلاله لينفعنا وليرفعنا، وليأخذ بأيدينا، ولينجز لنا وعده الذي وعده النبي محمداً صلى الله عليه وسلم للمجتمعين على ذكره، والمجتمعين على العلم النّافع، والمجتمعين على طاعته سبحانه وتعالى، والمُتجالسين في الله، والمتزاورين في الله، والمتحابّين في الله.
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
أما بعد:
فإنّ الرّحمن جلّ جلاله جمعنا وإيّاكم لِغايةٍ عظيمة، مُتحابّين في الله، متذاكرين لأمر الله جل جلاله، متذكّرين لخبر نبيّه المصطفى سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء بنا في هذه اللّيلة إلى قريتكم هذه المباركة التي جعل الله فيها البركة بسر الإيمان به والإيمان برسوله، وكان أجدادكم الأوائل الّذين نالتهم المشقّة في الله، ونالهم الأذى في الله، ونالهم التّعب من أجل الله، وصدق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}. والله عنده حسن الثّواب؛ يعطي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يعطي نعيم الأبد، يعطي مِنن الأبد، يعطي سعادة الأبد والدّوام والسّرمد، وليس ذلك لغيره من حكومة ولا شَعب، ولا شرقيّ ولا غربيّ، ولا صغير ولا كبير، (وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
أمّا من لم يؤمن بالله وبرسوله وقد بلغته الدّعوة فلا ينفعه مُلك سنة ولا سنتين، ولا عشر سنين ولا ثمانين سنة، ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فكان الفضل لآبائكم الأوائل، عُمِرَتْ بهم هذه البلاد وهذه القرية، وصارت محطَّ رحمة، ومنزِل سكينة، ومحلّ حضور الملائكة المقرّبين في مجالس الذّكر والصّلوات والجماعة، بل وفي تعليم علم الشّريعة الذي هو أعظم العلوم في هذا العالم، أعظم العلوم في عالم الدّنيا أن تعلمَ ما شرع الله، أن تعلم ما فرض الله وأوجب لتَقُومَ به، وما ندبك إليه وأحبه لتستزيد منه وتحرص عليه، وما أباحهُ لك لتدخل فيه بنيّة صالحة، وما كرهه منك لتجتنبه، وما حرّمهُ عليك لتبتعد عنه ابتعادا، هذا العلم نظام، نظام شريعة الحقّ جلّ جلاله، قائم على هذه الأحكام: حكم الواجب والفرض، وحكم المسنون والمندوب والنفل، وحكم المباح، وحكم المكروه وحكم الحرام. نظام الرّبّ جلّ جلاله لعباده على ظهر هذه الأرض، ودستوره سبحانه وتعالى ومنهجه ليصلحوا وليفوزوا وليسعدوا، فلا يوجد في الأرض علم أهمّ من هذا ولا أعظم، وكلّ من علم علوم الأرض كلّها دون هذا العلم من علوم الجيولوجيا، ومن علوم التكنولوجيا، ومن علوم البحار، ومن علوم الفضاء، إلى غير ذلك ولم يعلم هذا العلم، فهو من أهل المتاع القليل ثم مصيره إلى النّار والخزي الوبيل والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ومن معه هذا العلم فهو الذي قال عنه الرّبّ جل جلاله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. والذين أوتوا العلم درجات؛ يرفعهم ربكم سبحانه وتعالى في الدرجات العالية، قال سيدنا عبد الله بن عباس: للعلماء فوق المؤمنين ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام. هذا فضل الله لأهل العلم، حتى صحّ في الحديث أن من جاء إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا أو يُعلِّمه، كشأنكم في هذه الليلة إن شاء الله تبارك وتعالى، قال: "كان له كأجر حاج تامة حجته"، كأجر حاج تمت حجته بحضوره إلى مجلس العلم في المسجد، من أتى المسجد لا ينهضه إليه أو لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يُعلّمه، كان له كأجر حاج تامّة حجته، فضلا من الله تبارك وتعالى وإحسانًا.
ومع ذكر الله تعالى في المساجد له شأن عند الحقّ المعبود جلّ جلاله، وقد صحّ في الحديث عن نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: سيعلم الجمع اليوم مَن أهل الكرم". قال: ومن أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: "أهل حِلق الذكر في المساجد". ورأيتم اعتناء آبائكم بالمساجد، اعتنوا بها أكثر من ديارهم لأنها بيوت الله جل جلاله، وعظّموا بيوت الله وأحسنوها أكثر مما أحسنوا بيوتهم ومنازلهم، وذلك غاية العقل.
ومضوا على قصد السّبيل إلى العلا ** قدمًا على قدم بجدٍّ أوزع
عليهم رحمة الله، وبهم قام العلم في هذه البلاد، حتى تخرّج منها من كان مُفتياً ومن كان داعياً في البلد الفلاني والبلد الفلاني، كلّ ذلك ببركة الصدق مع آبائكم وأجدادكم الأوّلين، وقد تَوَّجَهُم الله بتاج الإسلام والإيمان والإحسان على مسلك أهل السّنّة والجماعة، لا بدعة ولا زيغ ولا ضلالة، ولا اغترار بالدنيا، ولا تعظيم للفانيات، وبقُوا على قدم المحبة لله ولرسوله ولأهل بيته ولصحابته وللمؤمنين عامّة وخاصتهم خاصة، وتِلكُم حقائق الإيمان التي بها النجاة، والتي بها الفوز الأكبر يوم لقاء الله جل جلاله وتعالى في علاه.
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، فإن حزب الله هم الغالبون، حزبُ الله من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا.
قال الحق هذه الآيات بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، من يرتدّ منكم ويخرج عن الدين، والعياذ بالله تعالى، ويكفر بعد الإيمان بتعظيم الفانيات ونسيان الدّار الآخرة أو التّكذيب بما قال الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء والعياذ بالله جل جلاله يسخّر الله للدين من ينصره ويقوم به: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، متذلّلين متواضعين للمؤمنين، لا يسبّون، لا يشتمون، لا يغتابون، لا يظلمون، لا يحتقرون مسلماً، لا يتكبّرون على مسلم، لا يضرّون مسلما.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. أعِزة على الكافرين: لا يستهويهم الكافر بماله، ولا بمُلكه وسلطانه، ولا بزخرف قوله، لا يخدعهم الكافر، فهم أعزّة على الكافرين؛ لا يخدعهم الكافر في إضاعة إيمانهم، لا يخدعهم الكافر في تغيير وإفساد أخلاقهم، لا يخدعهم الكافر في تعظيم ما حقّر الله جلّ جلاله وتعالى في علاه {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لا يرضون بفكره ولا بنظريّته ولا ببرنامجه المخالف لما جاء عن الله ولما جاء عن رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فعندهم الميزان القويم، لا يقبلون فكر أحد ولا نظام أحد إلا ما وافق الشريعة، إلا ما وافق الدين، إلا ما وافق نظام الحقّ تعالى ومنهج الحقّ سبحانه وتعالى، وقانون الحقّ سبحانه وتعالى، وشريعة الحق الذي خلق جل جلاله. {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} يقول تعالى: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}. فكم حفظ الله فيكم من هذا الدّين ببركة آبائكم الصالحين وارتباط قلوبهم بالله وبرسوله وبأهل بيته وبصحابته وبالصّالحين، وقد والُوهم في الله تبارك وتعالى ومن أجل الله جل جلاله، فحُفِظتم من كثير من فتن هذه الدنيا ومن شرور هذه الدنيا.
وكم من مسلم ظاهره الإسلام وقلبه معظم لكافر أو لفاجر أو لفاسق، وربّما كان حضور قلبه مع الله قليل في الصلاة أو في القراءة أو في الذّكر أو في غيرها من العبادات، وقلبه يحضر مع فاسق ويقتدي به في زيِّه أو في لباسه أو في طريقة كلامه، أو شيء مما يغترّ به من الغافلين ومن الفاسقين، من أرباب البرامج التي ينشرونها في الوسائل المختلفة، مقطوعةً عن الحقّ، مقطوعة عن الإيمان بالله ورسوله، فالله يُثبّت قلوبكم ويملأها بالإيمان، ويزيدكم في القرب منه والفهم عنه لفهم القرآن والسنة الغرّاء، حتى يجري بكم في خير مجرى، وينفعنا بهذا الاجتماع وإيّاكم.
فما جمعنا وإيّاكم إلا لِحكمة، وإلا ليزداد نور الإيمان، وإلا لِنُجَدّد العهد معه ومع رسوله بما مضى عليه الصّحابة والتّابعون وتابع التّابعين، ومضى الصّالحون من آبائكم وأجدادكم عليهم رحمة الله، من العلماء ومن الأتقياء ومن الصلحاء الذين عظموا منهج الله، وعظّموا شريعة الله، وعظّموا دين الله، وعظّموا شعائر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} ومن يعظم شعائر الله جلّ جلاله، وشعائره معالم دينه، وأعظم الشّعائر خمس: محمّد رسول الله، والكعبة المشرفة، والقرآن الكريم، والصّلوات الخمس، ورمضان. هذه الخمس أعلى الشعائر وأعظمها، ثم كلّ عَلم من أعلام الدين فهو من شعائر الله، حتّى البُدن والحيوانات التي تهدى من الأنعام إلى الحرم تعظيمًا لبيت الله من شعائر الله، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ}. حتى مكان السّعي بين الصّفا والمروة، جُعِلت به الصّفا والمروة من شعائر الله، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ}، كما يقول جلّ جلاله وتعالى في علاه، والمساجد من شعائر الله، والعلماء من شعائر الله جل جلاله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وهكذا تعظيم شعائر الله دليل الإيمان بالله، ودليل صحّة التّكبير للحق، الله أكبر، الله أكبر! ومن لم يصدق في تكبير ربه عظّم الدّنيا وعظّم الحقيرات وعظّم الزائلات.
ولقد جاء إلى نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أعرابي، فآمن به واتّبعه، وامتلأ بالإيمان، وخرج معه في غزوة خيبر، وغنم المسلمون، وقسّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، ثم جاء بقسم الرّجل فما وجده في خيمته، فسأل عنه، قالوا إنّه يُصلِح بعض متاع الجيش، قال: فإذا جاء فادفعوها إليه. فلمّا جاء الرجل دفعوا إليه هذا المال، فحمله. قال: ما هذا؟ قالوا: قسمه لك رسول الله، حمله وجاء إلى النبي، قال: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: قسمك قسمتهُ لك من الغنيمة. قال: أنا ما على هذا اتبعتك، أنا ما آمنت بالله وبك وبما جئت به من أجل أن تعطيني المال. قال: فعلى ما اتبعتني؟ قال: اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا فأموت؛ فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك. ونهضوا في قتال العدوّ مرّة أخرى، فأصابه سهم في المحلّ الذي أشار إليه، وقُتِل، ورمي بين الصفوف، وقيل للنبي: إنّ الرجل أصابه سهم في المحل الذي أشار إليه. قال: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه. ثم قام يدعو له، ومما ظهر من دعائه قال: اللهم هذا عبدك خرج مجاهدا في سبيلك فقُتل شهيدا، وأنا على ذلك شهيد، وفاز هذا الأعرابي بخير الدنيا والآخرة.
يا أيها الأحباب، يا أيها الأصحاب، يا أيها الإخوان في الله، تحاببنا في الله على بُعد، سمعنا بكم وسمعتم بنا، فأحببناكم لله وأحببتمونا من أجل الله، وقدّر الله اجتماعنا وإيّاكم في هذه الليلة؛ فمُغتنم الاجتماع هذا بقلب حاضر وأدب وافر وصدق مع عالم الباطن والظاهر جل جلاله، لابدّ أن يجني ثمرة هذا الاجتماع في حياته؛ بصدق الاتّباع والاقتداء والتّوقّي عن المحرّمات والمكرهات والشّبهات، وتطهير القلب عن رذائل الأخلاق، ثمّ عند الموت بالثّبات على لا إله إلا الله، ثم في البرزخ يلتقي بمن تحابّ وإيّاهم من أجل الله في المراتب الرفيعة، ثم يوم القيامة يوم ينادي المنادي: أين المتحابّون فيَّ؟ أين المتجالسون فيَّ؟ أين المتزاورون فيَّ؟ اليوم أُظلّهم في ظلّ عرشي يوم لا ظلّ إلا ظلّي، وحينما يجتمعون على منابر من نور، على منابر اللّؤلؤ في وجوههم النور، يغبطهم الأنبياء والشهداء، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، قالوا: يا رسول الله، حلِّهم لنا نعرفهم. قال: هم المتحابون في الله، من بلاد شتّى وقبائل شتّى، يجتمعون على ذكر الله فيذكرونه.
اجتمعنا على ذكر الله، واذكروا جميعا ربّكم جلّ جلاله. وقولوا: لا إله إلا الله، محمّد رسول الله، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد عبدك ورسولك النّبي الأمي، وعلى آل سيّدنا محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على سيّدنا إبراهيم وعلى آل سيّدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار.
فاثبتوا على تعظيم العلم، واعلموا أنّه خير من علوم الأرض كلها، واعلموا أنّ علوم الأرض إذا استُعمِلت على موجب هذا العلم، ليجتنب منها المحرم والمكروه واستُعملت على ما يوافق هذا العلم، نفعت العباد ونفعت الناس في معاشهم ثم في معادهم، وجميع العلوم إذا استُعمِلت في مخالفة هذا المنهج، جلبت للناس الضرر والشرّ.
وترون العالم اليوم بجميع ما توصل إليه من القوى والأجهزة والإمكانيّات، يتكالبون على الملك والسلطان والدّنيا، ويكيد بعضهم لبعض، ويحسد بعضهم بعضا، ويعدّ بعضهم العُدّة لضرب البعض، واستهانوا بسفك الدّماء، واستهانوا بالأعراض، واستهانوا بأخذ حقّ الغير، والعياذ بالله تعالى، فماذا نفعتهم؟! كانت الوسائل الجديدة الحديثة كانت بأيدي العصابات المُجرمة، وبأيدي المفسدين على ظهر الأرض، يزدادون بها فساداً، وكل شيء استُعمِل على مخالفة منهج الله ضرَّ العباد في الدنيا، ثم ضرّه في الآخرة أكبر، والعياذ بالله تبارك وتعالى، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلم. وعلم الطب وعلم الهندسة وعلم الزراعة وعلم الاجتماع وعلم الصّناعة إذا وافق علم الشّريعة نفع الناس في الدنيا عامّتَهم، ومن كان منهم مؤمناً نفعه في الدنيا وفي الآخرة، يستعمل مِهنته وطبه وهندسته وزراعته وخبرته فيما ينفع الخلق، لا يغشّ، ولا يظلم، ولا يكذب، ولا يخدع، ولا يضرّ؛فهذا ينتفع به إن كان مسلما في الدنيا والآخرة، وإن كان غير مسلم في الدنيا ينتفع به في الدنيا دون الآخرة، (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)، والعياذ بالله تبارك وتعالى. ولكن إذا خالف الشّريعة ضرَّه في الدنيا وضرَّه في الآخرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى، ولم ينتفع به حتى في هذه الدنيا؛ وهكذا تراهم متكالبين على هذه الفانيات وعلى الخديعة لبعضهم البعض، حتى صاروا للعاقل عبرة لمن اعتبر.
فأنتم بحمد الله في توجهكم إلى الله وتكاتفكم ومحبّتكم تحاببكم في الله، ويجب أن تتمسكوا بالتّحابب في الله والتوادّ في الله ومن أجل الله، املأوا قلوبكم بمحبّة بعضكم البعض من أجل الله جل جلاله، ثم إنّنا نحبّ الخلق أجمعين من حيث نتمنّى لهم الهداية والصلاح، مسلمهم وكافرهم، ولا نحبّ الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، ولكن نُحبّ الهداية لجميع الخلق، ونوالي المؤمنين ونودّ المؤمنين، فالوُدُّ والولاء للمؤمنين خاصة، وإرادة الهداية للخلق عامة، والقِسط والعدل والبر والإحسان للخلق عامّة، مسلمهم وكافرهم، كما جاءنا به النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في ذلك كله.
احمدوا الله الذي جمعنا وإيّاكم في يومنا هذا وليلتنا هذه، وهو اجتماع لا شكّ يُذكر في العالم الأعلى، ويفوز الصّادق منّا، ويفوز المخلص منّا، ويفوز المتواضع منّا، ويفوز منّا من عزم عزيمة الصّدق أن يمضي بقيّة عمره في طاعة الله وشكره، وامتثال أمره واجتناب زجره واتّباع نبيه محمد ﷺ.
فاجعل اللّهمّ هذه النيات راسخة في قلوبنا أجمعين، واجعلنا مِمّن لا تغرّهم الحياة الدنيا ولا يغرّهم بالله الغرور، واجعل هوانا تبعا لما جاء به بدر البدور نبيك محمد، الذي قُلت عنه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اعرفوا قدر ما آتاكم الله وتفضّل به عليكم، واصدقوا مع الله في تربية أهلكم وأولادكم على المَسْلَكِ القويم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، واتّصلوا كما سمعتم في كلام السّيّد جندان بالجماعة والحرص عليها، وفضل الجماعة في صلاة الجماعة تفضُل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة، وانتظار الصّلاة بعد الصلاة رباط في سبيل الله جل جلاله." ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء -إحسان الوضوء- على المكاره" المكاره المَشقّة، ما يشق على النفس، تكرهه النفس، إما برد، وإما مرض، وإما تعب، وإلى غير ذلك، فيُحسن عند ذلك الوضوء. "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط".
واعمروا دياركم بنصيب من القرآن وذكر الرّحمن جلّ جلاله، وانووا النيّة الصّالحة في الزّراعة، وانووا النيّة الصّالحة في تربية الأبقار أو الأغنام أو ما تيسر لكم من هذه الحيوانات، واقصدوا وجه الله، وانووا الخير لخلق الله جل جلاله وتعالى في علاه، وادعوا إلى سبيل ربّكم، وإلى طاعة ربّكم، وإلى الإيمان بربّكم وبرسوله صلى الله عليه وسلم، بالعقل وبالحكمة وبالأخلاق وبالنّيّة الصّالحة، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمر النّعم.
اللهم يا من جمعتنا على هذا الإيمان والخير؛ انظر إلينا يا ربنا، وأصلح قلوبنا يا ربنا، واغفر ذنوبنا يا ربنا، واجمعنا يوم اللّقاء، واجمعنا يوم الجمع الأكبر، واجمعنا يوم القيامة في زُمرة المظلّل بالغمام، في زمرة حبيبك محمد، في صفِّ حبيبك محمد، في دائرة حبيبك النّبي سيدنا محمد، شرِّف عيوننا بالنّظر إلى وجهه وإلى طلعته الغراء يا كريم، يا كريم، يا أرحم الراحمين. ولقد حدثنا كما جاء في صحيح البخاري أن رؤية وجهه تؤثّر في القبول عند الله والمنزلة، وأنها سبب للرفع البلاء عن الأمة. قال صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام البخاري في صحيحه: "يغزو فئام من الناس فيبطئ الفتح عليهم، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله؟ هل فيكم من رأى رسول الله؟ فيقال: نعم، يقدّمونهم، فينزل النّصر، ويستفتحون بهم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيبطئ الفتح عليهم، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله؟ ما عاد بقي أحد من الصحابة لكن بقي بعض التابعين، هل فيكم من رأى من رأى رسول الله؟ فيقال: نعم. فيقدّمونهم فيستفتحون فيفتح لهم، ثمّ يغزو فئام من الناس فيبطئ الفتح عليه. فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من صحب رسول الله؟ فتسلسلت الرؤية وهكذا إلى وجوه شيوخنا الذين رأيناهم، هم رأوا وجوه شيوخهم، وشيوخهم رأوا وجوه شيوخهم إلى الصحابة، وهم رأوا وجه النبي محمد، وهم رأوا وجه النبي محمد ﷺ.
وكان سيدنا أبو بكر الصديق كما روى الإمام البخاري في الصحيح، يقول: "ارقبوا محمدا في آل بيته، ارقبوا محمدا في آل بيته" يعني: استشعروا أنّكم تتعاملون مع النّبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته. أكرموهم من أجله، أحبّوهم من أجله، انظروه فيهم، عليهم رضوان الله، حتّى لما خرج يوما من المسجد في أيام خلافته، سيدنا أبو بكر، ومعه سيدنا علي بن أبي طالب، وجد سيّدنا الحسن عليّ وهو ابن ثمان سنوات في الشّارع يلعب، حبّ إليه سيدنا أبو بكر واحتضنه وضمنه وأخذ يرفعه ويضعه على الأرض، ويقول: "بأبي بأبي، بأبي شبيه بالنبي، لا شبيه بعلي"، يقول: وجهك يشبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أكثر مما يشبه وجه أبيك علي بن أبي طالب، يشبه جدّك محمد رسول الله، وكان هكذا شأن أبي بكر مع العترة الطاهرة ومع أهل البيت، في إخلاصه لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت أسماء بنت عميس، كانت زوجة لسيدنا جعفر بن أبي طالب، وقتل في مؤتة، فكانت زوجة لسيدنا أبو بكر الصديق، تزوجها بعد ذلك سيدنا أبو بكر، وتوفّي النبي صلى الله عليه وسلم وهي معه. قالت: دخل ليلة فقام يصلّي، ثم وضع رأسه بين رجليه، وقال: "وا شوقاه إلى رسول الله، وا شوقاه إلى رسول الله". ويبكي حتّى رثيته، فقمت إليه، وقلت: خفِّف عنك يا خليفة رسول الله، إنّك آمنت به في أوّل من آمن به، وهاجرت معه، وحضرت معه الغزوات كلّها، ومات وهو راض عنك، وستلقاه بعد اليوم، وهو يبكي طول الليل، يقول: "وا شوقاه إلى رسول الله"، هكذا كان سيدنا أبو بكر صديق، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبسرّ هذه المحبة ارتقوا واعتلوا، فالله كما رقاهم يرقينا، وكما وهبهم يهبنا، وكما نظر إليهم ينظر إلينا. اللهم إنّا أحببناهم فيك ولك ومن أجلك، فاجمعنا بهم، يا ربّنا في البرازخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة.
فيا ربّ واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلا وإحسانا ومَنًّا منك يا ** ذا الجود والفضل الأتمّ الأوسعِ
اللهم انظر إلينا وإخواننا هؤلاء، ولا تدع فيهم صغيراً ولا كبيراً إلا قبِلته، وإلّا رحمته، وإلا أسعدته، وإلا قرّبته، وإلا غفرت له، وإلا تجاوزت عنه، وإلا تفضلت عليه، وإلا كتبت له الاجتماع في صفِّ الحبيب، مع أهل التّقريب، يا قريب يا مجيب، يا سامع الدعاء، يا من لا يُخيِّب الرجاء، يا رب الأرض والسماء، يا الله، يا الله، يا الله، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه، يا رباه يا رباه يا رباه!
اجعلنا وإياهم من خواص الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأيقِظ قلوبنا من كل غفلة وسِنَة، وثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، برحمتك يا أرحم الراحمين، وبوجاهة نبيّك الكريم، نسألك لنا ولهم من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك لنا ولهم والأمة من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد. وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، تقبل منا بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الفاتحة.
18 ذو القِعدة 1445