(363)
(339)
(535)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الشيخ أبي بكر بن سالم بمنطقة عينات، ضحى الأربعاء 18 ربيع الأول 1447هـ بعنوان :
مقاصد ونتائج مجامع الذكر والتذكير
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل حضرة اقترابه من أحبابه.
الحمد لله جامِعِكم على الوِجْهة إليه والإقبال عليه والتذلُّل بين يديه، في تلبية من القلوب والأرواح لداعيه الذي دعانا لطاعته والإيمان به، والانتهاج في النهج الذي ارتضاه لنا سبحانه وتعالى وبيَّنه، وعلى يد رسوله ﷺ شرَعه وسنَّه.
اللهم لك الحمد يا جامِعَنا في هذه المجامع الكريمة والمحافل العظيمة، في اقتداء واهتداء بصاحب الأخلاق العظيمة، الهادي إلى الطريق القويمة، يا رب صلِّ على المختار محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في منهجه الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل العُلا والسُّؤدَد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرَّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المجتمعون في بيت من بيوت الله، أُسِّس على يد أهل الله، الوارثين الكاملين لمحمد بن عبدالله، بداعي المحبة والشوق وطلب قُرب الرحمن ورضاه، والاستماع والإنصات إلى شمائل المصطفى وسجاياه، والتذكير بما به بعثه الله سبحانه وتعالى، وبما هدانا ودلَّنا عليه صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه.
جمعٌ مباركٌ كريم، قَبِلَنا اللهُ وإيَّاكُم، وأَدْرَجَ أَعْمالَنا ونِيَّاتِنا في نِيَّاتِ وأَعْمالِ أَهْلِ الصِّراطِ المُستَقيم، مِمَّن ارْتَضاهُم واصْطَفاهُم وقَرَّبَهُم وأَدْناهُم، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
جاءنا الأمر من حضرته أن نكون معهم وأن نتَّبع مناهجهم، فقال سبحانه: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)، وقال جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، وكونوا مع الصادقين: لتعرفوا حقيقة الصدق، ولترتقوا في مراتبه إلى مراتب الصِّدِّيقية، لمن قَسَم الله له حظًّا وهو في هذه الدنيا أن يصل تلك المراتب، وهي المراتب التي تلي النبوة والرسالة، فما بعد النبوة والرسالة في المراتب عند الله إلا مرتبة أهل الصِّدِّيقية، وأهل الصِّدِّيقية على مراتب، وأعلاهم أهل الصِّدِّيقية الكبرى، وهذا الترتيب أشار إليه الرحمن في قرآنه مُبشِّرًا لأهل المحبة: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا).
فعموم الصالحين من الأمة يرتقي في المراقي الرفيعة منهم أهل الشهادة، والصِّدِّيقون والشهداء المرتبة التي فوقهم مرتبة الصِّدِّيقية، والصِّدِّيقون من غير الأنبياء ما فوقهم إلا رُتبة النبوة والرسالة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكلكم تعلمون أن الآية الكريمة نزلت بسبب ثوبان وجماعة من الصحابة الأعيان، دار في أذهانهم فِكْر: أين نكون في دار البقاء؟ وهل نلقى الحبيب الأتقى؟ وهل نشاهد طلعة المُنتقى؟ وهل نسمع كلامه كما نسمعه الآن؟ ونستمتع بلقائه كما نستمتع به الآن؟
ذاقت أرواحهم حلاوة الرؤية لوجه سيد الأكوان، وسماع خطابه، ومصافحته الكريمة. ولِمَا ذاقوه من ذلك أيقنوا أن نعيم الجنة لا يُعوِّض عن ذلك، وإن دخلوا الجنة ولم يظفروا بنعيم هذه المشاهدة للوجه الشريف، وهذه اللذة بمصافحة الكف الشريف، وسماع الخطاب من صاحب القدر المنيف ﷺ، فلن تُغني عنهم الجنة فيما تتعلق به قلوبهم وأرواحهم من هذه الحلاوة واللذة.
ولمَّا طرأ هذا الفِكْر على عدد من الصحابة، كان من أبرزهم سيدنا ثوبان مولى النبي - مولى من موالي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - ولكن أثَّر فيه أثرًا بالغًا حتى ما استطاع يأكل ولا استطاع يشرب ولا استطاع ينام .
اليوم الأول والفِكْر فيه يدور في ذهنه وباله: إن أنا دخلت الجنة كنت في منزل دونه فلا أراه، وإن لم أدخلها لا أراه أبدًا، فكيف يطِيب لي الحال؟
واليوم الثالث لا نوم ولا طعام ولا شراب، حتى ظهر الاصفرار عليه والنُّحول في بدنه، ورآه الحبيب ﷺ والتفت إليه، قال: "ما لي يا ثوبان أراك مُصفَرَّ اللون نحيل الجسم؟" قال: محبتك يا رسول الله، قال: "ما بال محبتي؟" قال: إني قد أذكرك وأنا بين أهلي وولدي فلا يَقِرُّ لي قرار حتى أخرج من بينهم وآتي وأنظر إلى وجهك، وإني ذكرتُ الآخرة وأنها الحياة الباقية، فقلت: إن أنا لم أدخل الجنة لم أرَك، وإن أنا دخلت الجنة كنت في منزلة دون منزلتك فلا أراك، فهذا الذي كدَّر عليَّ عيشي وحال بيني وبين طعامي وشرابي ومنامي يا رسول الله.
وسكت النبي ﷺ، إذا بجبريل يرفرف بالوحي من السماء بهذه الآية مُبشِّرًا لثوبان ومن نحا هذا المنحى من أهل الوجدان وأهل الذوق، وهو أمرٌ لازم حتميٌّ على قدر الإيمان، إلا من ضَعُف في إيمانه ولم يشعر، ولم تبلغ به الأشواق إلى هذه الأذواق، ولم يعرف من قدر حبيب الخلَّاق ما عرفه هؤلاء القوم وطاب لهم وراق.
وإلا فالمؤمنون الصادقون في كل زمان هم على أشواق وأذواق ولوعة إلى حبيب الخلَّاق، تعتلِج في صدورهم، ويبيتون ويُصبحون ولا شيء أحب إليهم من الله ورسوله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم، ولا أنفسهم ولا أهلهم ولا أولادهم ولا ديارهم، ولا الدنيا وما فيها ولا الآخرة وما فيها أحب إليهم من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وهذا الذي تسمعونه في أنفاس مَن اجتمعتم ببركته في هذا المجلس المبارك، سيدنا فخر العوالم الشيخ أبي بكر بن سالم، خليفة كامل لسيد المرسلين، صفوة بني هاشم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وسيد ولد آدم، وتسمعونه في كُتُبِه حينما تقرؤون، وحينما تمرُّ بكم تلكم الأسطر النورانية في بيان عن الحقيقة المحمدية والمقام النبوي المحمدي، ومنزلته عند الواحد الأحد جل جلاله وتعالى في علاه.
وكان ذلك النصيب الوافي من الأشواق والأذواق لوَرَثة حبيب الخلَّاق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، طَوَتْهم فيه انطواءاً، فاستووا على عرش الصدق في المحبة استواءا، فكان لهم من عجائب جود الله تبارك وتعالى ما لا يُعبِّر عنه لسان، بل ولا تتوهَّمه الخيالات والأذهان، فضل الله يؤتيه من يشاء، (إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ).
وعسى في المجمع المبارك يُرزَق كل واحد من الحاضرين ومِن أهل ديارهم ومنازلهم رزقًا واسعًا من هذه المحبة، ويدخلون في دوائر الأحِبَّة.
فهذه خِلَع المجالس الكريمة المباركة التي كم خشع فيها من قلب، وكم اتَّصل من عبد بالرب، وكم مِن موصول بالرب حضر في مثل هذا المجمع فزاد معنى اتصاله، وذاق لذيذ وصاله، وارتقى وارتقى فوق حاله الذي دخل به إلى المجلس، ويخرج وهو أحلى، ويخرج وهو أعلى، ويخرج وهو أغلى، ويخرج وهو أولى، ويخرج وهو أجلى، ويخرج وقد ارتقى إلى مقام أعلى، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وهذه بُسُط المجامع التي قال عنها ﷺ في مآلاتها ومصيرها، وقد سُئل: "ما غنيمة مجالس الذكر؟" قال:"غنيمة مجالس الذكر الجنة" ، غنيمة مجالس الذكر الجنة! الوصول إلى دار الكرامة بواسطة المجالس المباركة، وسمَّاها بنفسه رياض الجنة، وقال في حديثه الصحيح: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: "وما رياض الجنة؟" قال: "حِلَق الذكر" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وقال كما روى الإمام مسلم في صحيحه وغيره، قال ﷺ: "لا يجلس قومٌ" وفي لفظ "لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" ، "وذكرهم الله فيمن عنده"!
فيا حاضر، إذا ذكرك العزيز الغفور فيمن عنده، من عنده؟ أول من عنده محمد، لأنه الأقرب له والأحب له، والذين عند ربك من الملائكة والصِّدِّيقين والمُقرَّبين، وصفهم الحق بالعِندية: (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).
قال تعالى: (وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)، ما ينقطعون عن ذكر الله جل جلاله وتعالى في علاه.
كما حذَّر ممَّن لم يصل إلى هذه الرُّتبة من عموم المؤمنين وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ) - يَلهُ بمال أو بأولاد عن ذكر الله - (فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
فإذا كان مال حلال وغفل عن ذكر الله وقع في الخُسران -والعياذ بالله تعالى- ، فكيف إذا كان مال شُبهة؟ فكيف إذا يأخذ مالًا من حرام -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ؟ كيف إذا كان يتحيَّل على مال وقف، ولا على مال جار، ولا على مال صاحب، ويجيء به من الطريقة هذه وإلا من الطريقة هذه؟ ليست غفلة فقط، غفلة ومعصية لله بهذا المال - والعياذ بالله تعالى- ، لو غفل وهو مال حلال لخسر، (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
أولاد حلال جاءوا من النكاح، لو غفل بهم عن الله تبارك وتعالى لكان من الخاسرين ، أوقعوه في كذب، أو أوقعوه في كِبْر، أو أوقعوه في أذى الغير -والعياذ بالله تعالى-، صار من الخاسرين بسبب أولاده، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) جل جلاله، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) - اختبار لكم - (وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
فلا تُقدِّموا على الله شيئًا ولا على رسوله، لا مالًا ولا ولدًا ولا غير ذلك، وليسكن قلبك إلى طلب رضى ربك جل جلاله ما دمت في هذه الحياة، وما دمت في هذه المُهلة المُعطاة لك من الله تبارك وتعالى والفُسحة.
وأما عند الغَرْغَرة، ترى كلٌّ يتوب، وكلٌّ يُنيب، وكلٌّ يرجع، حتى الملاحِدة، حتى الفَجَرة، حتى الظَّلَمة، حتى العُتاة الطاغين، كلهم عند الموت يتوبون، كلهم عند الموت يندمون، لكن ما ينفع أحدًا.
قال سبحانه وتعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
فهكذا يجب أن نحيا على سِرِّ هذا الذكر للرحمن جل جلاله، ذكر يمنعنا عن المكروهات فضلًا عن المُحرَّمات.
وكنا نَعهدهم في الوادي الميمون يُحذِّرون أولادهم الصغار من المكروه، ويقولون للولد: "هذا ما هو زين يا ولد، ما هو زين"، ما معنى ما هو زين؟ غير محمود، وهو مكروه، ما هو حرام، المكروهات يقولون له: "ما هو زين، ما هو زين"، كنا نسمعهم ونحن صغار، ننفر وتنفر الطباع في التربية: "ما هو زين"، لكن الآن استلم صغارنا وبعض كبارنا، حتى استلمهم نِت وإنترنت، واستلمهم أجهزة، واستلمتهم برامج تجي من عند مَن هَبَّ ودَبَّ، بل من عند الفَجَرة والكُفَّار وأعداء الله، تلعب بالأفكار وتلعب بالأخلاق، ويا حافظ احفظ علينا دين الإسلام، ألا يا حافظ احفظ علينا دين الإسلام .
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) ، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
فما لك حاجة تتولَّى ظالمًا، ولا تتولَّى فاسقًا ولا مُجرمًا ولا كافرًا، قُدَّامك أنبياء، قُدَّامك أولياء والهم، قُدَّامك مؤمنين، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
فخُذ نصيبك من المجلس وما فيه، وجود الله على أهليه، لأنه أُسِّس على برٍّ وتقوى، وأعلى مراتب الصِّدِّيقية الكبرى، ونِيَّات أهلها قامت بهم هذه المجالس، وعَظُمت فيها العطايا النفائس، فيا فوز الجالس بالصدق مع الله، والإقبال على الله، ساعة تهب عليك نَسَمة تُحوِّلك من حال إلى حال، وتُدخِلك مع أهل المراتب العوال .
ألا يا الله بنظرة **من العين الرحيمة
تُداوي كل ما بِنا ** من أمراض سقيمة
وإن لله في كل يوم وليلة ثلاثمائة نظرة؛ ينظر بها إلى عباده، ومن أصابته نظرة سَعِد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، عسى بنظرة الله لنا ولكم، وجود الله علينا وعليكم، مِنَّةُ الله ساقتكم وقادتكم، وما اعترضكم لا مال ولا أهل ولا أولاد، ولا وسوسة من وساوس الشيطان قطعتكم، حتى وصلتم -لله الحمد، فعسى القبول عند الرحمن، وعسى النصيب الوافي من خِلَع المنَّان جل جلاله، ومن طُهر الفؤاد والجَنان، يخرج الواحد مُنظَّفًا مُغسَّلًا من هذه المَغْسَلة، مَغْسَلة القلوب ومَغْسَلة الأرواح.
وقد كان الإمام في هِمَّته وعظمة مكانته وقوة وِجْهته إلى الرحمن قال: يجينا الصادق في الإقبال على الله وهو بدوي، كان في جهله يبول في فخذه، وأوصله إلى الله بنظرة، في لحظة يقطع الحُجُب، ويقطع المسافات، ويصل إلى الله سبحانه وتعالى.
كما رأينا في السيرة الكريمة، يجي مُشرك كافر بدوي من البادية، من القبائل البعيدة، ولحظة يشاهد فيها وجه النبي يتحوَّل إلى شيء ثاني، ويرجع إلى إنسان ثاني، وكم أيام يرجع إلى بلاده نورًا من الأنوار، يهدي إلى الكريم الغفَّار جل جلاله بنظرة المختار ﷺ.
الذي مَن رآه بديهة هابَه، كان جالسًا في المسجد يوم مُحتبيًا بيديه، وأقبل الرجل، فلما وقع نظره على وجهه امتلأ بالهيبة وأخذ يرتعد، فأخذ النبي يخفِّف عليه ويقول: "هوِّن عليك، هوِّن عليك، إني لست بملك، إني لست بملك"، ومن يكون الملوك عنده ﷺ؟ قال: "إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"، القديد: اللحم المُجفَّف، أكل الفقراء، قال أنا إلّا من بيت متواضع فقير، ويأكلون القديد، لا ترتبش ولا ترتعد، ارتعدت فرائصه من رؤياه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
بهذا يقول الذي أرسلهم ملك فارس إلى الحبيب ﷺ، ويقول لهم: أحضروا هذا الرجل إلى عندي إلى هنا، بعد ما وصله الكتاب من الحبيب صلى الله وسلم عليه وعلى آله. وقال: العرب ما هم إلا عبيدنا هؤلاء، من هذا الذي يقول إنه رسول ويريدنا نتَّبعه؟
ووصلوا اثنين من الجُند، وصلوا عبر صنعاء إلى المدينة المنورة، ودخلوا عليه ﷺ، وكانوا مُربِّين شواربهم، محلِّقين لِحاهم، فكَرِه النظر فيهم ﷺ وقال: "من أمركم بهذا؟" قالوا: ربُّنا، قال: "لكن ربي أمرني أن أُحفي الشارب وأن أُعفي اللحية" ، ثم قالوا: أرسلنا إليك، يقول: تجي إلى عنده ، قال: "انتظروا أُجيء بكم في اليوم الثاني" ، جاء اليوم الثاني قال لهم: "إن ربي قتل ربَّكم البارحة"، البارحة سلط عليه ابنه وقتله في فارس.
ورجعوا إلى صنعاء ويقولون للوالي هذا في صنعاء: الأمر كذا وكذا، قال: هذا خبر، وعاده ما وصل خبر إلى صنعاء عن قتل كسرى ولا عن هذا الخبر، لكن قال: ننتظر، إن جاء الخبر كما قال فهو نبي حق، وإلا نرى رأينا فيه بعد ذلك".
انتظروا، إذا جاء الخبر من ولد أنوشروان هذا - كسرى - يقول لهم: إني قد قتلت أبي وأنا الآن الملك، ولا تؤذوا هذا الرجل الذي ظهر عندكم في الحجاز، ولا تمسُّوه بشيء، وصل الكتاب، وإذا به في التاريخ نفسه الذي قال لهم: "أن البارحة ربي قتل ربَّكما".
يقول له الذين وصلوا عنده قال: "والله ما رأيت أهيَب منه، قد قدمت على الملوك وقابلت الجيوش، فما رأيت أهيَب من محمد"، ما نازلني رُعب وقشعريرة مثل ما رأيته ، يقول له صاحبه: " معه جنود يمشون؟" قال: "لا، لا، لا، وحده يمشي، يمشي وحده، وما ارتعب قلبي مثل ما رأيته" صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
"من رآه بديهة هابَه، ومن خالطه معرفة أحبَّه" صلوات ربي وسلامه عليه.
ليته خصَّني برؤية وجهٍ ** زال عن كل من رآه الشقاءُ
"من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتمثَّل بي"، "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة".
اللهم اجمعنا به في المنام واليقظة، وفي الدنيا والبرزخ والآخرة، ووفِّر حظَّنا من المجمع الكريم المبارك وما فيه، وأَعْلِ درجات الذين تقدَّموه، وقد كانت هذه الصفوف يصطفُّ فيها من أرباب القلوب وأرباب الإنابة وأرباب الخشية، كم وكم؟!
اللهم أَعْلِ درجاتهم واجمعنا بهم في أعلى الجنة، وبارك لنا في خلائفهم وفي من بقي عندنا من مناصِبنا وعلمائنا وصُلحائنا وأهل النور والسِّرِّ فينا ظاهرهم وخاملهم، اللهم لا تحرمنا بركة صالح، ولا بركة ولي ولا بركة مُقرَّب، واخلع علينا في المجمع الكريم خِلَعًا من خِلَع الرضوان والعافية لا تنزعها عنا أبدًا، وخِلَع التقوى التي بها السؤدد سرمدا ، نسعد بها مع خواص السعداء.
وفرَّج الله كروب المسلمين، ودفع البلاء عن جميع المؤمنين، ولا ترك أحدًا من الحاضرين إلا نظر إليه، وعمَّت النظرة أهليه ومن في داره وأقاربه ومن يُواليه.
ألا يالله بنظرة من العين الرحيمة** تُداوي كل ما بِنا من أمراض سقيمة
وثبِّتنا على الطريق المستقيم والمنهج القويم.
فيا رب ثبِّتنا على الحق والهُدى** ويا ربّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وعُمَّ أصولًا والفروع برحمةٍ ** وأهلًا وأصحابًا وكل قرابةِ
وسائر أهل الدين من كل مسلمٍ ** أقام لك التوحيد من غير ريبةِ
وصلِّ وسلِّم دائمًا الدِّهْرِ سَرْمَدا ** على خير مبعوث إلى خير أُمَّةِ
محمد المخصوص منك بفضلك ال**عظيم وإنزال الكتاب وحكمةِ
والحمد لله رب العالمين.
09 ربيع الثاني 1447