(535)
(364)
(339)
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي في مسجد الإمام محمد بن علي مولى عيديد، بمدينة تريم، ليلة الأحد 29 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:
مفاهيم الكتاب والسنة ومكانة أهل السند القوي وما تحتاجه الأمة في واقعِها والتزود لمآلِها
الحمدُ لله الملك الحيّ القيّوم الوهّاب، رافعِ السماء بلا عمد، وخالقِ الأرض والمُسخِّر بين السماء والأرض السحاب، لا إله إلا هو وحده، لا شريك له ربُّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب، والكريم الغفور التوّاب، يُعطي ويرزق من يشاء بغير حساب.
أرسل إلينا عبده المجتبى المختار المنيب الأوّاب، وأنزل عليه الكتاب، وجعله خاتم النبيّين، وسيّد المرسلين، وأوّل شافعٍ ومُشفَّع في يوم الحساب.
اللهم أدِم صلواتك على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة، والسراج المنير، عبدك المختار سيدنا محمد، من جعلتنا به خير أمة، وعلى آله وأهل بيته الممنوحين منك بالتطهير، وعلى أصحابه من كلّ مهاجر ونصير، وعلى من والاهم واتّبعهم وسار في مسيرهم خير مسير إلى يوم المصير، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، أهل المقام الأعلى والفضل الكبير، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا من جمعتنا بفضلك مجموعة من أمّة خير خلقك نبيّك المصطفى محمد ﷺ، بعد مرور ألف وخمسمائة سنة على ميلاده الكريم، وبروزه إلى هذا العالم، جمعتنا مستنيرين بنور ذلك المولود، والولادة وما ترتّب عليها وقام عليها من نشأته، والبعثة، والرسالة، والبلاغ، والجهاد، والإسراء، والمعراج، والهجرة إلى المدينة المنوَّرة، والغزوات، والأخلاق، والبيان، والتوضيح، والإرشاد، وإكمال الدين، وإتمامه على يده.
وما مضى حتى أقام الدين ** وصار سهلاً واضحاً مُبيناً
فلم تُخفِ أمّته فتونا ** بل عُصِموا في الجمع عن ضلالِ
والخلفاء بعده والعترة ** بهم مع القرآن مستمرة
مِلّته محفوظة من فترة ** على الهدى دأباً بلا انفصالِ
وصحبه فيهم له نجوم **منه عليهم فاضت العلومُ
كلٌّ له مُقدَّر مقسوم ** من ظاهر أو باطن أو حالِ
ومشى المُقدَّر المقسوم، إلى أن اجتمعنا في هذا المجمع المبارك، في هذا المسجد المنوَّر، الذي يحمل معاني كثيرة، من الإشارات إلى تفضُّل ربّ الأرض والسموات، وجود ربّ العرش العظيم بعجائب المِنن والهبات التي رأسها الإيمان به وحده لا شريك له، والتصديق بعبده المختار محمد ﷺ، وكلّ ما جاء به عن الله سبحانه وتعالى.
ويتفرَّع عنها من المِنن والمواهب، والفضائل والمِنح، ما لا يُعدّ ولا يُحصى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا).
يقول جلَّ جلاله وتعالى في علاه، ومراتب، ومواهب، ودرجات عُلا: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).
هذه الآية تقول لنا: إنَّ ما يجري على ظهر الأرض من مُلْكٍ ورئاسات وإمارات، كلُّها من أوَّلها إلى آخرها صوريّة، كلُّها مجازيّة، كلُّها قصيرة، كلُّها حقيرة، كلُّها فانية، كلُّها زائلة، والمُلك الحقّ لمن بيده المُلك، (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).
اجعلنا من أحسن عبادك عملاً يا ربّ، ومن أحسن أمّة نبيّك محمد عملاً يا ربّ، اجعل رجالنا ونساءنا وكبارنا وصغارنا من أحسن الأمّة عملاً يا ربّ، ظاهراً وباطناً، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
يقول في ذاك اليوم: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ).
لا ظُلم اليوم، الذي يحوم حول أنظمة ومحاكم وقوانين وأعراف ودول وهيئات وشعوب ووزارات وأحزاب وتجارات يختلط بها الظُلم من هنا ومن هناك، قال الحقّ: ارتفع كلّ هذا، لا ظُلم اليوم، (الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ حقيقةً ما كسب الإنسان، كلّ فرد.
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)، (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ).
(لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه، بيده مُلكوت كلّ شيء.
من أجله وبدعوته اجتمعتم والحمد لله، ما دعانا إلى المجيء إلى المساجد، ولا إقامة حِلَق الذكر فيها، ولا إقامة الصلوات والجماعة فيها، ولا الدعاء فيها، ولا نشر العلم فيها، إلا الله ورسوله، إلا الله ورسوله.
فهل في مثل مجمعكم شيء غير هذا؟ مجيء إلى المسجد، إقامة جماعة في المسجد، صلاة على المصطفى محمد ﷺ، قراءة للقرآن، دعاء وتضرُّع، ثناء على الله ورسوله، دعوة إلى الله وتعليم. شيء غير هذا؟ ما هو غير هذا عندنا؟
هذه أشياء الله دعا إليها، رسوله دعا إليها، أمرنا بها، حثَّنا عليها (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
له الحمد وله المِنّة جلَّ جلاله.
اجتمعتم على هذا، وفهمكم للكتاب وللسنّة ولهذه الدعوات قائم على سند من أهل السنّة السنيّة والعترة النبويّة وخيار الأمّة المحمديّة، قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، إلى من جاءه الوحي والتنزيل، خير رسول وخير هادٍ وخير دليل.
عظُمت النعمة عليكم من المُنعم الجليل جلَّ جلاله. ما تُدركون قدر هذه النعمة وقدر هذه المِنّة، أنَّك تفهم دينه وكتابه وسنّة رسوله بفهمٍ صحيح مليح، قائم على سند قويّ وسلاسل نورانيّة من أهل الثقات والصدق.
وكان على هذه المفاهيم السواد الأعظم من الأمّة: مُفسِّروها، مُحدِّثوها، فقهاؤها، أصوليّوها، في الشرق والغرب، في أرض العرب والعجم، على هذه المفاهيم للكتاب والسنّة، وعلى هذا الإدراك لوحي الله وبلاغ رسوله ومُصطفاه محمد ﷺ.
فهل نحتاج بعد ذلك - وجميع من أُكرموا من الأمّة بهذه الأسانيد والفهم في الكتاب والسنّة الذي مضى عليها السواد الأعظم من الأمّة - نحتاج إلى من يُخرِّب علينا بمفاهيم من هنا ومن هناك؟ نحتاج إلى من يُصحِّح لنا المسار؟
فإن لم يصحّ مسار الصحابة والتابعين والأخيار فأيّ مسار يكون صحيح؟ وأيّ مسار يكون حقّ وهُدى ومليح؟
لا والله، ما نحتاج إلى التشويش، ولا نحتاج إلى التطاول، ولا نحتاج إلى أن يكون بيننا ما يُفرِّق ويُباعد ويُشتِّت ويحمل الناس على بغضاء بعضهم وضُرّ بعضهم البعض، بل على استحلال للأموال والأعراض والدماء، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
لسنا في حاجة إلى مثل هذا, لسنا في حاجة إلى ادِّعاء مفهوم في الدين تصيغه السياسات، تصيغه الأغراض، تصيغه المقاصد الدنيويّة الفانية.
نحن محتاجون إلى مفاهيم صاغتها عقول الصادقين المُخلصين من الصحابة والتابعين وخيار الأمّة قرناً بعد قرن، الذين ما قصدوا غير الله، ولا أرادوا غير الله، ولا يُؤثِّر فيهم تخويف مَن على ظهر الأرض من شرقها إلى غربها، ولا ترغيبهم، ولا إغراؤهم بشيء.
لا يُغرَون بشيء ممّا يُعرَض، زهدوا في الإمارة، زهدوا في المظاهر، زهدوا في الشهرة، زهدوا في الثروات، أرادوا وجه ربّ الأرض والسموات، وظهرت عليهم علائم الصدق والقبول في مسارهم، في أفكارهم، في أحوالهم، في أُسَرهم، في مجتمعاتهم، في معاملاتهم.
كما سمعتم في هذه الكلمة الطيِّبة القصيرة النَّويرة المُهمّة لحبيبنا أبي بكر بن حسين عيديد - أمدَّه الله بتمام الصحّة والعافية ودوامها والشكر عليها - وحبيبنا يحيى بن زين، وأحمد بن عيدروس، وبقيّة مرضانا.
اللهم أمِدَّهم بتمام العافية ودوام العافية والشكر على العافية، وطول العمر في عافية، واشفِ مرضى المسلمين وعافهم، يا من لا يشفي ولا يُعافي سواه، (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
سمعتم ما فقدته الأمّة من حُسن التطبيق للإيمان بالأخلاق التي هي ميزان الصدق مع الخلّاق، وأقوى حبال الاتّصال بعظيم خَلقه محمد بن عبد الله، عظيم الأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
"إنَّ من أحبَّكم إليَّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"، "ولا يُوضع في ميزان الحسنات شيء أثقل من حُسن الخُلق"، "إنَّ العبد ليُدرك بحُسن خُلقه درجة القائم الصائم".
في رواية قال: "درجة القائم الذي لا يفتر، والصائم الذي لا يُفطر"، يُدركها بحُسن خُلقه، وإن كان ظاهره قليل العبادة، ولكن عبادته قائمة على صدق مع الله بقلبه، فائضة على قالبه من وَرَع ورعاية للحقوق، وأداء للأمانة، وإحسان إلى الخلق، وإرادة الخير لهم، وبذل المعروف، وطِيب الباطن عن القريب والبعيد.
هذه العبادات العُظمى، هذه العبادات ذات المكانة عند ربّ الأرض والسماء، هذه العبادات التي يُقرَب بها من محمد الكريم الأسمى ﷺ، وهو الجامع لكلّ خُلُق عظيم ووصف كريم، صلوات ربّي وسلامه عليه.
أيروم مخلوق ثناءك بعد أن ** أثنى على أخلاقك الخلّاقُ
صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله.
أرى كلّ مدح في النبيّ مُقصِّراً ** وإن بالغ المُثني عليه وأكثرا
إذا الله أثنى بالذي هو أهله ** عليه فما مقدار ما يمدح الورى
صلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
هذه اللفتة إلى الأمر المُهمّ في القيام بالأخلاق هو الذي يحتاجه أهل السنّة، هو الذي يحتاجه المنتمون إلى هذه المفاهيم النورانيّة الصحيحة، يحتاجون إلى أن يُقوِّموا أخلاقهم، يحتاجون لئلا أن يُعرِضوا أنفسهم فكراً وسلوكاً للعب صاحب خيانة، ولا صاحب إرادة للسلطة، ولا صاحب تعدٍّ لحدود الله تعالى كائناً من كان، يتعرَّضون لأن يكونوا بضاعة لهم يشترونها بالرخيص إذا ضعُفت صلتهم بالخلّاق وتغيَّرت منهم الأخلاق.
وما دام لهم اليقين والإيمان بالرحمن، والمشي على قدم الاستنان بسنّة مَن أُنزل عليه القرآن، فلن يُقدر عليهم أعداء الله، ولن يُباعوا برخيص، لا لغربيّ ولا لشرقيّ، ولا تحت أيّ مُسمّى من مُسمّيات التنمية أو الاقتصاد أو التقدُّم أو التطوُّر أو التحرّر.
ولا يضرّ تعدّد كثرة الأسماء ونوع العبارات إذا المضمون خلاف منهج الجبّار، إذا المضمون مُخالفة المختار. سمّوا بما تسمي هات أسماء الدنيا كلها ما تنفع! سوء؟ سوء، شرّ؟ شرّ، ظُلمة؟ ظُلمة، ضلال؟ ضلال.
هات له أيّ اسم كان، ما خالف منهج الله ومسلك رسوله: ضلال، ظُلمة، فساد، سوء، شرّ، وإن سمّوه تقدّم، سمّوه تطوّر، سمّوه تنمية، هل يضرّ الاسم شيئاً؟ ما يُغيِّر الاسم في الحقيقة شيء إلا من حيث ما يُسمّي الله الأشياء.
وأمّا الخلق يُسمّون السعيد شقيّ، يُسمّون الشقيّ سعيد، يُسمّون القريب بعيد، ما يضرّ اسمهم ولا يُغيِّر شيئاً من الواقع، ولا يُغيِّر شيئاً من الحقيقة، لكن ما سمّى جلَّ جلاله فهو كما قال، وما سمّى رسوله محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، كما قال.
في لُعبة من اللُعب على الأخلاق تحصل في الأمّة في بعض الأوقات وبعض الأماكن، قال يُسمّون الخمرة بغير اسمها يشربونها جهاراً، الحُكم ما يتغيَّر ؟ يُسمّيه ويسكي، يُسمّيه بيرة، وبعد ذلك؟ ما هو؟ هو خمر، خمر! سمّوه بأيّ اسم، تشربه؟ أنت ملعون.. ما يضرّ ما لا يُغيِّر الحُكم أنَّك جئت له باسم ثانٍ ولا ثالث ولا رابع.
والحقّ هو الحقّ، ما يضرّ أحداً سمّاه تخلّف، وأحد سمّاه رجعيّة، وأحد سمّاه كهنوت، ما هو؟ سنّة نبويّة ومنهج قويم قائم على سند صحيح، سمّه بأيّ اسم، هو عند الله الرفيع الشريف الكريم العظيم، ولا يضرّ اسمك، ما يضرّ اسمك شيئاً.
كانت أمّ قبيح تسبّ النبيّ وتُسمّيه مُذمَّم وتقول: مُذمَّم، فتعجب ﷺ، قال انظروا، الله يصرفه حتى عن اسمي، قال: "إنَّها تسبّ مُذمَّماً، وإنَّما أنا محمد" ﷺ.
لا يصير مُذمَّم بقولها مُذمَّم، الله سمّاه محمداً، الله سمّاه أحمد، نشر ذكره واسمه في الكتب المُنزَلة من السماء كلّها، حتى جاء آخر الأنبياء قبله سيدنا عيسى وقال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا) - ما معك من بشارة؟ - (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
يا ربّ صلِّ على أحمد، يا فوزنا بأحمد، جامع المحامد كلّها، هذا اسمه كما سمّاه الله جلَّ جلاله.
وإلا والظَّلَمة يقول الحَجّاج في ظُلمه لسيدنا سعيد بن جُبير - رضي الله عنه - ما اسمك؟ قال: سعيد بن جُبير. قال: أنت شقيّ بن كُسير! قال: لا، أبي أعلم باسمي منك، ما سمّوني إلا سعيد بن جُبير. لا أنا شقيّ، ولا ابن كُسير، الكلام هذا حقّك.. يعني ما يُغيِّر شيء، أنا سعيد بن جُبير، سعيد بن جُبير. قُل ما تقول، ما يضرّ من قولك هذا؟
وكذلك من أراد يُغيِّر وجه السماء، جاء يأخذ الغُبار،.. ستمتلئ كُلك غُبار ، والسماء صافية أمامك، لا تتغبَّر، هات المحاولات كلّها وغبِّر وجه السماء! وجه السماء رفيع وصافٍ، والغُبار سيُسكب فوقك، وأنت الذي ستتغبَّر وما حواليك وتتغيَّر الأشياء عليك.
وهكذا من سمّى الأنبياء بغير أسمائهم، من سمّى الأولياء بغير أسمائهم، من سمّى المسالك والطُرق والأخلاق بغير أسمائها، كلّ ما تغيَّر شيء في الحقيقة أنت تتضرَّر، وأنت تتهدَّم، وأنت تفسد، وأنت تهلك، وأمّا الحقيقة فهي الحقيقة!
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
قال سبحانه وتعالى بعدما ذكر شأن الأبرار والمُقرَّبين، خيار خلقه: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).
قال سبحانه وتعالى، في الدنيا يُريدون اسماً بغير ما سمَّيتنا، هذا هو الاسم الصحيح لهؤلاء: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ). قال هذا يحصل في حياتكم الدنيا هذه: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ) - جالسين يضحكون - (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ).
هم يقولون كذا، لكنَّ الله سمّاهم أبراراً، سمّاهم مُقرَّبين، فانظر الحُكم لاسم من بعدها! ما يضرّهم إن هؤلاء سمّوهم ضالّين! هم أبرار وهم مُقرَّبون ولهم الجنّة. والذين كانوا يقولون عليهم ضالّين، هم الضالّون.
فقال: (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ). قال: أنا ما أنزلتُ شيئاً لهؤلاء الميزان قلتُ لهم هؤلاء الضُلّال وهؤلاء الفُسّاد؟ من أين أقاموا الميزان؟ من أين يحكمون؟ (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ).
(فَالْيَوْمَ) عند ظهور الحقيقة ورجوع الناس إلى المحشر: (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
وجدوا الجزاء أم لا؟ وجدوا الجزاء! ما نفعهم أنَّهم سمّوا الأبرار والمُقرَّبين ضالّين، ما نفعهم هذا، ولا نفعهم أنَّهم سمّوا أنفسهم العقلاء والمتقدّمين والعباقرة والمتطوّرين، ما نفعهم شي! نار، نار، وعذاب مُخلَّد، وحُزن دائم، وحسرة باقية.. ما ينفعهم شيء من هذه المُسمّيات الكاذبة والشعارات الباطلة.
انظر ماذا يُسمّيك هو، انظر أين يُنزلك هو، أمّا غيره ما بيده مُلك! المُلك له أوَّلاً وآخراً، ظاهراً وباطناً.
ما كان يطلب المنزلة عند أحد من الخلق، الإمام محمد بن عليّ مولى عيديد حين تبوَّأ هذا المكان وحوَّط هذه الحوطة، كان يرقُب الربّ، والقُرب من الربّ، والرضوان للربّ، وما يُحبّه الربّ، وما يُقرِّب إلى الربّ، وما يكون لصاحبه المنزلة عند الربّ.
فنزح إلى المكان وتديَّر أوائل عيديد، التي أوَّلها المقابر الثلاثة: زنبل وفريط واكدر، هذا أوَّل عيديد مستمرّ إلى نهاية هذا الوادي، تديَّرها، وثمّ بنى هذا المسجد في مكان يُعدّ خبت.
ولكن أهل الاتّصال بصاحب المُلك الكبير شأنهم عجيب، ما في مساعيهم خاسر ولا فاشل! كلّ ما قالوا، وكلّ ما فعلوا، وراءه قوّة الذي قصدوا وجهه وأرادوه مُخلصين لوجهه الكريم جلَّ جلاله، وبعد ستّمائة وخمسين سنة يعتمر المسجد، تُبتنى البيوت من حواليه، وتقوم الجمعة فيه، ويُعقد مثل هذا المولد فيه.
ما هذه النيّة التي تمرّ عبر القارّات، عبر القارّات، السنين عبر القرون، تعدّي عبر القرون، تخرق القرون كلّها لمّا تصل إلى بعد ستّمائة سنة وسبعمائة سنة، والنيّة نافذ سهمها، بارز علمها.. لماذا؟
اتَّصلوا بباقٍ دائم، فأبقى وأدام آثارهم. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ).
وغيرهم مِن كلّ مَن تعلَّق بفانٍ، فني وفني ذكره! يا كم مشاريع في عهده قامت! يا كم من حركات في عهده قامت! ولا عاد لها ذكر ولا خبر اليوم، ذهبت! لأنَّها ما اتَّصلت بالباقي، ما اتَّصلت بالدائم.. اتَّصلت بسلطة، اتَّصلت بمال، فانٍ، فانٍ، فانٍ، فانٍ. ذهبوا.
ويا ليت فنيت المُؤاخذة والمُحاسبة لازالت أمامهم، سيُحاسبون على ما قالوا، سيُحاسبون على ما فعلوا، سيُحاسبون على ما عاملوا.
فما يفوز إلا قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).
وتحت مِظلّة الصدق اجتمعتم، الحمد لله. يا ربّ، ارزقنا الصدق معك، يا رب ارزقنا الصدق في الإيمان، والصدق في الإسلام، والصدق في الإحسان، وارزقنا الصدق في الإقبال عليك والصدق في الوجهة إليك، حتى لا نرجو غيرك، ولا نخاف غيرك، ولا نُحبّ غيرك، ولا نلتفت إلى سواك.
نزِّه قلوبنا عن التعلّق بمن دونك، واجعلنا من قوم تُحبّهم ويُحبّونك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
جمعكم سبحانه لينفعكم، وليُسمعكم، ولينظر إليكم، وليغفر لكم، ولتتعرضوا لمُناديه يُناديكم: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بُدِّلت سيّئاتكم حسنات، كما تشهد بذلك الأخبار عن النبيّ المختار ﷺ، فما نحن ولا سلفنا من قبلنا إلا في تبعيّة تامّة لخير البريّة، في اقتداء، في اهتداء.
ثَبَتوا على قدم الرسول وصحبهِ ** والتابعين لهم فسل وتتَبَّعِ
ومضوا على قصد السبيل إلى العُلا ** قدماً على قدم بجدٍّ أوزَعِ
عليهم رضوان الله تعالى.
قد ملأوا بلدكم نور، ملأوها خير، ملأوها تقوى، ملأوها إنابة، مساجدها ووديانها، وحتى أسواقها، وكان يُشاهَد آثار النور من أولي البصيرة، حتى في أمتعتهم، في جدران بيوتهم، في ما حواليهم، في تراب أرضهم.
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها ** تشقى كما تشقى الرجال وتسعدُ
بلاد تشقى وبلاد تسعد؛ بأهلها، بالقائمين فيها، الأماكن بالمَكِين ومن يقوم فيها من الناس.
وبهذا قالوا على أبواب القُرب من حضرة مَلك المُلوك: تحيا بهم كلّ أرض ينزلون بها ** كأنَّهم لبقاء الأرض أمطارُ
قال سيدنا عيسى بن مريم: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ)، أيّ محلّ أنا فيه كنتُ بركة موجودة؛ (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ)!
إذا بركة عيسى هذه، فكيف بركة محمد؟ يا ربّ صلِّ على محمد!
في ليلة الإسراء أمره الحقّ أن يُصلّي في المحلّ الذي وُلد فيه عيسى، وُلد فيه، ما قال عَبَد، ولا قال تلقى.. وُلد، مريم ولدته في هذا المكان.
جاء محمد ومعه جبريل، إلا إن كان جبريل صوفيّ كبير ما يعرف السنّة؟! مُشكلة كبيرة! جبريل هو ومحمد يسوق البُراق وجلسوا في المحلّ هذا.
وما حاجتكم تأتون إلى عند الطين هذا والتراب هذا؟ ما هو هذا؟ هو هذا دين محمد، هو هذا منهج جبريل، أنت ابحث لك عن جبريل ثاني ومحمد ثاني؟ هذا حقّنا محمد ﷺ، وأمين الوحي جبريل هذا هو، ما نريد غيره، هات لك محمد ثاني وجبريل ثاني!
محمد وجبريل جاؤوا، وأوقفوا البُراق، صلِّ ها هنا، ما ها هنا؟ أتدري أين صليت؟ ببيت لحم حيث وُلد عيسى، حيث وُلد عيسى! تشرَّفت البُقعة بولادة عيسى بن مريم، بمولد عيسى بن مريم عليه السلام.
كيف مولد محمد؟ ما فيه شرف؟ ما فيه كرامة؟ هو الأشرف، هو الأكرم، هو الأبرك، عيسى تحت لوائه.
وسيدنا روح الله عيسى سينزل للأرض، سيتّبع سنّة محمد، سيحكم بشرع محمد، سيقتدي بالنبيّ محمد. لن يُصلّي إلا كما يُصلّي النبيّ محمد، ولن يصوم إلا كما يصوم النبيّ محمد، ولن يحكم إلا بحُكم النبيّ محمد.
وصحّ في الحديث: "وليأتِيَنَّ قبري، ولئن قام على قبري فسلَّم عليّ" أو قال: "ناداني أجبته"، وفي اللفظ الآخر: "فليُسلِّمَنّ عليّ ولأردَّنّ عليه السلام".
سيقف أمام القبر الشريف سيدنا عيسى عليه السلام، وسيُسَلِّم على خير الأنام، ويسمع الردّ من الحبيب العظيم.. يا ربّ صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، واملأنا يا مولانا من نور محبّتك وحُبّه وقُربك وقُربه، يا حيّ يا قيّوم.
مجامع مُباركة، نيّات الوِجهة إلى الله فيها عُقِدت قبل وجودنا في الأرض، قبل خلقنا، الحمد لله، جئنا وجدناها جاهزة، ناجزة، ملآنة، بسرّ الوراثة النبويّة.
اللهم لك الحمد، أعلى الله درجات المتقدّمين ومن فقدناهم، وبارك الله لنا في الآتين من بعدهم والقائمين في مقاماتهم، ونظر إلى البلد وأهلها، ونظر إلى الأمّة كلّها.
نظرة تُزيل العنا ** عنّا وتُدنّي المُنى ** منّا وكلّ الهنا ** نُعطاه في كلّ حين
اللهم اجعلها ساعة إجابة، واجعل الدعوات مُستجابة، وخاتمة حَسنة لشهر ذكرى ميلاد نبيّك، افتح فيها أبواب الفرج للمسلمين، والغياث للأمّة أجمعين.
ووفِّر حظنا من الإيمان واليقين والمعرفة والصدق معك، يا حيّ يا قيّوم، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله ربّ العالمين.
28 ربيع الأول 1447