معاني خيرية الأمة للناس ووجوب اضطلاع المؤمنين بحقها بالوعي المسنَد والسير المسدَّد

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الإمام الحداد في مدينة سيئون، ليلة السبت 2 جمادى الثانية 1447هـ بعنوان:

معاني خيرية الأمة للناس ووجوب اضطلاع المؤمنين بحقها بالوعي المسنَد والسير المسدَّد

 

نص المحاضرة:

خيرية هذه الأمة ومهمتها العظيمة

الحمد لله، الحق الحي القيوم، الذي بيده الأمر كله، وهو الحاكم بين خلقه المُكلَّفين في يوم الميقات المعلوم، ولا مُعقِّب لِحُكمه جل جلاله وتعالى في علاه.

 أرسل إلينا عبده الطاهر المعصوم، وجعله خاتِماً للنبيين، وسيداً للمرسلين، ورحمةً للعالمين، وكُنّا به خير أمة أخرجت للناس. فالله يحفظ علينا حقيقة هذه الخيريّة في كل فرد منا حتى نكون خير الأمة للناس أجمعين.

فما يجد الناس -فيما تفضَّل الله عليهم من بعث الأمم بالخيرات وهم أتباع الرسل من آدم عليه السلام إلى عيسى بن مريم إلى أن جاء الخاتمَ المصطفى محمد ﷺ- لا يجد الناس الذين يعيشون على ظهر الأرض خيراً لهم من هذه الأمة؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). 

وذلك أنّ الناس على ظهر الأرض يحتاجون إلى نور في مسارهم وأفكارهم، قائم على إدراك الحقيقة الكبرى، وهي الإيمان بالله جل جلاله الذي خلق الورى، والذي رفع السماوات بغير عَمَد، والذي سخَّر لنا الأرض وما فيها. 

وما خَلَقَنا ولا خَلَق السماوات والأرض وما بينهما لعباً، ولا لهواً، ولا هزواً، ولا عبثاً؛ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

وهؤلاء الذين كفروا إذا وجدوا من الناس من يُنقذهم، خرجوا من الظلمات إلى النور، وخرجوا من النار إلى الجنة، ولم يجدَ الناس في إنقاذهم هذا واستنارتهم بإدراك الحقيقة أمةً خيراً من هذه الأمة؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)؛ خير أمة للناس، أمة سيد الناس محمد ﷺ.

بمعنى لا يجد بنو آدم من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة أسباباً للهداية، أسباباً للصلاح، وأسباباً للإنقاذ من الغَيّ والضُّر والفساد والشر مثل هذه الأمة.

حملة العلم وحفظة الدين

بذلك جاء رسول الرحمة ﷺ وقام بهذه المُهِمّة، وأدى الأمانة على وجهها الأتم، وخلَّف فينا أصحابه وآل بيته وأهل خلافته من الأجيال، جيلاً بعد جيل، من العلماء العاملين الصادقين المُخلصين، المُشار إليهم في حديثه الصحيح: "يحملُ هذا العِلمَ من كُلِّ خَلَفٍ عدولُه، ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ".

ومعنى كلام نبينا أن الأمة سَتُواجه على ممر الأجيال تحريفاً في النصوص، غُلُواً وانتحالاً لمعاني ليست في الكتاب ولا في السنة تُنسب إليها؛ فينفون هذا الانتحال للمبطلين، وتأويلات غير صحيحة في ذكر معاني للآيات أو الأحاديث على غير وجهها؛ فينفون تأويل الجاهلين.

"من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه"؛ هم حصون للأمة وحُماة من ذلك الانتحال للمبطلين، وذلك التأويل للجاهلين، وذلك الغلو والانحراف للمنحرفين، "ينفون عنه تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين" .

وأشار إلى أنه متسلسل في الأمة، باقٍ مُتّصل زمن بعد زمن: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من ناوأهم"، "لا يضرهم من خذلهم". يقول ﷺ: "لا يضرهم من ناوأهم"، "لا يضرهم من خذلهم"، يعني أن هذا الصنف يصادفون أمامهم خُذّالاً يُخَذِّلون، ومناوئين يُناوِئون، ولكن لا يستطيعون الوصول إلى عُمق ما تَحَمَّلوه من أمانة وصانوهُ من ديانة، مأخوذاً من الأصلِ خاتم الرسلِ، الذي قال له ربه عنه سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). صلى الله على الحبيب الأمين محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وقال عن هذا التسلسل والاستمرارية في الوعي والفهم والإدراك لمقتضى النصوص ومعناها الصحيح يقول ﷺ: "يخرجُ آخرَ الزمانِ قومٌ دجالونَ كذابونَ، يأتونَكم من الحديثِ بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤُكم" ، أي: ما لهم سَنَداً إلي في مفاهيمهم وما يلقون إليكم.

فأنتم لا سمعتم ولا آباؤكم من قبل سمعوا، من أين جاء إذن الفهم هذا! "بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم"؟ بمعنى: أن الخير الذي أتيتُ به سيظل متسلسلاً متراسلاً في خيار أمتي جيلاً بعد جيل، فإذا جاء شيء خارج عنه فمن أين جاء؟ إذا لم يسمعه مَن قبلنا من الآباء من المفاهيم فمن أين جاء؟ ومن الذي طبخه؟ ومن الذي صاغه؟ ومن الذي أظهره في الأمة؟ ما سمع بهذا الصحابة، ما سمع بهذا التابعون، ما سمع بهذا تابعُ التابعين، ما سمع بهذا تابع تابع التابعين! من أين مُخِض؟ من أين أُخِذ؟ وكيف طُبِخ؟ ومن أين جاء؟ 

قال: "بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم"، وما ترك باب شر  ولا فتنة في الأمة إلا حذّرهم منه، ولا ترك باباً من أبواب الخير  إلا دلّهم عليه وأمرهم به، فتركنا على المحجّة البيضاء ﷺ.

أخلاق الحرب والسلم في الإسلام

وخلَّفَ هذه الخيرية في هذه الأمة، فكان أكابرهم الرعيلُ الأول من المهاجرين والأنصار وآل بيته الأطهار، وفتحوا الأمصار، وجاءوا للأمة وللناس بخير ما يُمكن أن يُحصِّله الناس؛ من عدل ومن إنصاف ومن حماية للدماء والأعراض والأموال، لكلِّ صغير وكبير، من كل من لا يُعاند ويُضادد ويظلم ويعتدي، في منهجٍ مِن أُسُسُهُ الثابتة فيه: (فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). 

مَن لم يظلم لا يُعتدى على أحد، ولو كان غير مسلم، فكيف بالمسلم؟ إذا ما اعتدى لا يجوز، إذا ما ظلم لا يجوز  أن يعتدى عليه، لا بأقوال ولا بأفعال، ولا بأخذ مال، ولا بانتهاك حُرمة في عِرض ولا نفس.

حتى كان يُوَجِّه في حياته الكريمة رُسُلُهُ ومن يبعثهم من السرايا للقتال والجهاد في سبيل الله، يقاتلون الصادين عن سبيل الله، والمضادين لدين الله، والمحاربين لنبيه ﷺ، ومع ذلك يُوصيهم بوَصاياه، ويقول: "ادعوهم إلى الإسلام، فوالله لأن تأتوني بإسلامهم أحب إليّ مِن أن تأتوني بأموالهم وسباياهم"، أحب إليّ من أن تنتصروا عليهم وتغنموا أموالهم وتجيبوا سباياهم، أحب إليّ يؤمنوا، يخرجوا من النار إلى الجنة، يخرجوا من الكفر إلى الإيمان. 

ثم يوصي ويقول: "لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا طفلاً"، ويقول لهم: "لا تُمثِّلوا بأحد"، إذا تمكنتم وقتلتم منهم أحداً أحسنوا القِتلة ولا تُمثلوا، بل بنفسه ما ترك جثث المحاربين المؤذين المعاندين من الكفار بعد أن ولى عنهم قومهم وتركوهم، ما تركها على ظهر الأرض تأكلها السباع، وأمر بدفنها واستعمل جيشه الرباني الإيماني لخدمة هذه الأجساد، لأنهم أناس، لمكان الإنسانية. فما عرفت البرية خيراً من هذا المنهج؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

مقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارات الزائفة

كل الذين يدَّعون ويتمشدقون بحقوق الإنسان في وقتكم، هل فيهم مَن وصلت معاملته لأسرى من يحاربونه أن يطعمهم أحسن مما يَطعَم هو؟ ما أخبار الأسرى قديماً وحديثاً أمام هذه الحضارات؟ بل انتهت الحضارات عندكم إلى تقتيل الأطفال، وتقتيل النساء، وتقتيل الأبرياء، وإلى هدم البنية التحتية! هذه حضاراتهم، هذا تقدُّمهم، لكن والله الخيرية فيما جاء به محمد؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). لا تمثيل ولا قتل بغير حق، كُلٌّ محترم.

رأى سيدنا عمر بن الخطاب -عليه رضوان الله- شائب من اليهود من أهل الذمة في المدينة يسأل، قال: لِمَ تسأل؟ قال: نفقتي لأجل أسلم لكم الجزية، قال: ما عندك شيء؟ قال: ما عنده شيء. قال: لا، ما يليق بنا، استلمنا منك الجزية وأنت شاب تكتسب واليوم كبرت، اجلس في بيتك الجزية موضوعة عنك، وإن اضطررت فالنفقة من عندنا نأتي بها لك (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). 

هذا عمر بن الخطاب الذي يفرَق منه الشيطان، ناصر دين الله، ربّاه محمد! أما قبل تربية محمد فواحد يعاند عمر  يُحصّل له ضرب، لكن بعد تربية محمد يجد إنصافاً عند عمر، يجد عدلاً عند عمر، يجد رحمة عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. قال: عشت بيننا هذه السنين وفي شبابك كنت تُسلِّم الجزية، عجزت الآن، ما عنده قدرة، وضعنا الجزية عنك، وإذا احتجت لا تسأل؛ نفقتك نوصلها إلى عندك.

هذا نظام محمد، هذا منهج أحمد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، من عنده مِثْلَه؟ 

ماذا عملوا بأسراهُم؟ ماذا عملوا بالأبرياء -لم يعودوا أسرى-؟ لمن يعدّون هذه القنابل والتشدُّق بأسلحة الدمار الشامل والتي يتسابقون عليها ويتنافسون عليها؟ كل واحد يقول "حقي"، أنت لا تتدخل ولا يكون لك سلاح مثل سلاحي، ويتسابقون على السلاح من شأن يدمرون أو يعمرون؟ نيتهم تدمير العالم؟ أين آلات الإعمار؟ أين آلات بثّ الأمن والطمأنينة بين خلق الله تبارك وتعالى؟ 

لكنها مُهمة أتباع محمد ﷺ إذا صدقوا مع الله أن يقوموا بواجبهم هم خير أمة أخرجت للناس، ويُذَكِّرون ويهدون ويُعلّمون ويصبرون، ولا يقابلون السيئة بالسيئة، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). ولكنها أوصاف في علوّها وسموّها ما تُنال إلا بجد واجتهاد؛ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

الرحمة بالأسرى: نماذج من الرعيل الأول

فكانت الأمثلة سواءاً في الرعيل الأول أو في عهد التابعين أو تابع التابعين أو تابعيهم بإحسان، حتى أسرى من أسرى بدر, وأسرى بدر  أول من قابل النبي بالمعاندة، وأسرى بدر هم المحيط الذي وضعوا "السلى" على ظهره، وهم المحيط الذي أخرجوه بالقهر من بلده، وهم الذين سموه المجنون والساحر.

أسرى بدر أوصى بالإحسان إليهم، فكان بعد ذلك أسلم من أسلم منهم، قالوا: كنا نستحي، نستحي أيام أسرنا وأوصى رسول الله بنا، فكان أصحابه إذا جاء إليهم أحسن الطعام قدّموه لنا واكتفوا بالمعتاد من التمر، ويرمون الكِسَر إلينا ويقدمونها، حتى استحيينا منهم ونردّها عليهم فلا يقبلونها ويؤثرون بخير طعامهم لما سمعوا من قائدهم كلمة: "استوصوا بالأسرى خيراً".

وليلة سمع أنيناً لبعض  الأسرى، قال: ما بال من يئن من الأسرى؟ قالوا: بعضهم الوثاق حقهم، قال: خفِّفوا الوثاق، لا تتركوا أحد يئن، اجعلوا القيد بحيث لا يؤلم.. فما قدر ينام حتى لا يكون أحد يئن، مِنْ مَنْ؟ من الأسرى الذين هم عاندوه وخرجوا يقاتلونه، وفيهم كثير ممن يتمنون قتله ولو تمكنوا لقتلوه، ومع ذلك يعاملهم هذه المعاملة. 

أي نظام في العالم خير من هذا النظام؟ أي منهج أزكى من هذا المنهج؟ بقيت عقليات بعض المسلمين تظن أنه سيخطط لها واحد غربي أو  شرقي أو صيني أو أمريكي؟ هو هذا سيجيء لها بمنهج أحسن! من أين يعرفون؟ الوحي ما نزل على أحد منهم، الوحي نزل على محمد، قال له سبحانه وتعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).

الإحسان إلى الوالدين والأقربين

وهكذا وَرِثت الأمة عن نبيها هذا الخير الكبير وهذا النور الساطع، وهذا المنهج القويم، المُنصِف العادل المُحسن، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) -فوق العدل إحسان أيضاً، ليس عدل فحسب، عدل ضرورة، قال عدل وإحسان-. 

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ)؛ معروفكم وإحسانكم للقربى أول ما يكون، انظر إلى أبويك، وهم أحقّ من أحسنت لهم، "من أحق الناس بِحُسن صحابتي؟ قال أمك، ثم من؟ قال أمك، ثم من؟ قال أمك، ثم من؟ قال أبوك"، أي: لا تُقدّم إحسانك لصديق ولا لقريب ولا لمديرك في العمل أو شريكك قبل أمك، أمك أحق بالإحسان، هي أحق بالابتسامة، هي أحق بطلاقة الوجه، هي أحق بالإكرام والاحترام، أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، بعد ذلك توسَّع في الأخلاق مع الآخرين، لكن هؤلاء أحق وهؤلاء أولى. (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

والبغي بتطاول الإنسان في ظُلمه ولو بلسانه على إخوانه، يصير باغي، والبغي مَرتعه وَخيم، كان يُعبِّرون عنه حكماء الأمة، يقول: "لو أنَّ جبلاً بغى على جبل لدكّ الله الباغي"، لابد أن يدُكّه، لو أن جبلاً بغى على جبل لدك الله الباغي، وهكذا يقول ﷺ: "إن الرجل ليُظلَم فيدعو على ظالمه، ويدعو ويسب حتى يستوفي حقه، ثم يزيد فيصير هو الظالم". يجي في القيامة يُحصّل المظلمة تلك قد ذهبت بدعائه وسبه وشتمه وانتهى، زائد الآن عليه! فيجيء بالذي كان ظالم مظلوم، فيقول: أعطني حقي الآن، أخذت حقك مني كله بسبك وبشتمك.. والعياذ بالله تبارك وتعالى.

في المقابل يقول: "مَن أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تقدروا أن تكافئوه" -ما عندكم شيء، ما عندكم مادة، ما عندكم قدرة مالية على مكافأته- "فادعوا له"، فادعوا له، "من قال لمن أسدى إليه معروفاً: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء"، "فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه". فصار اللسان هذا سواء في الدعاء للإنسان أو على الإنسان في المدح أو السب له آثار، ويترتب عليها أحكام يوم تعنو الوجوه للحي القيوم (وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).

يوم يقومون بين يديه وقد غيّر وضع هذا العالم، شقّق السماوات ونسف الجبال، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يِنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) -الأرضِ كلها- (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) - لا انخفاض ولا ارتفاع- (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ)، يناديهم المنادي يمشون وراءه، الأولين والآخرين. 

(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).

معنى "حَمَل ظُلماً": كل ما يظلم به الآخرين يتحوّل حِمل عليه، إن أراد يخففه وإن أراد يثقله، أمامك تفضل، كل ما تعمله راجع عليك، يحمل هذا الظلم! حتى جاء في الخبر أن من ظلم قِيْدَ شبر من أرض طُوِّقَه -يعني جُعِل على رقبته- من سبع أَرَضين، شبر إلى سابع أرض حمله فوقه، تقدر تحمل هذا؟ وكيف إذا ظلم ذراعاً؟ وكيف أخذ متراً؟ أو ظن أنه هناك ناس سيخرجونها من هنا ومن هنا ويمشي حاله! سيمشي عند من؟ وإن حصّلت لك اليوم ناس يساعدونك على هذا الخير سيتحولون أعداء لك يوم القيامة!

(هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا). ما أحد يتوكل لهم، ما يجدون محامي، أعضاؤهم تشهد عليهم، ألسنتهم تشهد عليهم، جلودهم تشهد عليهم، أرجلهم تشهد عليهم، والأرض تشهد عليهم، يجيء بمحامي من أين؟ لا إله إلا الله. 

(وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا * وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا). أعلم الخلق بالله يقول له ربه: "قل ربي زدني علماً".

سلسلة الخيرية في وادي حضرموت وعلماؤه

فيا أمة أُخرِجت للناس، خير أمة للناس، ويا مَن ورثتم في مثل هذا الوادي الميمون خيرية هذه الأمة، والخير الذي بُعِثَ نبيها، من صحابة وتابعين وتابع التابعين وخيار من أجيال الأمة جيلاً بعد جيل، جيلنا الأول في تاريخ الإسلام شُرِّفَ بالصحب الكرام، واستقبلت حضرموت من أصحاب رسول الله ومن الوافدين منها على رسول الله ﷺ من استقبلت، ثم شُرِّفت بخيار من التابعين ومن تابع التابعين ومن تابع تابع التابعين، فبقي بينكم وبين خير النبوة سند متواصل متسلسل، به قامت مثل هذه المساجد بمثل هؤلاء.

هذا فردٌ من علماء الأمة وأخيارها، عَمِي وهو ابن أربع سنين، فصار عَلَماً من أعلام الأمة، ينتفع بعلمه أهل الشرق وأهل الغرب، عبد الله بن علوي الحداد، وما الذي جاء به للمكان هذا عندكم يبني مسجد هنا؟ من أجل ماذا؟ لأنه رجل "بيزنس"؟ أم لأنه يريد سلطة أو حكومة؟ ماذا معه، وصل خيره إلى أماكن عدة وسط الوادي، يبني فيها مسجد بعد مسجد، وما يبني مسجد فحسب، يبني في القلوب سر السجود، كان يبني في القلوب سر السجود للواحد الأحد، عليه رضوان الله تبارك وتعالى. 

لما ذهب إلى الحج، كان في آخر تسع وثلاثين من عمره، قَدَّموه علماء مكة ثم علماء المدينة، ولمّا عادَ بعد الحجِّ لما كان في مكة في أول يوم من السنة في محرم، قدموه إماماً في الحرم، وصلى بهم في يوم جمعة وقرأ (الم) السجدة، و(هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ)، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره عليه رضوان الله تعالى. 

وعاد إلى حضرموت، وكان راتبه هذا يُقرأ في الحرم المكي وحرم المدينة في حياته؛ الأذكار التي جمعها من الكتاب والسنة والمأثورات وعُقِدَت لها حلقات تُقرأ في الحرمين الشريفين في حياته عليه رضوان الله تبارك وتعالى. 

هذا الذي حمل هذه الخيرية، حمل هذه الأمانة بخضوعه وخشوعه وأدبه وورعه، وعِلْم آتاه الله سبحانه وتعالى واسع.

كان يقول: "ما أدركنا العلم بالقيل والقال ولا حتى بمزاحمة الرجال" -فزاحمنا واجتهدنا، ولكن حقيقة العلم ما حصّلناها من هنا، من أين جاء العلم؟ قال- "لكن بِخلوّ القلب عن الدنيا، والانكسار في جوف الليل، والتضرع في الأسحار"، حصّلنا العلم من هنا!

 كان قديماً يقول الإمام الشافعي: 

شكوت إلى وكيع (شيخه) سوء حفظي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور ** ونور الله لا يهدى لعاصي

من يكذب، من يسب، من يشتم، من يعق والديه، ويقول "عالم" ؟ أحضر  لك لسان خمس أذرع وتتكلم، ما أنت عالم. 

العلم بالأعمالِ يزكو وبالأحوالِ ** وليس بالأقوال وكثرة الجدالِ

العلم خشية كلّه ** يُعرَف بذاك أهلُه

تقع عينك على وجه العالم يخشع قلبك، ترى خضوع لربك جل جلاله، خشية تسري إليك، هذا العالم.

 قالوا لبعضهم، كان من أخيار الصومال جاء إلى بعض البلدان وبدأ يرى جماعة مُتحلقين وواحد جالس يتكلم بهم، قال: ما هذا؟ يقول للذي معه، هو ما يعرف العربية يترجمون له، قال: حلقة علم، قال: حلقة علم، هو دين؟قال: نعم، قال: أين النور؟ الوجوه هذه ليس عليها نور، أين النور؟ أنا أعرف إذا عالِم يشع، يشع نور تعرفه ويحس به قلبك، قال: لكن ليس هناك نور في هذا.

تعظيم السلف لحديث رسول الله ﷺ

وهكذا كان الإمام مالك عليه رضوان الله يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، لكن نور يقذفه الله في القلب! هذا الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى، له منصة في الحرم النبوي لا يجلس عليها إلا لحديث رسول الله، وكان إذا جاء السائل يسأل عن أي مسألة في أي باب من أبواب العلم، يتكلم معه يفتيه، وإذا قال "في الحديث" يقول "اصبر"، ويذهب ويغتسل ويتطيب ويلبس الثياب ويقول هات، اسأل عن حديث رسول الله، يُعظمِ الله، فكان يجلسون الناس بين يديه كأن على رؤوسهم الطير، ويسرد سنده حتى يصل إلى الصحابي فيقول "عن صاحب هذا الضريح، عن صاحب هذا الضريح" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

جاءوا يوم، ووجهه يتلوّن يُحمِّر وهو يلقي الحديث حتى أكمل، لما أكمل الدرس قال: انظروا ماذا يلسَعُني، قام، وجدوا عقرب! والعقرب قد لسعه ستة عشر لسعة، قالوا: يا إمام مِن أوَّل ما أحسست به! قال: كنت في حديث رسول الله، ما أقطعه لهذا.. اتركه يلسع، أنا في كلام المشفع، فترك العقرب ولا تحرك من مكانه ولا ترك السكينه من أجل تعظيمه لحديث رسول الله.

 كان يمشي في المدينة حافياً ولا يركب دابة، فقيل للإمام مالك: لماذا ما تركب الدابة؟ ما تلبس النعال؟ قال: أستحي من الله أن أطأ بحافر دابتي أو بنعلي تُراباً تردَّد فيه جبريل بالوحي لرسول الله! قال جبريل تردد فيه، والحبيب مشى في هذا المكان أنا لا ألبس نعلاً ولا سأركب على دابة.. ولا عجب مِن ذلك في سيرته؛ هذا العلم، هؤلاء العلماء.

والأعجب من ذلك في سيرته الكريمة، إذا أراد أن يقضي حاجته خرج من حدود حرم المدينة، ولكن هو ما يحتاج إلى الخروج كثير، لأن له في كل ثلاثة أيام أكلة، يأكل في ثلاثة أيام أكلة واحدة، فغايته بعد ثلاثة أيام سيحتاج يخرج مرة إلى خارج المدينة، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

وهكذا رَقَبَ الإمام الشافعي أول ما جاء إلى حلقته، في أول يوم حضر عنده، وجده يكتب بيده -لا يملك ورقاً، لا يملك قلماً- يكتب بإصبعه في كفه لكي يتذكر ما يقوله الإمام، رقبه والناس كأن على رؤوسهم الطير، كان الشافعي يقول: "كنتُ أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً لئلّا يُسمع وقعها"، ما تسمع حس الورقة! في أول يوم رآه واستدعاه بعد الدرس، قال: كنا في حديث رسول الله وأنت تعبث بيدك! قال: لا، قال: ما كنتَ تعمل، قال: كنت أستذكِر ما تقول، فإن شئت أن ألقيه الآن عليك، قال: قل، فألقى إليه الحديث الأول بسنده إلى أن أكمل، الثاني والثالث، أكمل الدرس كله، دعا له الإمام مالك، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

الميراث النبوي في السلوك والمعاملة

وعلى هذا الحال مضوا، وهكذا كانت هذه البضاعة في الخَيرية المَوروثة لهؤلاء الأكرمين، الموروثة من سيد المرسلين ﷺ، وحَمَلَها هؤلاء الكرام. 

أنتم في واديكم أُكرِمتم بسند إلى المصطفى، متسلسل فيهم الأخلاق، متسلسل فيهم الأدب، متسلسل فيهم حُسن الوعي والفهم لخطاب الحق ورسولِه. فمن حقّكم أن تقوموا بِحَقّ هذه النعمة، وأن تأخذوا عِلماً مُسنداً بسنده الصحيح المليح ومسلكه الربيح وميزانه الرجيح؛ لا سِبابَ ولا شتم ولا ضُرَّ  لحي ولا ميت، ولا تطاول على صغير ولا على كبير. 

كلما ازدادوا علماً ازدادوا تواضعاً، وازدادوا أدباً، وازدادوا خشية من الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه، وبهذا رأيتم هذه الآثار في واديكم الميمون.

الله يحفظ علينا سِرّ الخيرية والخير الذي جاء به خير البرية، ويرزقنا التعاون والتعاضُد والتناصُر على إقامة أمر الله كما ينبغي وعلى تربية أنفسنا، تربية أبنائنا وبناتنا، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. 

فإذا أنت من خير الناس للناس لكونك من أمة خير الناس ﷺ، فكيف أنت لأهلك؟ وكيف أنت لأولادك؟ وكان يقول لنا: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، يقول ﷺ، أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، وصبر على الأهل وعلى الأولاد.

كان بعض الأطفال لما يُقدّمونهم إليه، من تَوَلُّعِ الصحابة بمجيء الأطفال إلى رسول الله ﷺ -لماذا يحضرونهم إلى عند النبي؟ ماذا في عقيدة الصحابة؟- كل يوم يأتون بأولادهم إلى عند رسول الله ﷺ.

ثم جاءنا في الصحيح أنهم كانوا يُرسِلونَ أولادهم إذا بدأوا يكبرون، أيام الطفولة يحملونهم إليه، بل تلِدُ المرأة في الليل فيقول زوجها: لا ترضعيه ولا تطعميه شيئاً حتى آخذه في الفجر إلى رسول الله ليُحنِّكه، ليكون أول ما يصل إلى جوفه ريق رسول الله.. يحملون أطفالهم من يوم ولادتهم ويحملونهم بعد ذلك. 

حمل بعض الأطفال ووضعهم على رجله الشريفة فبال، فاستحيى قومه، وقام أبوه ليأخذه، قال "لا تزرموا الصبي بوله"، اتركه يكمل، لا تزرموا بوله، لا تضيِّق عليه اتركه يكمل، وعندما أكمل بوله حمله ﷺ وناوله إياه، ومن رعايته للمشاعر ترك البول على ما هو عليه حتى قام الرجل وخرج، لما قام وخرج قال: أحضروا الماء، وطهَّر الثوب بالماء بعد ما خرج أبو الطفل مع الطفل، ما دعا بالماء يرشه وهو حاضر حتى لا يشوِّش عليه.

قصص من الواقع: أدب التعامل

وهكذا سَرَتَ هذه الأخلاق من رجالكم في البلدة الميمونة، الذي عرفه أكثركم "الحبيب عبد القادر بن أحمد السقاف" عليه رحمة الله. 

وجاء واحد يريد يقوم بالخدمة، يتبرك، يقفل باب السيارة ويده على الباب، أُقفل عليه الباب وسكت، وذهب الرجل ومشت السيارة، قال: توقف. فتوقف قال: اخرج افتح الباب، فتح الباب وإذا بيده تكاد تنقطع أصابعه محمرة وأثر الدماء.. ما هذا؟ قال: الرجل المسكين ما انتبه لي أن أصابعي على الباب وأقفل الباب. قال: من أول تتكلم! قال: لا، سيشق عليه، إذا شعر أنه أقفل على يدي سيشتق، اتركه لأنه بنية صالحة جاء يقفل المسكين، هو يريد الخدمة، وهذه المشاعر يحملونها لعباد الله جل جلاله وتعالى في علاه. 

وذاك رأى نفسه خيِّر طيّب وذهب يقول: فعلك وتركك! أما ترى؟ ما عندك شعور تقفل على يدي؟! ويريد نفسه خَيِّر، انظروا المخيَرة؛ اتباع زين الوجود ﷺ، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ﷺ.

قصة محاولة قتل النبي

كم عدد الذين وصلوا بجنبه ليقتلوه، فعالجهم من الكفر والشرك والنفاق والسوء والضر، ونقلهُم إلى ذروة الإسلام والنور بدعائه ووضْع يده الشريفة على صدره، جاء ليقتله، جاء ليقتله! منهم عُمير بن وهب، ولده أسير من أسرى بدر، يجلس في حِجر الكعبة مع صفوان بن أمية وحدهم، يقول: تذكروا يوم بدر وزعمائهم الذين أهلكهم الله، ولولا دَيْن عليّ وعيال لي لذهبت المدينة حتى أقتل محمد.. قالوا: تفعلها؟ قال تعذّر، عندهم ولد لي مأسور، سأقول جئت أطالب في الأسر، وسأجد فرصة وأقضي على محمد، قال: لكن اصبر، دَيْنُك دَيْنْ عليّ وعيالك عيال لي، ونفِّذ المهمة، قال: اكتم عليّ الأمر، قال: سأكتم الأمر، وسَنَّ السيف وسَمَّهُ وسافر. 

 ودخل للمدينة، أول ما دخل جاء سيدنا عمر يرى وجهه وقال هذا وجه ما فيه خير، أمسك به وأدخله إلى المسجد، والنبي ﷺ في المسجد، قال له: اطلبه يا عمر، طلبه، قال له اجلس عنده، السيف معه مسنون ومسموم، فيه سم، في أي محل ضرب به فيه السم. يقول: يا عمير ما جاء بك؟ قال: جئتُ من أجل ولدي هذا أفاوضكم في فدائه، قال: فما بال السيف؟ إذا جئت تفاوض في الولد لماذا السيف؟ قال: قبَّحها الله من سيوف ما أغنت عنا شيئاً يوم بدر، ما نفعتنا يوم بدر. 

قال: اصْدُقْني ما جاء بك؟ قال: ما هو إلا ذاك يا محمد، قال: اصْدُقْني ما جاء بك؟ قال: ما هو إلا هذا يا محمد! قال: لا، بل جلست أنت وصفوان في الحجر وقلت لولا دين علي وعيال لي لَجئت المدينة حتى أقتل محمداً، فارتبك، يوقن أنه ما أحد يعلم بالقضية وهو وحده وصفوان هناك في الحِجر، يقول: وتكفَّلتَ له بقتلي والله حائل بينك وبين ذلك.

 بكى وقال: أنت رسول الله، والله ما سمعني غير صفوان، وما كان في الحِجر إلا أنا وصفوان، كان صفوان يقول لهم الآن يأتي خبر يُنسيكم وقعة بدر، أين الخبر؟ قال سيجيء، أين الخبر؟ ومنتظر الخبر حتى جاء بعض الوافدين من نحو المدينة، قال: هل جئتم من المدينة؟ هل من خبر في المدينة؟ قالوا ليس هناك خبر.. هل حدث شيء هناك؟ لا شيء حدث، يترقب الذين يأتون. 

حتى جاء وفد، قال: شي حدث في المدينة خبر؟قالوا:لا، قال: ما فعل عمير بن وهب؟ قالوا: أسلم، أسلم؟! كيف أسلم؟ قالوا: أسلم وتبع محمد، وذهبت الصفقة والعياذ بالله تعالى ونيته.

 رسول الله لما قال هكذا رفع النبي يده ووضعها على صدره وامتلأ إيمان، عُمْير بن وهب وصار من الأخيار بعد ذلك، داوى الذي جاء يريد يقتله، من مثل محمد؟ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).

خاتمة ودعاء

أحيِ هذه الأخلاق فينا يا رب، اقبل جمعنا واربطنا بحبيبك يا خلّاق، في المقاصد والنيات والأخلاق، واجزِ مَن مضوا من خيار الأمة عنا خير الجزاء، وارحم موتانا وأحيانا يا رب العالمين. 

وتدارك يا رب من يؤذي الأمة، ومن يسب الأمة، ومن يشتم، تداركهم وهم يقولون لا إله إلا الله، تداركهم ليتحقّقوا بحقيقة لا إله إلا الله، وليخرجوا من الظلمات، وليخرجوا من شدة الهول في يوم أخذ الحقوق في يوم القيامة؛ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).

تدارَك الأمة يا رب، وأعداؤهم الذين ينتهكون الحُرمات رد كيدهم في نحورهم، وعجِّل بهداية من لم تسبق عليه الشقاوة، ومن سبقت عليه الشقاوة منك فكُفّ شرورهم، وادفع عنا شرهم وضرهم وأذاهم، ومزِّقهم كل مُمَزَّقٍ مزّقته أعدائك، انتصاراً لأنبيائك  ورسلك وأوليائك. 

وثبِّتنا على الاستقامة، ولا تصرفنا من المجمع إلا منظورين موفقين، ثابتين على الاقتداء والاهتداء بنبي الهدى، فيما خفي وفيما بدا. 

واجعل الشهر الذي رحل عنا شهراً شاهداً لنا، واجعل الشهر الذي أقبل علينا أبرك لنا، وبلِّغنا رجب، وبارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، وأعِنا على الصيام والقيام، واحفظنا من الآثام. 

واضبط اللهم بأنوار وحيك والاتباع لنبيك أعيننا وألسنتنا وأيدينا وبطوننا وفروجنا وأرجلنا وأسماعنا وأبصارنا حتى لا نَتَقَلَّبَ إلا فيما يرضيك، ولا نستعين بنعمتك إلا فيما تحبه وترضاه، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، واغفر للأحياء والأموات، وفرِّج كروب المؤمنين والمؤمنات، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا، والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

04 جمادى الآخر 1447

تاريخ النشر الميلادي

25 نوفمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية