(228)
(536)
(574)
(311)
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الشيخ أحمد با عيسى، في قرية اللسك، شرقي مدينة تريم، ليلة السبت 2 ربيع الثاني 1446هـ بعنوان:
معاني الوجهة إلى الله والاقبال عليه والصلة بين أهل الوجهة إليه
الحمد لله على منِّه وتوفيقه وإحضاره لنا في بيتٍ من بيوته، سبقنا فيه من المُقرَّبين والعارفين وأرباب اليقين أعداد كثيرة على مدى أوقاتٍ وعصور مرَّت، توالَوا على التوجُّه إلى الرحمن، وعلى الإقبال عليه بِطُهر الجَنان، وعلى قدم الصدق والإخلاص والإيقان، جمعنا الرحمن سبحانه وتعالى بفضله متوجِّهين إليه، عسى بِوجهة الصادقين تُقبل وجهتنا، وعسى بإقبال المقبلين يُحظى بالقبول إقبالنا.
فإن الحق سبحانه وتعالى من أسرار حكمته في هذا الوجود أن يربط المسعود بالمسعود، ويربط جميع أهل السعادة بزين الوجود، أسعد سعيد، أسعد المخلوقات صلوات ربي وسلامه عليه، والذي أجرى الله على يديه جراية السعادة لكل سعيد، فبه سعد كل مسعود، وبه سعد كل من سبقت له سابقة السعادة بترتيب الحق عالم الغيب والشهادة، جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
كذلك يجمع أرباب الكفر والفجور، ولكن في بُعدٍ وطردٍ - والعياذ بالله تبارك وتعالى - وفي أسوأ الأحوال، وهكذا يقول الحق جلَّ جلاله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ).
وحالهم فيها أنه ما دام كان اجتماعهم على معاصٍ وعلى ذنوب وعلى مخالفة للشرع، على أذى للناس وعلى ظلم، وعلى كِبر وعلى عُجب، وعلى خروج عن منهج الله وهدي أنبيائه، فهم في المحل الذي يجتمعون فيه إنما يلعن بعضهم بعضًا، ويسبُّ بعضهم بعضًا، ويشتم بعضهم بعضًا، ولا يفيدهم من ذلك شيء.
والذين اجتمعوا على طاعته سبحانه وتعالى، وعلى محبته ومحبة رسله وأنبيائه وملائكته وأهل حضرته جلَّ جلاله، وعلى الذكر للرحمن، وعلى الصلوات في الجماعة، وعلى صِلة الأرحام، وعلى طلب العلم الشريف النافع، وعلى نقاء القلوب وصفائها، هؤلاء الذين يجتمعون في دار الكرامة، قال الحق تبارك وتعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).
يتهنَّون في اللقاءات في الجنة بسرِّ ما تلاقوا عليه في الدنيا من قصد وجه الله ومن إرادة وجه الله جلَّ جلاله، من مثل القوم الذين قال عنهم سبحانه وتعالى أمر نبيَّه أن يحضر معهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، انظر الثناء عليهم كيف، قال الله: أخلصت إرادتهم لي فصاروا يريدون وجهي ولا يلتفتون إلى غيري (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
قال لنبيه محمد ﷺ: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، ومن أُغفِل قلبه عن ذكر الله لا يجوز أن يُتَّبع، ولا يجوز أن يُؤخذ رأيه ولا مشورته، فإن القلب الغافل عن الله ما يأتي بالرأي الصائب، ولا يُلهَم الرشد ولا يُلهَم الصلاح، وإن استشرته سيعلِّمك إما قطيعة رَحم، وإما عقوق والدين، وإما كِبر على أحد من خلق الله، وإما دخول في ربا وإما نظر حرام وما إلى ذلك، هذا الذي يجيء من آرائهم والعياذ بالله تبارك وتعالى، قال: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)؛ ضائع مُهمَل لمَّا أن غفل قلبه عن ذكر الله جلَّ جلاله.
لهذا كان سيدنا عمر يُرسل إلى أمراء الجيوش والجُند في مختلف أماكن الجهاد يقول: انظروا إلى أهل الصمت عن كلام الناس بينكم وأهل كثرة الذكر وأهل الخشوع واسألوهم، فإن الله يُجري على قلوبهم الحق والصواب، قال اسألوهم واستشيروهم في أموركم وفي جهادكم وغزواتكم، فمثلهم يُستشارون، ولا تُخالِف شورهم فتهلك.
كما يقول هذا في القصيدة التي سمعناها، يُمجِّد بشأن الموضع هذا الذي أنتم فيه لِما جعل الله فيه من أنوار ومن خيرات ومن أسرار، ويتحدث القوم عن معاينة عاينوها وعن مشاهدة شاهدوها، وعن ذوق ذاقوه عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وهم الذين عاشوا من الصغَر متنزِّهين عن الكذب على الخلق، فهم أكبر من أن يكذبوا وأجلُّ من أن يكذبوا على الخالق جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
هم أقوام غُذوا في المحبة مِن صِغرهم
وعاشوا في مخافات وغابوا في فِكَرهم
ويسعد كل من كان في عمره نظرهم
الله يجعل نظرنا إلى محبوبيه وإلى المقرَّبين عنده، نواليهم ونحبهم من أجل الله تبارك وتعالى، ونشاركهم في مجالسهم؛ فيحصل لنا من نفائس عطايا الله تعالى ما أشار إليه في الحديث القدسي، يقول الله: "وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
بحمد الله تبارك وتعالى اجتمعنا وذكرنا الرب، والله يجعلنا مقبولين عنده، وكل مقبول عنده ذكره سبحانه وتعالى يذكره الرحمن برحمته، وبرأفته وبمغفرته وبعفوه وبعافيته، وبمنِّه وبإحسانه وبكثير من الخيرات.
وإنما المصيبة عند الذين يُصرُّون على معاصي الله جلَّ جلاله ويوالون الظلم والخروج عن أمر الله، ثم يذكرون الله رياءً أو يذكرونه مع الغفلة، هؤلاء إذا ذَكَروا ذُكِروا بالبعد واللعنة والطرد - والعياذ بالله تبارك وتعالى -، فإن الله قال: "آليت أن أذكر من ذكرني"، فمن ذكره بالإنابة ومن ذكره بالتوبة والخشية؛ يذكره بالرحمة، ويذكره بالمغفرة جلَّ جلاله، ويذكره بالتقريب، ويذكره بتصفية القلب، ويذكره برفع الدرجة.
ومن كان مُصرًّا على معصيته ويذكر الله، ويقول: والله والله والله.. ويتكلم، كلما ذكر الله ذكره الله - والعياذ بالله - بطرد أو بلعنة أو ببغض أو شيء من هذه المصائب، ما تليق بحاله مع الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
والمؤمن يعلم ويوقِن أن الشأن كله في الحال مع الله، كيف حاله مع الله جلَّ جلاله؟ ما عدا ذلك ما يساوي شيئًا، وإذا صحَّ وصفى له الحال مع الله فلا ينبغي أن يبالي بشيء، ولا ينبغي أن يحزن على شيء.
إذا الله راضي علينا ** سوى عندي المدح والسب
إذا كان مولاي راضي ** فمن راد يغضب فيغضب
قال زين الوجود ﷺ في دعائه للرحمن: "إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي"، وهو سيد أهل الرضا ﷺ، الممنوح رضوان الله الأكبر، صلوات ربي وسلامه عليه.
فالحمد لله الذي وفَّقنا وأحضرنا وإياكم نريد وجهه إن شاء الله، ويجعل الله وجهتنا في وجهة المُتوجّهين إليه، لأن الله يقول: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، يولِّي هذا كذا ويولِّي هذا كذا، يولِّي هذا إلى فوق، يولِّي هذا إلى تحت، يولِّي هذا إلى النور، يولِّي هذا إلى الظلمة.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، يعني اغتنموا أعماركم بأن تتعرَّضوا أن أولِّيكم المواهب والخيرات والأنوار والبركات، والدنو من حضرته والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، إذا توجهتم منيبين مخلصين.
شاهده في الحديث القدسي، يقول الله تعالى: "من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، ما أعظمه من ربٍّ! يُعاملنا هذه المعاملة! يبسط لنا هذا الإحسان وهذا البسط وهو الغني عنا، وما نتقرَّب إليه إلا بتوفيقه، يوفقنا ونتقرَّب إليه وبعد ذلك هو يطوي الحُجُب، يقرب إلينا سبحانه وتعالى، ولولا أنه يتقرَّب إليك أين ستصل إليه، أين ستصل بكل الأعمال؟
كان يقول سيدنا عبد القادر الجيلاني: "بكِ" يشير إلى الأعمال والمجاهدات التي يقومون بها في الصالحات، "بكِ لا نصل، ولا بد منكِ"، الوصول ما هو بكِ لكن لا بد منكِ لكي نسترحمه، ولكن الوصول به، ما يكون الوصول بما منك إليه، ولكن الوصول بما منه إليك، بالذي منه إليك يوصل إليك.
وبذلك تعرف أنّ الله فتح لنا باب الوصول أرسل إلينا زين الوجود محمد ﷺ، من عنده جاء (جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فهو من عند الله جاءنا، هذا الذي جاء من عند الله هو الذي يوصلك إلى الله تعالى، أما الذي يجيء من عندك أنت أين سيصل؟ لكن الذي جاءك من عند الله يوصلك إلى الله؛ فهذا هو سبب الوصول ﷺ.
واعلم بأنك لا تُفضي إلى غرضٍ ** بدون أن تقتفي في الورد والصدرِ
خير النبيين ﷺ ..
واعلم بأن الخير كله أجمع ** ضمن اتباعك للنبي المشفَّع
صلوات ربي وسلامه عليه.
ولهذا يُدرك الذي خرج من شهر ربيع الأول، شهر الأنوار وشهر ذكرى ميلاد سيد الأبرار والأخيار المصطفى المختار ﷺ، يُدرِك حصيلته من ذاك الشهر: صدق وِجهة عنده، وصدق إقبال على الرب جلَّ جلاله، ورغبة في هذه الخيرات، ورغبة في عمارة العمر القصير بما يوجب عمارة العمر الطويل؛ ليضمن لك سعادة الأبد، وهي إلا أوقات يسيرة وأيام معدودة في ظهر هذه الحياة.
فما الشجاعة غير صبر ساعة ** والفوز في العقبى لكل صبَّار
والدنيا ساعة فاجعلها طاعة، وكذلك مغتنمي الأعمار يجدون من مرور هذه الأيام عليهم مرقى به يرقون، ويجدون زيادة في معاني القرب من تقرُّب الحق سبحانه وتعالى، معنى تقرَّبه إليهم جلَّ جلاله: كشفه لهم عن قلوبهم الحُجُب المانعة من شهود العظمة، وشهود العظمة تصل بها قلوب المؤمنين إلى مشاهد لو وقعت على الجبال لصارت سماد ودُكّت دكا، هكذا، ولكنها قلوب، وهو كالقرآن: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
ولكن (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ) إذًا قلب الحبيب ﷺ حمل ما لا تحتمله الجبال، ولا تطيق حمله الجبال ولا غيرها، ﷺ، فَهُيِّئ من قِبَل الله لما لم يكن ولا يكون لغيره صلوات ربي وسلامه عليه، فهو كما قال سيدنا الإمام الحداد:
وإن رسول الله من غير ريبة ** إمام على الإطلاق في كل حضرةِ
وجيه لدى الرحمن في كل موطن ** وصدر صدور العارفين الأئمةِ
الله يزيدنا محبة منه ومحبة له، ويزيدنا يقينًا بما جاء به، ورغبة في مرافقته ﷺ، وتسبب لذلك بمتابعته، وإحياء سننه في ديارنا ومنازلنا؛ ينبغي أن يكون أخذت ديارنا نصيبها من ربيع الأول في ذكر النبي والتعلق به، وإحياء سننه حتى في أكلنا وشربنا، تعليم أولادنا كيف يأكلون وكيف يشربون، وكيف ينامون وكيف يمشون، وكيف يلبسون ثيابهم، ولا ينسون اسم الله تبارك وتعالى في كل ذلك؛ فهذه حبال اتًّصال، تُعمَر بها الأيام والليال، ونفوز فيها بعطايا من الله سبحانه وتعالى جزال.
فالحمد لله الذي جمعنا، والله يعلي درجات المُتقدمين ومن فقدناهم في سنيننا هذه، من آبائنا وأخيارنا وقراباتنا وذوي أرحامنا، الله يعلي درجاتهم ويجمعنا بهم في أعلى الجنة، ويعلي درجات المتقدمين في هذا الموطن، ولا يدع منهم أولًا ولا آخرًا إلا أعاد علينا من عوائد ما جعل له من نور وما جعل له من حضور، وما جعل له من عطاء موفور، إنه أكرم الأكرمين.
جزى الله أحبابنا الذين اعتنوا بهذا المكان واعتنوا بهذا المسجد، واعتنوا بهذا الأثر من الآثار في حضرموت، واعتنوا بقيامه واعتنوا بالمولد وجمعنا له، تقبَّل الله منا ومنهم وزادنا وإياهم من فيضه ونواله ما هو أهله، ولا صرف أحد منا إلا وهو ممتلئ القلب بنور الإقبال على الحق، ومَحظي بالقبول عند الرحمن جلَّ جلاله.
فيا رب ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملةِ
واجعل في الخير أهلينا وأولادنا وذرارينا، ولا يجري في ديارنا إلا ما ترضاه وإلا ما تحبه يا رحمن، وأصلح شؤوننا في السر والإعلان، وزدنا من فضلك ما أنت أهله.
وعجِّل بتفريج كروب المسلمين، وانظر اللهم إلى المسلمين في فلسطين وفي لبنان، وفي السودان وفي الصومال، وفي العراق وفي ليبيا، وفي الشام وفي اليمن، وفي الشرق وفي الغرب، واكشف كل كرب، وادفع كل أذية وبلية، واجعل الحوائج على خير الوجوه مقضية، وانظمنا في سلك خير البرية، وعاملنا بفضلك وما أنت أهله برحمتك، والحمد لله رب العالمين.
03 ربيع الثاني 1446