(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الزف السنوي بدار المصطفى في احتفالات أهل المحبة والوفاء بذكرى المولد النبوي في دار المصطفى، ليلة الثلاثاء 24 ربيع الأول 1447هـ ، بعنوان:
مشاعر وأسرار الربوبية وكريم تولِّيها للمقبلين عليه على أتباع النبيين
لتحميل المحاضرة نسخة pdf (اضغط هنا)
لمشاهدة الحفل كاملا (اضغط هنا)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، خالقنا وموجِدنا ومُكوّننا وجاعلنا في أمّة حبيبه الأمين، وجامعنا في هذه الأمة من خلال ما آتانا مِن عمر على ظهر هذه الأرض، في زمن التكليف كُلّ منا، مِن بلاد شتّى وقبائل شتّى، على الوجهة إليه، وعلى طلب محبّته وتحقيقها، وعلى أُهبَة الاستعداد للقائه والتزوُّد لنيل رضائه، ومرافقة خاتم أنبيائه، وفيها تندرج مرافقة جميع النبيين وجميع الصديقين وجميع الشهداء وجميع الصالحين.
المرافقة الكريمة التي هي أعلى وأجل ما تُعطي حضرة الألوهية أحداً من العباد، مرافقة خير العباد وأشرف العباد وأكرم العباد، اللهم اجعلنا مِن رفقائه واجمعنا تحت لوائه يا أكرم الأكرمين.
واجتمعتم لا بأنفسكم ولا لأنفسكم، به سبحانه ولهُ، نائبين عن أهل دياركم وأهل بلدانكم وعن بقية الأمة، أمّة الإجابة على الأصل والأولى، ثم جميع أمة الدعوة، تنوبون عنهم في اجتماعكم في التوجُّه إلى الله؛ أن يهدي وأن يُرشد، وأن ينشر الهداية في البريّة.
ومَن معكم في الاجتماع من الملائكة، الذين بيَّن لسان النبوة كثرتهم وحضورهم في مثل هذه المجالس والمجامع، ومَن يصحبهم من الأرواح الطاهرات، وما يكون من نظر رب الأرض والسماوات، وما يكون من العرض على عبده وحبيبه خير البريّات.
كل هذه الشؤون تُفتَح بها مجالات لمن يدخل في تحقيق العبوديّة لله، لمن يدخل في الجُنديّة للرحمن، ليكون من جُند الرحمن المرتبطين بالمرسلين، المحكوم لهم بالنصر في الدنيا ويوم القيامة (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
ومَن الظالمون؟ كُل مَن بلغته دعوة الله ودعوة رسوله فأعرض عنها وخالفها قصداً ولم يتُب من ذلك، هؤلاء هم الظالمون، وأنواع الظلم تندرج في هذه الحقيقة: (يَوْمَ لَا تَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، وفي القراءة الأخرى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
هذه نهاياتهم، وهذا مستقبلهم، وهذه غاياتهم، وهذا مصيرهم! فلا يغُرنَّكم شيء من زهو وزُخرف أقوالهم، ولا رَونق مظاهرهم، وما عندهم من تِلكم الفانيات (لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فالحمد لله جامعنا على هذا الخير وهذه الهيئة، في توجُّه إليه بالقلوب، مَوروث تعلّمناه من شيوخنا وسلاسل إسنادهم، انبعاثه الأصيل وانبعاثه الأول مِن قلب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أُرسِل رحمة للعالمين، وحمل هذه الأمانة وهذا الهَمَّ وهذه المُهِمة وهذا الواجب الرباني، صلى الله عليه وسلم.
فما كان أنصح منه، ولا كان أعظم اجتهاداً منه، ولا كان أكثر تحمُّلاً منه، ولا كان أحسن بياناً منه ﷺ، حتى تركنا على المحَجَّة البيضاء صلوات ربي وسلامه عليه.
وأُسوة المكروب في اصطبارِ ** في كل ما لاقى من الكفارِ
حتى رُمي بالفرث والأحجارِ ** وما دعا إلا على رجالِ
ولم يزل للحقّ في اجتهادِ ** وبعد فرض الغزوِ والجهادِ
ما قرَّ في ظِلٍّ ولا بلادِ ** إلا على الكفّار في قتالِ
وما مضى حتى أقام الدينَ ** وصار سهلاً واضحاً مبيناً
فلم تَخَف أمته فتونا ** بل عُصِموا في الجمع عن ضلالِ
لا يجتمعون على ضلالة، عُصِموا عن الضلال فيما يجتمع عليه الأمة، وهو اتّفاق علمائهم ومُجتهديهم في كل قرن وكل زمن على أمر يجمعهم عليه، يكون حقاً وهُدى وسبيلاً للمؤمنين لا يُتَّبع غيره (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ).
بل عُصِموا في الجمع عن ضلالِ
والخلفاء بعده والعِترة ** بهم مع القرآن مُستمِرة
مِلَّتهُ محفوظة مِن فترة ** على الهدى دأباً بلا انفصالِ
وصحبُهُ فيهم لهم نجومُ ** منهُ عليهم فاضت العلومُ
كُلٌّ له مُقَدَّرٌ مقسومُ ** مِن ظاهرٍ أو باطنٍ أو حالِ
أيها الجمع الكريم، اجتماعكم كان بتقدير العزيز العليم، وكان قضاؤه ورسمه في الأزل قبل خلقنا وخلق السماوات والأرض، بأسمائنا وأعياننا وأشخاصنا، كبارنا وصغارنا، ومن يتابع ذلك من أي مكان، ذكراً أو أنثى، بل حضور الطفل وحضور الشيخ الكبير والكهل والشاب بأعيانهم، قد سُمُّوا في تقدير العزيز العليم وفي حُكمه القديم جل جلاله.
وهو لا يعمل شيئاً عبثاً ولا يخلق شيئاً عبثاً، ومجمعٌ من أمة حبيبه في أزمان تهبُّ فيها رياح التشكيك والتكفير والإضلال والإبعاد والظلم والعنجهية والإجرام والتظاهر به، وتتكشَّف فيه أوراق كثير من الكذب والخداع والغش الذي وقعت الأمة في التأثُّر بكثير منه، وغُشَّ الكثير منهم على قدر بُعدهم عن هذا النور، وعن قوة الصِّلَة بالهادي المؤتمن المختار مِن قِبَل عالم السر والعلن، هادياً ومرشداً ومُعلِّماً.
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
وإذ جمعنا الله وإياكم في ليلتنا هذه والحال كما ذكرنا، فأرُوا ربّ العرش من قلوبكم ما يرضى به عنكم، ويفتح لكم مِن خزائن جوده ما لا يحدُّه حدٌّ محدود، ولا يقف عند عَدٍّ معدود من الكرم والجود، اللائق بالجواد الحق المعبود، المقصود المشهود، جل جلاله وتعالى في علاه.
يا أحبابنا ويا حاضرين ويا متابعين، الأمر جِد، والأمر عظيم، والأمر كبير، والأمر أكبر مِن سفاهات ما يُبَثُّ من الأفكار في الشرق أو الغرب على مستوى الشعوب والدول، الأمر أكبر لأنه جاء من عند الله والله أكبر جل جلاله وتعالى في علاه، أكبر من أن يُحيط به محيط، وأكبر من أن يُحيط بِحكمته في تشريعه مُحيط من الخلق أجمعين، فالله أكبر وأجلّ، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
أيها المجتمعون لأمره وعلى ذِكره، واسترضاءً له بذكر رسوله والفرح بولادته، قبل 1500 عام من الولادة النبوية النورانيّة، التي أشرق بها النور على هذه الأرض، ودخل الناس في مرحلة زمن مُختَص مِن بين الأزمان قبله وبعده، زمن عُمر لرسول الله، مُقسَمٍ به في كتاب الله، حَلًَف الله به في قرآنه: (لَعَمْرُكَ). ابتدأَ مِن ساعة الولادة، هذا العَمر الشريف المُميَّز عما قبله من الأزمنة وعمّا بعده، إلى ساعة الوفاة وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
نفسي الفداء لليد التي امتدّت عند الخروج من هذا العالم، ويقول: "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى" ﷺ، ووصّانا بالصلاة وما ملكت أيماننا، ولقي الربّ جل جلاله وقد أكمل الله به الدين وبيَّن أحسن تبيين.
ولقد حاولوا المساس منه بل وقتله من أيام مولده! 1500 سنة ومحاولة إبليس وجماعة من جنده من شياطين الإنس والجن قائمة على استئصال هذا النور، على قطع هذا النور، حتى أنّه كان بعض أهل البغضاء والشحناء مَن ابتلاهم الله بسوء من يهود ومَن دخل في دائرة هؤلاء، كانوا يترقّبون سنة ميلاده ليحاولوا قتله، ثم يترقّبون سنة خروجه إلى الشام - وهو موجود عندهم في الكتب - ليترقّبوا قتله.
حتى أنّ سيف بن ذي يزن عليه رحمة الله لما لقي جده عبد المطلب وذكر له العلامات ثم أيقَنَ أنه جده، وقال: لا تُخبر، ولا الجماعة الذين معك، فإن المُتربّصين به يُعِدُّون له العُدَّة ليقتلوه، وقد تكفَّل الحقّ بِحفظه، ولكن هكذا تقوم الأسباب والمحاولات، من 1500 سنة يحاولون إطفاء هذا النور، والله تعالى يُتِمُّه ويزيده، ولا نزال في التمام والزيادة، جوداً وسعادة من عند الرب عالم الغيب والشهادة.
وأنتم في بحر من أبحُر هذا الإتمام وهذه الزيادة وهذه السعادة، أتمَّ الله إسعادنا وإياكم بِصدق المحبّة له ولرسوله حتى يُرافقنا به، والحديث في صحيح البخاري، يسأل: "يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولمَّا يلحق بهم؟" قال: "المرء مع من أَحَب"، اجعلنا معه يا رب، اجعلنا معه يا رب، اجعلنا معه يا رب.
يا حاضر ويا سامع، اعرف قدر هذا الطلب، اعرف شرف هذا الطلب؛ أتدري ماذا يُطلب لك؟ وممَّن يُطلَب لك؟ يُطلَب من رب الأرض والسماء، رب الملك والملكوت، ما الذي يُطلب؟ يُطلب السعادة الكبرى المؤبَّدة التي لا تبلغها غاية، فانظُر ماذا يُطلَب لك ومِمَّن يُطلَب لك!
مِن واحد لولا كرمه ما خلقنا، ولولا جوده وإحسانه ما آمنَّا ولا أسلمنا، ولولا فضله وامتنانه ما كان بيننا وبين رسوله نسب وسند، ولولا تفضُّله سبحانه وتعالى وسخاؤه وجوده ما عَلِمنا شيئاً من هذا الشرع المَصون، ولا حملت القلوب هَمّاً لمسلك الأمين المأمون، بل بفضله وحده تمَّت كل هذه المِنَن والنِّعَم.
ومَن عرف قدرها وعرف عظمة المُنعِم استحيا أن يعصيه أو أن يخالفه بقلب أو عين أو رِجل أو فرج أو بطن أو يد أو رِجل أو سمع أو بصر (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
أيها المجتمعون على محبة الله ورسوله، حقَّقكم الله بالمحبة وزادكم منها، يا رب يا رب يا رب، أتمِم علينا وعليهم النعمة، فهؤلاء استجابوا ولبَّوا، واخترتهم أنت لذلك، ولنا فيك أمل في من وراءهم مِمن لم تسبق لهم إجابة ولا تلبية، أو ما عرفوا قدر هذه المعاني وهذه الحقائق والمباني، وهذه الغَيبيّات وهذه الروحانيات، وهذه المجالات الفسيحات العظيمة القَدر لديك، المذكورة في العالم الأعلى، التي لها ذِكر عند العرش وحملته ومَن حولهم، وذِكر عند أهل البيت المعمور، وعند أهل سدرة المنتهى، وعند ملائكة الصفيح، وعند الكروبيين من الملائكة أعلى الملائكة.
وأكبر من ذلك، فما جاء ذلك إلا عمَّا هو أكبر، والأكبر من ذلك ذكر الله الحق لهم، والمكانة لديه والمِنَّة منه لمن يذكره ويجتمع على ذكره.
في أي ساعة أنتم؟ المقبول منكم في هذه الساعة تُنشر له رايات يوم تقوم الساعة، ما أغلاها وأبهاها! يا رب اقبلنا، يا رب اقبلنا، يا رب اقبلنا، وبحبيبك اجمعنا، هيء هذه القلوب لأن تنكشف عنها الحُجُب فيُشرق فيها النور، تنتقش فيها صورة بدر البدور، ونراهُ في الدنيا قبل الآخرة، في اليقظة والمنام، وعند الوفاة والحِمام، وفي البرازخ ويوم القيام، وفي الفردوس الأعلى يا رب، وفي ساحة النظر إلى وجهك الكريم.. آمين، آمين.
ارجو ربك وقل آمين، عسى أن يُكرمك، عسى أن يتفضَّل عليك بهذا العطاء الضخم الفخم الكبير. لا والله! لا في قوائم دول الشرق ولا الغرب ما يُشابه هذا ولا يقرب منه، والله هذا أكبر، والله العظيم هذا أجلّ، وهذا أجمل، وهذا أكمل.
مِنَّة الواحد الذي لم يزل، وقد أوقفنا على بابه وجعلنا لائذين بأعتابه. نشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مؤمنين به وبصفاته، كما وصف نفسه ووصفه رُسُله صلوات الله وسلامه عليهم، موقنين أنه لا يحيط به غيره قط، وأعرف الخلق بأنبيائه وأعظمهم معرفة وعِلماً حبيبه ومصطفائه وخاتمه ﷺ.
وآمنَّا بهذا المُرسَل وبجميع من أُرسِل قبله ونُبِّئ قبله، وآمنَّا بجميع ملائكة الله، وآمنَّا بجميع الكتب المُنزَلة من عند الله جل جلاله، وكل ذلكم فضل من الله علينا، نسأله أن يُتِمَّ الفضل والنعمة، وأن يُتِمَّ المِنحة والإحسان.
ويجعل لنا ثماراً صالحة من اجتماعنا في إقامة الفرائض وترك المُحرَّمات ظاهرها وباطنها، مستجيبين لنداء مِن فوق، حمله السيد الصادق عن الإله الخالق يقول لنا: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ).
ذروا: اتركوا، ارفضوا، رُدُّوا، ابعدوا عن ظاهر الإثم وباطنه.. لبَّيك يا رب ولا قوة لنا إلا بك، لبَّيك يا رب ولا قدرة لنا إلا بك، فوفِّقنا، يا الله.
بك وذاتك وأسمائك وصفاتك وحبيبك محمد وأحبابك وكلماتك التامات، نسألك أن تكتُب لِكُلّ حاضر ٍمنا ومن يسمعنا ويشهدنا أن تجعله في بقية عمره مِمّن يذر ويترك ظاهر الإثم وباطنه، إيماناً ومحبّةً، وتعظيماً ومعرفةً وحياءً، وصِدقاً معك ووفاءً بعهدك، وطلباً لرضاكَ وودِّك، يا الله.
هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، يا ربنا يا ربنا، يا ربنا يا ربنا، يا ربنا يا ربنا، الحاضرون والسامعون والمشاهدون والمُتعلِّقون والمتابعون، اكتب لِكُل منهم أن يكون في باقي عمره مِمّن يَذَر ظاهر الإثم وباطنه، إيماناً وأدباً، ومعرفة ومحبة، وتعظيماً وإجلالاً، وطلب رضوانك وموَدَّتِك يا ودود، يا الله، يا الله.
عليك نُلِح، وأنت تُحب الملحِّين في الدعاء، ما أسخاك وأكرمك! يا رب ألحِقنا بهذا الفريق، اجعلنا مِمّن يذر ظاهر الإثم وباطنه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ).
ويدخل في جندك وأهل ودِّك، قرأنا قوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ونقرأ أيضاً قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
فاجعلنا مِن جُندك يا رب، في دائرة حبيبك محمد يا رب، مُرشدنا وهادينا وقائدنا، يا الله.
بحُرمةِ هادينا ومُحيي قلوبنا ** ومُرشدنا نهج الطريق القويمةِ
دعانا إلى حقٍّ بِحَقٍّ مُنزَّلٍ ** عليه من الرحمن أفضل دعوةِ
أجبنا قبلنا، أجبنا قبلنا.. "أجبنا قبلنا مذعنين لأمرهِ"
سمعنا أطعنا، سمعنا أطعنا.. "سمعنا أطعنا عن هُدىً وبصيرةِ"
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
يا الله!
وإذا أقبل بعض أهل الجنة على بعض يتساءلون، فقالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
فنسألك أن تجعلنا من المُتقابلين في تلك الدار، ونقول: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ) وإنا ندعوك يا ربنا، ففي الفراديس فاجمعنا يا الله.
وبِعزمك الصادق أن تترك ظاهر الإثم وباطنه يفتح لك أبواب من أبواب توفيقه وعنايته جل جلاله، وتأتي اطِّلاعات مُتفرِّعة ومتسلسلة عن مثل اطِّلاعته على أهل بدر، "ولعله ما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، يعني ما يقعون في معصية ولا ذنب بعد اليوم، ولو وقع مِن أحد منهم هفوة كانت مقرونة بالتوبة والرجعة المقبولة عند الله.. الله أكبر! هذه عطايا الله ونفحاته في الأيام والليالي.
أيها الحاضر، أيها السامع، أيها المتابع، أنت بين يدي عليٍّ عظيم، إله كريم، مولى رحيم، اسمه الله، اسمه الله! يا ما أحلى اسمه! ويا ما أعظم اسمه! الله جل جلاله، يُنادى مِن قِبَل مُتكلم وسامعين وحاضرين من الملائكة وغيرهم، يُنادى هذا الإله لك ومن أجلك، ويُطلب لك، فاغنم ساعتك، اغنم حظّك، اغنم عطاء ربك جل جلاله وتعالى في علاه.
نحن بين يديه، وهو الناظر إلى ما في قلوبنا، بل أعلم بما في بواطننا منَّا جل جلاله (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
إلهنا، لا تجعل في سرِّنا ونجوانا إلا ما يُرضيك، لا تجعل في سر كل واحد مِنّا ونجواه إلا ما يُرضيك، يا الله! نِعْمَ مَن ناديتموه، نِعْمَ من دعوتموه، نِعْمَ من طلبتموه!
الله، الله، الله،
الله، الله، الله!
ما أسعدنا بالله! ما أعظم شرفنا بنداء الله! ما أعظم تفضُّل الله علينا أن نَطَقنا باسم الله مؤمنين بالله! الله، الله، الله! املأ هذه القلوب إيماناً يا رب العالمين ويقيناً، يا أرحم الراحمين.
أحسِنوا أداء الفرائض والقيام بِحقّها، كل ما فرض الله عليكم: في أعضائكم، في أنفسكم، مع أهلكم، مع آبائكم وأمهاتكم، مع أقاربكم وأرحامكم، مع جيرانكم، مع أصحابكم، في المعاملات كلها، أقيموا فرائض الله.
ثم أكثِروا من النوافل ما استطعتم؛ تقرُّباً إلى الله وطلباً لِمحبة الله، ولأنه أهلٌ لذلك تعالى في علاه.
أيها الجمع الكريم، ومِن أعظم الفرائض: موَدَّتكم للمؤمنين ومحبتكم لهم، فقوموا بِحَقّها، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"، وكالبَنان.
وتَمَنِّيكم لهداية جميع مَن في الأرض، حَملاً لأمانة التبليغ والأداءِ والإرشادِ والدعوة إلى الله جل جلاله.
واعتبروا أنّ الله في قرآنه أخبرنا عن رسولَين كريمين: موسى وهارون، وقال لهما: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ).
فتعبَّدَ موسى وهارون بإرادة ونيّة وقصد أن يُهدى فرعون، والله يعلم أنه لن يهتدي، ولكن تعبَّدَهم بهذا، (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ)، اجعلوا قصدكم هذا.
(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ) كما قال الله، لكنه تعبَّد موسى وهارون بنيّة الهداية له، وحرسهما مِنه وأيَّدهما جل جلاله، حتى أغرقه بعد أن ضحّوا وصدقوا وبذلوا، عليهم صلوات الله وتسليماته، هذا فرض.
ومِن أعظم النوافل بعد ذلكم:
فقوموا بِحَقِّ ذلك واصدقوا مع الإله المالك.
وإنَّ في جوده فوق ما تؤمِّلون أجمعين، وفوق ما ترتجون، ذرَّة من جوده فوق رجائي ورجائكم ورجاء أهل الأرض ورجاء أهل السماء، والله العظيم! ذَرّة مِن جوده فوق رجائنا ورجاء أهل السماوات والأرض، سبحان واسع الجود! ربكم هذا ربكم، اعرفوا عظمة ربكم! ذرّة مِن جوده أكبر من رجائنا ورجاء أهل السماوات والأرض، فكيف؟ ثم كيف ثم كيف؟ ولا تكييف لصفات الله تبارك وتعالى.
أيها المؤمنون، وجهتنا إلى الرحمن:
نسأله يُثبِّت قلوبنا، ويزيدنا هداية حتى نلقاه على أعلى مراتب المحبة منه والمحبة له، والرضا منه والرضا عنه، اللهم آمين، في لطف وعافية يا أكرم الأكرمين.
أروه من قلوبكم صِدقاً في التوجُّه إليه، واحضروا بين يديه، ونُجدِّد توبتنا. عصينا كثير، خالفنا كثير، قصَّرنا كثير، ليل ونهار، سرّ وجهر. لكن ما معنا غيره، ما معنا غيره، وما لذنوبنا سواه، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
فنتوجَّه إليه، جميعاً قولوا: نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، مِن جميع الذنوب والمعاصي والآثام، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، أولها وآخرها، ظاهرها وباطنها، بيننا وبين الله، وبيننا وبين عباد الله، ومن جميع ما يعلمه الله.
اللهم تقبَّل التوبة، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ)، سيدنا، مولانا، إلهنا، ربّنا، خالقنا، لا تدع لي ولا لأحبابي هؤلاء، الحاضرين والسامعين والمشاهدين والمتابعين والموالين ذنباً ولا سيئة ولا خطيئة صغيرة ولا كبيرة إلا في ليلتنا هذه بدَّلتها إلى حسنات.
يا خير مسؤول، يا أكرم مأمول، يا بَرُّ يا وَصول، بجاه سيدنا الرسول، وأنت الذي قُلتَ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ). ذكرتَ النتيجة والثمرة، عظيمة، عظيمة، عظيمة، عظيمة، عظيمة! قلت: (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، بأيِّ تجلِّي؟ بأيّ مظهر؟ (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا)، في مجلى الجمال، ليجدون الله في مجلى الجمال والإفضال، (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).
سيدنا، نجدك يا رب، توَّاباً رحيماً، منّاناً كريماً، إفضالاً عظيماً، يا الله، يا الله، يا الله!
ونُجدِّد عهدنا معك، وإيماننا بك بما أمرنا نبيُّك أن نُجدِّد به إيماننا بالإكثار من قول الشهادة، فنقول جميعاً: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
يا إلهنا، بَلَغنا عن نبيك ما روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أنه قال لجماعة من أصحابه: "هل فيكم غيركم؟" - يعني من أهل الشرك واليهود - قالوا: لا يا رسول الله، قال: "فارفعوا أيديكم"، فرفعوا أيديهم، "وقولوا: لا إله إلا الله"، فقالوها وراءه ثلاث مرات، ثم قال لهم نبيُّك: "إن الله قد غفر لكم".
فبِفضلك اغفر لنا، سامحنا فيما كان منَّا، واحفظنا فيما بقي مِن أعمارنا يا الله، يا الله، يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا منَّان يا كريم.
واجعل هذه العيون مُلحقة بعيون سهرت في سبيلك، لا تمسّها النار ولا تبكي يوم القيامة، لأن كل عين باكية يوم القيامة، كل عين باكية إلا ثلاث: إلا عيناً بكت من خشية الله، وعيناً سهرت في سبيل الله، وعيناً غَضَّت عن محارم الله. ثلاث عيون ما تبكي، وبقية العيون باكية، بُكاءً ما ينفع، بُكاءً ما يُفيد، بُكاء الحسرة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، والعياذ بالله.
يا ربنا، صُن عيوننا هذه فيما بقي من أعمارنا، واجعلها باكية من خشيتك، غاضَّة عن محارمك، ساهرة في سبيلك، يا الله، يا الله، ترى وجه نبيك في الدنيا والآخرة، تُسعدها بالنظر إلى وجهك الكريم.
وتَسمع آذاننا حين مجيء الوعد الكريم، الذي نطق به لسان عبدك الحبيب الحشيم، السيد العظيم، وقال إنك تنادي أهل الجنة، في منازلة لطيفة مِن عندك، وملاطفة كبيرة من فضلك: "يا أهل الجنة!"، فيقولون: "يا ربنا، لبَّيك يا ربنا وسعديك"، فتقول لهم أنت بعظمتك وجلالك: "هل رضيتُم؟" هكذا تقول لعبادك وأنت الغني عنهم وتسترضيهم! "هل رضيتُم؟" فيقولون: "يا ربنا، كيف لا نرضى! وقد نجَّيتنا من النار وأدخلتنا الجنة وأعطيتنا وأعطيتنا؟" فتقول: "هل أُعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟" فيقولون: "يا ربنا، وما أفضل من ذلك؟" فتقول: "أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أَسخَط عليكم بعده أبداً".
أسمِعنا هذا النداء، إذا جاء هذا الوعد وتلك الساعة اجعلنا من خواص أهلها، الوافر حظُّهم مِن فضلها، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله.
ولحاجاتكم وللمؤمنين، ولما ذكرنا وما لم نذكُر، ولأهل غزة، ولأهل الضفة، ولأهل فلسطين، ولأهل اليمن، ولأهل الشام، ولأهل الصومال، ولأهل السودان، ولأهل ليبيا، ولأهل أفريقيا، وللمسلمين في المشارق والمغارب.
جميعاً توجَّهوا إلى الله، قولوا جميعاً: يا الله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله..
بألسنتكم وقلوبكم: يا الله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله..
وبأرواحكم وأسراركم قولوا: يا الله يا الله، يالله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله..
وبكلياتكم وبِكُل كُلِّيّاتكم، قولوها متواضعين مُتذلِّلين خاضعين خاشعين: يا الله يا الله، يا الله يا الله، يا الله يا الله..
أترون رب العرش العظيم بعد ذلك يُخيِّبكم؟ كلا ولا يُظَنُّ به ذلك! إنه الله، يستحي إذا مدَّ العبد إليه يديه أن يردَّهما صِفراً، نِعْمَ الله! أنعِم بالله! أكرِم بالله! يا الله أكرِمنا وتقبَّل منَّا.
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
وعفواً منكم، وجمعنا الله وإياكم على الخير في كل مقام كريم، وثبَّتنا على الاستقامة والوفاء بعهده، وجمعنا في دائرة حبيبه محمد في ظل العرش، في دائرة حبيبه محمد تحت لواء الحمد، في دائرة حبيبه محمد على الحوض المورود، في دائرة حبيبه محمد عند المرور على الصراط، في دائرة حبيبه محمد في الجنة ودار الكرامة، في دائرة حبيبه محمد في ساحة النظر إلى وجه الله الكريم، اجمعنا يا رب، اجمعنا يا رب، اجمعنا يا رب، اجمعنا يا رب، اجمعنا يا رب، اجمعنا يا رب، يا الله، يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.
24 ربيع الأول 1447