مذاكرة في مجلس عزاء الحبيب عبدالرحمن بن شيخ العطاس

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مجلس القرآن الكريم إلى روح الحبيب عبدالرحمن بن شيخ العطاس رحمه الله تعالى، في جامع منطقة المشهد، بوادي حضرموت، الأربعاء 14 محرم 1447هـ
في عزاءِ الحبيبِ عبدِالرحمن بن شيخ العطّاس، ألقى الحبيب عمر بن حفيظ كلمةً تكشف معيارَ النصر الحقّ وتعيد وصلَ القلوبِ بسندِ النبوّة، تعرَّف على سيرةِ الفقيد نموذجًا للإخلاص والسند.
- - معنى النصر في الدنيا والآخرة ومعيارُه الاتباع للنبوّة.
- - التحذير من خداع الحضارات المادية حين تنفصل عن الوحي.
- - تذكير بمشهد العرض على الله وواجب (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا).
- - السند والاتصال بالصالحين وخطر التدين المقطوع.
- - النهي عن التحريش بين المسلمين والدعوة للتراحم.
- - لمحة عن تاريخ حضرموت والتحوّل على يد الصالحين.
نص المحاضرة:
الحمد لله ﴿الَّذي خَلَقَ المَوتَ وَالحَياةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزيزُ الغَفورُ﴾ ، والإله الشكور، والذي بيده المبتدأ وإليه المرجع والمصير، وإليه النشور. لا إله إلا هو الحي القيوم، المتفرِّد بالبقاء والدوام، والذي اختار من خلقه سبحانه وتعالى ملائكةً وأنبياءَ ومرسلين، وإنساً وجناً، جعلهم العقلاء في هذه الكائنات الكثيرة التي كوَّنها بقدرته وحكمته، وخصَّهم بخصوصية في الوعي لخطابه ولوحيه ولتنزيله، تميَّزوا بها عن بقية هذه الكائنات.
فجعل سبحانه وتعالى أن جميع هذه الكائنات تؤول إلى الغاية التي يصير إليها الإنس والجن، وتبقى معهم الملائكة في دار الجنة ودار النار، ولا يبقى بعد ذلك من السماوات والأرض شيء إلا العرش والكرسي واللوح والقلم، وتلك الأرواح التي خَلَقَها، بعد أن يُصَيِّرَ أرواح البهائم إلى تراب وإلى جماد، وينتهي كل شيء، وتبقى الغاية: ما لهذا الإنسان المكلَّف؟ ما عمله؟ ما نواه؟ ما قصده؟ ما سعى به في عمره القصير؟ ما صدر منه؟ ما تخلّق به؟ إما في الجنة به يتنعَّم، وإما في النار به يتعذَّب.
ومعهم المكلَّفون من الجان، والملائكة خزنة الجنة ﴿يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بابٍ * سَلَامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُم فَنِعمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾، وخزنة جهنم يقول لهم أهل جهنم: ﴿ ادْعُوْا رَبَّكُم يُخَفِّفُ عَنّا يَومًا مِنَ العَذابِ * قَاْلُوْا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾.
والخلاصة والحقيقة: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
النصرة في الحياة الدنيا
وما خرج عن المرسلين والذين آمنوا، على حسب الاتصال بالمرسلين، وعلى حسب الاقتداء بالمرسلين، وعلى حسب الاهتداء بنور المرسلين، ما خرج عن ذلك فهو هباءٌ منثور. لا تَغُرُّك دُوَل، لا تَغُرُّك سَلْطنات، لا تَغُرُّك حضارات، لا تَغُرُّك أفكار، لا تَغُرُّك أحزاب، لا تَغُرُّك تجارات، لا تَغُرُّك مصانع، لا تَغُرُّك حركات على ظهر هذه الأرض! كلُّها -واللهِ الذي خلقنا- هباءٌ منثور، وأكثر أصحابها إلى الهمّ والندم والعذاب والعقاب المُخلَّد، والعياذُ بالله.
لا يَغُرُّك شيء من هذا!
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وحْدَهُم ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾
والنُّصْرَةُ في الحياةِ الدُّنيا ببقاءِ أنوارِهمُ المتلألئةِ في قلوبٍ تقتبِسُها، وببقاءِ ذكرِهمُ الجميلِ:﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، وببقاءِ معاني عُلُوِّ ما جاؤوا به وبُعِثوا به من كلمةِ الحقِّ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ﷺ، وبقاء الآثار الطيبة محفوفة بعناية الله لهم إلى أن يأذن الله برفع الخير عن هذه الأرض، وتهبّ ريح تخطف من في قلبه ولو مثقال ذرة من إيمان، فلا يبقى إلا شرار الخلق على ظهر الأرض، ثم لا يبقى إلا كافر ابن كافر، ليس فيهم من يقول: الله، وعليهم تقوم الساعة، وهم شرار الخلق.
نصر يوم القيامة
وتأتي النصرة يوم القيامة، النصر ة للمرسلين والذين آمنوا وحدهم، يُؤتَون كتبهم بأيمانهم، ترجح موازين حسناتهم، تبيضّ وجوههم ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾. ثم قال جل جلاله وتعالى في علاه: يُعرضون العرض الجميل على الملك الجليل، حين ينادي المنادي: ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله، ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله، ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله.
فوالله ما يبقى مكلَّف كُلِّف في عمره ولو ساعة إلا ونودي باسمه: ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله!. قال نبينا ﷺ: "ما منكم من أحد إلا وسيكلّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة". يعني: اغنموا حياتكم -هذه القصيرة- فيما يحجزكم عن هذه النار. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.
أهل الصدق مع الله
وبمَ نقي أنفسنا النار؟ بالتواصي بالحق والصبر، بهذه الذكريات لأرباب الصدق مع الله، أمثال هذا السيد المبارك المنوّر الذي اجتمعنا في مناسبة العزاء فيه، في هذا اليوم، أعلى الله درجاته، وجمعنا به في أعلى جناته.
قرْنٌ من الزمان عاشهُ عليه رحمة الله تبارك وتعالى: 1347هـ الولادة، و1447هـ الوفاة، عليه رحمة الله تبارك وتعالى. قرنٌ مضى!، هذا القرن بورك فيه، وشاهد الخيرية له في الحديث: "خيركم من طال عمره، وحسُن عمله"، ولكن حُسن عمله من حُسن فكره وتصوّره، كان نتيجة، نتيجة لتربية، نتيجة لآباء وأمهات أخيار، نتيجة لاتصال بمشايخ راسخين في نور العلم واليقين والمعرفة بالله، جاءت النتيجة من هذا.
أهمية السند والاتصال بالصالحين
وهل يكسب أحدٌ على ظهر الأرض الخير من دون طريق الأنبياء وأنوارهم؟ من دون طريق السند إلى هؤلاء الأنبياء والسلسلة إليهم؟ لا يكون إلا ظلمة هذه الدنيا وفتنتها وزخرفها، أو ادِّعاء دين مقطوع النسب، مقطوع السند إلى محمد ﷺ.
فيه أصحاب وصفهم ﷺ: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، لا يجاوز تراقيهم، "يصلَّون كثير صلاة، يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم"، وربما طوَّلوها وعرَّضوها، "ويحقر أحدكم قراءته عند قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه، لو أدركتهم لقتلتهم"، يقول صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
التحذير من الفساد
هذا الزيف من صورة الدين وغرور الدنيا، عند ناشري الفساد، ناشري المخدرات، ناشري المنكرات، ناشري التبرُّج، ناشري اختلاط الرجال بالنساء، ناشري التجرُّؤ على الحق وعلى رسوله وعلى الصالحين من عباده، وعلى أكابر الأحياء والأموات، ناشري أنواع الفساد على ظهر الأرض. والعياذ بالله تبارك وتعالى.
والذين تنتهي حضاراتهم إلى ما تسمعون: قصف الملاجئ، قصف المساجد، قتل الأطفال، قتل النساء.. هؤلاء الزعماء حضارة زمانهم!، ما خرجوا عن درب من قبلهم من الكفرة، من الفسقة، من المجرمين: عاد وثمود وفرعون والنمرود ومن معه، ومن خالف المرسلين فيما مضى.
كان فرعون يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾. سبيل الرشاد: تقتل الأبناء؟! سبيل الرشاد: تدَّعي الألوهية من دون الله؟! سبيل الرشاد: تسخِّر عباد الله تعالى لأغراضك ومصالحك؟! منطقٌ واحد حق الفراعنة في كل زمان إلى زمانكم هذا. هذا سبيل الرشاد حقَّهم! ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ﴾، هذا هو الهدى وحده، لا هدى غيره.
وادي حضرموت ووصول العترة النبوية
وهذا الهدى الوحيد تميّز به واديكم، وسَعِدَ به ناديكم، ومن استجاب من القلوب المنوَّرة على مدى القرون من حين دخل الإسلام إلى مناطقكم هذه. وقد أُكرمتم بدخول الإسلام في حياة نبي الإسلام، في حياة رسول الإسلام . وصل الإسلام إلى حضرموت، بل ووفد الوافدون من حضرموت على زين الوجود، ونزل أصحابه الأخيار إلى حضرموت وهو شمس الرسالة وخاتمها ﷺ.
لا شرف إلا شرفه، ولا كرامة إلا كرامته. "لواء الحمد بيدي يوم القيامة، آدم فمن دونه تحت لوائي"، يقول عليه الصلاة والسلام. الله يجمعنا تحت ذاك اللواء، إنه أكرم الأكرمين.
وجاء الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، ثم عُزِّز َالوادي أيضاً مع من فيه من المؤمنين والقبائل التي استجابت لنداءِ الله، بوصول العترة والذرية النبوية إلى رحاب الوادي الميمون. وجاء الإمام المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى أول القرن الرابع الهجري، ونزل في الجُبَيْل وإلى الهجرين وإلى قارة بن جُشيب وإلى الحُسَيِّسَةِ، وقضى بقية عمره هناك، بأنوار من الوحي وأنوار من السنة الشريفة، اتصلت بها من في ذاك العصر من قبائل هذا الوادي، ومن بقي متشبّثاً بالسنة، وانمحى بها ما طرأ على الوادي من خلاف في أمر السنة وأمر النظر في الكتاب والنصوص والموروث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
لا زيغ ولا انحراف، ولا تشدّد ولا تكبَّر ولا علوّ،﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾، بل حقيقة سموٍّ واعتلاء بكلمة الله تبارك وتعالى وعزّته وعزّة دينه وعزّة طاعته.
ومرّت القرون، وكان حظُّ هذه الوديان أن برز فيها من آل البيت الطاهر ومن المشايخ من خيار القبائل فيها: أصفياء وأتقياء وأولياء وصلحاء ومصلحون وباذلون وأسخياء ومتَّقون، وقوَّامون في الليالي، وصوَّامون في النهار، وأرباب ورع، وأرباب خشية. هم شرف الوادي، هم عزَّة الوادي، هم كرم الوادي، لا غيرهم والله تبارك وتعالى، هم حقيقة الفخر والكرامة.
تحوّل المنطقة إلى الصلاح
وحتى جاءت الساعة التي أذن الله أن تتحوّل بهذه البقعة من مكان سرقة ومكان نهب وقطع للطريق وأخذ لأموال الناس بالباطل، إلى مكان ذكر وعلم وتقوى وإكرام وإحسان وسقاية وإطعام وإسداء ومعروف، على يد الإمام علي بن حسن العطّاس، عليه رحمة الله تبارك وتعالى، ومن قام معه، ومن شاركه في حفر البئر وفي عمارة المشهد من مختلف القبائل، ومن أرباب القلوب الذين كانت لهم وجهة، ولهم عقول تهديهم إلى اتخاذ الزاد من الحياة القصيرة للحياة الباقية.
ومنهم منوّرون القلوب بمرائيهم وبمشاهدهم وببصائرهم، وقاموا معه، وقام المشهد وتمّ، بعد استهزاء من كثير، وبعد تخذيل من كثير، وبعد إيذاء من كثير، وتحمّل كل ذلك. وهذه سنة الله في هذه الحياة، ولا يبقى إلا هذا الصبر، وإلا هذا الصدق، وإلا هذا التحمُّل، وإلا هذه الإرادة لوجه الباقي الحي القيوم جل جلاله وتعالى في علاه.
ومرّت عليكم السنون، وخرج منهم الكثير الطيِّب، ومِمَّن حواليهم، وفي مدننا وقرانا، وكان عقلاؤهم وكبارهم في مختلف قبائلهم على نسيج من الرجوع إلى عقلائهم، إلى صلحائهم، وعلى علائق حسنة ووثائق بينهم وبين أهل البيت الطاهر، وبين من حواليهم من العائشين معهم، ومضوا على قصد السبيل إلى العُلا قدماً على قدم بجدٍّ أوزعِ.
التحذير من التحريش بين المسلمين
ودواعي النفوس ودواعي الشر ، وداعي إبليس وجنده ترد على الناس لتحرف هذا، ولتُغري هذا بهذا، ولتضرب هذا بهذا، شغلة إبليسية. "أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب"، فلا يطمع أنَّ مصلّيًا يشرك بالله، ويتّخذ مع الله إلهاً آخر أبداً. من قال هذا؟ صاحب الرسالة محمد ﷺ: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم".
شغْلُهُ: ضرب بعضهم ببعض، شغله: إغراءُ بعضهم على بعض، وإثارة البغضاء والعداوة. فقط. هذا الذي يقدر عليه عدو الله، ما يقدر على غير هذا، وبهذا يصل إلى غاية مرامه. فلا تكن جندياً من جنوده!، جندية الله خيرٌ لك، كن جندياً لله مع محمد بن عبد الله ﷺ، تؤلِّف، تقرِّب، تنشر الرحمة، تنشر المحبة بين عباد الله. وإيش لك تتجنَّد مع عدو ربك؟ تؤذي ذا، وتضرَّ ذا، وتخالف بين ذا، وتباعد ذا عن ذا؟ واحد من جنود إبليس والعياذ بالله تبارك وتعالى!. "فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم"، احذر من ذلك.
سيرة الحبيب عبدالرحمن بن شيخ العطاس واتصاله بالمشايخ
وتجنّد لربك ملك الملوك جل جلاله، كما تجنّد هذا السيد عليه رحمة الله، باتصاله بالأكابر، سواء الذين عنده هناك في إندونيسيا وجاوةَ. من صغره حملوه إلى الإمام عبد الله بن محسن العطّاس، وصافحه ونظر إليه وقرأ عليه، وبعد أيام توفي الحبيب.
واتصل بالأكابر بعد ذلك: الإمام علي بن عبد الرحمن الحبشي، والإمام الحبيب محمد بن أحمد المحضار، والحبيب صالح بن محسن الحامد، وله فيه بعض القصائد ألقاها فيه من أيام صغره. ووالده كبير من الكبراء، ونوير من أهل النور عليه رحمة الله ورضوانه، وجدّه كما سمعتم ذلك.
واتصل في الوادي بالأئمة والكبار الموجودين في الوادي: في تريم، وفي سيئون، وفي دوعن، وفي حريضة، وفي عَمْد.
وأخذ عن الأكابر ، جميع الشيوخ: شيخُهُ الحبيب حسن بن عبد الله الشاطري، أخذ عنه واتصل به وأدركه لأنه في سنّه، ثم انطوى في الحبيب حسن بن عبد الله بن عمر الشاطري عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وامتلأ به وامتلأ منه، وارتقى به مراقي عالية، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وكانت له الآثار: بذل في سرّ، في كتم، في تواضع، في إخلاص الوجه لله تبارك وتعالى، تعليم، حرص، خشية، لا يريد شُهرات ولا مظاهر ولا شيء من هذه الأشياء التي تميل إليها النفوس. فأثمرت هذه الأشياء بثمرات ظاهرة وباطنة في الحياة، وعند الوفاة، في البرزخ، وفي يوم القيامة.
الدعوة للاقتداء والاستقامة
وهكذا فلنرجع في مثل هذه الذكريات. جزى الله أحبابنا في المشهد خير الجزاء على ما أقاموا، وهي خيرات ورثوها عن السُنّة وعن الهُداة من المهتدين، يذكرون موتاهم، ويجتمعون للتعزية وللقراءة وللإهداء إلى أرواحهم. ولكن مثل هذا فيه تذكيرات بأصل السلوك، وأصل المسار ، وأصل الوجهة إلى الكريم الغفّار، وتُنضافُ إليه أمور.
الحمد لله، أعيان الوادي اجتمعوا عندكم، الله يبارك في اجتماعهم، ويعظم به النفع للصغير وللكبير، ويصلح الشأن للأول وللأخير، ويقرّ أعين الماضين من الذين استقاموا على الطريق بأولادهم وأحفادهم من بعدهم، لا يفتحون آذانهم ولا عيونهم ولا قلوبهم لدواعي الشر ق والغرب.
دُعاة الضلال
فدواعيهم ما تأتي إلا بكل كرب، لا أصلحوا أحداً في الماضي، ولن يُصلحوا أحداً في الحاضر، لا أصلحوا دولاً ولا أصلحوا شعوباً!. وبقايا الحسّ من الفطرة وسط شعوبهم اليوم. اليوم هذا وأمس، المظاهرات في بلدانهم وفي وسط أمريكا: أوقفوا القتل! أوقفوا الاعتداء على الأطفال والنساء! اتركوا الكذب والدجل على الناس! هذا ناس من الكفار يقولونه!، وأنا تعجبتُ، بعض زعماء الكفار لهم مواقف من ضعفاء المسلمين، أحسن من كثير من المسلمين.
ذاك في إسبانيا ويقول: يكفي أن نعطي السلاح لمن يقتل الأطفال والنساء والأبرياء، والذي يقوم بالإبادة الجماعية، وهو كافر من الكفار!.
وهذا ينادي في إيطاليا ويقوم على الرئيسة حقّهم، يقول: أنتِ تركتِ الشجاعة، وقفتِ ذليلة، ما أنكرتِ هذا الهجوم على الأبرياء وعلى الأطفال، مداهنة منكِ لإسرائيل، ولأنكِ تريدين العلاقة مع أمريكا تستمر. شعب إيطاليا ينكر هذا! هذا عضو في البرلمان، كافر يقول هذا الكلام!.
هل بقي عند الناس حسّ أو فطرة يعرفون أن الكفر كذب في كذب، ولا هدى إلا هدى الله، وأن القيام والكرامة مع محمد بن عبد الله ﷺ، ومع ما بُعث به.
الختام والدعاء
إن كنا نجتمع على نصرته كما اجتمع آباؤنا، ونصروه في أنفسهم، ونصروه في أولادهم وأهلهم، ولا رضوا بالمفاسد، ولا رضوا بضياع السِيَر، ولا رضوا بضياع الفِكَر واتباع الكفار، وتعاونوا على البر والتقوى، وهذا هو طريقنا للنجاح وللفوز والفلاح.
الله يجعل لنا في هذه الذكرى عبرة وبشرى وارتقاء المراتب الكبرى. الله ينظر إلى الوادي الميمون ويصونه ويحفظ مناصبنا ومشايخنا وأهل الخير فينا، والذين أقاموا أركان الإنابة إلى الله تعالى في وادينا، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
من أجلّهم في الوادي تلميذ سيدنا الفقيه المُقَدَّم الشيخ سعيد بن عيسى العمودي، ومن قبله ومن بعده. حوَّطوا واديكم هذا إذا رجعتم إلى السِيَر وإلى اقتفاء الأثر عن يمناكم وعن يساركم، أعلى الله درجاتهم وجمعنا بهم في أعلى الجنة.
وأكرم الوفادة لعبد الرحمن بن شيخ بن سالم بن عمر العطاس، عليه وعلى رسوله المصطفى وعلى سلفه الصالحين، أكرم الله نُزُلَه في منازل الأبرار المقرَّبين ودرجات الصدِّيقين. تقبَّل الله جميع ما وُفَّق له من الخير، وحلَّاهُ بهِ من الأوصاف الحميدة، وجعل خيراتها مستمرة وباقية، وضاعف البركة في أولاده وأحفاده وأسباطه وقرابته ومحبّيه وآثاره إن شاء الله تبارك وتعالى.
وجمعنا به في دار الكرامة ومستقرّ الرحمة وهو راضٍ عنا، مع آبائنا وأمهاتنا أجمعين. لا خلّفت أحداً يا رب عن ركب حبيبك الأمين، وعن دخول إلى دار الكرامة، فيا رب وجمّعنا وأحباباً لنا في دارك الفردوس أطيب موضع، فضلاً وإحساناً ومنًّا منك يا ذا الجود والفضل الأتمّ الأوسع.
ولا تصرف أحداً من هذا الموقف والعزاء إلا منوَّر القلب، مقبل بالكلية عليك، مقبول عندك يا رب، مفتاح للخير، مغلاق للشر، تجري على يده الخيرات.
اللهم اغمرنا في هذا الموقف بالخيرات، وضاعف البركة عند رباط المشهد في سكبومي هناك، والرباط هذا وسط المشهد نفسه أقامه، مرتبط برباط تريم ومنهجه وما فيه من السير القويم.
الله يقبل منه جميع ذلك، ويضاعف فيها النفع والخيرات، ويضاعف في أحبابنا القائمين على هذه المناسبة وعلى هذه الخيرات، ويزيدهم قوة وتوفيقاً وعناية ورعاية وصلاحاً.
الله يصلح الوادي والنادي، وينظر إلى اليمن والشام وأهل الإسلام نظرة تزيل العناء عنا، وتُدني المُنى منا، وكل الهنا نُعطاه في كل حين.
اللهم لا صرفتنا من جمعنا إلا ونحن عندك مقبولون، وفي الخيرات قاسمين، ولما تحبّه موفّقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، وأصلح أحوال الأمة أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
27 صفَر 1447