مذاكرة في مجلس الذكر والتذكير في حضرة الإمام أحمد بن زين الحبشي بالحوطة 1447

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مجلس الذكر والتذكير في حضرة الإمام أحمد بن زين الحبشي بالحوطة، وادي حضرموت

 يوم الأحد 25 محرم 1447هـ

 

نص المحاضرة:

سبحانك لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِك، فلك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضيت، ولك الحمدُ بعد الرِّضا. 

ساقَتْكم عنايةُ الله الكريم، حتى جمعَتْكم في المجمعِ الفخيم، في مجالسِ التكريم، والفضلِ العظيم، والفيض من إلهِكم البرِّ الرحيم جلَّ جلاله.

وَيَا بَرُّ يَا رَحِيمُ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السُّوءِ، يَا بَرُّ يَا رَحِيمُ مُنَّ عَلَيْنَا وَقِنَا عَذَابَ السُّوءِ، وَهَبْ لَنَا مِنْ عَطَائك الْوَاسِعِ مَا أَنتَ أَهْلُهُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، برحمتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وجُودِك يَا أَجْوَدَ الْأَجْوَدِينَ.

وتودِّعون الشهر الأول من العام الهجري الجديد السابع والأربعين بعد الأربعمائة والألف من هجرة سيد المرسلين، والله يجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا، وحُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، ونستقبل ما بقي من أشهر هذا العام عسى في بساط إكرام من ذي الجلال والإكرام، وإنعام من المولى الملك المِنعام جلَّ وعلا.

مَكمن أسرار لا إله إلا الله محمد رسول الله قلب الحبيب الأعظم عليه الصلاةوالسلام، وتفرَّعت منه، وقد كتب الله هذه الكلمة على قوائم العرش، وجعل أول نظرة لأبينا آدم حين نَفخَ الروح في جسده أن ينظر إلى قوائم العرش ويرى مكتوباً عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومنها أخذ فقهه الأول وقال: يا رب، لِمَ تُضِفْ لاسمك إلا اسم أحبِّ الخلق إليك؟ قال: صدقت، إنه لأحبُّ الخلق إليَّ، ولولاه ما خلقتُك ولا خلقتُ سماءً ولا أرضاً.

فحمداً لربٍّ خصَّنا بمحمدٍ *" وأخرجنا من ظلمة ودياجرِ

 إلى نور إسلام وعلم وحكمة ** ويُمْن وإيمان وخير الأوامرِ

فالله يجعل لقلوبنا فِقهاً لأسرار هذا التوحيد ولأسرار الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالرسالة، وأنه خاتم النبيين وسيد المرسلين وأكرم الأولين والآخرين على الله رب العالمين، إنه أكرم الأكرمين.

في هذه الحضرات أيها الأحباب، النظرات التي تَجلو صدى القلوب وتُبعِد عنها الشوب، ويُسقى الشارب فيها مِن أحلى مشروب، فالله يوفِّر حظَّنا من هذا الشراب ويُلحِقنا بهؤلاء الأحباب، الذين ارتقوا المراتب العُلا في إرث الحبيب الأعظم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

الإمام الحداد ومتابعة السُّنَّة

وكان يقول شيخه - شيخ سيدنا الإمام أحمد بن زين الحبشي - سيدنا الإمام الحداد: "ما مِن سُنَّة سَنَّها رسول الله إلا وأرجو أني قد عملتُ بها"، فكان شديد المتابعة للحبيب الأعظم ﷺ، وبذلك صحَّ القول فيه:

قَرَّت به عينُ النبي محمدٍ ** فهو له من أحسنِ الأولادِ 

هو قُدوةٌ للمقتدين وكعبةٌ ** للقاصدين ومفخرٌ للوادِ

سريان الأسرار والمعارف

وسرت السراية من كابر إلى كابر حتى انصبَّت عند الإمام الحداد، وانصبَّت إلى هذا الإمام الراسخ القدم في الاستقامة، الراسخ القدم في المعرفة، الراسخ القدم في الصِّدق مع الله جلَّ جلاله.

يحكي الإمام محمد بن زين بن سميط - تلميذه عليه رحمة الله تبارك وتعالى - في مناقبه رؤيا لولده الحبيب محمد بن أحمد عليهم رحمة الله ورضوانه، قال: ورأيت أنه جاء من أسفل الوادي إلى أعلاه رجال وأئمة ومشايخ، كانت لهم رَجَّة عظيمة، ما عرفتُ منهم إلا الشيخ سعد بن علي مَدْحَج، والقائل يقول: إن هؤلاء اجتمعوا ليتشمَّموا أنفاس أحمد بن زين الحبشي.

ليتشمَّموا هذا النَّفَس، نَفَس رباني، نَفَس إرثٍ كامل لصاحب الشرف العدناني ﷺ، وعسى تَشُمُّون هذه الأنفاس في حضرات الاغتراب وحضرات العطايا الواسعات يا أرحم الراحمين.

داوِ زُكام القلوب حتى تنشق، وداوِ عَمَى القلوب حتى ترى، وداوِ صَمَم القلوب حتى تسمع، وحينئذٍ: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).

يستمعون قول المَلك الوهَّاب جلَّ جلاله وعظيم الخطاب من ربِّ الأرباب، استقامت قلوبُهم واستقامت عيونُهم، واستقامت آذانُهم وأبصارُهم وفروجُهم وأيديهم وأرجلُهم وبطونُهم، فلم تَحُمْ حول الحرام بل ولا حول المكروه ولا الشُّبهة.

الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر

كان الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر يقول في نعمة الله عليه: "ما ذكرتُ أني فعلتُ مكروهاً ولا هَمَمْتُ بفعل مكروه منذ الصِّغَر"، من أيام الصِّغَر وقبل البلوغ، عليهم الرضوان.

فهم القوم الذين هُدُوا ** وبفضل الله قد سَعِدُوا 

ولغير الله ما قَصَدُوا ** ومع القرآن في قَرَنِ

أهمية القرآن والعمل به

يا من قَرنهم بالقرآن أصلِحْ ما بيننا وبين القرآن، واجعل لنا نصيباً من تدبُّره وتأمُّله وتدبُّر معانيه والاطِّلاع على سرِّه والعمل بما فيه.

وواديكم امتلأ من أهل سرِّ القرآن ومن أهل نور القرآن، خواصّ وعوامّ، كان لهم بالقرآن صِلاتٍ مخصوصات وإمداداتٍ من كل آية من الآيات، بل من كل كلمة، بل من كل حرف من حروف القرآن العظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

كان الإمام أحمد بن حسن العطاس يقول: قلتُ لأهلي وسَلَفي: مَن معه لي شيء يُحَطُّه لي في القرآن، يضعه لي في القرآن، ومع القرآن في قَرْنِ، ومَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومَن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.

التحذير من هجر القرآن

وبعد قراءة العشرات من الأجزاء في اليوم والليلة وقراءة الختمات لبعضهم، يأتي بعض المنتسبين إليهم أو المُحبين لهم ويمرُّ اليوم ما يفتح كلام ربّه ولا يتدبَّره ولا يتأمَّله، ولا حِزْب بين المغرب والعشاء، ولا حِزْب آخر الليل، ولا قرأ في الصبح ولا قرأ في النهار! 

فَتَحَ الجوَّال عشرين مرة، أكثر من عشرين مرة، ولكن ما هو بقرآن، ما هو بقرآن ولا بسُنَّة ولا بذِكْر! فَتَحَ في صُوَر وأخبار ساقطة هابطة وأهلُها ساقطون مثلُها، وما وراء ذلك شيء.. ضَيَّعَ عُمْرَه، ضَيَّعَ فِكْرَه، ضَيَّعَ وِجْهَتَه، ضَيَّعَ أَدَبَه، ضَيَّعَ الوقت الثمين الذي يمرُّ عليه، وهو سُلّم يرتقي فيه - إذا أحسن اغتنامه - يرتقي فيه إلى مراتب القُرْب مع العباد الصالحين.

فيا ضَيْعَةَ الأعمارِ تمضي سبَهْلَلاً ** وذَرَّتُها تعلو على ألفِ دُرَّةِ 

فمَن أشغل الأيامَ بالخير أثمرتْ ** بخيرٍ وإلاَّ أشغلتْهُ بحَسْرَةِ

فالله يبارك في أعمارنا.

الهجرة النبوية وتحمُّل المشاقّ

صاحب هذه الهجرة ﷺ لماذا هاجر؟ ليُبَلِّغَنا، ليُوصِلَنا، ليَدُلَّنا، ليُوصِلَ النور إلينا، ليهدي الله تعالى به مَن سبقت له السعادة إلى يوم القيامة.

تَحَمَّلَ الهجرة عليه الصلاة والسلام، وتَحَمَّلَ أتعابها، في بعض الصحاري والجبال يمشي مع سيدنا أبي بكر والدليل معهم، حتى يشتدَّ عليهم الجوع ويشتدّ عليهم العطش، ويترقَّب سيدنا أبو بكر الصدِّيق حتى يجد شيئاً من اللبن ويأتي به إلى سيد الوجود عليه الصلاة والسلام، وينام على حَجَرة من الأحجار، ووِسادته حَجَرة وفِراشه جبل وحَجَرة ﷺ.

ويوم بعد يوم حتى أشرق على المدينة المنورة، وجاءت البهجة والسرور، واستقبله أهل تلك الدور من سادتنا الأنصار ومَن عندهم من المهاجرين:

طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ** مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعْ

 وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ** مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ 

أَيُّهَا المَبْعُوثُ فِينَا ** جِئْتَ بِالأَمْرِ المُطَاعِ

صلوات ربي وسلامه عليه. 

وخَضَعَت القلوب وذَلَّت لله تعالى وامتلأت، قال سيدنا أنس بن مالك: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة أضاء منها كلُّ شيء"، كان يشاهدون الضياء حتى في الأحجار والأشجار والجبال، أضاءت برسول الله ﷺ، وحُقَّ لهم وهنيئاً لهم ذلكم العطاء الأفخر الذي به تطهَّرت قلوبُهم عليهم الرضوان.

الأنصار ومكانتهم

أول غنيمة غَنِمها عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة من بني النضير، فقال لهم ﷺ: "معشر الأنصار، إن أحببتُم قَسَمْتُ الغنيمة بينكم وبين المهاجرين وبقي ما أعطيتموهم وما أخذوا منكم، وإن أحببتُم رَدُّوا إليكم جميع ما أخذوا منكم وأقسِم هذه الغنيمة لهم".

قال الأنصار: "يا رسول الله، اقسِم هذه الغنيمة بينهم وحدهم ولا يَرُدُّون شيئاً مما أخذوا عليهم، وكلُّ الذي أعطيناهم وأخذوا لهم، وأَعْطِهِم هذه الغنيمة وحدهم، لأنهم تركوا أموالهم وأهلهم في سبيل الله".

قال ﷺ: "نِعْمَ الرجال الأنصار، إنهم يَكْثُرون عند الفَزَع ويَقِلُّون عند الطَّمَع"، يَكْثُرون عند الفَزَع - وقت الجهاد ووقت الشِّدَّة - ويَقِلُّون عند الطَّمَع؛ هذه علامة الإيمان وعلامة اليقين.

أما المنافقون الآخرون، قال سبحانه وتعالى عليهم: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ). 

لكن هؤلاء عليهم الرضوان.. حتى بعد ما فتح الله سبحانه وتعالى عليه خيبر، وبعد آخر أيامه، بعد ما رجع من غزوة تبوك، دعا جماعة من الأنصار وقال: "إني أريد أن أقْطعكم أرض كذا وكذا". قالوا: "يا رسول الله، لا تقْطع لنا حتى تقْطع للمهاجرين مِثْلَه" - تعطي للمهاجرين مثلها -. 

فتأثَّر ﷺ من حالهم هذا وقال لهم: "إنكم ستَلْقَون أَثَرَةً من بعدي"، - أَثَرَة يعني سيُؤْثِرون عليكم، لا ستجيء الإمارات حواليكم، ولا ستَجِيء أكثر الأموال حواليكم - "فاصبروا حتى تَلْقَوني على الحوض، فإني منتظركم" ﷺ، ونشهد أنهم صبروا بعده وثَبَتُوا حتى لَقُوه ﷺ

عليه الصلاة والسلام.

قصة حارثة بن سُراقة

فيهم هؤلاء الأكابر في حياته عليه الصلاة والسلام، يمرُّ عليه ﷺ في بعض أيامه وهو يمشي في طريق المدينة على حارثة ويقول له: "يا حارثة، كيف أصبحتَ؟" قال: "أصبحتُ مؤمناً بالله حقّاً". قال: "انظر ما تقول، إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟"

قال: "يا رسول الله، عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذَهَبُها ومَدَرُها، وأصبحتُ كأني أرى عرش ربي بارزاً، وأرى أهل الجنة يتنعَّمون فيها، وأسمع أهل النار يتعاوَون فيها".

قال: "عبدٌ نَوَّرَ الله قلبه، عَرَفْتَ فالْزَمْ". قال: "يا رسول الله، ادعُ الله أن يرزقني الشهادة في سبيلك". قال: "اللهم ارزق حارثة الشهادة في سبيلك".

وعُمْرُه ثمانية عشر سنة، خرج في غزوة بدر مع الحبيب الأعظم، وجاء سَهْمٌ من سِهام المشركين فقتله، فكان أحد الأربعة عشر الذين استُشْهِدوا في بدر. وعاد ﷺ إلى المدينة فجاءت أمُّ حارثة.

روى البخاري أنه لما جاءت أمُّ حارثة تقول لرسول الله: "أين ابني حارثة يا رسول الله؟" قال: "احتسبيه عند الله، قُتِلَ في سبيل الله". قالت له: "إنك تعلم منزلة حارثة مني، وأنه ليس لي من الولد غيره، ما عندي ابن ولا بنت إلا حارثة هذا الشاب في ثمانية عشر سنة، فأخبِرْني أين ابني؟ إن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك فَلْتَرَيَنَّ ما أصنع".

قال: "يا أمَّ حارثة، إنها جِنانٌ كثيرة، وإن ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى"، وإن ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى.. عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

المعرفة والإيثار

"عَرَفْتَ فالْزَمْ"، وأسرار هذه المعارف التي بها إيثار الله على مَن سِواه في قلب كل عارف، سَرَتْ سرايتُها إلى أرباب الاتصال بهم وأرباب الحضور في محاضرهم والجلوس في مجالسهم، فكان لهم النصيب من ذلك الإيثار الذي به المنزلة عند الإله الغفَّار جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

وقال عنهم ربُّكم: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

التحذير من انحراف القلب

وكان صاحب الرسالة يُحَذِّر من انحراف القلب الذي ربما ظَنَّ أنه على الإيمان وعلى الإسلام وهو يميل إلى الطَّمَع في الدنيا على حساب القِيَم، على حساب الوَرَع، على حساب الاحتراز من الشُّبُهات والمنكرات.

قال: "إن قوماً يأتون يوم القيامة كانت لهم صلاة وصيام ولهم قيام في الليل، فيأمر الله بهم إلى النار". قيل: "يا رسول الله، ما شأنُهم؟" أهل صلاة وصيام وقيام؟ قال: "كانوا إذا بدا لهم شيءٌ من الدنيا وَثَبُوا عليه"، حلالٌ حرام، من هنا ومن هناك، ما عاد يُبالي بشيء، والعياذ بالله! قال: "ومَن لم يُبالِ من أيِّ باب دخل عليه الرزق، لم يُبالِ الله به في أيِّ وادٍ من أودية جهنم أهلكه"، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

 الورع أساس الدين

وبذا قالوا: إن الوَرَع ساس هذا الدين فاحكِمْ بناه.

صاحب الضريح، صاحب الحضرة، هذا الإمام الذي بسِرِّه اجتماع هذه القلوب ونزول هذه السكينة وهذه الرحمة التي تتغشَّاكم في مَجْمَعكم عليه الرضوان.

"أبو المساجد" كان يُسَمُّونه أبا المساجد، ومسجدٌ بعد مسجد يفتحه، وبالوَرَع والاحتياط كان لمَّا يضع دابَّته في حوش المسجد في الغرفة يقول لهم: احسبوا أُجْرَة للمسجد لأننا انتفعنا بحوش هذا المسجد، في الوقت الذي يذهب فيه إلى الغرفة يضع الدابَّة فيه ويرجع، يقول: احسبوا أُجْرَة كاملة للمسجد، ويُخْرِجُها عليه الرضوان الله تبارك وتعالى.

فإذا أراد أن يبيع شيئاً من أموال المسجد، وإذا أراد شراءً لنفسه يقول: ثَمِّنُوه، فإذا ثَمَّنُوه قال: ضاعفُوا الثَّمَن واشتروه لنا، وإذا أراد أن يبيع شيئاً يحتاجه، شيءٌ من المساجد، يقول: ثَمِّنُوه، فإذا ثَمَّنُوه يقول: نَزِّلُوا رُبْع الثَّمَن وبيعوا من مالنا على المسجد، خشيةً وخوفاً من الله ووَرَعاً واحتياطاً.

أن بعض العقول لَعِبَت بالأوقاف عندنا أو ظَنَّت أنها سهلة، ويقول لك: إلا حقّ أوقاف! وحقّ الأوقاف لُعْبَة؟ وحقّ الأوقاف حلال حرامه؟ حقّ الأوقاف مثل حقّ الأيتام، والأيتام سيَنْتَصِبُون أمامك يوم القيامة وسيَنْتَصِر الله لهم، والأوقاف جبَّار السماوات والأرض سيكُون خَصْمَك والعياذ بالله تعالى.

إذا وقف لوجهه الكريم وُقِف، إن وُقِف على مسجد فللمسجد، وإن وُقِف على زاوية فللزاوية، وإن وُقِف على غُرْبَاء فللغُرْبَاء، ما يجوز صَرَفُه لغيرهم.. حتى قال الفقهاء عندنا: إن شرط الواقف كنَصِّ الشارع، شرط الواقف كنَصِّ الشارع، ما شَرَطَه الواقف في وَقْفِه كأنه نَصٌّ شرعي لا يجوز الخروج عليه؛ وهكذا يجب نتفقَّه في الدين ونعلم معاملة القويّ المتين الذي لا تخفى عليه خافية جلَّ جلاله.

أهمية الورع في العبادة

ابن عمر كان يقول: "لو صُمْتُم حتى تكونوا كالأوتار، وقُمْتُم حتى تكونوا كالحنايا، لم يُتَقَبَّل ذلك منكم إلا بوَرَعٍ حاجز"، لم يُتَقَبَّل ذلك منكم إلا بوَرَعٍ حاجز!

وهذه الحضرات إن شاء الله محلّ حياة القلوب، الله ينظر إلينا وإلى وادينا ونادينا خاصَّة، وإلى اليمن والشام والشرق والغرب، ويكشف كلَّ كَرْب. 

نظرة تُزيل العنا ** عنَّا وتُدْنِي المنى ** مِنا وكلَّ الهنا ** نُعْطاهُ في كل حين

الدعاء والتوجُّه إلى الله

نُوَدِّع الشهر الأول، وإن شاء الله كل يوم من أيام هذا العام يكون خيراً لنا من اليوم الذي قبله. 

ويُعَجِّل الله بالفَرَج والغِياث العاجل لهؤلاء المنكوبين الذين يُنادينا لسان حالهم: ذنوبُكم وذنوبُنا أوقعتنا فيما أوقعتنا فيه، فتوبوا إلى الله تعالى، وأَقْلِعُوا عن قطيعة الرَّحِم، وأَقْلِعُوا عن عقوق الوالدين، وأَقْلِعُوا عن إيذاء الجيران، وأَقْلِعُوا عن سوء الظَّنِّ بالمسلمين، وأَقْلِعُوا عن أخذ المال من غير حِلِّه أو إنفاقه في غير مَحَلِّه، وأَقْلِعُوا عن النظر الحرام وتداول هذه البرامج الخبيثة من هذا إلى هذا.

وأولاد يُتَخطَّفُون وسط مُدُننا، وسط قُرَانا، وإلى مقاهي النت كما يُسَمُّونها، حتى بين المغرب والعشاء، الوقت الشريف الذي لا يصلُح إلا للقرآن والذِّكْر والعلم، يَأخذونهم إلى هنا وهناك، بعد قليل تطوَّر فيها، وقد حواليه من الذئاب الخبيثة المفترسة في صورة أوادم، وإذا بهم يمشون به وإلى الشبو وإلى المُسكرات وإلى المخدِّرات، وأبوه غافل وجاهل لا يدري بالمهمَّة التي عليه، ولا كأنه سمع يوماً من الأيام قول ربِّ السماوات والأرض: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، (وَإِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ). 

فأَقِمْ حقَّ هذا الاختبار الذي اختبرك الله به في حقِّ الأولاد، ليكونوا لك قُرَّة عين في الدنيا ويوم القيامة، وعباد الرحمن من دعائهم: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

التوجُّه والدعاء للأمة

نتوجَّه إلى الله في الحضرة الكريمة أن لا يجعل لنا ولداً ولا بنتاً إلا قُرَّة عين، ويجعلنا وإياهم قُرَّة عين لسيد الكونين وللصالحين من عباد الله، ولا يُرِينا فيهم في الدنيا ولا في الآخرة مكروهاً ولا سوءاً، ولا يُرِينا في وجه مؤمن ذِلَّة ولا في وجه كافر عِزَّة.

ويُسْرِع الغِياث سبحانه وتعالى للذين يُقَتَّلُون والذين يُضْرَبُون والذين يُقْصَفُون والذين يُجَوَّعُون والذين يُظَمَّؤُون، والذين تُكَسَّر ديارُهم وتُكَسَّر مساجدُهم بل تُكَسَّر ملاجئُهم التي يلتجئون إليها وتُقَتَّل أطفالُهم وتُقَتَّل نساؤُهم، الله يرفع هذا البلاء ويُعَجِّل برفعه.

توجَّهوا إلى الله في الحضرة الكريمة وفي لياليكم كلِّها وفي أيامكم كلِّها. (وَإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، فليس لها من دون الله كاشفة.

يا مُحَوِّل الأحوال حَوِّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، وتَقَدَّم إلى ذي الجلال بما أنت عليه وبذنبك، لكن باعترافك وبتوبتك وإنابتك، واستفتح باب الفَرَج وباب الرحمة، عسى يرحم الله المسلمين يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، فَرِّج على المسلمين.

وأن لا ننصرف إن شاء الله من الحضرة إلا وكلٌّ منَّا نال نظرة، ودخل في دائرة أهل الصدق مع الله في السير إليه، والوفاء بعهوده والعمل بكتابه وسُنَّة رسوله ﷺ.

اللهم أَصْلِح الوادي والنادي، واكْفِنا شرَّ كلِّ عادي، وتَوَلَّنا في الدنيا ويوم التنادي، واربطنا بحبيبك الهادي وهؤلاء الأجواد، وأَمْتِعْنا بهؤلاء البقيَّة، وارحم مَن قد تقدَّموا في هذه الصفوف، مئات بل ألوف، عشرات بعد العشرات إلى من عرفتموهم وفارقناهم عليهم رحمة الله، فالله يُعْلِي درجاتهم ويجمعنا بهم في أعلى الجنة، ويبارك في أولادهم وذُرِّيَّاتهم وأحفادهم، لا ينزع السِّرَّ من مَحَلِّه ويُلْحِق الفرع بأصله. 

ويُمتِعنا بمنصبنا وبقية مناصبنا هؤلاء وأهل السِّرِّ فينا، وعلمائنا وأهل الخير من المخفيِّين في الوادي، وشوفوهم في الوادي عاد منهم عَدَد، بسببهم ينكشف النَّكَد والبلاء والشِّدَد وتندفع، وأنتم في خير كبير وسط الوادي الميمون، تُصْبِحون وتُمْسُون على أمن وعلى طمأنينة وعلى عافية، الحمد لله، أَتِمَّ النِّعَم علينا يا ربّ، وارزقنا شُكْرَها وزِدْنا من فضلك ما أنت أهله.

اللهم أَصْلِح البلاد والعباد، وادفع البلاء والضُّرَّ والفساد والأنكاد، وانظر إلى قلب كلٍّ منَّا ونَقِّه عن الشوائب كلِّها، وارفعنا مراتب قُرْبِك مع مَن تنظر إليهم وتجود عليهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله ربِّ العالمين.

العربية