(535)
(339)
(363)
مذاكرة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي في روضة العلامة الحبيب سالم بن حفيظ ابن الشيخ أبي بكر بن سالم في مشطة، حضرموت
عصر الجمعة 20 ربيع الأول 1447 هـ
نفعنا الله سبحانه وتعالى وقبِلنا وأقبل بوجهه علينا، فلربِّ العرش إقبالاتٌ على قلوبٍ تكون في الأرض، منها ما حدَّث عنه سيد أهل السماء والأرض حبيب الله محمد ﷺ، أنه إذا أراد الله أن يُبرز في عبدٍ من العباد سابقة محبةٍ له قد كانت في الأزل، فأبرزها في يومٍ من الأيام وساعةٍ من الساعات، كان هذا العبد فيها على ظهر الأرض من بين أهل الأرض ممن يأكلون ويشربون ويمشون على شكل بني آدم، يقول الله: يا جبريل! ينادي جبريل: يا جبريل! إني أحبُّ فلان بن فلان فأحِبَّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثم يُؤمر أن ينادي في أهل السماء: يا أهل السماء! إنَّ الله قد أحبَّ فلان بن فلان فأحِبُّوه، قال: فيحبُّه أهل السماء، ويُوضع له القبول في الأرض.
ومجالي إقبالات الله بالفضل والإحسان على القلوب المتوجهة إليه في الأرض وسيعةٌ وفسيحة، وللأمة المحمدية انفسحت أكثر واتسعت أكثر وكبُرت أكثر، فضلٌ من العليِّ الأكبر بواسطة خير البشر محمد المصطفى صلى الله وسلم عليه وعلى آله، البدر الأغرِّ.
يا ربِّ صلِّ على المختار حبيبك المجتبى، نور الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن على منهجه سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وعلى مجمعنا ومن فيه وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
وجدِّدوا فيما يُسِّر لكم وهُيِّئ وأُنفحتم به وأُمتِعتم من فتح الأبواب وتذليل الصعاب، هيِّئوا من قلوبكم وُجهةً إلى ربِّ الأرباب وإقبالة عليه، فإننا نترقب لنا ولِكل من أقبل على الله تعالى إقبالته سبحانه وتعالى. وإذا أقبل هو بوجهه الكريم، فسبحان الكريم! سبحان العظيم! سبحان الرحيم! يتحول هذا العبد إلى مذكورٍ في الملأ الأعلى، وله منشورٌ من جود الله تبارك وتعالى وثناؤه، ومكانته لديه سبحانه وتعالى، حتى أنه ليهابه من يهابه من الملائكة الكرام، لما يعرفون من منزلته عند ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى، عند الإله الحق سبحانه وتعالى.
وطريقٌ شرعها الله على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للوصول إلى ذاكم المقام، وهو ما نقل الحبيب الأعظم عن ربنا الأكرم أنه قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ من أداء ما افترضته عليه"، انظر الفرائض: في صلاة، أو في صوم، أو في زكاة، أو في برِّ والدين، أو في حجِّ بيتٍ لمن استطاع، أو في صلة رحم، أو في أداء حقِّ الجار، أو في الصدق في الحديث والصدق في المعاملة.
انظر هذه الفرائض التي فرضها الله عليك: في عينيك، وفي يديك، وفي رجليك، وفي بطنك، وفي فرجك، وفي أعضائك، وفي قلبك. قُم بحقِّها! فرض عليك الإخلاص، فرض عليك سبحانه وتعالى التواضع، فرض عليك سبحانه وتعالى شهود المِنَّة له، حتى لا تُعجب بشيءٍ من أقوالك ولا أفعالك ولا أحوالك ولا صفاتك ولا ما أوتيت. تعلم أنه المُعطي المُؤتي، وإن كان من فضلٍ ففضل الله. قال الله لحبيبه: (قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). في إيمانكم تشهدون المِنَّة له جلَّ جلاله، ولا تشهدون لأنفسكم المِنَّة.
لذا كان يقول الشيخ باعمر مخرمة:
"ما أنا من أهل: بي لي ** في الحطِّ والرحيلِ
إلا إن شي بلا شي ** يا الله بشي بلا شي
" ما أنا من أهل بي لي"، بي كذا ولي كذا، لا بي ولا لي، ولا معي شيء، ولا أنا شيء، وهكذا شأنهم مع الله تبارك وتعالى، منكسرة قلوبهم من أجل الله، ويرون المِنَّة لله.
والله عندهم لمَّا سأله بعض الأنبياء: أين أجدك يا ربِّ؟ قال: تجدني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. صاحب هذا الضريح كان المنكسرة قلوبهم من أجل الله، من صغره إلى نهاياته وارتقائه المراقي. كنت أسمع الحبيب إبراهيم بن عمر بن عقيل بن يحيى عليه رحمة الله يقول: "اجتمع فيه ما تفرَّق في سلفه"، ويقول: "تشتكي الأرض من تواضعه". وما انقطع عن انكسار القلب من أجل الله، لا في نهاياته كما كان في بداياته، منكسر بل زاد انكساره من أجل الله تبارك وتعالى، وتذلُّله للرحمن جلَّ جلاله.
وعلى هذا مضى الأخيار والصالحون، ألحقنا الله وإياكم بهم، من خِلع المجالس هذه التي تجمعكم على الرحمن، وتُحرِّك من قلوبكم أنوار الإقبال بالصدق، فيُقبل عليكم من هو؟ الله! يُقبل عليكم الله! يا سعد من أقبل عليه ربُّ العالمين! يا سعد من أقبل عليه أرحم الراحمين! يا سعد من أقبل عليه ربُّ العرش العظيم!
وهذه الإقبالة من يوم فتحها الله تعالى على يد حبيبه محمد ﷺ ما انقطعت، وكان من تجدُّد فيما يُبرز من إظهار إقباله على عبدٍ من العباد، وخصوصاً أمة خير العباد ﷺ، ويُقبل على هذا سبحانه وعلى هذا وعلى هذا، وتتحول أحوالهم من أحوالٍ إلى أحوال، ولكن بذرتها صدق إقبال العبد على ربه جلَّ جلاله، صدق إقبال العبد.
قال: "ما تقرَّب إليَّ المتقربون بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل بعد أداء الفرائض حتى أُحِبَّه".
وكانوا أحسن أداء الفرائض، وتفقَّدوا أولادهم فيها، من قبل السبع وهم يُحافظون على الصلوات، ويُعلِّمونهم الخضوع والإنابة والإخبات، وهم في طفولتهم وفي صغرهم، الفرائض وبعد الفرائض كانت النوافل معمورةً بها الديار والمنازل، معمورةً بها القلوب، حتى أسواقهم اعتمرت بالنوافل، اعتمرت بالذكر، واعتمرت بالإحسان، واعتمرت بمساعدة المحتاج والفقير، واعتمرت بالتذكير وبالذكر، حتى وسط الأسواق ووسط الدكاكين.
كان أحدهم ختمته عنده وكتابه عنده وهو في دكّانه، وكلما وجد فرصة فتح الكتاب وتلا ما تلا، وهكذا كان بعض المتَّجرين يقرأ كل يوم ختمة، ويُوهبها إلى روح والده في كل يوم من أثناء تجارته، وبقية اليوم يُكمل ختمة في كل يوم.
وهكذا، في المتأخرين واحد من الذين لهم اتصال بسيدي الوالد الحبيب حسين الحسيني عليه رحمة الله، الذي مضت عليه مدة في الحُديدة، قال: كل يوم نصف ختمة أقرأها في المكتب، يجيء المكتب كل يوم، قال: خمسة عشر جزءاً كل يوم وِردي من القرآن الكريم.
وهكذا القلوب التي اتصلت بالله تبارك وتعالى، أدَّوا الفرائض وأحسنوا أداء النوافل بعد أداء الفرائض، لا تُقبل النافلة مع ترك الفريضة، لابد من أداء الفرائض والواجبات التي أوجبها الله القلبية والجسدية، أدِّ الواجبات بإحسانٍ وإتقان، واطرق باب القرب من الرحمن ونيل المحبة وإقباله، بالحرص على الطاعات، بالحرص على النوافل، بالحرص على الزيادة، لأنها علامة المحبة منك، وتكون من أسباب المحبة له.
وإن كانت المحبة سابقةً منه، ولا يستطيع أحدٌ من عباده، ملَكٌ أو إنسٌ أو جِنِّي، أن يُحِبَّ الله حتى يكون الله قد أحبَّه، وحتى يكون الله تعالى قد فتح له باب المحبة وأكرمه بنصيبٍ منها.
قال سيدنا الإمام الحداد:
"فما أُرَجِّي اليوم كشف كُربة ** إلا إن صافي مشرب المحبة
ونلت من ربي رضاً وقُربة ** يكون فيها قطع كل الأسباب
على بساط العلم والعبادة ** والغيب عندي صار كالشهادة
هذا لعَمري منتهى السعادة ** سبحان ربي من رجاه ما خاب"
نرجوك يا ربّ أن تُدخلنا في هذه السعادة، التي أسعدتَ بها هؤلاء الأكابر من عبادك الصالحين وحزبك المُفلحين، لا خلَّفت منَّا أحد يا ربَّ العالمين ويا أكرم الأكرمين.
وتوجَّه إليه سبحانه وتعالى، وانظر نصيبك من الإقبال بالقلب عليه، بل بالكُلِّية عليه جلَّ جلاله. قالوا لبعض الأولياء الصالحين وقد ارتقى مراقي، قالوا: ما سبب نيلك هذا الخير وهذا الإقبال؟ قال: أثَّرت فيَّ موعظة لابن السمَّاك. مررت يوماً وهو يعظ الناس، وسمعته يقول هذه القولة، فهي التي فتحت لي الباب، ماذا قال ابن السمَّاك؟
قال: سمعته يقول: "أيها الناس! مَن أقبل على الله بكُلِّيته أقبل الله عليه جُملة، ومن أعرض عن الله بكُلِّيته أعرض الله عنه جُملة، ومن كان ساعةً وساعة كان الله له ساعةً وساعة". قال: وحلَّت الموعظة في قلبي؛ أقبلت بالكُلِّية عليه، ففتح لي الأبواب.
وكان الحبيب عبد القادر السقَّاف يذكر قصة أبي بكر بن الهوارة، كان رجلاً على إسرافٍ وعلى ذنب وعلى قطع طريق، ولكن سبقت العناية ورجع وأناب إلى الله سبحانه وتعالى، وأقبل، أقبل بالصدق على إلهه.
قال: كان يوماً جاء دخل إلى بغداد وإذا بزوجة توقظ زوجها في الليل، قال لها في الليل: أيقظيني من قبل الفجر، أريد أن أمشي إلى الموصل، وأخاف يتعرَّض لي في الطريق أبو بكر بن الهوارة، يقطع الطريق علي، فأمشي قبل الفجر حتى لا يتعرَّض لي، فلمَّا قدَّر الله تعالى وقت قيامه وآخر الليل وتنبيه زوجته له، أبو بكر بن الهوارة تحت البيت! تقول له: قُم قُم! كان نومه ثقيلاً، قالت: قُم قبل ما يقطعك أبو بكر بن الهواري! فسمع اسمه، قال: لا إله إلا الله! أخفت طريق المسلمين حتى صرت بهذه المثابة!
بكى وصاح عليها، قال: يا هذه! خلِّي زوجك ينام أو يقوم متى ما قام، قد تاب أبو بكر بن الهوارة! لا أحد في الطريق قاطع للطريق، قد تاب أبو بكر بن الهوارة! فالتفت أين يذهب وجد مسجد قريب فيه أولياء وصالحون، دخل في المسجد واغتسل وبكى لربِّه وأقبل وصلَّى معهم، ووجدهم يذكرون آخر الليل، يقرؤون القرآن، وقعد معهم.
جالسين بعد الصبح وذكرٍ وتذاكُر في بعض علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، وهو يتسمّعهم. في اليوم الثاني، في اليوم الثالث، ما دروا من هذا الغريب معهم، ولكن في اليوم الثالث بدأ يُشاركهم في بعض الكلام لمَّا ذكروا بعض المعاني الرقيقة من بدائع الحق.
قال لهم: وهل في هذا كذا؟ التفتوا إليه، قالوا: أنت من أنت؟ - وثلاثة أيام عندهم ما سألوه، مشغولين بربِّهم - قال لهم: أنا أبو بكر بن الهوارة. قالوا: مَن؟ يعرفون هذا الاسم، واحد قاطع طريق! والآن سيُشاركهم، قالوا: مَن؟ قال أبو بكر بن الهوارة من؟ قال: هذا الذي تسمعون عنه، ما شأنك؟ قالوا هذا كلام معرفة! ليس كلام عصاة!
قال: تُبت إليه، وقفت على بابه وقَبِلني، تُبت إليه، وقفت على بابه وقَبِلني، وأنا الآن أُشارككم، فاض عليَّ النور بسببكم وواسطتكم، لمَّا رأى انكساري وصدقي أعطاني وفتح لي. فتعجَّبوا منه وصار حاله ثانياً، وصار في شأنٍ آخر.
وهكذا مَن أقبل على هذا الكريم، ما أحد أحسن تُقبل عليه من ربِّك، ولا أحد أحسن تُعامله من ربِّك، ما أحد يُربحك مثله، ولا أحد يجود عليك مثله، ولا أحد يُسامحك مثله، ولا يغفر ذنبك غيره جلَّ جلاله، ولا يُنجّيك من النار إلا هو، ولا يُكرمك برفقة أنبياءه إلا هو، فعلينا نُقبل على هذا الإله الكريم.
مجمعٌ من مجامع الخير إن شاء الله في عشية يوم الجمعة، الجمعة الثالثة من شهر ربيع الأول، بارك الله لنا ولكم في الساعة هذه، وأدخلنا في دائرة نبيِّ الشفاعة وورثته من أهل المراتب العلية.
اللهم أقبِل بنا على ما فينا، وأقبِل بوجهك الكريم علينا، يا ربّ أقبِل بوجهك الكريم علينا، ولا تجعل في مجمعنا ولا في من يسمعنا أو يتعلَّق بهذه المجالس أحداً إلا ورزقت قلبه صدق الإقبال عليك يا أكرم الأكرمين، وتُقبل أنت بوجهك علينا يا ربَّنا، فتُسعدنا بما لا تصله كلامنا ولا سؤالنا ولا مطالبنا ولا أذهاننا ولا أفهامنا ولا أوهامنا، ولا ما يخطر على بال.
من نحن وما الذي يخطر على بال؟ أنت صاحب الخزائن الملأى الكبيرة التي لا يُحيط بها مُحيط، أنت المُعطي بالعطاء الذي ليس له عدٌّ ولا حدّ، لا إله إلا أنت، أقبِل بوجهك الكريم علينا، أقبِل بوجهك الكريم علينا، واصرفنا مسعودين بالسعادة الكبيرة، سائرين في خير سيرة، عابدين لك على بصيرةٍ منيرة، مُصفَّاةً لنا كل سريرة يا حيّ، مغفورةً لنا كل جريرة، مستقيمين على المنهاج، مستمسكين بالاقتداء بسيدنا السراج، مستضيئين بنور ذلك السراج، من غير زيغٍ ومن غير اعوجاج، يا أرحم الراحمين.
والذين مضوا قبلنا في المجمع زِدهم سرور إلى سرورهم، حبور إلى حبورهم، وأُنس إلى أُنسهم، واجمعنا بهم في دار الكرامة، وسُرَّ أرواحهم بأعمالنا في ملتقى الأرواح إذا سُرَّ أهل الصلاح بأبناء الصلاح، ولا توقفهم منَّا على موقف افتضاح بما نجترح من سوء الاجتراح.
الحمد لله، كم من واحدٍ منهم في الساعة هذه في برزخه ويتبسَّم، فرح بأولاده وحضورهم في هذا المحضر، واتصال الخيط أنه ما انقطع. والله لا ينقطع منَّا أحد، يلحق الفرع بأصله، ولا ينزع السرّ من محلِّه، ويتدارك المسلمين بحبالٍ تمتدّ إن شاء الله إلى من كان مقطوع فيصير موصول، وإلى من كان مبعود فيصير مُقرَّب.
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهُدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير مِلَّةِ
وأصلح الشأن كله لنا وللأمة برحمتك، والحمد لله ربِّ العالمين.
27 ربيع الأول 1447