(535)
(364)
(339)
مذاكرة الحبيب عمر بن حفيظ في المولد السنوي في مسجد الفتح للإمام عبد الله بن علوي الحداد، بمدينة تريم، حضرموت، ضحى الأحد 29 ربيع الأول 1447هـ
ما أوجد الله في الخلق أرحم بالخلق من سيد الخلق، ولا أعطف عليهم. قال جلّ جلاله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، وانظر إلى الرحمن يَصِفه بهذه الأوصاف ويُغرينا أن نُحبَّه، وأن نُعظِّمه، وأن نرتبط به، وأن نعلم أنه ليس أرحم بنا في الخلائق مِن حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ورحمته التي ورثتها قلوب المقرَّبين والعارفين وأهل اليقين وأهل التمكين، على ممرّ العصور وعلى ممرّ الدهور، فضلاً من الله جلّ جلاله، الرحمن الذي قال عنه ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن سبحانه وتعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء"!
فحمدًا لربٍّ خصَّننا بمحمدٍ ** وأخرجنا من ظلمةٍ ودياجرِ
إلى نور إسلامٍ وعلمٍ وحكمةٍ ** ويُمنٍ وإيمانٍ وخير الأوامرِ
وطهَّرنا من دَنَس كفرٍ وخُبثه ** وشِركٍ وظلمٍ واقتحام الكبائرِ
هو السَّاسُ وهو الرأس للأمر الأمر كله ** بأولهم يُدعى لذاك وآخرِ
وتحت لواه الرُّسل يمشون في غدٍ ** وناهيك من جاهٍ عريضٍ وباهرِ
يا من وهبته هذا الجاه اجعلنا ذاك اليوم تحت لوائه الذي تحته الرُّسل أجمعين، وأتباع الرُّسل وجميع الموحِّدين، وجميع المؤمنين، وجميع من كتب له ربُّ العِزَّة أن يدخل جنته من جميع المكلَّفين، كلهم يستظِلُّون بظل لواء الحمد.
قال زين الوجود: "ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، آدم فمن دونه تحت لوائي"، ونعم اللواء لزين الوجود سيد المرسلين وحبيب رب العالمين، ولواؤه المعقود الذي يظهر في اليوم الموعود له آيات وآثار من سرّ دعوته وتبليغه وإرشاده وبعثته ﷺ، ورحمته ورأفته التي ملأ الله بها قلبه، فما أوجدَ في الخلق أرحَم بالخلق من سيد الخلق، ولا أعطف عليهم.
وقد قال جلّ جلاله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)، وانظر إلى الرحمن يصفه بهذه الأوصاف ويُغرينا أن نُحبَّه، وأن نُعظِّمه، وأن نرتبط به، وأن نعلم أنه ليس أرحم بنا في الخلائق مِن حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ورحمته التي ورثتها قلوب المقرَّبين والعارفين وأهل اليقين وأهل التمكين، على ممرّ العصور وعلى ممرّ الدهور، فضلاً من الله جلّ جلاله وتعالى في علاه. الرحمن الذي قال عنه ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن سبحانه وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وبرحمته سبحانه وتعالى واجتماع أنواع مننه علينا، ودواعي الحقّ والهدى المجموعة في الأصل والأساس خير الناس محمد بن عبد الله ﷺ، اجتمعتم في صباح هذا اليوم في هذا المنزل الكريم الكبير المبارك، في بيت من بيوت الله، في وجهة إلى الله تبارك وتعالى قامت على أساسٍ عميقٍ من الفهم عن الله، والوعي لوحي الله، والإرث الكامل التام لرسول الله محمد خير الأنام ﷺ.
بوجهة الإمام عبد الله بن علوي بن محمد الحداد،
فهو الخليفة في جميع أمورهِ ** عن خير داعٍ للبرية هادي
الله أظهره لنفع عبادهِ ** وأقامه للنصح والإرشادِ
فرعٌ تسلسل عن كرامٍ فضلهم ** قد شاع في الأغوار والأنجادِ
فهو المبلِّغ عنهمُ أسرارهم ** وعلومهم للأهل والأحفادِ
فجميع من سلك الطريقة بعدهُ ** مستصبحون بنوره الوقَّادِ
هو قدوة للمقتدين وكعبة ** للقاصدين ومفخر للوادي
قرَّت به عين النبي محمد ** فهو له من أحسن الأولاد، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
باجتماع كل هذه المعاني من فضل مولاكم الكريم المُنزِل للمثاني على صاحب الشرف العدناني، جئتم تحت سماوات الفضل والإحسان والجود والمنّ من البرّ الودود جلّ جلاله، في مجامع أصل عقد لوائها تمّ على يد زين الوجود ﷺ.
ما دعانا إلى الاجتماع على ذكر الله ودعاء الله تبارك وتعالى وتسبيحه وتحميده، وذكر أوصافه وأوصاف أنبيائه ورسله إلا رسول الله ﷺ، هو الذي دعانا إلى هذه المجامع، وأخبرنا عمَّا يتنزَّل فيها من حضرة الكريم الواسع جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وقال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: "حِلَق الذِّكر"، حِلَق الذِّكر هي رياض الجنة كما سمَّاها سيد أهل النفوس المطمئنة ﷺ.
حتى أخبرنا عن النبي داود عليه السلام أنه قال في مناجاته لربه: "إلهي، إذا رأيتني أجاوز مجالس الذاكرين إلى من دونهم، فاكسر رجلي دونهم حتى لا أتجاوزهم".
فيا معرضًا عن مجالس الذِّكر، ويا معرضًا عن مجالس العلم، أتدري ماذا ضيَّعت في العمر؟ أتدري ماذا ضيَّعت من الأجر؟ أتدري ماذا فاتك من شريف المنزلة في القرب من الرحمن جلّ جلاله وتعالى في علاه؟
وهو القائل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ) والعياذ بالله تبارك وتعالى.
والحقّ هو الذي دعانا ونادانا على لسان حبيبه، قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
وقال عن هذه المساجد: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا).
هذا وصفهم: الخشية وخشية ذاك اليوم، والمرجع إلى الحيّ القيُّوم، الذي ذِكره في البال ووروده على الخيال علامة الصدق مع الكبير المتعال، علامة الاقتداء بمولى بلال باهي الجمال.
ذِكر ذاك اليوم من أعظم ما يتنقَّى به القلب عن جميع الآفات والعاهات والشوائب، وترتفع به المراتب. وقد قال الله عن صفوته من أنبياء ومرسلين: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)، أخلصهم بخالصة ذِكرى الدار.
وفي ورثتهم وأتباعهم يقول سيدنا الإمام الحداد:
من فتيةٍ ما لهم همٌّ ولا شُغُلُ ** ولا التفاتٌ ولا ميلٌ إلى الفاني
ووصف الذين تقدَّموا في واديكم على منهج نبيكم وهاديكم ﷺ، في خلافة تامَّة وإرث كامل له عليه الصلاة والسلام، يقول في منهج أولئك القوم الكرام:
وقد درج الأسلاف من قبل هؤلاء ** وهِمَّتهم نيل المكارم والفضلِ
من أين أخذوها؟ من خالص الإيمان، من كتاب الرحمن، من إرشاد سيد الأكوان، صارت هِمَّتهم نيل المكارم والفضل.
بينما الذين يصغون إلى الأنفس الأمَّارة وإلى ما يعرِض قُطَّاع الطريق على ظهر الأرض: هذا همَّته لعبة، وهذا همَّته كُرة، وهذا همَّته دار، وهذا همَّته تجارة، وهذا همَّته شيء من الفانيات. فيا ما أقبح ما وصلوا إليه وانقطعوا عن المراتب العُلا!
يقول: وهمَّتهم نيل المكارم والفضلِ
لقد رفضوا الدنيا الغرور وما سعوا ** لها والذي يأتيهم يبادر بالبذلِ
فقيرهم حُرٌّ وذو المال مُنفقٍ ** رجاء ثواب الله في صالح السُّبلِ
"لباسهم التقوى" ونعم اللباس، ما أشرفه من لباس! من لبسه فهو العزيز الغالي عند ربّ الناس. من لبسه فهو الذي لا يأتي على فضله حدٌّ ولا قياس. لباس التقوى به المفاخرة.
يا من أخذتهم الموضات واتَّبعوا شرار البريَّات، وكشفوا العورات، وذهبوا عن الحياء في اتِّباع هذه الألبسة الساقطة! اعقل وارجع إلى حقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله، تجدها تنهاك عن هذا السُّفل، وتنهاك عن هذا السقوط، لتكون من أتباع من أعرض الله عنهم فلم ينظر إليهم منذ خلقهم، والعياذ بالله تبارك وتعالى. وتضيِّع تبعيَّة خير الخلق وأرباب الصدق وأهل السَّبق، من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
فانظر وانظر وانظر: ما همَّتك؟ وما نيَّتك؟ وما لباسك؟
إذا المرء لم يَدنَس من اللؤم عِرضه ** فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
ومن كان عليه من الألبسة ما عليه وهو خالٍ عن التقوى، فهو العاري، هو العاري المكشوف عورته، والعياذ بالله تبارك وتعالى، في يوم القيامة.
قال تبارك وتعالى: (وَإِن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) أي بالمرور على الصراط فوق النار يوم القيامة. (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) سقوطًا فيها والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولقد بكى سيدنا عبد الله بن رواحة عند تهيُّئه للخروج إلى السَّريَّة المباركة التي اشتهرت عند أهل السيرة بغزوة مؤتة، وهي سَريَّة من السرايا، ولكن وحدها من بين السرايا اشتهرت باسم الغزوة، وإنما الغزوة التي حضرها قائدهم ﷺ، التي حضرها بنفسه عليه الصلاة والسلام، ولكن عظمة هذه السَّريَّة وعظيم ما كان فيها.
وفيها مواجهة الكفر في العالم بكُلِّه بأجناد من جنود الله وجنود محمد بن عبد الله، كان عددهم ثلاثة آلاف، وعدد جنود الكفر مائة ألف ومائة ألف، مائتين ألف، وجاء في روايات في السِّيَر: مائتان وخمسون ألفًا من المشركين والكفَّار، من العرب ومن النصارى ومن تبعهم ومن الروم، وعندهم أقوى الأسلحة وأحدث الأسلحة والعتاد الكبير. وهؤلاء أصحاب المصطفى ﷺ ثلاثة آلاف قابلوهم.
بكى سيدنا عبد الله بن رواحة، تقول له زوجته، بكت معه ثم قالت له: "يا عبد الله، إن أردت فاستأذن رسول الله لتبقى عندنا". فالتفت إليها قال: "ما يُبكيكِ؟" قالت: "رأيتك تبكي فبكيت لبكائك، فإن أحببت فاستأذن رسول الله". قال: "ويحكِ! والله ما أبكي خوفًا من الموت، ولا لأتأخَّر عن هذا الخير الذي جاءنا عليه رسول الله، ولكن آية في كتاب الله أبكتني". قالت: "ما هي؟" قال: "قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)". قال: "أيقنتُ بالورود، وكيف لي بالصُّدور بعد الورود؟ الورود للكلّ، والنجاة للمتَّقين وحدهم. (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا).
وهم الذين لهم العاقبة في الدنيا ثم في الآخرة، أهل تقوى الله جلّ جلاله وتعالى في علاه.
قال سيدنا الإمام الحداد:
"تقوى إله العالمين فإنها ** عزٌّ وحرزٌ في الدُّنا والمرجعِ
فيها غنى الدَّارين فاستمسك بها ** والزم تَنَل ما تشتهيه وتدَّعي"
قال سيدنا موسى لقومه لمَّا شكوا ما يؤذيهم به فرعون، قالوا: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
أرسل فرعون أنه يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، قال (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ). وأمام هذه التحدِّيات - كما يسمُّونها - والتهديدات من ملوك السُّوء وأرباب الظلم على ظهر الأرض، قال سيدنا موسى: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أمَّا إرث الأرض يقع للمتَّقي والفاجر والكافر، كُلٌّ يرث ما يرثه من الأرض، (الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، لكن ليست العاقبة لكلِّهم، لا لكلّ من مَلَك، ولا كلّ من تحكّم، ولا لكلّ من تمكَّن على ظهر الأرض، ما العاقبة إلا للمتَّقين وحدهم، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
أمَّا إرث الأرض يحصل مع ذا ومع ذا، ملك الأرض سيدنا سليمان النبي، وملك الأرض النمرود وفرعون وقوم عاد قوم سيدنا النبي هود. وكم من فرق بين ذا وذاك! (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
كنَّا نسمع حتى على لسان العوام عندنا من أثر التربية التي كانت في البلدة وأهلها: "التُّقى فيه البقاء". يقولون: التُّقى إن أردت أي شيء يبقى لك، في أيّ معاملة، في بيتك، في أسرتك، مع جيرانك، في السوق، "التُّقى فيه البقاء". أقِم أمرك على التُّقى وهو الذي سيبقى والذي يدوم لك وعاقبته طيِّبة، وإن انحرفت عن التقوى، مهما أغراك شيء وأعجبك شيء، فالعاقبة ستقع لك نكسة وبتقع لك سقطة، التُّقى فيه البقاء.
"لا يَهلِك على التقوى زرع قومٍ"، يقول سيدنا علي بن أبي طالب: "لا يَهلِك على التقوى زرع قومٍ"، ما يَهلِك، إذا زُرع على التقوى ما يَهلِك الزرع.
وهكذا قال أرباب الصدق مع الله:
"نبني على أساس مُحكم قط ما يخترب
نحِب أحمد ويا بخت الذي له يحبّ
أحمد يجلِّي كربنا عندما نكترب
قد قال فيما رُوي: المرء مع من يحبّ
وأنا أحبه وقولي صدق ما هو كذب
وعند ذكره ترانا اطرب كما من طرب
وعند ذكره ترانا اطرب كما من طرب"
أيكون محبّ ما يطرب بذكر المحبوب كيف؟ فلا شيء يُطرِب قلوب المؤمنين مثل ذكر الله وذكر محمد بن عبد الله ﷺ.
"وضمَّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه ** إذ قال في الخمس المؤذِّن أشهدُ
وشقَّ له من اسمه ليُجِلَّه ** فذو العرش محمودٌ وهذا محمَّدُ"
صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله.
وأنتم تحت ظلّ من لواء محمد، فيما ورَّث لكم من هذا المسلك الأرشد.
"فبالحقّ فلنأخذ علوم طريقهم ** يدًا بيدٍ حتى مقام النبوَّة
يدًا بيدٍ، حتى مقام النبوَّة.. ويقول سيدنا الإمام الحداد: "ما من سُنَّة سنَّها رسول الله إلا وأرجو أنِّي قد عملتُ بها". وبذلك فاضت عليه أنوار علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين.
وقد قال عمَّا مضى من سنده الأكرمين:
"أهل اليقين لعينه ولحقِّه ** وصلوا وثمّ جواهر الأصدافِ
راح اليقين أعزّ مشروب لنا".. واسقنا يا ربّ من هذا الشراب.
في مثل هذه المحافل يُسقى، يُسقى من يُسقى بإذن الخلَّاق من هذا الشراب، الذي من شرب منه شربةً ناله نورٌ لا ينطفئ أبدًا، واستقام على سبيل الهدى، فالله لا يحرمنا هذا الشراب الطيِّب، ويُدخلنا مع أهل ذاكم الغيث الصيِّب، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ويقول في يقينه: "لو نادت السماء أن لا تُمطِر بقطرة، والأرض أن لا تُنبِت حبَّة، وجميع أهل تريم عيال لي، لم أهتمّ بهم بعد قول ربي: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)".
قلوبٌ ما يخامرها الشكّ ولا يخامرها الارتياب، في قوَّة يقين مع ربّ الأرباب جلّ جلاله، فآتاه الله تعالى من إظهار العجائب والقدرة. يقول: "لولا الشُّهرة لأخرجت من تحت هذا البساط ما يكفي أهل تريم"، ولكن:
"لقد رفضوا الدنيا الغرور وما سعوا ** لها. والذي يأتيهم يبادر بالبذلِ
فقيرهم حُرٌّ وذو المال منفقُ ** رجاء ثواب الله في صالح السُّبُلِ
لباسهم التقوى وسيماهم الحياء ** وقصدهم الرحمن في القول والفعلِ"، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فيا مجتمعين في ختام هذا الشهر الكريم، والمحافل الكبيرة عندكم في البلدة نويرة، تودِّعونها بهذا اليوم المبارك في ساحة حدَّاد القلوب، ونسأل مقلِّب القلوب أن ينظر إلى قلب كلّ واحد منَّا، لا ينصرف من المجمع إلا وقد طهَّره وقد نوَّره وقد نقَّاه جلّ جلاله واصطفاه.
"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".
واستشعِر نظر علَّام الغيوب إلى قلبك، ربّ السماوات والأرض، ربّ العرش العظيم، ينظر إلى قلبك في مجمع فيه رحمته، فيه منَّته، فيه نظره.
ألا يا بنظرة من العين الرحيمة ** تُداوي كلّ ما بنا من أمراض سقيمة
ونظرة منه إن صحت على أحد ** بعين ودٍّ بإذن الله تُحييه
ألا يا الله بنظرة..
فيا نفحات الله يا عطفاته ** ويا جذبات الحقّ جودي بزورةِ
ويا نظرات الله يا لحظاته ** ويا نسمات القرب أُمِّي بهَبَّةِ
الله يتغشَّ جمعنا بالإفضال والإحسان. ارقب نظر الرحمن إلى قلبك، وصفِّه عن الأدران، لا يبقى في قلبك عزمٌ على معصية ولا على ذنب ما بقيت في هذه الحياة.
فحقّ الله أن يُطاع لا أن يُعصى، وأن يُشكر لا أن يُكفر، وأن يُعظَّم جلّ جلاله وتعالى في علاه، لا تعصه بالقلب ولا تعصه بالجوارح. كُفَّ عينيك عن معصية واهب العينين، كُفَّ أذنيك عن معصية واهب الأذنين، كُفَّ أعضاءك كلَّها عن معصية مَن خلقها لك لتطيعه بها وتقرُب بها إليه.
وخلق لك العبادة لتكون وصلة بينك وبينه، ولتكون مركبًا لك تركبه إلى الدرجات العُلا واللحوق بخير الملأ، فما الخيرات إلا في طاعة ربّ البريَّات جلّ جلاله وتعالى في علاه.
طوبى لعبدٍ من الطاعات نحره ملاه ** محبَّة الخير وأهل الخير قوته وماه
وخرج عبد الله بن رواحة، ولمَّا تشاوروا حين أقبل عليهم مائة ألف وانضاف إليهم مائة ألف، وقالوا - وهم في معان من أرض الأردن -: نكتب إلى رسول الله، نقول كيف؟ نحن سنفعل؟ نقابلهم أو نرجع؟ نستعدّ لمقابلة الألوف الكثيرة هذه بالسيوف الكبيرة والأسلحة؟
قال لهم سيدنا عبد الله بن رواحة: بماذا تتردَّدون؟ إنَّا لا نقاتل بعدد ولا عُدَّة، إنَّما نقاتل بهذا الدين الذي بُعث به نبيُّنا، وإنَّ التي تخافون للتي خرجتم من أجلها، أنتم خرجتم من أجل الشهادة في سبيل الله، من أجل لقاء الله، فلماذا تتردَّدون؟
فقوَّوا عزائمهم وقالوا: "نقابل القوم". وأقبلوا على القوم عليهم رضوان الله سبحانه وتعالى، وقابل هؤلاء الثلاثة الآلاف المائتي ألف ومن معهم من الخمسين الألف فوق المائتين.
وابتدأ كما قال ﷺ: "يحمل الراية زيد بن حارثة"، زيد بن حارثة من ربوعكم، من نواحي حضرموت. وقع في حرب مع العرب المتقاتلين في تلك الأيام وأسروه، وباعوه في الشام، باعوه في الشام لبعضهم ثم اشتراه حكيم بن حِزام لخديجة بنت خويلد، ووقع عند خديجة بنت خويلد، فوهبته للنبي محمد، عليه رضوان الله.
فلمَّا عاش مع الحبيب ﷺ، لا يزال أهله يبحثون عنه، وأين الولد وأين رجع، حتى أُخبروا أنَّه نهاية أمره وصل إلى مكَّة وأنه عند واحد هناك وصل مُلكه إليه بعد هذا الأسر، فجاءوا إلى مكَّة ويسألون عنه، وكلَّما سألوا أحدًا قالوا لهم: "أنه في يد محمد، ومحمد أكرم الناس!" ففرحوا.
وأخذوا يبحثون عنه وقابلوه، قالوا: إنَّ ولدنا زيد عندك، هذا عمُّه، هذا أبوه، هذا قريبه، وإنَّنا نريد نفتديه منك بما شئت، قال: "لا، ادعوا زيدًا، فإن أحبَّ أن يمشي معكم فهو لكم ولا أريد منكم شيئًا، وإن أحبَّ أن يبقى معي فما أنا بالذي أُكرِهه". قالوا: "لقد أنصفت، ما فوق هذا إكرام!"
جاءوا بزيد. "زيد، تعرف هؤلاء؟" قال: "هذا عمِّي وهذا أبي وهذا أهلي". قال: "إنهم قالوا كذا وقلت لهم كذا". قال: "لا والله، لا أختار عليك أحدًا!" اهتزُّوا، قالوا: "يا زيد، أتؤثِر الرِّقّ على الحريَّة؟!" قال: ما رأيت مثل هذا! أنا في كنفه أحسن من كنف الأب والأمّ، ما رأيت مثل خُلقه، ما رأيت مثل معاملته، قلبي مطمئنّ عنده.
تعجَّبوا واطمأنت قلوبهم على حال الولد، وتعانقوا معه، قال لهم ﷺ: "وهو حُرّ، أنا أعتقته لوجه الله"، كان قبل إبطال التبنِّي قال: وهو ابني، يُنسب إلي زيد بن محمد، فصار يُقال له: زيد بن محمد، حتى أبطل الله التبنِّي وحرَّم ادِّعاء الأبناء إلا لآبائهم: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ).
وفيه نزلت الآية: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ) يعني سيدنا زيد عليه الرضوان. قال وما نصَّ الله على اسم رجل من الصحابة في القرآن إلا زيد: (فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)، ذكره بصريح الاسم سبحانه وتعالى.
زيد بن حارثة حمل الراية وقُتل، فحمل الراية جعفر بن أبي طالب. قُطعت يده اليمنى، حمل الراية باليسرى. قُطعت اليسرى، احتضنها بالعضُدين، احتضنها بالعضُدين وأبى أن تسقط راية سيد الكونين، بالعضُدين، حتى أثخنته الجراح، فاستلمها منه بعض الصحابة وحملوه.
يقول سيدنا عبد الله بن عمر في صحيح البخاري: وجدنا فيه تسعين ضربة، تسعين ضربة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو وصول سهم إليه، لكن كلها فيما أقبل من بدنه، ليس في جنبه ولا وراءه شيء.. لماذا؟ لأنه ما قال أو كذا، مُقبِل، كلُّها فيما أقبل من عند رأسه إلى عند رجليه، كلُّها الطعنات التسعون فيما أقبل، وهذه تسعون ليست واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث! وحالك حتى مع السبخة إذا قبصتك والنملة كيف يكون؟! وهذا الطعن كلُّه!
وحملوه إلى جانب، قرَّبوا له الماء.. قال: "إنِّي صائم". قالوا له في هذه الشدَّة والحهاد تُفطِر وتصوم يومًا آخر، قال: "أشتهي أن أُفطِر في الجنة" ، أشتهي أن أُفطِر في الجنة! وما كان إلا ذلك.
وحبيب الرحمن في المدينة المنوَّرة كان يصفهم، يقول: "الآن حمل الراية زيد، الآن قُتل. الآن حمل الراية جعفر، قُطعت يده اليمنى، قُطعت يده اليسرى، احتضن الراية بعضُديه، قُتل، الآن حمل الراية عبد الله بن رواحة". ثم قال: "قُتل. والآن" قال: "حمل الراية سيفٌ من سيوف الله سلَّه على المشركين: خالد بن الوليد".
وبينما هو جالس في المدينة مع جماعة من الصحابة، رفع رأسه الكريم قال: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته". أخذ يتكلَّم، نكَّس الصحابة رؤوسهم. لمَّا انتهى الكلام قالوا: "من تُخاطب يا رسول الله؟" قال: هذا جعفر بن أبي طالب قد وقف عليَّ في نفر من الملائكة يُسلِّم عليَّ، قد أبدله الله مكان يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، والجنة أمامه، لكنه اشتاق إلى سبب دخوله الجنة، اشتاق إلى محمد بن عبد الله ﷺ، واستأذن ربُّه يجيء وحملته الملائكة حتى وقف على رسول الله وسلَّم عليه ﷺ.
الله لا يبعدنا عن هذا الجناب الشريف الطاهر!
وهذه أبواب انفتحت لكم في هذه الرِّحاب، وفي هذه المسالك، وفي هذه الطريقة.
طريقة رشدٍ قد ترقَّى الذي لها ** من السِّرّ أمجادُ خلائف أمجادِ
وأربابها يسعون فيها بوجهةٍ ** فهم بين عُبَّاد بعلمٍ وزُهَّادِ
وها هي أعمالٌ خَلَت عن شوائب ** وعلمٌ وأخلاقٌ وكثرة أورادِ
فيا ربِّ ثبِّتنا على الحقّ والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملّةِ
انظر إلينا وإلى من في ديارنا، وإلى أهالينا، وانظر إلى الأمَّة نظرةً تكشف بها الغُمَّة عن الصغير والكبير.
أمتِعنا بشيباننا وصُلحائنا ومناصبنا وأخيارنا وعلمائنا وأهل السِّرّ فينا، ظاهرهم وباطنهم، ولا تحرمنا خير ما عندك لشرّ ما عندنا، ولا تجعل في المجمع أحدًا إلا نظرت إليه وأقبلت بوجهك الكريم عليه يا الله، واصرفنا بخِلَع التقوى ولا تنزعها عنَّا، وخِلَع العافية ولا تنزعها عنَّا.
وبارك لنا في هذه الجموع! ولو رأيتم ما جاء في الأخبار في حضورها، فكيف بالخدمة فيها؟ وكيف بالحدو فيها؟ فكيف بإدارة ماء فيها أو فرش فيها أو ما إلى ذلك؟
والله يغبطهم عليه في القيامة ملوك الأرض، ويتمنَّون أنهم قرَّبوا فرشًا أو قدَّموا ماءً أو قدَّموا شيئًا من الخدمة في المجالس هذه، فما يُحصِّلونها في القيامة، هم وقصورهم ما يساوون شيء في ذاك اليوم، وسيرون الحساب لمن؟ والأجر لمن؟ والثواب لمن؟
فالحمد لله على هذه النِّعم! يُتمّ الله النِّعم علينا وعليكم، ويتولَّانا بما هو أهله.
اللهمّ انظر إلينا وأقبِل بوجهك علينا، وأصلِح الشأن لنا وللأمَّة برحمتك.
والحمد لله ربّ العالمين.
29 ربيع الأول 1447