مذاكرة الحبيب عمر بن حفيظ في المولد السنوي في زاوية الشيخ سالم بافضل 1447هـ

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة الحبيب عمر بن حفيظ في المولد السنوي في زاوية الشيخ سالم بن فضل بافضل، بمدينة تريم، حضرموت، ضحى الثلاثاء 24 ربيع الأول 1447هـ

 

نص المحاضرة:

اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه، وعلى من تخلَّق بأخلاقه وتأدَّب بآدابه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

واجعل لنا قلوباً تخشع، وآذاناً تسمع، ووِجهةً إليك صادقة نرقى بها إلى المقام الأَرفع، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا.

يا حاضرين محاضر أهل الخشية، ومحاضر أهل الخشوع، ومحاضر أهل الإنابة إلى الله تبارك وتعالى، انظروا إلى نصيب كلٍّ منكم وحظ كل واحد منكم من هذه العطايا، ومن هذه المزايا، ومن هذه المِنَح في الصِّلة بالله سبحانه وتعالى، والصِّلة برسولِه المصطفى محمد ﷺ، إيماناً ومحبَّة وتعلُّقاً وتشوُّقاً وأدباً واتِّباعاً وانقياداً وخضوعاً واستسلاماً وإنابةً إلى الحق جلَّ جلاله وتعالى في علاه.

وتلكم هي المزايا التي بها حقائق الفخر في الظواهر والخفايا، وفي الدنيا، ويوم يقوم الناس بين يدي رب العباد سبحانه وتعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) في انكشاف الستائر التي أُسدِلت على القلوب في هذه الحياة الدنيا، وغرَّت الأكثر من المكلفين الحياةُ الدنيا (وَغَرَّهُم بِاللَّهِ الغَرُور) .

نعمة الإسلام والهداية

ومع ذلك قد أنزل الله إليهم الكتب وأرسل إليهم الرسل، وجعل للرسل نُوَّاباً وخلفاء يبلِّغون عنهم ويؤدُّون الأمانة في التعليم والإرشاد إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، قال سبحانه وتعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وخاتمهم جاءنا بالخيرات كلها، وسيِّدهم جاءنا بالمِنَن كلها، وبه كنا خير أمة.

 بشرى لنا معشر الإسلام إنَّ لنا ** من العناية رُكناً غير منهدمِ

 لمَّا دعا الله داعينا لطاعتهِ ** بأكرم الرسل كنَّا أكرم الأممِ

ويا من جُعِلت في أكرم أمة، وهُديت إلى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ووُلدت من بين أبوين مسلمين، مُسلسَلٍ فيهم الإسلام من عهد النبوة ومن أيام بعثته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وبلاغه، وجُعِلت في مثل هذه البلدة وتحضر هذه المحاضر، انظر نصيبك من هذا الخير الوافر، وما يحِلُّ في قلبك من النور الزاهر الغامر.

"إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح"، قيل: فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم، التَّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله".

"والاستعداد للموت قبل نزوله" بِصدق الوجهة إلى الله، بحسن الأدب مع الله، بخشية الله في الغيب والشهادة، بتفقُّد الإنسان لأعماله وأقواله ونظراته ومسموعاته ومعاملاته مع الصغير والكبير، كيف تكون؟ وعلى أي مقصد؟ وعلى أي نية؟ وعلى أي اقتداء واهتداء؟

الاقتداء بالصالحين

قال سبحانه وتعالى: (أَنِ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

وقد جعل الله لكم سند صدق من رجال الصِّدق بينكم وبين النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، مِن صحابته وآله والتابعين وتابعيهم بإحسان، وإلى من شرَّف الله بهم هذه الديار، وشرَّف الله بهم هذه البلاد، وشرَّف الله بهم هذا الوادي الميمون، من أولئك الذين تسلسلوا في إقبالهم وتوجُّههم واجتهادهم ومجاهدتهم وإخلاصهم وصدقهم وبذلهم وتضحيتهم.

لهم عيونٌ تألف البكاء من خشية الله، ومن محبة الله، ومن معرفة الله، يقول الإمام عبد الله بن حسين بلفقيه:

وفاتني من خيار الناس كم رجلٍ ** ما فارق الذِّكر طول العمر والكُتُبا

 بَكّاءُ ليلته، بَكّاءُ ليلته، في لياليهم يبكون، كم لك ليالٍ ما بكيت؟ لأنك ما عرفت، لو عرفت ما عرفوا لبكيت، ولو أدركت ما أدركوا لبكيت، ولو عرفت عظمة الإله الذي تعبُده وتصير إليه سبحانه وتعالى 

بكَّاءُ ليلتهِ سَجَّادُ خَلوته ** من خوف مالِكه يستعذبُ التَّعَبا

له اشتغالٌ بحفظِ السرِّ عن دخَلٍ** ليث النِّزال إذا ما عارَكَ الرُّقَبا

تلقاه في الجود كالطائي وأحنفهم ** في الحِلم قد فاق قُسّاً حيثما خطبا

من آل بيت رسول الله أكثرهم ** وآل أبي فضلٍ الأخيار والخُطبا

ومَن دخل في تلكم المداخل ونزل في تلكم المنازل، من كل صادق مع الحق سبحانه وتعالى في كل ما هو فاعل، وفي كل ما هو قائل، وفي كل ما هو ناوٍ، وفي كل ما هو قاصد، فرضي الله تعالى عنهم ولا حرمنا مِننه التي منَّ عليهم بها، ومِنَحه التي منحهم إياها.

أعاد الله علينا وعليكم تلك العوائد بأعظم الفوائد، والثبات على مسلك المحامد في أشرف المقاصد.

فيا ربِّ ثبِّتنا على الحق والهُدى** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملَّةِ

نور العلم في البيوت

وبهم قامت في البلدة أنوار  وأشرقت، وامتلأت بها الديار والمنازل والأسواق، وقامت المساجد، وقامت الزَّوايا، وقام الرِّباط، وقامت أماكن الخير، وكانت بيوتهم محل العلم، وبيوتهم محل الأخلاق، وبيوتهم محل التِّلاوة للقرآن.

كان يقول بعض العارفين لولده: يا ولدي، لا تعصِ الله بعدي في هذا البيت، وقد قرأتُ في هذه الغرفة سبعة آلاف ختمة، فاحذر أن تعصي الله تعالى بعدي فيها.

ويقول نبينا ﷺ: "البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض".

وهكذا بيوتهم شُرِّفت وعُظِّمت بالقرآن والعمل بما في القرآن وبالسُّنَّة الغرَّاء، وهذا مع أولاده ختم الأمَّهات الست من كتاب إلى كتاب، غير حزب القرآن الكريم، وهذا مع أولاده مرَّ على رياض الصالحين، وهذا مع أولاده قرأ إحياء علوم الدين في الدار.

ما أخبار الديار في هذه الأيام وهذه الليالي؟ وما الذي يجري فيها؟ جاؤوا لنا ببرامجهم هؤلاء الغفلة والجهلة والفسقة والمجرمين، ورضيناها، رضيناها لنا، رضيناها لأهلنا، رضيناها لأولادنا! ولعاد قرآن يُفتح سوا، ولا إحياء علوم الدين ، ولا المجموع للإمام عبد الله بن حسين بن طاهر - شافي وكافي - ولا كتب الإمام الحداد التي فيها كمال الرّبط بالحق وبرسوله، والضبط على سواء الصراط، وتنوير القلب بمجرد قراءتها تمتد أنوار وتسري إلى الباطن بصدقهم وإخلاصهم مع الله؟

وكان الحبيب محمد بن علوي بن شهاب عليه رحمة الله يقول: إحياءنا يا أهل الزمان مجموع ولد حسين - مجموع الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر - وكانوا يقرؤونه في مجالسهم ومدارسهم.

هذا  وهُم وأولادهم في الديار لهم شيء من هذا الخير ولهم ارتباط، كنا نعهد بعض أهل العلم ليلتين في الأسبوع دروس لبناته وزوجات أولاده، ومن كتاب إلى كتاب، وترقَّوا ومرّوا من عند المختصرات من الرسالة إلى السفينة إلى المختصر إلى المقدمة الحضرمية إلى الزُّبَد وختموها، واحد بعد الثاني، بناته وزوجات أولادهم وزوجته في البيت، وتجدهنَّ حاملات النُّسَخ يتحفَّظن في الزُّبَد، حاملات النُّسَخ يتحفَّظن "هدية الصديق" للحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر، هكذا كانت البيوت، وبهذا تُعمَر البيوت.

قال الحبيب محمد بن علوي عليه رحمة الله يقول: أَمُر أنا ووالدي تحت بيت الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه عليه رحمة الله تعالى، قال: يشُط يقول: يا ولدي، شفنا أراه نور العلم ينضع حتى من جدران هذا البيت، من الجدران حق البيت ينضع نور العلم ، قال الحبيب محمد: والآن ديارنا تنضع بماذا؟ قال: بعضها بالتنباك، تنضع بعضها بالغيبة، بعضها بالنميمة، هكذا صارت الديار!

ولا يصلح للمؤمن إلا أن يرفع شأن داره، وشأن بيته وأهل بيته بهذه السِّير التي خلَّفوها الرجال ، بل خلَّفها سيد الرجال فينا، وما هم إلا أتباع لسيد الوجود صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

باتِّباعه وحُبِّه حقَّق الله رجاهم ** فإن فيما سَعَوا خير الورى مُقتداهم

هو دعاهم إلى ربِّه وشيَّد بناهم ** باتِّباعه وحُبِّه حقَّق الله رجاهم

يا هناهم بحبِّ المصطفى يا هناهم ** ربي بلِّغني آمالي بجاهِه كماهم

رب بلِّغنا آمالنا بجاهِه كماهم.

الإمام سالم بن فضل وزاويته المباركة

ونخرج إن شاء الله بكسوة من هذه الزاوية المباركة، ابتنت على نور وعلم، بعد رحلةٍ لهذا الإمام سالم بن فضل با فضل عليه رحمة الله تبارك وتعالى، رحلة في طلب العلم، رحلة في إحياء الشريعة، رحلة في الغَيرة على علوم الدين وعلى كسبها وتحقيقها.

وبعد ما أخذ عمَّن أخذ عنهم في البلد، ورحلته إلى العراق ومن كان فيها، وكانت مجمعاً في تلك الأيام لكبار علماء العالم الإسلامي، وأخذ في وقت سيدنا الإمام عبد القادر الجيلاني، والأربعين سنة وهو في غَيبته، ومتحمِّل الغربة، لا من أجل أن يبني له بيتاً، ولا من أجل شيء من متاع الدنيا، ورجع بأربعين حِملاً من أحمال الجِمال، من أولها إلى آخرها كتب، من أولها إلى آخرها كتب وجدوا الأحمال كلها.

وقد أهله ظنُّوا أنه قد مات بعد انقطاع أخباره أربعين سنة كاملة، وجاء على يده إحياءٌ وتجديدٌ عظيم لهذا الدين، ويكفيه فخراً أن سيدنا الفقيه المقدَّم قرأ عليه - وقيل في هذه الزاوية - وقرأ الفاتحة عليه في هذه الزاوية، وكان قد سبق له أخذٌ عن الأئمة صاحب مرباط والأئمة الموجودين في الوادي الميمون في ذاك الزمان، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

وكان كما قال سيدي عبد الرحمن بن علي:

والشيخ سالم سيدي ** مُحيي السُّنَن والواجبات

ما ضلَّ من به يقتدي ** مُحيي العلوم الدارسات

عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، في بعض الأبيات يقول:

جرب زنبل ملآن محشي من الغِيد** والفريط الذي قُبِر تحته الجِيد

سَعد با مدحج الفتى خير صِندِيد ** وبن با فضل سالم الحَبْر والسَّيِّد

والخطيب الذي له قلب صبَّار** و آل باكْدر وما حوى قاع بشَّار

ذاك وادِ النِّقاء الصَّبيح** فيه كم من رجلٍ مليح** يستوي فيهم المديح

من تلقَ منهم تقُل لاقيتُ سيِّدَهم** مثل النجوم التي يَسرى بها الساري

فضل الصالحين في الوادي

كما قال الشَّوَّاف في أولاد سيدنا السَّقَّاف ورجال أهل  تلك الحضرة:

فإن جئت سادة من ساد ** أَو ريتهم في الميعَاد

تقول مَن هو الأستاد ** تُوْحل في أصحاب الله

هم كلُّهم ما احسنهم ** وكلُّ واحد منهم

مثل الجُنَيْد أصغرُهم** لي كان شيخ أهل الله

وعطايا كبيرة ومزايا عظمى نالها المتقدِّمون قبلكم في هذه الزوايا، وفي هذه المنازل، وفي هذه الديار والبلدة المباركة.

ذكر مرَّةً سيدنا الإمام عَيْدَروس بن عمر الحَبشي عليه رحمة الله سيدنا أبا يزيد البسطامي وفضائله وأحواله مع الله تبارك وتعالى ومنازلاته وما كان، وإذا بواحد من الحاضرين يقول: يا ليت نحن قريبٌ من مكان أبي يزيد البسطامي ونزور قبره ونتبرك به، فتركب على رُكبتيه الحبيب عَيْدَروس وقال: والله! سبعون من مثل أبي يزيد ما يصلون عند ثرى عبد الرحمن بن محمد السَّقَّاف، سبعون من مثل أبي يزيد ما يصلون عند الثرى لرجل عبد الرحمن بن محمد السَّقَّاف، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

ألا يا سَفر لي جِيت  ** فانشِد من حماهم

فبالله ليس تلقى **في الدنيا كماهم

ولا أطيبٌ من مَعايشهُم أو عَذْبُ ماهم

كيف ننهل من هذا الخير؟

وعيَّشكم الله في بلدانهم وأوطانهم، وبين مساجدهم وبين زواياهم، كيف ما ننهل يا أيها الأحباب، أيها الإخوان؟ كيف ما نغرف من هذه السواقي الممتدَّة من بحر الحبيب محمد ﷺ؟

لك بحرٌ حالي وكم من عبد منه اغترف

صلاة تغشاك يا حائز خِصال الشَّرف

وآلك وصحبك ومن بالحُب فيك اتَّصَف

عسى معاكم ولا نخلف كما من خلف

طلاب العلم قديماً وحديثاً

كان لا أقل من المبادئ يقرأون، كنا نعهد الناس إلى وقتٍ قريب في أيام صِغَرنا، الذي ما يعُدُّونه طالب علم، هذا قد قرأ الرسالة والسفينة والمختصر، قد مرَّ عليها وقرأ مبادئ فيها وما يعُدُّونه طالب علم، لأنه انشغل بعد ذلك بأمور دنياه وما حقَّق ولا ارتفع في الكتب الكبيرة بعد ذلك، ولكن ما أحد منهم ما مرَّ على هذه الكتب ولا قرأها.

واليوم لا هو حول سفينة، ولا هو حول زُبَد، ولا هو حول رسالة جامعة! وربما افتخروا بشيء من هذه الأشياء التي طرأت علينا، ويا ليت رعَوْا حقها وأقاموها في مقامها من هذه المدارس!

صاح قلب الحبيب علوي منها لِمَا يرى من آثارها البعيدة، ومن خطط القوم البعداء الذين رتَّبوها لبلاد المسلمين ليحرِفوهم، ومن وسط الثانويات ومن وسط الجامعات كم من بلايا جات، وكم من آفات، وكم من عاهات! وحُفِظ من حُفِظ، وزاغ من زاغ، وضلَّ من ضلَّ، وصاروا الناس في مصائب كبيرة تأتيهم من غفلتهم ومن إهمالهم لهذا المسلك القويم والصراط المستقيم.

مسلك مَن صدقوا مع الله سبحانه وتعالى، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وتشرَّفت بهم بلدتكم الغرَّاء المباركة خاصة، والقُطر الميمون كله الحضرمي 

حضرموت التي سُكَّانها خير سُكَّان ** ولد عيسى ومن نَسْله شِيَابَة وشُبَّان

المُقَدَّم وسَقَّاف العُلا عبد الرحمن ** شيخ الأحقاف والمِحْضار والفَخْر سَكْران

وابنه القُطب سُلطان المَلا خير سُلطان

وكم وكم من أعيان، وكم وكم من أكابر 

مضوا على قصد السبيل إلى العُلا** قدماً على قدم بجِدٍّ أوزعِ

 عليهم الرضوان.

كثرة العلماء في الماضي

وكم كان تعدٌّ فيهم من كل قبيلة من القبائل، يذكرون لكم أنه في تريم وحواليها اجتمع نحو أربعمائة قبيلة، أصغر قبيلة آل با حاتم، فيهم أربعون مُفتي، أربعون فقط لأنهم أصغر قبيلة! أصغر قبيلة فيهم أربعون مُفتي، والبقية فيهم مُفتون كثير ، أين هذه العلوم والنهضة العجيبة التي مرَّت في تلك القرون؟

صفُّ الجمعة من الطرف إلى الطرف مُفتون كلهم، كلهم بلغوا درجة الإفتاء، من طرف الصف إلى طرف الصف! الآن من رأى جُمَعنا والصفوف الأولى فينا تبكي عليهم، وتدمع على ما فات وعلى ما مضى من أهل تلك المراتب.

حرص السلف على السِّواك

قال الحبيب علوي: حتى سُنَّة السِّواك أحصِّل كثير مُهملين لها في جمعة ووقت صلاة، قال أحصّله ما عنده سِواك، وحبيب الرحمن يقول له: "ركعتان بسِواك خيرٌ من سبعين ركعة بغير سِواك"، ويتساهل بالسبعين الركعة! وليس يدري ثوابها كم؟، ولو هي سبعين ريال ما بيفوِّتها وبيظلِّي يفكِّر فيها، وهذه سبعين ركعة بمجرد السِّواك الذي يستاك به! هديَّة المؤمن سِواك، إلى غير ذلك.

 يتعجَّب الشيخ سلمان باغوث عليه رحمة الله، وكان مع الحبيب علي بن عبد الرحمن المشهور، وعدِّينا في طريقهم إلى هود، وقال: أدركنا السيل في بعض الأماكن، وأجري أنا وإياه بدابته خوفاً أن يلحقنا السيل من المسيال طالعين، قال يقول: يا سلمان، السِّواك! السِّواك سقط! ، قلت له: يا حبيب علي، ما نحن حول سِواك الآن ننجو من الموت! قال: ولكن فكره معلَّق بالسِّواك.

قال مرَّة بعض الليالي وفي طريقه في قسم وفرحوا به هناك، آل بن إبراهيم، وقدَّموا ورتَّبوا العشاء، وبعد المغرب دخل في سُطْحَة عندهم يركع، بعد ما كملوا ترتيب العشاء قالوا له: عشاء يا حبيب، قال: إن كان ما بيقع في خواطركم، أنا الليلة بغيت عشاي ركوع، قالوا له: نحن صلَّحنا هذا من أجلك، ولكن ما نُكلِّف عليك، هذا حظ العيال والجيران بنعطيهم إياه وتوَّك في وركوعك، قعد يركع في محلِّه وصلى بهم العشاء ورجع إلى نومه وقيامه في الليل، وتعشَّاء بالركوع! عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

قصة الحبيب عبد الرحمن المشهور وابنه علي

يذكر الحبيب محمد عن والده الحبيب علوي يقول: طلع الحبيب عبد الرحمن المشهور مرَّة إلى ٠عند بعض المشايخ في الخليف، ويقول للحبيب علوي : اخرج إلى عند ولدي علي، قل له يعطيك كذا كذا من البيت الذي قد بناه هناك عند مسجد مقالد، قال: خرجت، حصَّلت عمِّي علي ساجد، كأنه ثوب مُلقى على الأرض ولا له حركة، قال :  بقيت مدة منتظر وخائف من عمِّي عبد الرحمن يقول لي بطيت، رجعت إلى عنده، قلت له: يا عم عبد الرحمن، شوف ولدك علي ساجد ولا تحرَّك، وأنا قيم من قُبيل منتظره، قال: الحين ارجع إلى عنده، حرِّك رِجله سيحِسَّك ويُكمِل صلاته ،قال: خرجت، قال : أنا دخلت من المربَّعة وهو رفع رأسه من السَّلْقَة هذه التي كان ساجداً عليها قال: شطيت، وإذا السَّلْقَة كلها مُبَلَّلة من الدموع التي كانت تخرج منه.

بكَّاء ليلتهِ سَجَّادُ خَلوتهِ

ذكر مجالس السابقين

هكذا كانوا يقولون، ممَّن عهدناهم وسمعنا مذاكرتهم في مثل هذا المولد: الحبيب محمد بن علوي بن شهاب عليه رحمة الله تبارك وتعالى، الحبيب أبي بكر بن علي بلفقيه عليهم رحمة الله، والحبيب عبد الله بن محمد بن شهاب، والحبيب سالم بن عبد الله الشاطري، والحبيب علي المشهور بن محمد بن سالم بن حفيظ، وكلهم كان لهم نصيبٌ من الليل، وكان لهم نصيبٌ من النهار، وأعطَوا الليل والنهار حقَّه.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) تَذَكَّروا وشَكروا، وعسى مِن بعدهم نتذكَّر ونشكر الإله جلَّ جلاله، الذي يجعلنا في خير أمَّة، ونعرف قدر هذه المنازل والزوايا وهذه الموالد هي متَّصلة بالدروس العلمية.

مولد الزاوية ومولد الرباط دروس علمية، مولد قُبَّة الحبيب عبد الله العيدروس، كنا فيها أمس، دروس علمية تُعقَد في كل أسبوع مرَّة أو مرَّتين، ثم في شهر  ربيع الأول يجعلون الاجتماع ذِكر مولد الحبيب صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، الذي هداهم إلى هذه العلوم كلها، وانبثقت منه صلوات ربي وسلامه عليه.

أعاد الله علينا وعليكم عوائد الاتِّصال بأولئك الرجال، والحمد لله على بقاء هذا الخير وبقاء مثل هذه الزاوية، التي كان يقول: زاوية الشيخ علي بن أبي بكر السكران، وزاوية الشيخ سالم با فضل، ما دامت عادها تُفتَح ويُقرأ فيها العلم، فالناس على خير في البلد، مدفوع عنهم شرٌّ كثير، وحاصل لهم خير كبير.

أُسُس الطريق الخمسة

والله يحفظ زوايانا كلها ومساجدنا ومعابدنا، التي ملأوها بالعلوم والأعمال والصدق مع الكبير المتعال جلَّ جلاله.

على أُسُسٍ خمسة: علم، وعمل، وإخلاص، وورع، وخوف من الله عز وجل، "مِن خوف مالِكه يستعذبُ التَّعَبا"، وحملهم هذا الخوف على الورع في الصغير والكبير والقليل والكثير.

قصة للورع في القضاء

وهكذا يتولَّى القضاء بعض المشايخ في البلدة، ويجيء في ليلة من الليالي وما عندهم شيء عشاء في البيت، ولكن قالوا له: اليوم الا جاءت السَّهالة والبركة، ماذا معكم؟  قالوا: فلان جاب لنا هذا اللحم من رأس، قال لهم: هذا الآن يجيء لكم، بَدَى اهدى لنا شيء من أول أو عرفنا منه شيء؟ ماذا معه هذا؟ هاتوا حقه القِدر، فأخذ القِدر وحمله بنفسه الشيخ في الليل ويدق عليه، قال: له شوف هذا اللي جبته لنا، خُذه لك، مسامح في الماء والملح اللي من عندنا خذه لك، قال: يا شيخ لا لا، بعد أيام دخل إلى القضاء عنده، معه قضية،  قال له: هل أهديتَ لي شيء من أول؟ خلَّى عياله يبيتون بلا عشاء! ما رضي، وهم لهم مُدَّة طويلة من اللحم.

الزهد في الطعام

وكان إلى وقت قريب، عَهْد الوالد عليه رحمة الله، وهو بنفسه وجماعات قال: نطعم اللحم من العيد إلى العيد، من العيد إلى العيد!، قاعدين على اللَّخم هذا، وإن شيء بغزيز وشيء حَنِيد وإن شيء وُزِيف، واكتفوا بذلك، ومضت حياتهم ولا نقصت صحَّتهم ولا نقصت خيراتهم ولا بهم شيء.

أغرونا بأشياء علَّقونا بها، وكماليات ورَدُّوها ضروريات، وأخذت فكرنا وفقدنا حضورنا مع الله، وفقدنا ارتقاءنا في مراتب القُرب "وما أحد يستبدل بابه جِنِّي" كما يقول العوام عندنا، (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

ورجوعنا إلى هذا العلم وإلى هذه السِّيَر خيرٌ  وأولى لنا وأرفق وأوفق بنا، الله يُحيي ما مات ويردُّ ما فات.

الدعاء

كنا نعهد في التدريس الشيخ أحمد بن أبي بكر بافضل عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وتولَّى الشيخ فضل بن عبد الرحمن با فضل عليهم رحمة الله، وفيهم قلوبٌ تخشع وتخشى الله سبحانه وتعالى وتتَّقيه وتتورَّع عمَّا لا يحلّ، وملآنة بمحبة الله ومحبة رسوله وأهل بيته والصحابة والصالحين، وعلى تواضع وإنابة وخشية، عليهم رحمة الله تبارك وتعالى، وخلفهم من خلفهم.

وبارك الله في الشيخ محمد بن علي الخطيب والقائمين معه و المترددين لهذه الزاوية والقُرَّاء فيها، وحفظ علينا نور العلم وسِرّ العلم وبركة العلم، وأحياه في أهلينا وأولادنا، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.

وأيقَظ قلوبنا من كل غفلة وسِنَة، يا رب لا خرجنا من الزاوية هذه ولا انقضى المجلس وبالحاضرين في الزاوية وخارجها إلا وقد نوَّرتَ القلوب، وطهَّرتها عن الشوائب، وسقيتنا من خير مشروب، وثبَّتنا على خير الدروب، وألحقتنا بخير الحزوب.

لا تحرمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا، وضاعف الخيرات لنا، وتولَّنا في الحِسّ والمعنى برحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

25 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

17 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية