(535)
(373)
(606)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مجلس الذكر والتذكير في مسجد باعلوي، في سنغافورة، ليلة الجمعة 25 ربيع الثاني 1447هـ
الحمدُ للهِ على ساعاتِ التنويرِ والتطهيرِ والتقريب، وتلقّي فائضاتِ الجودِ الرّحيب، مِنَ السميعِ القريب، نَشهدُ أنْه الله الذي لا إلهَ إلا هوَ وحدَهُ لا شريكَ له، بيدِهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يَرجعُ الأمرُ كلُّه، منهُ المبتدأ وإليهِ المرجعُ والمآب.
ونَشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، المخصوصُ بأشرفِ خِطاب، الهادي إلى الحقِّ والصواب، خاتمُ النبيينَ وسيدُ المرسلين، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ وكرَّم عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، وعلى تابعيهِم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وعلى ملائكةِ اللهِ المقرَّبين، وعلى آبائِهِ وإخوانِهِ مِنَ الأنبياءِ والمرسلين، وآلِهِم وصحبِهِم والتابعين، وعلى جميعِ عِبادِ اللهِ الصالحين، وعلى صاحبِ الذكرى حبيبِنا محمد بن سالم بن أحمد العطاس وأصولِهِ وفروعِهِم، وعلينا وعلى جميعِ الحاضرينَ والحاضراتِ معهُم وفيهِم، إنَّهُ أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الراحمين.
ولقد قالَ مَوْلانَا جلَّ جلالُه: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)، وقالَ لنا: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
ولقد خَلَقَ سبحانَهُ وتعالى النورَ والظُّلمةَ، وجادَ برحمتِهِ على مَنْ شاءَ فنوَّرَهُ، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ). وبفضلِهِ سبحانَهُ وتعالى اختصَّ بالنورِ العظيمِ ساداتَنَا الملائكةَ والنبيينَ والمرسلين، وأفاضَهُ بواسطتهم على مَنْ سبقتْ لهُ السعادةُ مِنَ الإنسِ والجنِّ أجمعين.
فنوَّرَ اللهُ مَنْ شاءَ فهداهُ إلى الإيمانِ بهِ وتوحيدِه، وامتثالِ أمرِهِ واجتنابِ نواهِيه، والإخلاصِ لوجهِهِ الكريم. وقال: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
ثمَّ خَتَمَ اللهُ النبوةَ والرسالةَ بالنورِ المبين، بنبيٍّ سمَّاهُ نورًا وسراجًا منيرًا، وخاطبَهُ بقولِه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا).
وأنزلَ عليهِ كتابًا وسمَّاهُ نورًا، قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا).
(أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ). زادَنَا اللهُ مِنْ هذا النور، الذي مِنْ أكبرِ مقاصدِ هذهِ المجامعِ أنْ تتنوَّرَ بواطِنُنَا مِنْ هذا النور.
وفي سيدِنَا عمرَ بنِ الخطابِ وحمزةَ بنِ عبدِ المطلبِ حينَ أسلَمَا نزلَ قولُهُ تعالى: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا). فكانَ مِنْ أئمةِ هذهِ الأمةِ الذين يُهتدَى بهديِهِم.
وخصَّ اللهُ السابقينَ الأولينَ مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ بالنصيبِ الأوفَى مِنْ هذا النور، فأثنَى عليهِم في قُرآنِهِ وأثنَى عليهِم رسولُهُ المصطفى محمد وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ). وقالَ جلَّ جلالُهُ وتعالى في عُلاه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ).
وما سمعتُموهُ مِنْ مناقب وأحوالٍ وخيراتِ الإمامِ محمد بن سالم بن أحمد بن حسن العطاس، فذلكَ مِنَ النورِ الذي تسلسلَ وما تلقَّاهُ عن أبيه، وعن جدِّهِ الإمامِ العارفِ العلامةِ أحمد بن حسن العطاس، وما كانَ بينَهُ وبينَ أقرانِهِ وأعوانِهِ ممَّنْ سمعتُم ذكرَهُم، كالحبيبِ علوي بن طاهر الحداد، والشيخِ عمر بن عبد الله الخطيب عليهِ رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالى، ومَنْ سمعتُم ذكرَهُم، وما كانتْ مِنْ صِلةٍ بينَهُ وبينَ الوالدِ محمد بن سالم بن حفيظ ومَنْ في دهرِهِم ذاكَ مِنَ العلماءِ الذاكرينَ العارفينَ الحاملينَ همَّ الأمانةِ في نفعِ العبادِ والبلاد.
وفاضتِ المودةُ والمحبةُ مِنْ قلوبِهِم إلى مَنْ حواليهِم في أدبِهِم مع اللهِ وعبوديتِهِم له، وحبَّبَهُمُ اللهُ إلى عبادِهِ ليتلقَّى مَنْ يتلقَّى ويترقَّى بواسطتِهِم مَنْ يترقَّى.
فإنَّ مِنْ شأنِ النورِ إذا دَخَلَ القلبَ أنْ يُصفّيَهُ عن أكدارِهِ كلِّها، وفي الحديث: "إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ لهُ الصدرُ وانفسح". قيل: فهل لذلكَ مِنْ علامةٍ يا رسولَ الله؟ قال: "التجافي عن دارِ الغرور، والإنابةُ إلى دارِ الخلود، والاستعدادُ للموتِ قبلَ نزولِه".
فكانَ أحدُ أولئكَ لهُ همٌّ كبيرٌ في نفعِ الخلقِ على العمومِ والمسلمينَ على وجهِ الخصوصِ بكلِّ ما أُوتِيَ مِنْ قوةٍ وكلِّ ما أُوتِيَ مِنْ استطاعة؛ لأنَّهُم أخذوا دينًا وتلقَّوا شريعةً كانَ مِنَ الشعارِ فيهِ، في هذا الدِّينِ وهذهِ الشريعة: "الخلقُ كلُّهُم عِيالُ الله، وأحبُّهُم إلى اللهِ أنفعُهُم لعيالِه". فكانَ لهُم مِنْ طُهرِ السرائرِ وحملِ الرحمةِ للعالَمِينَ النصيبُ الوافي.
فحمى اللهُ تعالى -كما سمعتُم في كلامِ العلماءِ أمامَنَا حبيبِنَا عفيف الجيلاني وحبيبِنَا عمر بن حامد الجيلاني- أنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عمَلًا، بل قال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).
وها أنتُم في أثَرٍ مِنْ تِلكُمُ الآثار، مضتِ السنواتُ الكثيرةُ منذُ وفاتِهِ والآثارُ يتجددُ نفعُها وأثرُها في الأمة؛ تجتمعونَ فتجدونَ نورًا، وتنالونَ نقاءً وتطهيرًا، ويترتَّبُ على ذلِكُم أسرارُ قربٍ مِنَ الإله، لإنَّ القربَ إلى اللهِ ليسَ بمسافةٍ ولا بمكانٍ ولا بمظهرٍ ولا بجسمٍ ولا بصورة، قُربٌ معنويٌّ يُدرِكُ بهِ العبدُ عظمةَ قُربِ اللهِ منه.
أشارَ إليهِ الحقُّ فيما رَوَى عنهُ رسولُهُ ﷺ في صحيحِ الإمامِ البخاري أنَّ اللهَ قال: "ما تقرَّبَ إليَّ المتقرِّبونَ بشيءٍ أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُهُ عليهِم. ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ بعدَ أداءِ الفرائضِ حتى أُحِبَّه"، ثمَّ ذَكَرَ تنزُّلَهُ الكريمَ وعطاءَهُ الجليلَ لِمَنْ أحبَّهُ، وقال: "كنتُ سمعَهُ وكنتُ بصرَهُ..." إلى آخرِ الحديثِ الشريف.
أمَّا قُربُهُ سبحانَهُ وتعالى الذي لا يُماثِلُهُ شيء، فهوَ أقربُ إلى الإنسانِ مِنْ حبلِ الوريدِ كما ذَكَرَ في القرآن، قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). فهوَ المحيطُ بكلِّ فردٍ مِنْ عبادِه، وهوَ الخالقُ لهُم والمطَّلِعُ على شؤونِهِم وأقربُ إلى كلِّ واحدٍ منهُم مِنْ كلِّ شيءٍ مِنَ الخلائق.
ولكن لا يشعُرُ بسرِّ هذا القربِ إلا مَنْ آمنَ وتقرَّب، وصدَقَ وتأدَّب، فينالُهُ على حسبِ صفاءِ باطنِهِ واقتدائِهِ بالنبيِّ محمدٍ نصيب مِنَ القربِ المعنوي.
فإذا حَصَلَ لهُ منهُ النصيبُ الوافي ارتفعَ عن رتبةِ أصحابِ اليمينِ إلى درجةِ المقرَّبين: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).
قالَ اللهُ عن شرابِ الأبرارِ في الجنة: (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ). فيُمزَجُ شرابُ أهلِ الجنةِ مِنْ جميعِ أصحابِ اليمينِ -وهُمْ أكثرُ أهلِ الجنةِ- بمزاجٍ مِنَ التسنيم، أمَّا المقرَّبونَ فيشربونَ مِنَ التسنيمِ مباشرة. (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
وإنَّ الرحمنَ لينظُرُ لنا في مَجمَعِنَا، ويكون الأحظى بالنصيب أوفرنا حظاً من الصدق مع هذا الإله، في العزم الصادق على الإقبال عليه والتقرُّب إليه، وكُلما صدق العبد المؤمن مع ربه نحّى الظلمات، فأدركَ عَظَمة قُرب ربه منه فاستحيا من الله، فعاش على الأدب مع مولاه في سره ونجواه.
فالحمدلله الذي جمعنا ونسأله أن ينفعنا، ويكتب لكل حاضر نصيباً من التنوير والتطهير والقُرب منه، وننصرِف بجوائزه التي وعد بها المجتمعين على الذكر والتذكير، ومنه ما صحَّ في الحديث: "لايقعدُ قومٌ يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مُنادٍ من السماء أن قوموا مغفور لكم، قد بُدِّلَت سيئاتكم حسنات".
(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
واجزِ السيد حسن بن حبيبنا محمد بن سالم العطاس خير الجزاء وأفضله وأكمله، وزده من أسرار هذا النور، وأجرِ على يده الخيور، وضاعف البركة في أهله وأولاده وأحفاده وأسباطه، واشمل الحاضرين بالعطاء الوافر، وصلاح الباطن والظاهر، واغفر لنا يا خير غافر.
واجعل من آثار الجمع صلاحاً لسنغافورة والمسلمين في المشارق والمغارب، ونشراً للخير والمحبّة والمودّة، ورفعاً ودفعاً لكل ظُلمٍ وآفة وعدوان.
اللهمَّ انظُرْ إلينا في مَجمَعِنَا، اللهمَّ انظُرْ إلينا في مَجمَعِنَا، اللهمَّ انظُرْ إلينا في مَجمَعِنَا، فإنَّ لكَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ ثلاثمائةٍ وستينَ نظرة، إذا أصابتِ العبدَ منها نظرةٌ سَعِدَ سعادةً لا يشقَى بعدَها أبدًا.
أسعِدْنَا بأعلَى السعادة، يا عالمَ الغيبِ والشهادة، واجعلْ أهلِينَا في السعداء، واجعلْ أبناءَنا وبناتِنا في السعداء، واجعلْ قراباتِنا وأهلَ دِيارِنا وجيرانِنا في السعداءِ، في هذهِ الدارِ وغدًا، يا مُسعِدَ السعداء، وعزَّتِكَ ما سَعِدُوا إلا بإسعادِك، فأسعِدْنَا بأعلَى السعادةِ يا مُسعِدَ السعداء.
وزِدْنَا مِنْ فضلِكَ ما أنتَ أهلُه، واختِمْ لنا بأكملِ الحُسنَى، واجعلْ آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ مِنَّا مِنْ حياتِهِ الدنيا "لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ الله"، مُتحقِّقينَ بحقائقِها، يا أكرمَ الأكرمينَ ويا أرحمَ الراحمين.
وعفوًا على التطويلِ، والسلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
27 جمادى الأول 1447