كلمة في مجلس توديع طلاب الدورة الصيفية الثانية بالأردن 1447هـ

كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مجلس توديع طلاب الدورة الصيفية الثانية بمعهد الرحمة، عمّان، الأردن، ليلة الأحد 8 ربيع الأول 1447هـ
نص الكلمة:
وصلتم إلى تمام أيام الدورة هذه، وكما سمعتم هي بدايات، إن كانت خاتمة للدورة فهي بدايات لما بعد الدورة، تلكم البدايات أمامكم سلالم ترتقون عليها على حسب هِمَمِكُم ونياتكم ووجهاتكم، في أداء هذه الأمانة الكبيرة الشريفة العظيمة التي شُرِّفتم بها، والتي يقوم بحقها أعظم عند الله من السماوات والأرض والجبال التي أَبَيْنَ أن يحمِلنها وأشفقن منها، ولكن الذي يُضيِّعها يصير أضل من الأنعام والعياذ بالله تبارك وتعالى.
هذا الشرف الذي خصَّكم الله به، رجالكم ونساءكم، ومعكم عدد من النساء حضرن الدورة من أولها، وعدد تردَّدن في مجالسها، وهُنَّ أيضاً في الختام. وبذلك تقوم أيضاً شؤون الخلافة عن الله في الأرض.
انتقال النور النبوي عبر الأجيال
لما أراد الله أن يبتدئ أسرار هذه الخلافة في مظهر الآدميين، أخرج رجلاً وامرأة: آدم وحواء عليهما السلام. أخرجهما الأرض، بها بذرة الخلافة قامت على آدم وحواء، فكانا خلفاء الله تعالى في أرضه (إني جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فهبط آدم ومعه حواء، وهذه أسّ ظهور الخلافة في العالم الأرضي.
وجاء أبناؤهم من بعدهم، والذين قاموا بحق الأمانة رُفع شأنهم، وكان من المختص من بينهم سيدنا شيث عليه السلام.
وقد كان سطوع النور النبوي في جبهة آدم، ولم يزل كذلك حتى نزل إلى الأرض مع أمنا حواء عليها السلام. وتلد ابناً وبنتاً، ابناً وبنتاً، ابناً وبنتاً، والنور في جبهة آدم. فلما حملت بشيث انتقل إلى جبهة حواء، وإذا بالنور يسطع في جبهة حواء عليها السلام حتى ولدت شيثاً، فانتقل إلى جبهة شيث بن آدم.
ولم يزل مُخصص هذا شيث، وتولَّى النبوة بعد والده عليهم السلام وقام بحق الرسالة، ولم يزل النور في جبهته حتى حملت زوجته بالجد للمصطفى، فانتقل النور إلى زوجته ومنه إلى المولود، وهكذا إلى أن وصل إلى جبهة نوح عليه السلام، بعد إدريس، ووصل إلى نوح، ومن نوح هكذا كان الأمر حتى وصل إلى سيدنا إبراهيم الخليل، وإلى أن حملت هاجر بإسماعيل وانتقل إليها النور، ثم أشرق في جبهة إسماعيل. ولم يزل كذلك حتى كان يلوح ظاهر على جبهة عبد المطلب، وعبد المطلب لما حملت زوجته بعبد الله بن عبد المطلب انتقل النور إليها، فلما ولدت أشرق أوضح وأجلى في جبهة عبد الله.
ولم يزل حتى تزوج بآمنة، ولما حملت آمنة بزين الوجود ظهر النور على جبهة آمنة.
"وأنت لما ولدتَ أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفقُ"
وتمت العناية من الله تبارك وتعالى.
أبيات العباس في مدح النبي ﷺ
يقول في هذه القصيدة - سيدنا العباس عمُّه عليه الصلاة والسلام - :
"من قبلها - أي قبل هذه الأرض ومجيئك إليها - طبت في الظلال وفي مستودع حيث يُخصف الورقُ" - في الجنة، إلى أن عصى آدم وأخذ شجر الجنة يخصف عليه من ورق الجنة، قال سبحانه وتعالى: (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) حيث يُخصف الورقُ.
"ثم هبطتَ البلاد لا بشر أنت ولا مُضغة ولا علقُ"
"بل نطفة تركب السفين" - سفينة نوح - "وقد ألجم نسراً - الصنم - وأهله الغرقُ"
"وردت نار الخليل مكتتماً في صُلبه أنت كيف يحترقُ؟" - أنت في صُلبه، كيف تمسُّه النار؟
يقول له: "تُنقّل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبقُ"
" حتى احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء دونها النُّطُقُ"
"وأنت لما وُلدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأُفُق"
ثم يقول، وهذا في أواخر عمره ﷺ بعد رجوعه من غزوة تبوك، يقول له وهو راجع من الشام من تبوك إلى المدينة المنورة: "فنحن في ذلك الضياء وذلك النور" ربط الرسالة والشريعة والدين وما جاء به ﷺ بالنور الذي ظهر في يوم المولد!
" فنحن في ذلك الضياء وذلك النور وسُبُل الرشاد نخترق"
صدقت يا عباس! ونحن إلى اليوم في ذلك الضياء وفي ذلك النور وسُبُل الرشاد نخترقُ.
حمل الأمانة وأداء الخلافة
فلله الحمد على هذه المِنَن، ووصول هذا النور إليكم، وذلك بتقدير العزيز العليم جلَّ جلاله. والمجمع ومن حضر من الرجال ومن النساء قد خطَّت الأقلام أسماءهم في اللوح المحفوظ، وقد كانوا في أم الكتاب وفي العلم الأزلي، في علم الله تعالى عيَّنهم بأسمائهم وأوقاتهم، ولا أحد يزيد ولا أحد ينقص، هم كما هم، وما رتَّب ذلك إلا لسر، وما رتَّب ذلك إلا لحكمة منه جلَّ جلاله.
ووصول هذه الأنوار إلينا في هذه الأزمان، وما قدَّر لنا من الأعمار نعيش فيها على ظهر الأرض، وسيلتنا للتهيُّؤ للارتقاء وللمرافقة الكريم، والله يبارك لنا ولكم في هذه الوجهات العظيمة.
ونحمل هذه الأمانة ونؤديها على وجهها، ويقوم بأسرار الخلافة برجالنا ونسائنا. لا نُصغي إلى الأراجيف أو القواطع التي تقطعنا عن الله وعن رسوله ﷺ، ولا نطلب شيئاً من كرامة أو من شرف باستحسان ما ليس حسناً عند الله وعند رسوله، في ألبستنا وفي أطعمتنا وفي معاملاتنا الظاهرة والباطنة، فالخير كله فيما بُعث به خاتم الرسل صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
الخير فيما جاء به نبي الخير
وهكذا وكان مما وردنا في الحديث فيما يتعلق بشأن الرجال والنساء، أنه جاء في رواية ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه: "إني كنت عند رسول الله، يقول لفاطمة أنه سألنا: أي شيء خير للمرأة؟ فما أجاب أحدنا.. قالت في رواية استأذن لي على أبي أُجيبه، وجاءت إلى عند الحبيب، قالت: "يا رسول الله، أخبرني عليٌّ أنك سألتهم: أي شيء خير للمرأة؟" فقال: "نعم". قالت: "أُجيبك يا رسول الله؟" فقال: "أجيبي". قالت: "خير للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل" - لا ترى رجل أجنبي ولا يراها رجل.
فقام وقبَّلها ﷺ على جبهتها وضمَّها إليه وقال: "بأبي ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ".
العقليات هنا يجب أن تنصبغ بصبغة هذا النور، وإذا جاء من يُحسِّن لنا من التبرُّجات أو شيء من الموضات أو شيء من هكذا، نقول: الخير في ما جاء به نبي الخير، وإليه المرجع، وما أحد في الخلائق يُخاطب قوله في القيامة مِن حاكم القيامة: "قُل يُسمع لقولك"، قُل يُسمع لقولك، ما أحد يُخاطَب قبله بهذا الكلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقوله المسموع وقوله الأحق، ونزَّه الحق قوله، فقال له سبحانه وتعالى فيما أنزل عليه، يقول له: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).
تجديد العهد مع الرحمن
فالحمد لله على هذه الخيرات التي وصلت، فوالآن عهدكم عن الرحمن جدِّدوه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ).
وقال سبحانه وتعالى في نفس العهد: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ).
ولما خاطب الأرواح وقد أخرجها من ظهر آدم في نعمان الأراك، الوادي الميمون بجوار عرفة من جهة الطائف، لما خاطبها تكرَّم عليها وسمعت هذا النداء.
كان يقول شيخنا أحمد مشهور الحداد: ترون إذا تُليت علينا أشعار الصالحين وكلامهم ترونا نطرب، ليش نطرب؟ قال: والله ما تطرب أرواحنا إلا أنها تتذكر النداء، يوم خاطبنا: ألست بربكم؟ وأسمعنا، فإذا سمعنا الكلام الطيب بهذه الأوزان، تذكَّرت أرواحنا وطربت بسماعها في ذاك اليوم نداء الحي القيوم جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
قال: هذا سر طربنا، ليش نطرب له وليش نتحرك منه؟ قال: أرواحنا تهتز لما تتذكر سر خطاب الحق لها: ألست بربكم؟
فكان تجلٍّ عظيم، فلم يستطيعوا الجواب، فتكلَّم سيد الأحباب، قال: "بلى"، وقالوا: "بلى"، وسجد وسجدوا من ورائه. فهو الإمام ﷺ في الإجابة، وهو الإمام في السجود، وهو الإمام على الإطلاق، صلوات ربي وسلامه عليه.
وأرسل الله الرسل نيابة عنه من قبل، ثم اختار في الأمة نُوَّاباً عنه من بعد، ولهذا قال: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، هؤلاء من قبله نابوا عنه، وهؤلاء من بعده نابوا عنه، فتشابهوا.
الإمام الغزالي
وكان الأمر كما سمعتم رُؤيا سيدنا أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، قال: "رأيت أني دخلت المسجد الحرام، فوجدت أنبياء الله مجتمعين، ورسول الله ﷺ بينهم على تخت وهم من حواليه، وكان قريباً منه سيدنا موسى وسيدنا عيسى"، قال: فسمعت سيدنا موسى يقول لرسول الله: "يا رسول الله، قلت في حديثك: علماء أمتك كأنبياء بني إسرائيل؟"قال: "نعم"، قال: "تُرينا واحد من علماء أمتك ليُشبه الأنبياء فينا"، قال: فالتفت ﷺ: "أين أبو حامد الغزالي؟" قال: "فرأيتهم أقبلوا بالإمام الغزالي وجاء، ودخل إلى عندهم"، قال له ﷺ هذا، قال: فالتفت إليه سيدنا موسى يقول: "ما اسمك يا إمام؟" قال: "اسمي محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي"، وأراد يختبره، قال له: يا إمام، أنا سألتك عن اسمك، جئت لي باسم أبيك وجدك وأمك وو.. أنا ما سألتك عن هذا كله، هل هذا من الأدب؟
قال: فالتفت الغزالي إلى الحبيب العظيم، قال: "يا رسول الله، أأتأدَّب مع كليم الله أو أجيبه؟" قال: "بل أجبه". قال: "يا كليم الله، أنت لما سألك ربك: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ)، قلت: (هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ). هو ما سألك إلا: ما تلك بيمينك؟ تقول: هي عصاي، فقط.. تعجَّب سيدنا موسى، قال: عجباً يا محمد! العلماء في أمتك كالأنبياء فينا!
الجواب صاحب ذوق وعلم هذا كأنه نبي من الأنبياء، لأنه أدرك أن سيدنا موسى عليه السلام استطاب لذَّة الخطاب مع الرب، فطوَّل في الجواب، يقول: "أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى"، فأطال الخطاب، يقول وأنا أُطيل معكم الخطاب كما أطلتم الخطاب مع رب الأرباب، لأنكم مظهر هذا التجلي.
فقال له: "صدقت يا محمد، العلماء في أمتك يشبهون الأنبياء فينا".
وما كان شأن الإمام الغزالي إلا هذه التربية وهذه التزكية، علم وتزكية ودعوة إلى الله سبحانه وتعالى عز وجل، قام بها فكان مُجدِّداً لدين الله في زمانه، كما جدَّد من قبله وهكذا.
الورود على الحوض المورود
والحمد لله على وصول الخير إلينا وإليكم، وإن شاء الله رجالنا ونساؤنا يجتمعون على الحوض المورود، والحبيب يسقي، وسيدنا علي يسقي، وفاطمة الزهراء تسقي النساء، وبناته وأمهات المؤمنين هم أصحاب الحوض، حوض جدهم ﷺ، حوض أبيهم المباشر صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وإن شاء الله نرد على الحوض المورود ونُسقى منه. وهو إلا عجائب الورود هناك تتقدَّم على الروح في الحياة الدنيا، تحس بورود على حوضه وأنت في الحياة الدنيا، وحوضه هذا تركته التي خلَّفها، وأخلاقه وشمائله وصفاته وعلمه؛ هذا حوضه الكريم، وكل ما طاب لك الورود هنا يطيب لك الورود هناك إن شاء الله، والعجيب الحوض هناك من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
وصية النبي للصادقين في نصرته
وفي قوة الصِّلَة به قال وهو على منبره الشريف: "وإني لأنظر إليه الآن". وقال لسادتنا الأنصار الأوائل: "اصبروا إذا رأيتم أُثرَة تلقونها من بعدي" - ما تدور حولكم المناصب والمظاهر والإمارات، ما تجيء عندكم - "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإني منتظركم" قال أنا منتظركم على الحوض هناك.
واعلموا أنّ هذا الانتظار نفسه ينتظر به الصادق منَّا في زمننا وعند وروده، ما ينتظر الأنصار وحدهم الذين في حياته، ينتظر الصادقين في نصرته في كل زمان على الحوض نفسه، وإن شاء الله يُوردنا موردهم ويسقينا بكفِّه الشريف شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
دعاء
يا حي يا قيوم، أحسن عرض جمعنا هذا على حبيبك محمد، واجعل له سروراً لقلبه من أسرِّ ما يُسَرُّ به في أعمال أمته، وفيما يُعرض عليه من شؤون أمته، ويبيت الليلة وهو راضٍ عنَّا وأنت راضٍ عنه.
تسري السراية لأحبابنا كلهم هؤلاء، جميع الذين حضروا الدورة والذين حضروا معنا الآن، اكسُهم بكسوة جمالية جلالية ربانية رحمانية، وخِلعة محمدية أحمدية، ينالون بها غايات المزيَّة في شؤونهم الظاهرة والخفية، يا حي يا قيوم.
وردنا ببابك، ولذنا بأعتابك، وتوسَّلنا بسيد أحبابك، فانظر إلى ساحات هذه القلوب، وأشرق فيها نور المعرفة، وارزقنا الصدق في الإقبال عليك، ولا تباعد بيننا في يوم اللقاء، ولا تباعد بيننا على الحوض المورود، ولا تحت لواء الحمد، يا حي يا قيوم، وفي جنات الخلود.
فيا رب واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ
فضلاً وإحساناً ومنَّا منك يا ** ذا الجود والفضل الأتم الأوسعِ
يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
14 ربيع الأول 1447