كلمة في زيارة المشهد السنوية مع ذكرى المولد النبوي 1447هـ
كلمة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في زيارة المشهد السنوية مع ذكرى المولد النبوي الشريف، في مشهد الحبيب علي بن حسن العطاس، الهجرين، وادي حضرموت.
ضحى الجمعة 13 ربيع الأول 1447هـ
نص الكلمة مكتوب:
الحمد لله، وفي خير يومٍ طلعت عليه الشمس وهو يوم الجمعة تمَّ اجتماعكم في هذا العام، في وجهة إلى ذي الجلال والإكرام، وفي تلبيةٍ للنداء الربّاني الرحماني الذي تكرَّم به ربُّ السماوات والأرض علينا على لسان عبده المصطفى المختار محمد صلوات ربي وسلامه عليه، والذي خُصِّصنا به وجُعِلنا خير أمَّة.
فضل النبي ﷺ ورسالته
وأحسن البلاغ عن الرحمن جلَّ جلاله، وكشف الغُمّة وجلَى الظُّلمة، وبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، وتركنا على محجَّةٍ بيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فبقيت الخيرات على ممرِّ الأوقات في هذه الأمة متَّصلةً بسلاسل وأسانيد الثِّقات الأثبات.
لا يزيغ عنها إلا هالك من الذين اتَّبعوا الأهواء والشهوات، وغلبتهم نفوسهم ليخرجوا عن حقائق العبودية للرحمن، التي ليس لها من تفسيرٍ غير التبعيَّة لسيد الأكوان. "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به".
وبالخروج عن حقيقة العبودية لله يتسلَّط عدوُّ الله، وتسمعون بعد ذلك كيف يُستعبَد الإنسان للهوى والشهوات، ويُستعبَد لهوى غيره، ويُستعبَد لأطروحات آل الشرق والغرب، بما يوجب للعامل به كلَّ كرب، في الدنيا وفي يومٍ تقوم فيه الساعة.
وهو يوم الجمعة الذي تُصغي فيه آذان الأنعام كلّها هيبةً من أن تقوم الساعة، حتى يأتي وقتها الذي وقَّتها الله سبحانه وتعالى به (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً).
ذكرى المولد النبوي الشريف
وقد مضت على ولادة نبيّكم صلى الله عليه وسلم ألف وخمسمائة من الأعوام، كَمُلت في هذا العام، مِن ولادته إلى عامنا هذا، إلى اليوم الماضي، كملت له ألف وخمسمائة سنة ﷺ.
ونور المولد يتَّقِد في قلوب أهل الإقبال من أهل السعادة في شرق الأرض وغربها، وفَّر الله حظَّنا من هذا النور، وجعل الكُلَّ منّا به مغموراً ومعموراً، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وفيه قال له عمّه العباس:
وأنت لمّا وُلِدتَ أشرقت الأرض ** وضاءت بنورك الأُفُقُ
يقول له هذا بعد مضيّ إحدى وستين عاماً على مولده ﷺ، يقول:
وأنت لمّا وُلِدتَ أشرقت الأرض ** وضاءت بنورك الأُفُقُ
فنحن في ذلك الضياء وذلك النور ** وسُبُل الرشاد نخترقُ
قال ﷺ لعمّه: "لا يَفضُض الله فاك"، فما سقطت له سنٌّ إلى آخر عمره بعد الثمانين من العمر، عليه سلام الله ورحمته ورضوانه.
الاجتماع على التواصي بالحق
أيها المؤمنون بالله جلَّ جلاله، المجتمعون في حفل الإيمان والتأثُّر بالقرآن وتوجيه سيد الأكوان، على وجه الاقتداء والاهتداء والاستناد بأقوى الإسناد، إلى خير العباد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
جمعتكم أقدار الرحمن لهذا الإصغاء أو بهذا النداء منه سبحانه وتعالى، لنتواصى بالحق والصبر، ولنتذكَّر أئمتنا الذين هم الهُداة إلى الحق والهدى، أهل الصدق الذين أُمِرنا أن نكون معهم، خيار الأمة قرناً بعد قرن، حتى بدا هذا العَلَم من أعلام الهداية إلى الله على يد رسول الله محمد بن عبد الله ﷺ، في الوقت الذي وُقِّت ليقوم به سيدنا الإمام علي بن حسن بن عبد الله بن الحسين بن عمر بن عبد الرحمن العطّاس، أعلى الله درجاته وجمعنا به في أعلى جنّاته.
المسلك النبوي في اتباع الحق
وكان كلّ الذي ذُكِر وما نذكره من الأئمة هو الذي سطَّره لنا القرآن ودعانا إليه سيد الأكوان، وقديماً قال سيدنا يوسف عليه السلام: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي.. ).
ومهما كان الآباء أهل نورٍ وخير وأهل اتّباع، فالشرف في اتّباعهم، ومهما كان الآباء أهل كفرٍ وفسوق فالشرّ في اتّباعهم، لكن هذا المسلك النبوي: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ).
أقام المنهج على أمرين: (تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وهم القوم الذين في زماننا يدعوننا إلى التفرُّق والتمزُّق، وأن يضرب بعضنا بعضاً، وأن يؤذي بعضنا بعضاً، وأن يحمل بعضنا على بعض، وأن نمشي وراء ما سمعتم من الجوّالات والتبرُّجات والمناظر الخبيثات والأفكار الساقطات، وأن نمشي وراء الخمور ووراء المخدّرات ووراء المُلهيات! هذه دعوة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهذه ملَّتهم التي يدعون إليها والعياذ بالله تعالى، يجب أن نتركها.
آثار وادي حضرموت
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي)، ولكم في الوادي الميمون من يوم ظهور نور الإسلام فيه آباءٌ أصغت قلوبهم واستمعت عقولهم، فاجتمعت وجهة القلوب والعقول إلى الإيمان بالله واتّباع سيدنا الرسول، وكانت لهم قِيَم ولهم شِيَم من عهد الصحابة الكرام ومَن تبعهم بإحسان.
إلى أن جعل الله في أول القرن الرابع الهجري مجيء العِترة الطاهرة معزِّزةً لمن في الوادي من أبناء الصحابة ومن حمل النور في أيام المظلل بالسحابة صلى الله عليه وسلم، من الآباء والأجداد، فتمَّ النور على الواد والبلاد، بهمَّة المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى بن محمد بن علي العريضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وله أسانيد عمَّن في عصره من الأجاويد، ونسبه سندٌ فوق ذلك!
أبٌ يتلقّى عن أبيه وهكذا ** فيا لك من آباء كرام وأجدادِ
مسلسلة عنهم أسانيد أخذهم ** إلى خير محمود وأشرف حمّادِ
دعوات الضلال والانحراف وآثارها
وقامت مظاهر الاستجابة لنداء الله ورسوله، والترك لدعوات الكفّار والأشرار وكلّ من دخل في مضامرهم، وكلّ من دخل في دوائرهم من الأنفُس الأمّارة والأهوية وأرباب الشذوذ والخروج عن الفطرة والخروج عن الحق والهدى، رفضوا أفكارهم ورفضوا أخلاقهم، ورفضوا كلّ ما طرحوا مناقضاً لما أوحى الله إلى رسوله المصطفى ﷺ.
وهذا الرفض الذي نحتاجه الآن، دعوات الكفّار لعبت على أفكارٍ لنا وعقولٍ لنا، رجالٍ ونساءٍ وصغارٍ وكبار، وضربوا بعضنا ببعض، ووجدوا فينا من يستجيب لذلك، وآذوا بعضنا ببعض، وحرَّضوا الفتنة على بعضنا البعض، حتى قاتل بعضنا بعضاً.
وحتى انتُهِبت الثروات الحِسّية والمعنوية، انتُهِبت ثروات الإيمان وثروات الصدق مع الرحمن، وثروات الشِّيَم والقِيَم وما به يُدرَك المرتبة العظمى لدى الإله الأكرم، وانتُهِبت ثروات الأرض من غازها ومن بترولها ومن ذهبها ومن معادنها ومن جواهرها، انتُهِبت وذهبت إلى أيدي الفَجَرة والكُفر، فصار أسعد الناس بها ألأم الناس على ظهر الأرض، وعامّة ما عندهم يُسرَق من بلاد المسلمين ومن تحت أرجل المسلمين.
واستجابت لدعوتهم كثيرٌ من قلوبٍ وعقولٍ الذين انقطعوا عن نور الصدق مع الخلّاق عالِم السرّ والنجوى جلَّ جلاله.
مهمتنا الكبيرة في التعاون
أيها العباد، وبعد هذا الاهتمام الذي نسأل الله أن يُعظِم به الانتفاع ويعمّ الخير جميع البقاع، يجب أن ندرك مهمّتنا الكبيرة في تعاوننا على مرضاة ربّنا وما يُصلِح بلادنا، وأن نستثمر جميع ما أُوتينا من قوىً عقليةٍ وعلميةٍ وجسدية، لكبارنا وصغارنا وشبابنا وناشئتنا، لما يُصلِح بلادنا ظاهراً وباطناً، ويحفظ علينا ثرواتنا الظاهرة والباطنة، متكاتفين متعاونين متآخين.
ذلك ما دعانا إليه الله على لسان رسوله، ودعانا إليه الصالحون، ومقابل ذلكم دعوات الكفّار: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ).
الدعاء
اللهم انظر إلينا في جمعنا هذا، وإذا جمعتَ العباد ودعوتَ كلاًّ بإمامه، اجعل أئمّتنا محمداً وآله وأصحابه وورثته وخلفاءه، من الذين لم تُسلِّط عليهم هوىً ولا شهوة، ولا إرادة سلطة، ولا تبعيّة لشرقيٍّ ولا غربيٍّ فاجرٍ وكافرٍ ومارد. اجعل هوانا تبعاً لما جاء به حبيبك محمد، واجعل أئمّتنا ممّن ترتضيهم من أهل الصدق والإخلاص والتقوى، يا عالم السرّ والنجوى، يا أكرم الأكرمين.
اللهم إذا حشرتَ العباد فسُقتَ أهل الجنة إلى جنّتك زُمَراً، اجعلنا في خيار تلك الزُّمَر، وإذا سِيق الذين كفروا إلى جهنّم زُمَراً، لا تجعل فيهم أحداً منّا ولا من أهلنا ولا من أولادنا ولا من صغارنا ولا من كبارنا، يا حيّ يا قيّوم.
ارحمنا في جمعنا رحمةً تجمعنا بها في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلّك، وعلى حوض نبيّك المورود، واسقنا يا ربّ من الحوض المعنوي، اسقِ قلوبنا هذه في مجمعنا هذا سُقيا المحبّة والإقبال الصادق واليقين التامّ والمعرفة بك يا ذا الجلال والإكرام، واسقنا يوم القيامة من حوضه المورود شربةً لا نظمأ بعدها أبداً، يا برّ يا ودود.
لا تجعل أحداً في المجمع ولا مَن له يتابع ويسمع إلا نظرتَ إليه؛ نظرةً من عندك تُثبِته بها في أهل ودّك، وتأخذ اللهم بأيدي القائمين على هذه الخيرات في وادينا، وتُحرِّك قلوبنا ومناصبنا وعلماءنا ومقادمتنا وذوي الرأي فينا إلى ما هو أطيَب وأرغب وأحبّ إليك وإلى رسولك وأنفع للعباد والبلاد.
يا جامع القلوب اجمع قلوبنا عليك، وارزقنا صدق التوجّه إليك. لا تصرف أحداً من المجمع إلا وقلبه عليك مُجتمع، وأذنه لما أوحيتَ مستمع، ولهدي نبيّك مقتدٍ ومتّبع.
اللهم واستجب دعواتنا، وعجِّل بقضاء حاجاتنا، وعجِّل بتفريج كروب الأمة، وارفع الظُّلمة عن أهل غزّة وأهل الضفّة وأكناف بيت المقدس، وعن أهل الشام واليمن والشرق والغرب، يا كاشف كلّ كرب.
تُب علينا وعلى الحاضرين توبةً نصوحاً، توبة صدقٍ تجعلها مفتاحاً للفرج للأمة أجمع، والتعاون على ما يرضيك عنّا في الحسّ والمعنى، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله ربّ العالمين.
13 ربيع الأول 1447