كلمة في ذكرى المولد النبوي بدار المصطفى بتريم 1447هـ

كلمة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في ذكرى المولد النبوي الشريف، في دار المصطفى بتريم، عصر يوم الخميس 12 ربيع الأول 1447هـ

 

نص الكلمة مكتوب:

الحمد لله على التوفيق، والهدايات والصلاح، وما ينشر في هذه الأمة من فلاح ومن نجاح ومن أرباح، ومن عطايا واسعات تليق بجوده وكرمه سبحانه وتعالى على عباده أجمعين، وخصَّ هذه الأمة بالخصوصيات الكبيرة لمكان محمد ﷺ لديه ومنزلته عنده. صلى الله عليه وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله، فلم يزل فيض جوده هطال على القلوب المتوجهة إليه من هذا الباب ومن الاتصال بهذا الجناب.

وعَلِمنا أنه لا يَقبل شهادة أن لا إله إلا هو سبحانه وتعالى إلا بشهادة أن محمداً عبده ورسوله ﷺ، وأنه الصادق فيما بلّغَ عن الإله الخالق، فهو خاتم النبيين وسيد المرسلين، والمبعوث رحمة للعالمين، صلوات ربي وسلامه عليه.

الاتصال بالله عبر الاتصال بالنبي ﷺ

قوّى الله صِلاتنا وصِلاتكم به، وثبَّت أقدامنا للسير على دربه، فما هناك غايات للسعادات ورقيّ إلى أعلى المراتب الرفيعات، لا في الإيمان واليقين، ولا في مقامات اليقين كلها، ولا في أسرار المعرفة بالله سبحانه وتعالى والقرب منه، ولا في أسرار المحبة منه والمحبة له، ولا الرضا منه ولا الرضا عنه، إلا وهي مَنوطة بهذا الخير وبهذا المسلك، وبهذا الاقتداء والاهتداء بنبي الهدى (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ﷺ.

وهذه الصِّلات بالجناب الأشرف تُشبه صلة الخلق بالذي أرسله، وهو الله سبحانه وتعالى. ولا يتأتى لمؤمن في أي أمة من الأمم أن تقوى صِلته بالله دون أن تقوى صِلته بنبيه، دون أن تقوى صلته بالمبعوث إليهم والمُرسل إليهم.

ثم إن ما من نبي أُرسل وبُعِث إلا وقوة الصلة به قوة صِلة بجميع الأنبياء، لأنهم مُصدّقون لبعضهم البعض، مُصدّقون لما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى، وآمرون على العموم بمحبتهم وتعظيمهم. وعلى الخصوص كان كل نبي أيضاً يؤخذ عليه العهد أن يأخذ العهد على أمته في شأن محمد، فكانوا يذكرونه باسمه على وجه الخصوص.

والكتب المُنزَلَة من الله على الأنبياء جعل فيها سبحانه أوصاف هذا النبي وشمائل هذا النبي، وما حَل به نبيه المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام؛ فكان على وجه الخصوص كلهم يؤمنون به، وكلهم يأخذون المواثيق على أممهم إذا بُعث أن يؤمنوا به، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، وشُرِّفنا به واجعلنا في خير أمة، مِنّة مِن منن الله.

حبال الاتصال الظاهرة والباطنة

فَصِلات هذه الأمة أيضاً بالله تعالى على قدر صِلاتها بهذا النبي المصطفى محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وكذلك لا تتمكن صِلةٌ برسول الله ﷺ دون اتصال بالحبال التي امتدت منه للاتصال به، والحبال التي امتدت منه للاتصال به ظاهرة وباطنة، وخاصة وعامة.

فكان الشهادتان وأركان الإسلام والإيمان هذه الحبال الواسعة التي امتدت للاتصال على العموم بجنابه الشريف، وكان من مقتضياتها ومِن خصوصياتها ومن البواطن فيها أحوال القلوب مع أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وكان في باطن تلك البواطن أسرار المودة والمحبة والتعلق من خلال الحبال الباطنية التي امتدت، وهي حبال إرثه وخلافته صلى الله وسلم عليه وعلى آله في هذه الأمة.

خلفاء النبي ﷺ وورثته

"اللهم ارحم خلفائي"، قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "قوم يأتون من بعدي يروون أحاديثي ويعلّمونها عباد الله". وكانوا هؤلاء الخلفاء له صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله، هدية الله لهذه الأمة، ومن حولهم ينال من قوة الاتصال بالجناب، وعلى ذلك يَقوَى اتصاله بالحق سبحانه وتعالى بِوَجه أتم وأكمل، كل من واصلهم ووالاهم في الله جل جلاله، وهم على مراتب في هذه الخلافة وهذا الإرث.

صاحب المولد الذي اجتمعنا بقراءة منظومته هذه، كان من خواص الورثة والخلفاء للمصطفى ﷺ، الذين جمعوا أسمى معاني الخلافة بالأعمال والأقوال والأحوال والوِجهات والنيات والمقاصد، والإرث مِن جهة السبب ومن جهة النسب، ومن جهة العلم ومن جهة العمل، ومن جهة الخُلُق ومن جهة الإنابة والخشية والتواضع، ومن جهة الزهد في الدنيا ومتاعها الفاني، ومن جهات صفات الإرث كلها ببنوَّة تامة كاملة نَسَبية، وبنوّة كاملة تامة دينية علمية شرعية، عن الأكابر الذين ورث عنهم واتصل بهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

علامات صدق الاتصال بالنبي ﷺ

فالحمد لله على امتداد هذه الحبال إليكم لننال نصيبنا من قوة الاستمساك بالعروة الوثقى، والاعتصام بحبل الله جل جلاله وتعالى في علاه، والاتصال به عبر حبيبه محمد ﷺ، اتصال بحبيبه عبر هؤلاء الخُلفاء والورثة.

وبذلك ترى أن من أظهر العلامات لمن صدق اتصاله بخير البريات حالتهُ مع أهل بيته وصحابته، فمن حَسُنت وصفَت حالته مع أهل بيته وصحابته، لكونهم أول الملتصقين بذاته وجنابه الشريف، آله وصحابته هم أول الملتصقين بذاته وجنابه الشريف إيماناً وإرثاً ونسباً وديناً. بذلك جاء في القرآن والسنة بِفضل الصحب الأكرمين، بفضل آل البيت الطاهرين، ووجوب الاستمساك بحبلهم والدخول في دوائرهم والمشي على دربهم.

وجعلهم ﷺ مِن بعده الثقل الذي يتصل بالثقل الأعظم وهو قرآن الله سبحانه وتعالى، ووحيه الذي أنزله إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام.

السابقون الأولون ومكانتهم

ونجد في قرآن الله تبارك وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ)، فيشمل هذا من كان في عصره من أهل بيته، ثم من جميع السابقين الأولين من مختلف القبائل. وعامتهم قليل منهم من قريش، وكثير منهم من الأوس والخزرج، هؤلاء أكثر السابقين الأولين، معهم أفراد بعد ذلك من قبائل أخَر كانوا هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار - عليهم رضوان الله - المنشور لهم راية الثناء في القرآن ولواء الرضوان الرباني عنهم (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

العوائق والقواطع عن الله ورسوله

فالله ينظر إلى الأمة ويُقوّي صِلتها بنبيها، لأنه اعترضتهم الأهواء والشهوات، فقامت بالأهواء والشهوات صلات بينهم البين: شيء منها راجع إلى حزبية، وشيء منها راجع إلى تجارة، وشيء منها راجع إلى لعب ومسخرة، وشيء منها راجع إلى فتن وآفات وعلائق، كُلها قامت على عوائق عن الله وعن رسوله ﷺ، وانقطاع عن الله وعن رسوله.

وهذه العلائق زاحمت على الأمّة في أن تتصل بربها ونبيها عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي يليق بمن آمن بالله وبرسوله، حتى يُمسي ويُصبح ويحيا ويموت والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، عاقتهم هذه العوائق، وصار فكرهم في غير الله ورسوله أكثر، ونظرهم إلى غير الله ورسوله أكثر، وتعلُّقهم بغير الله ورسوله أقوى، وانتماؤهم إلى غير الله ورسوله أحضر في قلوبهم وفي أذهانهم، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

ولتلك العلائق المُنحطة صاروا يعقدون مؤتمرات ويعقدون رحلات وينفقون نفقات، وكلها قواطع عن الخالق وعن خير الخلائق ﷺ، من الفتن التي أُصيبت بها الأمة.

الغوث الإلهي وإعادة الصلة بالنبي ﷺ

فالله يتدارك الأمة ويُغيثها ويُعيد لها قوة صلتها بهاديها وقائدها ومعلّمها ومرشدها، من حيث انتخاب الله له، من حيث اصطفاء الله له، من حيث اختيار الله له أن يكون هو القائد وهو المرشد. ووعد بالسعادة كل من اقتاد بقيادته وكل من خضع لإرشاداته وتعليماته عليه الصلاة والسلام، في أي عصر كان وفي أي مكان كان، إلى أن يُنفخ في الصور.

أقربهم وأحبّهم إليه من اقتاد الاقتياد الحَسَن في الاقتداء بالمصطفى ﷺ جدّ الحسين والحسن، وترك هواه وهوى أهل زمانه، هوى أهل زمانه وأفكارهم على جنب أمام الإرشاد النبوي وأمام التوجيه المُحمدي، هذا هو السعيد وهذا هو الفائز، ومن اختطفته هذه القواطع فمقطوع، إما أن يُتدارك بغياث ورحمة ويعود، أو يخسر الخسران الأكبر في اليوم الموعود، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وفي ذاك اليوم من لا يرى وجهه أصلاً، وظاهره كان مسلماً ومات مع المسلمين وقُبر في مقابر المسلمين، ولكن لا يرى الوجه أصلاً، ولا يقرب ولا يَرِد الحوض، ولا يُشاهد الطلعة قط قط، فويل له ثم ويل له، وهذا مقتضى ما كان من حاله في أيام الدنيا، كان ما هو مبالٍ بتوجيهاته وتعليماته، كان مبالاته بأهوائه وأهواء أهل اتجاهاته الذين ذهب معهم في هذه الحياة الدنيا.

فاللهه يعيذنا أن نُؤثر شيئاً عليه أو على رسولك ﷺ، حتى نُصبح ونُمسي ونحيا ونموت والله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، يا من وفّق أهل الخير للخير وأعانهم عليه، وفِّقنا للخير وأعنّا عليه، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

تاريخ النشر الهجري

14 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

06 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية