كلمة الاحتفال العام في ذكرى المولد النبوي الشريف - ساحة دار المصطفى بتريم 1446هـ
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في الحفل السنوي ضمن احتفالات المسلمين بذكرى المولد النبوي الشريف في الساحة الشرقية بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الثلاثاء 28 ربيع الأول 1446هـ
نص المحاضرة مكتوب:
حمدًا لمن جمعكم، حمدًا لمن وفّقكم، حمدًا لمن أسمعكم، حمدًا لمن هيّأ السبيل لكم، حمدًا لمن جعلكم من أمة أحبّ حبيبٍ له وأكرم كريمٍ عليه، حمدًا للذي قذف في قلوبكم نور الإيمان، حمدًا للذي ساقكم بالمحبة إلى ميدان إشهاد الحق وملائكته وحملة العرش وأهل الأرض وجميع الخلق، أننا أمسينا نشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وأننا نطلب محبته العليّة، ونطلب رِضوانه الأكبر، ونطلب مُرافقته الشريفة، ونطلب الاجتماع به في الدرجات العُلى؛ ويكون هذا أعظم مطالب قلوبنا وأرواحنا وأسرارنا.
وكُلّ هذا مَنٌّ مِن الحق جلّ جلاله وتعالى في علاه، الذي جعلنا في هذه الأمة، والذي أوصل إلينا أنوار الدلالة عليه من حضرة حبيبه محمد ﷺ، ذاته وصفاته وأسمائه وأقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام، التي حملتها قلوبٌ وأرواح من الصحب الأكابر وأهل البيت الطاهر، على مدى العصور وعلى مدى الدهور، حتى وصلنا هذا النصيب من حضرة الرحمن جلّ جلاله القريب المجيب في هذا الزمان الذي نعيشه، من خلال هذه الأعمار المحدودة المعدودة أنفاسها، وهي بِجُملتها قصيرة، وليست مُجرد أعمارنا القليلة هي القصيرة، بل بالنسبة لما هو مُقبِل علينا، عمر الدنيا كله وعمر بني آدم من حين خُلق آدم عليه السلام وأُهبط إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، كل هذا بالنسبة لما وراءه قصير وقليل، فكيف بِعُمر الواحد منا سنوات معدودة؟ أقلُّنا من يجاوز السبعين، والأقل من يصل إلى الثمانين والتسعين، وأقل القليل من يصل إلى المئة، فما مقدار هذا العمر؟ ولكن والله، مع قِصَر هذا العمر، عجائب الكسب والتحصيل والثمرة والنتيجة لمن أقبل ولمن أحبّ، ما أكبرها وما أجلّها وما أعظمها!
عمّا يُعَبِّر هذا الجمع؟ يُعَبِّر عن أنها قلوب على ظهر الأرض لبَّت نداء الحق ورسوله، ورفضت نداء عدو الله، نداء عدو الله عمل عملًا طويلًا عريضًا أن يُسلِب القلوب المؤمنة عاطفتها مع الجناب النبوي، وأن يُعَلِّقهم بالفانيات والدنيئات، ويُعَرِّض الكثير من أمثالنا في أعمارنا المختلفة لأن تمر عليهم أمثال هذه الأوقات في تُرَّهات أو بطالات أو مَعاصٍ أو مُحرّمات، أو اكتسابات للرذائل والعياذ بالله تبارك وتعالى.
ولكن الذي وعد نبينا محمدًا أن يُبقي الخير في أمته حتى إذا خرج عيسى بن مريم إلى الأرض وجد فينا مثل حوارييه من أنصار الله تعالى بالصدق والإخلاص، هذا الإله الحق يوجد هذه الخيرات في الأمة وهذه الامتدادات للأنوار المباركة الطيبة، فالحمد لله على ذلك، اللهم لك الحمد شكرًا، ولك المنّ فضلًا.
غايتنا من الجمع:
فأحضِر قلبك في أي درجة كنت، أحضِر قلبك مع هذا الرب الإله الذي خلق وأنعم، وجعلك في خير الأمم، وربطك بحبيبه الأكرم، ووفّقك للدعاء وألهم أن ترافقه وأن توافقه في الحياة، وتتقلد مِنّة الانطواء فيه، وأن يكون الهوى تبعًا لما جاء به ﷺ.
أن يكون هوانا مبتغانا، مرادنا، أغراضنا، مقاصدنا، هوياتنا، أمنياتنا، طموحاتنا تبع تبع تبع تبع لهذا النور الذي سطع لما جاء به، فلن نجد أمنية ولا طموحًا ولا غرضًا ولا مقصدًا أشرف ولا أسمى مما دلنا عليه ودعانا إليه ﷺ.
(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) وإذا دعاك إلى الله جلّ جلاله، فأي الأمنيات تفوق هذا؟ أي الطموحات يفوق هذا ظاهرًا وباطنًا، دنيا وبرزخًا وآخرة؟ ويندرج في دعوته إيانا إلى الله مراتب المقاصد الشريفة والكريمة بحسب ميزان الله تعالى إلى تلكم النهايات التي يُدرِك بها العبد المؤمن أن الغاية الكبرى رضوان الحق جلّ جلاله، ولا يبقى له مقصود سواه، وذلك مَطويٌّ في مرافقة حبيبه ومصطفاه، (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
الحمد لله على هذا الاجتماع والوجهة إلى الرب جلّ جلاله، واستعدادًا ليوم الجمع الأكبر، ولنتلقى فائضات جود الله الأوفر، ولنُعَمِّر بقية العمر في جندية لله تبارك وتعالى؛ جندية العبودية والعَبدية والعُبودة للواحد الأحد الفرد الصمد، هذه الجندية الشريفة التي شرّف الله أهلها في قرآنه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).
تبعيتنا لأحب محبوب عند الله:
وجهتنا إلى من أنزل هذه الآيات، رب الأرضين والسماوات، أن لا يجعل من أهل الجمع أحدًا، ولا من يسمعنا، ولا من المتعلقة قلوبهم بمسلك الحق والهدى ونبي الهدى من الموجودين على ظهر الأرض، إلا ثبّت قلبه أن يكون هواه تبعًا لما جاء به هذا النبي ﷺ، وأن لا يكون لنا مقصد سوى إلهنا الحق جلّ جلاله.
فوالله ما أحببنا النبي محمدًا إلا لما وصلنا من التعرف من الخالق بواسطته أنه حبيبه وأنه الأكرم عليه، وأيقنّا أننا لا نستطيع أن نعبد الله بمحبة شيءٍ أعظم وأجلّ من محبة حبيبه محمد ﷺ، فإنه مجلى محبتهِ سبحانه وتعالى، وأحبُّ ما يُحب جلّ جلاله في الذوات وفي الصفات، وفي المعاني والأسماء والمُسمّى وجميع المعاني، ما هناك محبوب لرب العرش أكبر من هذا ولا مُقدّماً على هذا.
بل من العجب أن جعل الله محبته لمحبوبيه مُتفرّعة عن هذا الحب الذي سكبهُ على ذات حبيبه المصطفى محمد ﷺ، ولذلك ما من محبوب من أهل الأرض والسماء في موقف القيامة يقول: "أنا لها" إلا هو صلوات ربي وسلامه عليه، وما من محبوب من المقربين من جميع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا وهم مجموعون تحت لوائه.
فمن محمد؟ فمن محمد؟ محمد الذي لا يعرفه غير الله، محمد الذي أراد أعداء الله وأعداء أنفسهم وأعداؤنا أن نبيع محبته بما يعرضون علينا من التُّرّهات، وأعني بالتُّرّهات ما كان من مُلك الدنيا من طرفها إلى طرفها مع الانقطاع عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله، هو من جملة التُّرّهات، فما دون ذلك كلها تُرّهات.
حال الصادقين مع الله:
فما أعجب حال الصادقين مع الله! والله يجعلنا وإياكم منهم، والصادقون مع الله ماذا ينتظرون؟ ماذا يُنتظر لهم؟ وماذا يتربص بهم؟ يقول الله لنماذج من الصادقين تحت قيادة سيد المرسلين، قل لمن يعاديهم ويريد إلحاق الضر والأذى بهم: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، ونتحداكم شيء آخر غير هذا تقدرون أن تنتظرونه فينا يكون؟ واحدة من الحُسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إيش ثاني غيره؟ إيش تقدرون تعملون بنا؟
ما توصلتم إليه من أذى أو ضر درجات لنا نرتفع بها عند الله، وإن يكتب في وقت محدد وظرف محدد النصر فهو من الله، فهل يُنتظر لنا غير هذا؟ وماذا ينتظر كل المنقطعين عن الله على ظهر الأرض شعوبًا ودولًا؟ ماذا ينتظرون؟ كل من عادى منهم الحق لا ينتظر إلا: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، وما شيء غير هذا موجود في الوجود، ولا يُنتظر لآل الإيمان ولا لآل الجحود غير هذا، ما شيء منتظر: (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).
إلا ما تعلق بالأوهام والتخويفات من قِبل النفس الأمارة بتشجيع ووسوسة إبليس وجنده: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عبْدَهُ)، (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ).
وَوِجهتنا إليك يا حيُّ يا قيُّومُ أن لا تجعل في الجمع ولا من يشاهد إلا مَهديًّا بهدايتك، لا يقدر على إضلاله شيء، لا يتمكن من إضلاله نفسٌ، لا يتمكّن من إضلاله إبليسُ، لا يتمكن من إضلاله دنيا، لا يتمكن من إضلاله شياطين الإنس والجن، (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ).
وإذا رجعنا إلى الحقيقة: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) كل منصف عاقل على ظهر الأرض: (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)، حسبنا الله عليه يتوكل المتوكلون.
قُلْ: (يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)، ونحن عاملون بأنوار هذا الوحي والتنزيل، فالحمد لله على هذه المِنّة الكبيرة.
دعاء وتضرع إلى الله:
يا رب، اجعل كُلًّا منا من جندك، والموفين بعهدك، وأهل محبتك ومودتك يا الله، اجعل الجمع مذكورًا في العالم الأعلى بأسنى وأجلّ وأكبر وأنوَر وأبهر ما ذُكِر به جمعٌ من الجموع المحبوبة لديك على ظهر الأرض، واجعل لنا يا مولانا فيه النتيجة الكبرى يوم العرض، يا الله، يا الله، انظر إلى جمعنا يا خير من يسمع، يا أكرم من يستجيب، يا قريب يا مجيب يا الله.
جمعتنا هنا طالبين رِضاك وقربك فلا تُفرّقنا هناك، فلا تُباعد بيننا هناك، واجعلنا في زمرة حبيبك هادي السُّلّاك الذي جعلته المَنجى من كل هلاك، يا مالك الأملاك، يا مُجري الأفلاك، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين، أحيِي فينا وبنا سنته، وانشر فينا وبنا دعوته، وانصر فينا وبنا مِلّته على خير الوجوه وأعلاها وأجلّها، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
وعاجلًا نظرًا منك لأهل بيت المقدس وما حواليه، ولأهل لبنان وأهل الشام كله، ولأهل السودان وأهل الصومال وأهل ليبيا وأهل العراق وأهل اليمن، وللمسلمين في شرق الأرض وغربها، حَوِّل الأحوال إلى أحسن حال، فإنا ندعوك لهم ونتوب إليك عنا وعنهم، ونستغفرك لنا ولهم.
اللهم احلُل عنهم عُقَد الإصرار على الذنوب، وتُب عليهم يا تواب توبةً نصوحًا، وخلِّصهم من سلطة أعدائك بالظلمات والأوهام والخيالات، إلى الاستجابة للحق بالأنوار الجلِيات والأدلة الواضحات والبراهين القويات، يا الله، يا الله، يا الله.
استجِب دعاءنا، ولبِّ نداءنا، وحقِّق رجاءنا، وزِدنا من فضلك ما أنت أهله، ولا تجعل فينا شقيًّا، ولا مَن في أصلابنا، ولا أحدًا مِمن في أصلابنا، ولا أحدًا مِمّن في ديارنا، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.
هيِّئنا وإياهم للجندية لك، نجتثُّ جميع المعاصي من الأعضاء والقلوب، ومن الديار والأسواق والشوارع، والجوالات والأجهزة المستعملة كلها، ونملأها بطاعتك يا رب، ونملأها بالوفاء بعهدك يا رب.
يا الله، لا تُسلِّط على أحد منا نفسه الأمارة، لا تُسلِّط على أحد منا الشيطان اللعين، لا تُسلِّط على أحد منا هواه، واجعل هوانا تبعًا لما جاء به حبيبك المصطفى، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
الوصية وتجديد العهد:
ونُكرِّر عليكم: الاعتناء بآية الكرسي بعد كل صلاة، وقبل النوم، وعند دخول البيت والخروج منه، وعموم التلاوة والأذكار؛ فهي أقوى الأسلحة التي تحتاج إليها الأمة اليوم، وأسلحتهم هذه مهما افتخروا بها فلن يعود وَبالها إلا عليهم مهما ظلموا بها واعتدوا، إلى الحد المحدود الذي لا يستطيعون تجاوزه.
قال سيدنا المصطفى ﷺ لدجّال من الدجاجلة ظهر في وقته: "اخسأ، فلن تعدو قدرك"، "اخسأ، فلن تعدو قدرك"، وهي قوله وقول أتباعه لكل معاند ولكل مكابر: اخسأ، فلن تعدو قدرك، ولن تتجاوز حدّك وطورك.
اجعلنا من جندك يا الله، الموفين بعهدك يا الله، وتُب علينا توبة نصوحًا، تُزكينا بها قلبًا وجسمًا وروحًا، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
نُجدِّد عهدنا مع الرحمن جلّ جلاله في تقوية الإيمان، وفي الوفادة من مكة نسأل السيد أحمد الحداد أن يُلقّننا شهادة لا إله إلا الله كما تلقّنها من كثير من مشايخه وأهل الله جلّ جلاله، بسلسلة إسنادهم إلى الداعي الذي دعا إليها ببطن مكة ﷺ، وخير من قالها ونطق بها من نطق قبله وهم منطوون في نوره، ونطق بها من نطق بعده وهم منطوون في نوره صلوات ربي وسلامه عليه، حقِّقنا بحقائقها يا رب العالمين، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مقطع: الوصية:
مقطع: هيئنا للجندية:
لمشاهدة الحفل كاملا:
10 ربيع الثاني 1446