قيادة الأنبياء للبشر باصطفاء خالقهم وخطر إلقاء القياد إلى من خالفهم

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الروضة المباركة في مدينة عمان الأردن، ليلة الجمعة 8 جمادى الأولى 1444هـ بعنوان:

قيادة الأنبياء للبشر باصطفاء خالقهم وخطر إلقاء القياد إلى من خالفهم

 

نص المحاضرة:

 

الحمد لله مُحيي القلوب بِوابل رحماته، ومُواصلها بِعجائب مودّاته، يا له من إلهٍ كريمٍ جلّ عن أن يُتخيَّل بِخيال وهو غير كل ما يخطُر بِكُلِّ بال، فهو الكبير المتعال، جزيل النوال، عظيم الإفضال.

خلق الخلقَ لِحكمة وطوى عليها عِلمهُ، وكان من أعظم الحِكم التي أبرزتها فينا تعاليم الله وإرادة الله ووحيِ الله تبارك وتعالى ما خصَّ هذا النوع من المخلوقات الإنسان على ظهر الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.

فكان الحكمة الكبرى من وجود الإنسان أن يقوم بِحقِّ الخلافة على ظهر الأرض بما أوحى رب الأرض والسماء إلى قلوب الأنبياء، فبلَّغوا أُمَمهم وأقوامهم وخُتِموا بالشّفيع والحبيب الأعظم صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابهِ، وأهلِ حضرة اقترابهِ من أحبابهِ، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلى أهل مجمعنا ومن يسمعنا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

كان هذا خُلاصة الحِكمة من هذا الخَلق وبها تتحقّق أن ما يشتغل به الإنسان على ظهرِ الأرض مِن كُلِّ ما ينقطع عن الصِّلةِ بأسرارِ هذه الخلافة من شهوات أو ملّذات أو دوافع للسُّلطة للغرور للزّور للأذى لأخذ حقِّ الغير، لغير ذلك من أنواع النّزوات تنتهي بمفردها ومجموعها إلى أنها لعبٌ وعَبث، عاقبته خطيرة ونهايته شديدة لا يذهب أدراج الرِّياح، وأرباب كل تِلكمُ المسالك لسانهم عند الجمع الكبير واحد: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ).

ولقد قال البشير النذير والسِّراج المنير: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله باطل"، وكلّ ما على ظهر الأرض مِن وِجهات وأفكار ومشاريع لا تتّصل بالله داخلة في الباطل، علِمتَ أو لم تعلم، صدّقتَ أو لم تُصدِّق، شَعُرتَ أو لم تشعر.. باطل! وليت أنّ نهايته مُجرّد هباء ولكنه باطل يورِث أصحابه شقاءً مؤبداً، ونكداً دائماً وعذاباً أليماً، هذا سرّ الإنذار من الكبير المُتعال على ألسنِ الرُّسل الذين خُتِموا بِسيّدنا ونبيّنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه.

أيُّها الأحباب: مِن آثار رحمة هذا الرّحمن تفضيل هذه الأمة على جميعِ الأمم، والسبيل إلى أن يُدرك الفرد منهم رُتبةً شريفة في الخِلافة مُيسّر وسهل، أيسر وأسهل مِما كان للأمم قبلنا، وفي أفراد تلك الأمم نماذج عجيبة مِن قصد وجهِ الله والإخلاص له والمعرفة به، وتقديم الأرواح من أجلهِ جلّ جلاله، والوفاء بعهدهِ وبذل النّفوس وبذلِ الأموال وبذل الوجاهات وبذل الجاهات، والتنازل عن كل شيء بِيُسرٍ وسهولة رجاء رضوان الرّب الأبدي وجوارهِ وجوار أنبياءه في دار الكرامة.

أيُّها الأحباب: من كان يؤمِن باليوم الآخر ونعيم الأبد وعذاب الأبد يجب أن يتميّز عن من لا يؤمن بذلك، في الوِجهة والمقصد، في الإرادة والرغبة، في السّير والعمل، في الحركة والسّكون، في السُّموِّ بِفكرهِ ومقاصده والعلوّ إلى درجات تحقيق العبوديّة للإله استعداداً لِلِقاه، وهذه أسرار التحرُّر من الوقوع في وَرطات زمجرة الكُفرِ وتزيُّنِ طرحه أو شرحه أو عرضهِ بِخُلَّب الأماني والمواعيد التي من أولها إلى آخرها تحت دائرة: (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، ونهاية ذلك أن يقول الشيطان بنفسِه عدوَّ الله وعدوّ الإنسان الذي استحوذَ على أكثر أفرادهِ (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).

في كل أمة ممن استجاب لنداء الإله وفي هذه الأمة منهم كثرة، "أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً ثمانون من هذه الأمة وأربعون من بقية الأمم"، مع أنه من حيث العدد "ما أنتم في الأممِ قبلكم إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود".

الأعداد الكبيرة هم الأمم السابقة، (وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَأَصْحَٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُونًۢا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ ٱلْأَمْثَٰلَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا)، مع هذه الكثرة في الأعداد فأكثر أهل الجنة من هذه الأمة بِبَركة نبيها صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الرب، "إنا سَنُرضيكَ في أمتك ولن نسوءك فيهم".

فيا أيها المُجتمعون على محبة الله ومحبة هذا الرسول من أجلِ الله، ويا من دعتهمُ الدواعي من غيب الرّب فأحدثت في قلوبهم رغبات في التّلاقي في الله والتّجالس في الله والاستماع إلى كلام الله ورسوله ومعانيهِ، أحضِروا قلوبكم في الساعة فلعلَّ نظرة من نظرات ربّ العرش تُلحِقكَ بأهلِ المراتب العلا من خيارِ الملأ، "وإن لِرَبّكُم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها".

وقد اجتمعتُم محبةً واجتمعتُم مودّةً وشوقاً قائمةً على أساسٍ من العبوديّة لله جلّ جلاله، والتحرُّر مِن أن تذهب محبّات ورغبات ومودّات أعزُّ شيء نملكه وهو القلوب إلى ما يُلقيهِ إليها دوافع الشهوة أو الغفلة أو القواطِع عن الله، نحمي ساحات قلوبنا من أن تُستعبد لغيرِ إلهها، وأن تُبذَل محبّتُها لما لا يُحَبُّ أو لمن لا يُحَب فتخسَر وتهلك، وإنَّ "الحُبَّ في الله والبُغضَ في الله مِن أوثَق عُرَى الإيمان"، كما يقول الذي أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وما جمعكم جلَّ جلاله وتفضَّلَ عليكم بما قذف في القلوب وسلَّطَ عليكم من الدّواعي الغيبيّة الربانِيّة، ما حثَّكُم على الوصولِ وأوصلكم إلى هذا المكان في اللّيلة الشريفة من بلاد شتَّى وقبائل شتَّى في دُكريات أصحاب مؤتة.

وما أصحاب مؤتة إلا ثُلَّةٌ الاستجابة لنداءِ الحقِّ ورسولهِ والوفاء بِعهدِ الله على ظهر هذه الأرض، المُغريات في زمانهم موجودة والشّهوات في زمانهم موجودة، والسُّلطات المُنحرِفة في زمانهم موجودة، ووجودِ التبجُّح بالمُلكِ في العالم والتّظاهُر بِالقوّة على الآخرين، وأن تبقى ما يُسمَّى بالدول العُظمى تتصارعُ في تطاولٍ على رغباتِ النّفوسِ التي انقطعت عن إدراكِ العبوديّة وعن إدراك الربوبيّة للإله الحقّ جلّ جلاله، كان موجود في ذاك الزمان لكن القوم تحرَّروا والقوم تطهَّروا والقوم تنوَّروا، وفي كل زمانٍ متطهِّرون ومتحرِّرون ومتنوِّرون لو اجتمعت قوى الأرض على أن تزيغ قلوبهم ثبّتها الذي يُثَبِّت القلوب، و (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).

وينتخب سبحانه تبارك وتعالى من يشاء ويُدخِل قلبهُ في تلك القلوب فيميتهُ على الثّبات، ويميتهُ على الصِّدقِ معه جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه وما عند الله خيرٌ للأبرار.

اللهم لا تجعل في مجمعنا ولا في من يسمعنا ولا في بيوتهم إلا من كتبتَ أن تُسعِده بالصِّدقِ معك والوفاء على الإخلاص لِوجهك والمحبّة لك، يا الله يا الله، فإننا اجتمعنا نُريد وجهك فألحِقنا بقومٍ قلت لنبيّك: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ).

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) هل ترون في الشرق والغرب إرادة تسمو على هذه الإرادة؟ تعلو على هذه الإرادة، تكبر على هذه الإرادة، تُقارِب هذه الإرادة، تدنو من هذه الإرادة، تشبِه هذه الإرادة؟ إرادات الشعوب والدول في العالم بِكُلِّ ما فيها من انقطاع لو جُمِعَت ما ساوت ذرّة من إرادةِ فردٍ لوجهِ الحيِّ القيوم الأبديّ جلّ جلاله.

وإذا أراد الله بالأمةِ خير كثَّرَ فيها القلوب التي تريد وجهه، وظهرت علامة ذلك بِمَودَّتها فيه ومن أجلهِ وخلاصة تحابُبِها له خالصاً لوجههِ، لا لعلوٍّ في الأرض ولا لِفسادٍ ولا لِغرضٍ من الأغراض غير وجه الله ربّ العِباد جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.

وأهل صفاء هذه المحبّة والمودّة همُ المحبوبون لِربِّ العرش العظيم، والذين قال في حديثه القُدسي: "وجبت محبّتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ".. "وجبت محبتي" : حكمتُ وقضيتُ أن تنصرِف محبّتي لهؤلاء، "وجبت محبّتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتباذلين فيَّ"، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا فيهم يا الله، ولا نزالُ نُلِحُّ عليك، مُتذلِّلين بين يديك، مُوقنينَ مِنك بالإجابة.

تعاظمتنا ذنوبُنا فلما قَرَنّاها بما عندكَ من العَفوِ والمغفرة صَغُرَت أمام ذلك، فنسألك اللهم ألّا تحرِمنا خير ما عندكَ لشرِّ ما عندنا، أنت جامِعُ هذه القلوب على الوِجهَةِ إليك فاجمعها على نيلِ رِضوانكَ يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم، يا حيُّ يا قيوم.

لا بات مِنا أحدٌ ليلتنا هذه إلا ظافرٌ برِضوانك، يبيتُ وأنت عنه راض ويِصبِح وأنت عنه راض، إلهنا وبقية الأعمار لا نتعرَّض لِسخطِك، لا نتعرَّض لِعذابك، لا نتعرَّض لِما تكره.

سيدنا ومولانا أوائلنا قلتَ عنهم مُذَكِّراً بهذه النعمة أن لو أسلمتم لقيادة أنفسكم بأنفسكم أو لأي قائدٍ في العالم غير نبيِّي وأدبكم معه لهلكتُم (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ).

وايش (كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ)؟ مِمّا يَتخيَّل لكم أنه حَسَنٌ وأنّهُ صواب وأنه المُفيد وأنّه النّافع! وهذه الموازين إذا انقطعت عنِ القِيادة العُليا ضَلَّت وهوى أصحابها (لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ): جلبتم لأنفسكم المشقَّة في الدُّنيا قبل الآخرة، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) لأنّه المحبوبُ عنده فصارَ محبوبكم نفسه محبوبه فتأهّلتُم لِقُربه وتأهّلتُم لِرِضاه.

(حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) لأنه زَينٌ عنده في ميزانه فهو زَين في قلوبكم، فقلوبكم موازينها قويمة.. قلوبكم موازينها صحيحة.

(وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) لأنها مكروهةٌ عنده، وما كان مكروهاً عنده فهو الظُّلمة وهو الفساد وهو العذاب وهو الشَّر، لا يُغيِّرهُ تَقوُّل مُتقَوِّل ولا تطاول مُتطاول كائناً من كان، لا يمكن أنَّ واحد مخلوق مثلنا يجيء يقول لكم أنا وصلت القمر يقول له الثاني أنت ما وصلت كذاب.. يقول له بلى أنا وصلت وبما أني وصلت القمر كذِّبوا ربكم وكذِّبوا رسولكم وقدِّموني عليه في أمري، من يقبل هذا؟ أي عقل يقبل هذا؟ نقول يا واصل إلى القمر لو وصلتَ لا خلقك القمر ولن تعودَ إلى القمر ولن يستطيعَ القمر أن يُسعِدك.. فكيف نسيت ربّ القمر؟ أنت في الأرض ونسيت ربّ الأرض ورحت القمر ونسيت ربّ القمر، في ميزانك كيف هو تطلع إيش؟ ما عرفت رب الأرض ولا رب القمر يساوي ايش هذا؟ يساوي جهل، يساوي غفلة، يساوي ضياع، يساوي مخلوق ما درى مَن خلقه، والكون كلُّهُ حواليه يُشير له بِعظمة المكوِّن وهو يتصامم ويتعامى، ايش يبغى؟ يا فلوس يا وظيفة يا شهوات يا سلطة، والفلوس والوظائف والشهوات والسلطة بالله عليك أسعدت مَن على طول الأعمار؟ على طول حياة البشر على ظهر الأرض.. وعواقب ونهاية أصحابها ماذا كانت؟ تريد كما قارون؟ خُذ لك مال قارون وايش العاقبة حق قارون: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّه)

يعني الأوهام والخيالات هذا إنه معك هذا وإلا وراك خلفية كذا.. إذا ما الله معك "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" هذا قول الحق، ولن نُصادِف غيره ولن يكون إلا هو في الدنيا والبرزخ والآخرة، ناطِق رب الدنيا والبرزخ والاخرة يقول الخالق عن نُطقِه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) لا مُجرّد خيال ولا فِكر ولا تأمّل إنساني ولا قُوى بشريّة ولا مَلَكيّة ولا جِنِّيّة ولا جماديّة ولا نباتيّة، فوق الكل الرّب الذي كوَّنَ الجميع هو الذي أنطق الشفيع بالهدى والنور البديع، فربِّ هيئ القلوب لإجابتهِ حتى ندخل في دوائر أولي الألباب.

ومن قولهم: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)، وهذا السماع في درجات تَشرَّفَ الصّحب بِسماعهِ مُباشرة جِسماً وروحاً، ومَن بعدهم سمِعوا بأرواحهِم نداء هذا المُنادي وهُم على درجات في ذلك السّماع، وكُلّما علت درجة السّماع اتّسعَ الإيمان وقَوِي، حتّى يقول قائلهم: "أصبحتُ كأني أرى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر الى أهل الجنة يتنعّمون فيها وأسمع اهل النار يتعاوَون فيها، وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها" صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه من سار في دربه.

لم يجمعكم الرحمن إلا لأسرار وأمور، والحمد لله تسمعون مِما تبشّر به الأمة أن مرّت عليكم مواسم ربيع الأول وربيع الثاني وأن العالم في هذا العام كان نوعيّة الاحتفالات بالحبيب صلى الله عليه وسلم وذكرى ميلاده فيها نصيب من التقدُّم والتميُّز، إذا تمَّ ذلك معناه يرجع الخلق إلى تسليم القيادة لمن اختاره الخلّاق قائداً، وعندما يُسلِّمون القيادة لمن اختاره الخلاق قائداً تولّى إسعادهم الرب جلّ جلاله (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) جلّ جلاله، وفي ذلك نجاتنا ونجاة الأمة.

بحمدِ الله اجتمعتم وانتفعتم إن شاء الله، رفع الله مراتبكم وأجزل مواهبكم، ونظر إليكم نظرة يجعل كل واحد منكم بها ثابتاً على الصدق والحق مُوفياً بالعهدِ حتى يلقاهُ وهو راضٍ عنه، ونجتمع جميعاً إن شاء الله في ظل العرش، تحت لواء الحمد، على الحوض المورود، في دار الكرامة من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.

فيا رب واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوسِ أطيب موضعِ

وفي المجمع هؤلاء الرجال ويستمع معكم جماعة من النساء، والرجال والنساء الذي هم نوع هذا الإنسان لا أصلح لهم من كلام الرب الذي خلق، وكم من كلام على الرجال وعلى النساء شي في الأزياء وشي في المظاهر وشي في الاختلاط وشي في غير ذلك.. كل ما خالف المنهج الفوقي الرّباني ضلال وباطل، يجب أن تتنزّهوا عنه، ويجب أن تُدركوا مُهِمتكم في هذا الشأن، ويكفينا أن صاحب الرِّسالة أطهر الخلق على الإطلاق وأنقاهم وأتقاهم لم تمسَّ يدهُ يد إمرأة لا تحِلُّ له، وكان يبايعُ النساء كلاماً، كلاماً دون أن يصافحهنّ ولا أن يمدّ يده لهم، من هو هذا؟ من هو هذا؟ الأطهر، الأنور، الأكبر، الأغر، الأعز، الأتقى، الأنقى، فهل يمكن استبداله بقدوة أخرى؟ بتجيب لي من يا أخي بالله عليك! هذا حبيب الله أمامي بتجيب لي من تريدنا اتّبعه بالله عليك قل لي! بتساويه بمن؟ بتحط في ميزانه من؟ بتساوي به من؟ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ولما لاحظ نظر الفضل بن العباس وهو رديفه على ناقته في مُزدلفة للسائلة من خَثعم رفع يدهُ الشريفة، ولوى الرأس للفضل حتى أكملت المرأة سؤالها ومشت، العباس يرقبهُ هناك عمه: لويت عنق ابن عمك؟ العباس يقول للنبي، لويت عنق ابن عمك؟ أي صلحت بِوَلدي كذا، قال: "ما هو إلا أن رأيت شاباً وشابة فخشيت الشيطان عليهم"، أو: "فلم آمن عليهم الشيطان"، هذا ميزانه وهذا معرفته وهذا ذوقه، مَن أذوق منه؟ مَن أعلم منه؟ مَن أحسن منه؟ مَن أفهم منه؟ هو القائد ويجب نُسلِّم القيادة له صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه من سار في دربه.

ربّى الحسن والحسين، قالوا كانا لا يدخلانِ على الواحدة من أمهات المؤمنين في خَلوَة، وهُنّ محارم لهم.. هُن محارم زوجات جدهم أبو أمهم، زوجات محمد زين الوجود، لكن ما كان سيدنا الحسن والحسين يسمح لنفسه يدخل عند واحدة من أمهات المؤمنين بمفرده إلا يكون عندها أحد أو معه أحد، هؤلاء في مدرسة من تربوا؟ ومن أين أخذوا أفكارهم؟ أليسا سيدا شباب أهل الجنة! وإن تريد الجنة رح وراء سيدا شباب أهل الجنة، اللهم ثبِّتنا على دربهم، اسلك بنا في سبيلهم.

وكم يلعب علينا أعداء الله يدخلوا من ذا الباب من ذا الباب من ذا الباب ولكن عزائم صدق في قلوبكم لِتسليم القيادة لسيد أهل السعادة تسعدون بها، ويرى منها أعداؤه في الشرق والغرب ما يغيظهم (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) كما قال جلّ جلاله.

والحمد لله جامِعكم على هذه الخيرات، وإن الرعيل الأول الذي نُصِر بهم الدين قال الله عنهم: (هُوَ ٱلَّذِیۤ أَیَّدَكَ بِنَصۡرِهِ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِهِمۡ) وإذا ظهرت هذه الأُلفة بين القلوب من جديد صار التجديد، وسَعِد كلّ سعيد وانتشرت السعادة بين العبيد.

اللهم انشر السعادة للمؤمنين في المشارق والمغارب، واهدِ كثيراً من عبادك من الكفر إلى الإيمان، من الشقاوة إلى السعادة، من الغضب إلى الرِّضا، من البعد إلى القرب، من الغفلة إلى الذكر، ونَوِّر قلب كل حاضر وسامع بنورٍ لا يزال يزداد، حتى نجتمع يوم المعاد، (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) اجعلنا منهم يا الله، واجعلنا معهم يا الله، واجعلنا فيهم يا الله.

وتوجّهوا كلكم لله الرحمن، ارحم من مضى، كما سمعتم أناس يتمنون حضور المجلس وما قدروا.. الله يُقسِم لهم بالنصيب الوافر، وأناس كانوا معنا في المجالس انتقلوا إلى رحمة الله، وكم من صالح وكم من صالحة وكم من مؤمن ومؤمنة.. اللهم اسكُب عليهم في قبورهم شآبيب الفضل والغفران والإحسان واجمعنا بهم في أعلى الجِنان، وثبِّت من حضر إلى أن يلقاك، واجعلنا وإياهم من أهل الصدق معك واليقين بما أنزلتَ على حبيبك والوفاء بعهدك الذي عاهدتنا عليه يا الله.

سمعتم النداء في كل ليلة في ثلث الليل الأخير إلا في ليلة الجمعة مثل ليلتكم وفي ليالي رمضان، فنداء الرحمن لعباده من المغرب.. من المغرب إلى الفجر، بقية الليالي من ثلث الليل الأخير، لكن في الليلة هذه ليلة الجمعة وفي ليالي رمضان من المغرب إلى الفجر، "هل من سائل فأعطيه سؤله، هل من تائب فأتوب عليه، هل من طالب حاجة فأقضي حاجته"، نعم الإله الكريم، أنتم بين يديه وهو أحضركم لِيُكرمكم ولِيُسعدكم.

يا من وفّقتنا اقبلنا وأقبِل بوجهك الكريم علينا، ولا تجعل فينا قلباً إلا أقبلت بوجهك الكريم عليه يا الله، يا الله، يا الله، ما أحلاها من كلمة تُدركك عند الغرغرة، قُلها الآن بِصدق ولعلَّ نورها يأتيك في تلك الساعة فتثبُت، يا الله يا الله يا الله، إن توجه متوجهون على ظهر الأرض من إنس أو جن لغيرك فهذهِ وجهتنا إليك، في تبعية هادينا إليك ودالّنا عليك حبيبك محمد، فَبِهِ اقبلنا يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين.

وعجِّلِ اللهم بكشفِ الكرب عن بيت المقدس وما حواليه، وأدِم حفظ الحرمين الشريفين وأدِم حفظ المسلمين في المشارق والمغارب، وادفع البلايا عنهم ظاهراً وباطناً يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات.

من عظيم من فقدناه من عرفه الكثير منكم حبيبنا أبوبكر بن علي المشهور جمعنا الله به في أعلى الجنات، وبقية من علمائنا وصلحائنا وأوليائنا ذكوراً وإناثاً انتقلوا إلى رحمتك فاجزهم عنا بخير الجزاء، وارفع لهم الدرجات عندك في الدرجات العلى، يا ربِّ وجميع موتانا لا تدع ميتاً من موتانا إلا رحمته، من كان يا رب منهم في نعيمٍ زِده نعيماً إلى نعيمه، ومن كان في عذاب فنسألك برحمتك ورأفتك وحبيبك أن ترفع العذاب عنهم، وأن تجعل قبورهم رياضاً من رياض الجنة، وتجعل قبورنا من بعدهم كذلك، يا الله يا الله يا الله، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

العربية