عجائب مجاري خفي الألطاف للمؤمنين في تقلٌّب الأحوال وسمو نظرهم إلى المآل

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة مكتوبة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ليلة الجمعة 10 شعبان 1441هـ بعنوان:

عجائب مجاري خفي الألطاف للمؤمنين في تقلٌّب الأحوال وسمو نظرهم إلى المآل

 

نص المحاضرة:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

        الحمدُ لله الذي جعلَ في عجائبِ التَّقدِيرَاتِ بتَحويلِ الأحوالِ وتَعاقُبِها في تلَوُّناتِها وتقلُّباتِها ألطافاً ساريةً، ومِنَنَاً وإمداداتٍ منه جارية لأهلِ الوجهةِ إليه، فيما يُقَلِّبُ وفيما يُحَوِّل وفيما يُغَيِّر، وفيما يُبدِي وفيما يُبرِز. وفي كُلِّ تلك مِن رخائها وشدَّتِها وعُسرِها ويُسرِها وخيرِها وشرِّها، ونَفعِها وضُرِّها، له مُنَازَلَاتٌ شريفةٌ ومجاري ألطافٍ لُطْفِيَّةٍ رحمانيةٍ لطيفةٍ بأهلِ الإيمانِ به، بأهلِ الصدقِ معه، بأهلِ الوِجهةِ إليه ، بأهلِ التذلُّل بين يديه سبحانه وتعالى، بالمُقتدينَ بأحبابِه وسيِّد أحبابِه المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

        فلم يكُن في التبديلِ والتغييرِ لمُختلَفِ الأحوال؛ رخاءاً وشِدةً وعُسرَاً ويُسْرَاً وضيقاً وسَعَةً وفرَحاً وحُزناً إلا زيادةُ إفضالٍ ونوالٍ للصادقين معه تعالى في عُلاه والمُقبلين عليه والمتوجِّهين إليه. وفيهم مَن يُكرَم بأن يكون سَبَباً لدَفعِ البلايا وللانتفاعِ بالمِنَحِ والمزايا لإدراكِ بركةِ وخَيرِ الرخاء، وللسلامةِ من آفاتِ وشَرِّ الشِّدة. ويكونون في الأحوالِ كما وصفَ ذو الجلال في عظيمِ الإنزال على خاتمِ الإرسال سيدِنا النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في عددٍ من الآيات؛ كقوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) فاستثناهُم من هذا الهَلع والجزع.

كما استثناهم في الآيات الأُخَر، قال سبحانه وتعالى: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ..) فلا هو فَرِحٌ فخور ولا يؤوسٌ كفور؛ لا في هذا الحال ولا في هذا الحال ؛ هو على شؤونٍ حَسنةٍ مع الكبيرِ المُتعال، مُحَوِّلِ الأحوال جَلَّ جلاله وتعالى في علاه. فلا يزالُ في رُقِيٍّ، ولا يزالُ في سُمُوٍّ، ولا يزالُ في عَفوٍ مِن عَفُوٍّ، ولا يزالُ في علمٍ يزداد ، ولا يزال في معارفَ بها يتنوَّر، ولا يزال في مصاعِدَ عليها يرقَى خيرَ مُرتَقَى مدَّةَ الحياة ليكسبَ مِن هذا النَّوالِ الأجزلِ الأفخَمِ الأضخمِ ما يَعظُم به نعيمُه في البرزخ، وما يَعظُم به نجاتُه وما يَعظُم به فوزُه وسعادتُه في القيامةِ، حتى يَكمُلَ الفوزُ بما قال الحق: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ).

 والعجَبُ أنَّ أرباحَ الذين رَبِحوا الرِّبحَ الكبيرَ في البرزخِ ويومَ النشور كانَت مكتَسبَةً في أيامِ الحياة الدنيا التي هي متاعُ الغرور؛ كانت متاعَ الغرور لكلِّ مغرور وكانت مزرعةً طيبةً لكل مُنيبٍ شكورٍ صَبور، لكلِّ خاضعٍ للعزيزِ الغفور، لِكُلِّ مُتَّصلٍ بمحمدٍ بدرِ البدور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

 بل وفي الشدائد والأهوال تَعظُم الرحمةُ لهم مِن الكبيرِ المتعال؛ بركاتُ دعواتِهم تتضاعَف، وشؤونُ مَعرفتِهم بالحقِّ تَكبُر وتَكثُر، ويكون لِمَا تضرَّعوا ولِما دعَوا آثارٌ أكبرُ وأوسعُ مِن آثارِ ما دعَوا أيامَ الرَّخاء، ومِن آثارِ ما دعَوا أيامَ اليُسْر، كُلُّ ذلك مِن عجائبِ جودِ اللهِ تبارك وتعالى. وينتهِي الأمرُ إلى ما قال الحبيبُ البدرُ: { لن يَغلِب عُسْرٌ يُسرين } قال تعالى ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) يُسرَانِ أمام كُلِّ عُسرٍ واحد، مِن فضلِ الكريم الواحد جَلَّ جلاله وتعالى في علاه .

وبتلك الزيادة في معرفةِ الله تقوَى صِلَاتُ مَن زِيدُوا بالأنبياءِ والمرسلين وأهلِ حظيرة القُدْس المُكرَمِين الذين يجتمعون في مقعدِ الصدقِ الذي قالَ عنه رَبُّ العالمين: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)

في مَقْعَدِ الصِّدقِ الذي قَدْ أَشرَقَت **  أنوارُه بِالعِنْدِ يَا لَكَ مِن سَنَا

والمُتَّقُونَ رِجَالُهُ وحضورُهُ ** يَا رَبِّ ألحِقنَا بهم يَا رَبَّنا

أولئك شأنُهم وشأوُهم ومَجدُهم وفخرُهم وفضلُهم ونعيمُهم وحُسنُهم وجمالُهم وتكريمُهم ولَذاذَتُهم وحلاوتُهم ليسَت أموراً مُدَّعَاة، ولا صوراً مُصوَّرة ، ولا مَحصورةً ولا محدودةً ، ولا مُنقضيةً ولا زائلة ولا منتهية ولا غائبة قطُّ قطُّ قطّ.. فمَن يساويهم في ذلك؟ أرباب دول!؟ أرباب حضارات !؟ أرباب صناعات .. مَن يساويهم في ذلك ؟!

كلُّ الآخرين لذائذُهم منحصرةٌ مُصوَّرةٌ محصورةٌ منقطعةٌ منتهيةٌ زائلةٌ منقضيةٌ فانية؛ لكن هؤلاء نعيمُهم، جمالُهم، فضلهم، حلاوتهم، لذَّتُهم، سعادتهم أبديةٌ سرمديةٌ دائمةٌ لا انقطاعَ لها، لا آخرَ لها؛ تزدادُ ولا تنقص، تكبرُ ولا تَصغُر، تَعظُم ولا تُحَقَّر، ولا يزالونَ في إمدادٍ مِن فيضِ فضلِ الله ( إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ) ، ( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) يقولُ الملكُ المبدىءُ المعيد جل جلاله (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) سبحانك، اجعلنا مِن أهلِ ذاكَ المَزِيد .

 فَلتَرتَقِ القلوبُ إلى حُسْنِ الطلب، وإلى صدقِ الرَّغَبِ إلى الرَّب جل جلاله وتعالى في علاه ليَحسُنَ الحالُ والمنقلَب وتنكشفُ جميعُ الكُرَب عن أمة محمد.

وكلُّ ما نازلَ العالمَ مِن مثلِ ما يُذكَرُ في أيامِكم وراءه مِن الحكم شأنٌ أفخم، ووراءَه من السِّرِّ الإلهيِّ أمرٌ أعظم. وفيه تعرَّفُ الجبَّارِ على القلوب؛ إذ لم يُفِدهم التعرُّفُ بأنواعِ الرخاء فيكون تعرُّف بالشدائد لتهرعَ كثيرٌ من القلوبِ المغرورةِ والمصوَّر لها الأمر على خلافهِ وعلى غيرِ الواقع ؛ لتعرِفَ أنه ليس لها في صلاحِ أجسادِها ومَعاشِها ولا قلوبِها ولا مَعادِها أجملَ ولا أكملَ ولا أفضلَ مِن الله؛ بل ليس لها في كلِّ ذلك إلا هو تعالى في علاه. وأنه كلُّ مَن ادَّعى إمدادَها وإنقاذَها في شأنٍ مِن هذه الشؤونِ فلا بد أن يفاجِئه من سرورِ تسيِير الأمر مِن قِبَلِ مالِكِهِ في السِّرِّ والجهر جل جلاله ما به يظهرُ عجزُهم، ما به يظهرُ عدمُ قدرتِهم . بل ربما كان عند الكثير وبكثيرٍ من الأحوال يَظهر ويَبرُز أن الذي كان يدَّعي الرأفةَ أو الرحمة أو الشفقة أو الإصلاحَ للناس هو سببٌ في بلايا أو آفاتٍ أو محذوراتٍ وتتكشَّف ؛ حتى تتنبَّهَ هذه القلوب إن كان لها مِن ملجأ تلجأ إليه ومَلاذٍ تلوذُ به واعتماد تعتمدُ عليه فالذي راعاها مِن نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ إلى عظامٍ كسَاهَا لحماً ثم نفخَ فيها الروحَ جلَّ جلاله وجعلها خَلْقَاً آخر (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) تعالى في علاه.

  فما أحسنَ الرجوعَ إليه. وربما كانت الشدائدُ هذه سبباً مِن أسبابِ هدايةِ كثيرٍ مِن عبادِ الله ورجوعهِم إلى الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه؛ مِن المسلمين الغافلين ومِن غير المسلمين، وليعلَم أهلُ الأرضِ أنَّه ليس لهم إلا ربُّ الأرضِ وخالقُ الأرض ومُنشِىء الأرض ومبدِعُ الأرض ومُنشىء السماوات ؛ وكُلُّ مَن يُستَندُ إليه مِن دونِه فهو تحتَ قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).

فيا َرَبِّ هييء رَجعةً حسنةً في القلوبِ إليك، واسعةً قويةً تشملُ المسلمَ والمؤمن، تشمل الصالحين يزدادُون صلاحا، وتشملُ الغافلين فينتقلون إلى الذكر من المسلمين ، وتشمل العاصين فينتقلون إلى الطاعة ، وتشمل كافرين فيؤمنون بك ويستعدُّون للقائك يا الله .. يا الله .. واجعل في استعداد تلك القلوبِ يا ربَّ العالمين سبباً لتعجيلِ الفرجِ وسببا لرفع الهمِّ والغمِّ والحَرج.

 يا حيُّ يا قيُّوم فرِّج كروب المسلمين، وادفع البلاءَ عن المؤمنين، وارفع هذا الشرَّ مِن الخلق أجمعين بحبيبِك الأمين الذي بعثتَه رحمةً للعالمين وقلتَ له (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وبما جاء به أحبَبنا أنبياءَكَ كلَّهم وأحبَبنا آدم وشيثَ ابن آدم وإدريس، وأحببنا نوحاً وهوداً وأحببنا صالحِاً وأحببنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وموسى وعيسى وزكريا ويحيى وسليمان وداؤود وجميع النبيين والمرسلين.

اللهم عليهم صلواتُك فأغِثنا بهم، وارحمنا بهم، وفرِّج عَنَّا الكربَ وعن أمةِ نبيِّك محمد بهم، وبملائكتك وأصفيائك يا أكرمَ الأكرمين.

واجعل اللهم فيما نازَلَ الأمةَ صلاحاً للقلوب ودفعاً للبلاء، وعجِّل بالشفاء ورفعِ هذا الأذى لا يتمادى بالأمة فيصلها إلى مواصل كثيرة شديدة صعبة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قالها عبدُك يونسُ فكانت خيرَ الدعاء كما قالها عبدُك محمد صلى الله عليه وسلم، وقلتَ عن ذلك في كتابك: ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فقلتَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) ثم قلتَ لنا ونحن سمعاك إذ أوحيتَ إلى حبيبِك هذا التنزيلَ العظيم: (وَكَذلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) أخرجتَه مِن بطنِ الحوت ومن قعر البحر ومن الأمواج ومِن الظلمات التي كان فيها إلى أن أنبتَّ عليه الشجرة من اليقطين وأرسلتَه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا اللهم فأنقِذنا من الظلمات وأخرِجنا يا مولانا مِن بَطنِ الآفاتِ والعاهاتِ كلَّ مَن أُصيبَ بها من المسلمين خاصة والناس عامة ، ومَن حُفِظَ منها أدم حفظَهم يا الله ، وبقية الآفات والعاهات سألناك ورجوناكَ وأمّلناك وبأحبابك توسَّلنا إليك فجُدْ علينا يا جواد، وأصلِحِ الجسمَ والفؤاد، والخافيَ والباد ، يا حيُّ يا قيُّوم يا الله ، يا الله اجعلها ساعة استجابة واجعل الدعواتِ مستجابة ، وأمطِر مِن صيِّب الإفضالِ على ساحاتِ القلوبِ سحابة .. يا الله يا الله .. تُب علينا وعلى المسلمين ، يا الله وادفع البلاءَ عنَّا وعن المؤمنين ، يا رحمنُ يا رحيمُ يا الله .. يا الله .. يا الله .. برحمتِك يا أرحم الراحمين وجودِك يا أجودَ الأجودين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

 

للاستماع للمذاكرة

للمشاهدة 

 

العربية