(536)
(239)
(576)
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الإمام حسن بن عبد الرحمن السقاف ، في حارة الخليف بمدينة تريم
ليلة السبت 23 جمادى الأولى 1444هـ
بعنوان: صلاح المكلفين وسعادتهم في استحضار المصير وذكرى الدار الآخرة وعظيم آثار ذلك.
الحمد لله الذي أكرمنا بِظهور شمسِ الرِّسالة، ودَلَّنا حبيبه خير دلالة، وكان مما جاءنا به عليه الصلاة والسلام عن الحقِّ جلَّ جلاله أن صلاح هذا الإنسان، واستقامة أمره، واستتباب الخير له، وجلب المكرُمات، ودفع الآفات عنه، قائم على حُسن تذكُّرِهِ لمصيرهِ وفنائهِ وعاقبتهِ وآخرته، ورجوعه إلى مولاه.
وأنّ أنواع البلايا والآفات تصيب هذا الإنسان بنسيانه يوم الميقات، ونسيانه بالرجوع إلى ربَّ البريات جلّ جلاله، ونسيانه المصير الكبير ويوم البعث والنشور، وما يكون في العاقبة مما حدثنا الله سبحانه وتعالى عنه وهو أصدق القائلين، وأنبأنا نبيُّهُ الأمين {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وذلكم هو المستقبل العظيم الكبير لجميع المُكلَّفين، ولا مستقبل أهم منه، ولا أخطر منه ولا أعظم منه، ولا أجلّ منه قط، قط، قط.
وهكذا الذين يحسنون النظر في المستقبل هم المؤمنون العاملون بِمُقتضى الإيمان، هؤلاء الذين انتبهوا من مستقبلهم، وهؤلاء الذين هيَّأوا في أيام معاشهم، وأيام عمرهم الفاني، وأيامهم في الدنيا المُنقضية الزائلة، هيَّأوا أسباب السعادة الكبرى والفوز في الأخرى.
هؤلاء أهل المستقبل، مَن ضَمِن مستقبلهُ مثلهم! عسى هم من جاب له شهادات ولا بنى له عمارات ضمن مستقبله، إيش من مستقبل هذا! مستقبل يخرجون منه على رغم أنفه، مستقبل يأخذه غيره وهو يُحاسَب عليه، إيش المستقبل هذا؟ مستقبل ما يجلس فيه إلا مدة يسيرة ووقت قصير، ثم يُحال بينه وبينه.. ما هو هذا المستقبل، المستقبل البرزخ، فالقيامة، فغاية المستقبل خلود وأبد إما في جنة وإما في نار، وما دام هذا وارد على ذهن الإنسان وعقله وتأمُّله، ولا يزال يتدبر فيه ويتأمّله فهذا الإنسان على خير ومحظوظ، وهو الذي يُحسِن التزوُّد من هذا العمر القصير، وهو الذي يُحسِن في الدنيا المسير، وهو الذي يطيبُ له المصير.
كما بيَّنت الآيات، وجميع الآيات المُنزلَة، قال سبحانه وتعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى* إِنَّ هَذَا} المعنى والكلام وتبيين هذه الحقيقة {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} كلُّ الأنبياء جاءوا للناس بهذه الحقيقة، ودعوا من آمن بهم أن يُفكِّروا في العاقبة، وأن يستعِدّوا للمآل والمصير والمآب، فالله يهيء لنا حُسن المآب.
وصرّحت لنا الآيات الكريمة بأن ما يُنازل المكلَّفين في يوم القيامة، العُصاة والكُفار والعياذ بالله تعالى، مِن العذاب الأليم المهين والشِّدة والألم يُقال لهم بما نسيتم يوم الحساب إنا نسيناكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا، {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ}، {كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}.
يقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}
فلا يجوز لنا أن ننسى، ويجب أن نتذكَّر يوم الحساب وشأن الحساب، ونسأل الله أن يُدخلنا الجنة بغير حساب، ومن الأمم من يدخل الجنة بغير حساب، ولكن أكثرهم من هذه الأمة، في هذه الأمة كثير يدخلون الجنة بغير حساب وهُم أكثر أهل الجنة، أهل الجنة يوم القيامة مئة وعشرون صفاً، ثمانون من هذه الأمة وأربعون من بقِيّة الأمم، الأمم كثيرة قبلنا وزمنهم كثير، وأيامهم طويلة وأعدادهم أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف أعدادنا بعشرات المرات، ولكن مع ذلك الذين يدخلون الجنّة من هذه الأمة ثُلثي أهل الجنة، وثلث من باقي الأمم كلهم، حُزنا هذا بواسطة السيد المعصوم، مِسك الختوم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ومعنى أنه يحصل فيهم في كثرة منهم تذكُّر هذا المصير هذا اليوم، والخوف من الله سبحانه وتعالى، فبذلك قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }.
وبيَّن لنا أن أهل مسلك الحق من الأنبياء والمرسلين، هذا الذي يخطر على بالهم، ويُقيمونه ميزان للحساب، لمحاسبة أنفسهم على ما يقولون ويفعلون، وعلى ما يُعرَض عليهم من الشؤون والأحوال في الدنيا، يجعلون شوكة الميزان كيف مصير هذا في الحساب؟ في يوم الحساب يصلح ولا ما يصلح؟ ننجو ولا نهلك؟ فإن كان فيه هَلَكة في ذاك اليوم ولو مُلك الأرض من أقصاها إلى أقصاها يتفلون عليه ويبعدون منه ولا يلتفتون إليه أبدا، وإن كان يمشي في ذاك اليوم أو فيه فائدة في ذاك اليوم أقبلوا عليه وَقَبِلوه، بهذا الميزان الدّقيق استعدّوا للمستقبل ودخلوا في ضمان المستقبل، ما هم ضمنوا لأنفسهم، الله ضَمِن لمن يقوم بهذه الأعمال، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} المقام.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} والعياذ بالله تبارك وتعالى، قال الله في أهل هذا المسلك: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } ذكرى الآخرة، قال {أَخْلَصْنَاهُم} من هؤلاء؟ أنبياء ومرسلين.
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم} ، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} والأيدي يعني أصحاب القوة في الإيمان وفي اليقين، وأصحاب البذل والتضحية لِرَبِّ العالمين، {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ذوي العقول وحسن النظر، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ} عليهم صلوات الله وتسليماته، فعلى هذا مشوا.
تجد الآن إبليس وجُنده مِن شياطين الإنس والجن، يدعون المسلمين بِكُلِّ قُواهم أن ينسوا يوم الحساب، أن لا يحسبوا حساب للآخرة أصلاً، ولا يُعدونها شيء، ويحاولون أن يغفلوهم عنها وأن يُشكِّكوهم فيها مهما قدروا على ذلك، والله يدفع عنا شرّهم وضُرُّهم وأذاهم، وإلا وصلوا لناس كثير مسلمين مؤمنين ما عاد درينا إلا تغيّرت أفكارهم، تغيّرت أخلاقهم، ولو كان ذِكر الدّار في أذهانهم، لا سيُصدِّقون الكفار ولا ينخدعون بما يطرحون عليه.
يأتون للمرأة ويقولون لها عيشي حياتك، تبرَّجي وخوني الأمانة، واظهري زينتِك لشباب المجتمع، وأن هذا حُريّة، تُصدّقهم؛ لو كانت مؤمنة بيوم الحساب لن يضحكوا عليها ولا ستصدقهم! تقول لهم يُوصلني إلى أين كلامكم هذا؟ مُجرَّد اتِّباع هوى ونفس وشهوة من الشَّهوات أقضيها، ثم وراءها خِزي، ووراءها طرد من الرَّحمة، وراءها خُسران عظيم، والله ما في هذا مِن فائدة، ولكن في بنات مِن بنات المسلمين صدَّقنهم، صدقنهم، وَرُحْن وراء الشَّر والعياذ بالله تبارك وتعالى، وظنَّين أن في ذلك شرف، أو في ذلك رِفعة، أو في ذلك خير، وهم بأنفسهم في الدنيا قبل الآخرة يجنين ثمرات هذا، تعب وحسرة وندامة وشر، ومشاكل تحصل لهم في الحياة قبل الآخرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وإذا لم تَتُب الواحدة منهن حتى جاءها الموت وهي على هذا الحال تعرّضت لعذاب شديد والعياذ بالله تبارك وتعالى، تحدث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا استعطرت المرأة) يعني استعملت العطر (مرّت على الرجال يجدوا ريحها فهي زانية)، عليها إثم الزنا، وهذا يقول لها.. أنتِ خلِّ المتشددين، خلّ أبوك هذا، وحتى من دون دراهم اعملي كذا وامشي بكذا، خليهم هؤلاء متشددين، وإذا بها يكتب عليها إثم الزِّنا وعاد هي ما زنت مسكينة وعليها إثم الزنا، ومن يُخارِجها من هذا الإثم بعدين، وإلى فين ودّوها هؤلاء الخَوَنة، وإلى فين وصلوا بها.
وصدّقوهم، صدقوهم عرضوا عليهم بضائعهم الفارغة، لكن لما كانت القلوب فارغة مِن تذكُّر المصير والآخرة صدّقوهم وانخدعوا لهم، حتى حملوا بعضهم البعض على غش بعضهم البعض، وعلى ضُر بعضهم البعض، حملوا المسلمين على أن يُقاتلوا بعضهم البعض، قتال ما عاده سِباب، السِّباب هو فسوق، وقفزة من الفسوق للكفر والعياذ بالله تعالى، (سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر) في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وهذا يغرّك إما نفسك وإما هواك، وإلا شيء من خطط الماكرين الخبيثين في الدنيا، تملأ صدرك على التحامل على أحد جنبك، أو جارك، أو قريبك، أو في بلادك، أو في زمانك، المهم تشتحن صدرك عليه من أجل يمتلئ غش، ولا عاد تُقبَل لك صلاة ولا صيام، وترد عليك أعمالك، وتتعرّض للخزي في القيامة والعياذ بالله، وحقوق هذا الذي تحاملت عليه، وقد يكون مسكين حتى ولا يوم تكلّم عليك، ولا أخذ شيء من حقك، ولا..وأنت مُتحامل عليه بالوسوسة التي من هذا ومن هذا وبالتلبيس، وأغرَوك أنك تتكلم على هذا، وتتكلم على ذاك، ونسيت.. نسيت {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} حاضرين يكتبونه، وبعدين، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ}.
{يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ* بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}، وما ينفع هذا الاعتذار، وما ينفعه، إلا كلهم يعتذرون وكلهم يندمون، أكبر مُلحد، وأكبر منافق، وأكبر خبيث، كلهم يعتذرون عند الموت، وفي البرزخ ويوم القيامة يبكون، ما ينفع شيء، ما يفيدهم شيء، قد دُعوا إلى الخير وما رضوا، حتى إذا دُعوا إلى السجود في الآخرة، فالمنافقون والكفار تتحوَّل ظهورهم كالصحيفة الواحدة كأنها خشبة ما يقدرون على السجود، قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يعني يوم يكون الهول العظيم { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍۢ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}
كانوا أيام في الدنيا سالمين أقدرناهم، يقدرون على السجود، دعاهم الأنبياء وورثة الأنبياء إلى أن يسجدوا لله فأبوا، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}، يقدرون على السجود فأبوا، {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ} من يقول؟ الله، وشي تهديد أكبر من هذا، يقول الله ذرني، اتركني وهؤلاء، من هم؟ جميع الملحدين اللي في زماننا، واللي قبلهم، واللي يأتون بعدهم، قال لك : خلونا لهم، أين يروحون؟ وما المصير لهم؟ {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً}، فيا ويل لهم هؤلاء مُخرِّبين دُنياهم وآخرتهم، ولا يغرّونكم كل من تطاول منهم، وكل من نشر الشر بين المسلمين منهم، ما هي إلا أيام وبتشوفونهم عِبرة، وبيتعبون في الدنيا قبل الآخرة، ولا تغرُّكم حضارات ولا دول كبرى ولا شيء من هذا الكلام، كل من طال عمره منكم بيشوفهم هؤلاء اللي تبجّحوا لنا عشرات من السنين، تبجّحات باطلة كاذبة بالتُّرَّهات والبطالات والدنيا والمادّة وكأنهم كل شيء، وغشّوا كثير من عقول المسلمين والمسلمات، حتى صارت عظمة النبوّة والرسالة تكاد مَمْحُوّة من القلوب والعياذ بالله تبارك وتعالى، وعظمة الولاية وعظمة الصلاح موْحُوَّة، وبدلها عظمة ألعاب، وعظمة مغاني، وعظمة وظائف لكفار، وعظمة حضارة كفار دخلت في القلوب، وهذا مضادة لحقيقة لا إله إلا الله، حقيقة لا إله إلا الله تُبيِّن لك أن كل عملهم هذا حقير وزائل، وضعيف ولا يساوي شيء.
عندما دخل عندهم سيدنا الربعي بن عامر حصّلهم موسدين وسائد حق الملوك، معه الرمح حقه، أخذ يخرق بين الوسادات، عدّى على عامتهم وطلع لمحل الذي فيه الملك حقهم، وجلس بجانبه، وقالوا له أخرج، قال أنا ما طلبت أجي عندكم، أنتم طلبتوني أنتم تعملون بضيوفكم هكذا، قال خلوهم خلوهم، وقال قل له ملكهم هذا رستم قائد الجيش حقهم جيش الفُرس، يقول له: إيش الذي جابكم لبلداننا، وما الذي غركم الولوع بنا وبديارنا، وقال له أنتم ناس نعرف تاريخكم هناك مثل الغنم في الصحراء عندكم بادية وما أنتم حول شيء.. الآن عروشنا تخاف منكم والدول، ما الذي غرَّكم على الولوع بنا وبديارنا؟ أجابه سيدنا الربعي ثلاث كلمات، قال له: الله ابتعثنا! شفتوا العظمة حقه هذا، ما قال له ورائي حزب، ولا ورائي سياسة، ولا ورائي قبيلة، ولا ورائي .. (الله ابتعثنا، لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضيق الدنيا إلى سَعة الآخرة)
لهذا جئناكم، الله أكبر، هذه العِزّة بالله، وهذا الإيمان، وهذه القوة في اليقين، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وما كان إلا سلّموا لهم، فتحت لهم البلدان، ولو فتحوا لا قعدوا يبنون، شفتوا الصحابة اللي تفرقوا في الأقطار، قولوا لي وين ديارهم، وين الأشياء اللي ملكوها في البلدان اللي راحوا إليها، واللي حكموها بالإسلام، لا بنوا لهم قصور، ولا قعدوا وراء الأموال والجواهر حق الملوك السابقين، ولكن أقاموا أمر الله وعاشوا على زُهدهم، وعلى أدبهم، وتواضعهم وورعهم، وربطوا القلوب بالرب وهيأوهم للجنة، ومشوا في طريقهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.. وهكذا وهكذا.
واللي حكموا مصر من أول الإسلام، شي مذكور ثروات لهم؟ شي مذكور جمعوا لأنفسهم وأموالهم واستصفوهم؟ ولما وصلوا سوارَي كسرى وقيصر وجواهرهم إلى سيدنا عمر، شي لبس منها؟ شي أعطى زوجته منها شيء؟ عطى أولاده منها شيء؟ قالت له زوجته نريد حلوى، قال: إن شاء الله لما ييسر الله لنا شيء نأتيكم بحلوى، ليس لي في بيت المال حلوى، قال: ما لي حق آخذ حلوى فقط قيمة القوت، غداء وعشاء لنا ولكم من بيت المال في اليوم، هذا الذي يُزوّد، أفتى سيدنا علي لما توفي سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر بقي ينظر، كم يأخذ من بيت المال؟ جمع الصحابة، كبار الصحابة يستشيرهم، قالوا لسيدنا علي لك وأهل بيتك غداء وعشاء، وكِسوة في الصيف وكِسوة في الشتاء، هذا الذي لك في بيت المال، ما أخذ شيء زائد عليك، قال لها ما عندي شيء ولكن إذا يسَّرَ الله مال نشتري لكم حلوى، قصَّرَت مِن النفقة حق الشهر وأخرجت منها شيء من الدراهم، قالت هذا اشتري لنا به حلوى، من أين جئتِ به؟ قالت قصَّرت في النفقة حق الشهر هذا، قال عمر له أشهر يأخذ زائد على الحاجة، هذا زائد على الحاجة، قدرنا نعيش هذا الشهر من دون هذا، هاتيه نردُّه لبيت المال ومن الشهر الآتي ننقص هذا، يكون ناقص لأنه تبيّن أنه زائد على حاجتنا، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، هذا أمير المؤمنين.
وسواري كسرى وقيصر ألبسهن سيدنا سراقة لأجل إحقاق كلام النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سُراقة وأنت تلبس سِوارَي كسرى وقيصر)، وفي وقت خروجه من مكة إلى المدينة، الأوضاع كُلّها حوالَيه خائفين عليه وخائف على نفسه وصاحبه أبو بكر الصديق، والمدينة فيها عدد قليل من المسلمين هناك، وعدد قليل من الإسلام في حواليهم إلى نواحي وراء الدمام هناك في الأحساء، وما أحد مسلمين في الأرض والملك كله كفر هنا وهناك والمشركين بزمجرتهم، وقال سِواري كسرى وقيصر، تجيء بهذا الدين وتلبسهن أنت يا فقير يا بدوي عائش في الصحراء وتلبسهن، (كيف بك وأنت تلبس سواري كسرى وقيصر)، النبي يتحدث بهذا الحديث بقوة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، حتى هو وقع في باله أن هذا بيظهر، قال له اكتب لي كتاب يا رسول الله، أمر سيدنا أبي بكر قال له اكتب له، كتب له ولما جاء عام الفتح في مكة جاء بالكتاب، قال له نعم اليوم يوم وفاء وأعطاه كثير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لما وصلت الكنوز لكسرى وقيصر وفيها الأسوِرة حقهم اللي كانوا يلبسونها، قال سيدنا عمر أين سراقة، هاتوا لنا سراقة، جابوا له سراقة قال هيا البس، ألبسه في يده. قال أرِها خلق الله، قل لهم شوفوا سراقة لبس سواري كسرى وقيصر أكبر ملوك الأرض، أذلهم الله تبارك وتعالى بكفرهم، وبِعاندهم وبِتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لما قالوا له أن كسرى مزَّقَ الكتاب الذي جاء منك، قال: (مُزِّقَ ملكه، مُزِّقَ ملكه، إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله).
وعاش سيدنا عمر إلى وفاته بهذا الحال، عليه الرضوان، والكنوز جاءت ولكنه ما أخذ وقعد يأكلها، سيدنا علي كلما جاء شيء من بيت المال يوضعه في المكان ليضع فيه مال بيت المال، إذا أنفقه وأخرجه قال ما عاد شيء يدخل للمكان، يرشونه ويصلي فيه، يصلي في المكان، يقولوا له: مالك؟ قال كما يشهد علي بُجمع المال يشهد لي بالصلاة، كل ساعة يُنفق الذي يجيء وكلما امتلأ المكان وأنفقه يدخل يصلي فيه سيدنا علي رضي الله تعالى عنه.
وهكذا.. تأخر معه في بعض غزواته بعض الناس، قال أنا ما أتغدى وما أتعشى إلا مع أمير المؤمنين، ترك الجيش يذبحون لهم مِن ما يحصل من الغنائم وغيره، جاء حصله وقت غداء، أمرهم يأتوا بكيس فتح كيس، وسطه كيس، وسطه كيس ثالث خرَّج كِسَر خبز يابسة ودعا بالماء ونقعها عليه ويأكل، قال: يا أمير المؤمنين هذا غداء! قال له شوف الجيش يتنعمون ويأكلون، قال له هذا بتغدى منه هو هذا غداء، اذهب إلى عندهم، قال له أنا هذا الخبز أعرف بذره من أين، وفي أي أرض بُذِر، وبأي ماء سُقي، ومن حصده، ومن طحنه، وبأي ماء عُجِن، وبأي نار طُبخ، أنا أعرف هذا، ولهذا يستصحبه معه ويأكل منه عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
فما جاءوا من أجل الدنيا، ولا فتحوا الأمصار من أجلها، ولكن هؤلاء الذين ابتلاهم الله بهذا الشأن، قد سمعتم قصيدة سيدنا حسن بن عبد الرحمن السقاف،على هذا الميزان قامت حياته:
ترانا مُعلّق بدار الفناء
ويا من ضَمِن لي بعمر طويل
ودنيا دنيّة تغرّ أهلها
ولابد للمرء من ذا الرحيل
ثم تكلم على الآخرة والمجيء فيها والجنة والنار، وأن هي الميزان وغير ذلك غرور.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}
فإن الله يفتِن ناس كثير والعياذ بالله، يجعلهم حطب جهنم والعياذ بالله، اللهم أجِرنا من النار، وانفعنا بهذا المجمع، وبهذا المجلس، مجالس المنيبين والخاشعين في مساجد الذاكرين الذين أخلصوا بخالصةٍ ذكرى الدار، عليهم الرضوان.
اللهم ألحِقنا بهم وأرِنا وجوههم في البرازخ، وأرِنا وجوههم في القيامة، وأرِنا وجوههم في الجنة يا رب، ولا تُخلّفنا عن ذاك الركب الأغرّ المبارك يا أرحم الراحمين، وأعِذنا وديارنا ومنازلنا وبلداننا أن يُحشر أحد منها مِن أهلها مع يهود أو مع نصارى أو مع ملحدين أو مع فجار أو مع كفار.
يا رب هيئنا للحشر مع النبيِّ المختار، ومع الصالحين الأخيار، يا أكرم الأكرمين، عاملنا بما أنت أهله في جميع الأطوار، وأصلِح لنا السر وأصلِح لنا الإجهار، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيك المختار وزيِّن قلوبنا بذكرى الدار الآخرة، وارزُقنا حُسن الاستعداد لها برحمتك يا أرحم الراحمين، وارزقنا بذلك النّباهة واللُّب والكِياسة والعقل، فقد قال نبيك: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت).
ولا تجعل اللهم الحَمَق يأخذ فينا ولا العجز رجال ولا نساء ولا صغار ولا كبار، وقد قال نبيك: (والأحمق العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني)، اجعلنا ممن استعدّ وصدق معك في الغيب والمشهد، واقتدى بنبيك محمد، وتابعه في كل عمل وقول ونية ومقصد، حتى تحشرنا معه مع خيرة الأخيار مِمّن جَدَّ واجتهد، بِرحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
24 جمادى الأول 1444