سر الاستجابة لدعوة الله ورسوله والحياة بها
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مجلس الذكر والتذكير في ذكرى دخول سيدنا المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى إلى حضرموت، في منطقة الحسيسة، ليلة الخميس 15 محرم 1447هـ بعنوان:
سر الاستجابة لدعوة الله ورسوله والحياة بها
نص المحاضرة:
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم على الوجهة إليه، والتذلُّل بين يديه، والاستماع لندائه وأخباره وأنبائه، على ما بَعَث به رسوله وأنبياءه الذين ختمهم بأصفى أصفيائه وأحبهم إليه، المجتبى المختار محمد بن عبد الله.
ونادانا المولى جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
يا من يحول بين المرء وقلبه، هذه قلوبنا بين يديك، وجِّهها إليك، ارزقها صدق الإقبال عليك وحسن التذلُّل بين يديك، يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، يا مُصرِّف القلوب والأبصار صَرِّف قلوبنا على طاعتك.
فيا رب ثبِّتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير مِلّةِ
برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
سلسلة الهداية والدعوة
ارزُقنا حُسن الاستجابة لندائك ولنداء رسولك، ودعوتك ودعوة حبيبك المُجتبى المختار محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله.
التي لا ترجمة لها في واقع الأمة وحياتهم إلا نداءات الصحابة وآل البيت الطاهر، ثم نداءات التابعين الذين ارتبطوا بالخيار من الصحابة وآل البيت النبوي، ثم نداءات تابعي التابعين، ثم نداءات ودعوة تابع تابع التابعين المتصلين بالخيط والسلسلة والحبل المتين القوي المَصون.
إلى أن ظهرت هذه الظواهر والمظاهر والجواهر، في مختلف الأقطار على أيدي من اختارهم الإله الكريم الغفار جل جلاله وتعالى في عُلاه، للوعي عنه وللوعي عن رسوله ﷺ، وترجمة ذلك بالقيام بالرحمة، بأقصى الهِمّة وأداء المُهِمّة، وارتقاء القِمة، على الوجه الجميل والحال الفضيل، والشُّرب من أحلى سلسبيل، والاستقامة على أقوَم سبيل. (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ).
يا من يحول بين المرء وقلبه، اسقِ القلوب الحاضرة في المَجمع هذه الليلة كأساً من المعرفة بك، والوعي لما أوحيت إلى نبيك، للاتصال بهذه السلسلة وهذا الحبل الممدود، حبلك المتين الذي أمرتنا بالاعتصام به.
هجرة المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى
فكان من مظهر هجرة المُهاجر وما ترتب عليها، ومن خرج معه من العراق في تلك الأيام، لا لضعف اقتصاد في العراق، ولا لضعف توفير الحاجات والمعيشة في العراق، ولكن لأجل قوة الرابطة بالخلاق، وأن لا تطغى شؤون الدنيا على حقيقة اتصال القلوب برب الدنيا والآخرة، والاستعداد للقاء جل جلاله وتعالى في علاه.
وأقام مَن جاء معه في وادي سردد ووادي سهام في تهامة اليمن، وواصل السير إلى أن أتى إلى الجبيل، ثم إلى الهجرين، ثم قارة بني جُشير، ثم استقر في هذه، وكانت مدينة كبيرة أيامه عليه رضوان الله تبارك وتعالى، واستمرت بعده مدة إلى أن خُربت على يد الصبراتي.
نهاية تصديق الرسل ونهاية الاغترار
وترك هذه المعاني البديعة في وعي خطاب الله ووحيه وبلاغ رسوله ﷺ، المؤتمن من قِبَل مُكوّن الكون على الإبلاغ وعلى البيان وعلى الإنباء (لِّتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
بعد من مضى قَبْله ممن قال عنهم جل جلاله: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
يقول: لا تقولوا غرّنا شياطين الإنس، غرّنا شياطين الجن، غرّنا زخرف قولهم، غرّنا تلبيسهم، غرّنا تدليسهم. جعلتُ فيكم أنبياء، جعلتُ فيكم رسلاً، بيّنوا لكل مُنصِف مستمع منكم يسلم من كل ما مع إبليس وجنده من أنواع التلفيقات والتلبيسات والتدليسات وزخرف القول والكذب والغرور.
فلم لم تستجيبوا لرسلي؟ لم فتحتم آذانكم لأعدائكم؟ لم فتحتم آذانكم لمغويكم ومُرديكم والذاهبين بكم إلى غضبي وعقابي؟ وقد بعثت إليكم أسباب رضائي وأسباب عفوي ومغفرتي، وأسباب القرب مني وأسباب المعرفة بي! (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
فلا حُجّة فيمن ضل ولا من قَبِلَ الضلال ممن طغى وزل، وفي يوم القيامة يقول رئيسهم لجميع أتباعه بأصنافهم: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
تركتم الأولياء، تركتم الأنبياء، تركتم الصلحاء، تركتم أهل النور، تركتم أهل الهدى واتبعتموني. وبعد ذلك اللوم علي أو عليكم؟ ما أحد منهم إلا وفي زمانه أهل نور، وفي زمانه أهل هدى، وفي زمانه أهل تقى، وفي زمان أنبياء أو ورثة أنبياء، لكن ما أطاعوهم، ما استجابوا لهم.
يقول الله عن سيد هؤلاء المرسلين: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا). الهداية في طاعته، الهداية كلها بمعانيها في طاعته ﷺ، ثم قال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وهكذا: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ)، كان يكفي (وكفروا) فقط، لكن نص على هذا التعيين (وَعَصَوُا الرَّسُولَ)، قال: كفرهم من مخالفة هذا، كفرهم من الخروج عن هذا.
فيا من يدَّعي الإسلام، انتبه لنفسك! لا تقبل دعواتهم ولا تلبيسهم ولا زيغهم ولا ضلالهم ولا زخرف القول، ينتهون فيما تشاهدون اليوم أن رعايتهم لمصالحهم - وهُم في قمة ثقافتهم وتطورهم - تقتضي السكوت على تقتيل الأبناء والأطفال والنساء، وتهديم المساجد والبيوت والمنازل والملاجئ والمخيمات، والسكوت عليها لأجل المصالح!
هذه نهاية الثقافة والتطوّر والتقدم! وما هذه الإيحاءات الغريبة التي أوقفت من أوقفت، وبقي من له قلب.
يقول ﷺ في ظهور المناوئين والبعيدين عن منهج الله من المُغرّرين والمضللين: "فمن جاهدهم بنفسه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بماله فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقوله فهو مؤمن، ليس وراء ذلك إيمان".
ترتضي الفجور؟ أو ترتضي الكفر؟ أو ترتضي الشر والعياذ بالله تبارك وتعالى؟ أو ترتضي معاداة الله ومعاداة رسوله ﷺ؟
سمعتم هذه الإيحاءات التي أوحوها حتى دخلوا بيننا في أفكارنا وأفكار ناشئتنا وأبنائنا، والتقصير منا في عدم الاستجابة (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، ومن أحياه الله لا يميته إبليس ولا جنده.
قوة إيمان من يفر منه الشيطان
وفيهم من قال كما قال ﷺ في سيدنا عمر، فيمن حاله كما قال سيدنا عمر: "إن الشيطان ليفرق من ظل عمر". "إيهاً يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك". ما يتركك أنت وأصحابك.. الطريق كلها يتركها لك ويروح إلى طريق آخر، لأنه يعلم أنه فاشل أمامك! (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ).
فهكذا ويجيء الذي يبول الشيطان في أذنه في أكثر الأيام ويتكلّم على عمر بن الخطاب! ويتكلم على من يفرّ منه الشيطان! سبحان الله! ما هذه المُعادلات؟ ما هذه التقوّلات؟ ما هذه التَّجرِّيات؟
وفي الأمة من أمثال هؤلاء: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ).
التوكل الحقيقي
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
التوكُّل على الأنظمة كَثُر عندنا، التوكل على المنظمات كثُر عندنا، التوكل على الوزارات كثُر عندنا، التوكل على الأحزاب كثُر عندنا.. توكل، توكل، توكل عليها! يظن أنها رازقته، ويظن أنها مُحييته ومُميتته، وليس فيها رازق ولا محيي ولا مميت!
الرازق واحد اسمه الله، والمُحيي والمميت واحد اسمه الله جل جلاله وتعالى في علاه، (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا).
لكن ظن، لكن وَهم، توكلوا عليها من دون الله. والمتوكلين على عقولهم كثير، والمتوكلين على أهوائهم ومن أغرب الغرائب! يتوكل الإنسان على هواه! هواه المُردي له، هواه الموصِل له إلى قعر جهنم يتوكل عليه! أعوذ بالله من غضب الله! يعتمد عليه في أنحاء اختياراته.
يقول للهوى: أين تريد أن أذهب؟ وأنا وراك!، و "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
والتوكل على الله قصُر، والتوكل على الله قلّ في قلوب كثير من المُصلين وكثير من العُبّاد، فكيف بغيرهم؟ يا رب ارزق القلوب استجابة لدعوتك ودعوة رسولك.
الهجرة وحقيقة النصرة
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).
وكان من الدعوة إلى الحياة ما كان في أيام الهجرة، وأنتم في ذكرى الهجرة.. ووسط الغار والصديق يرى قوم الكُفر ودولة الكفر وصلت إلى عند الغار، ويسمع حديثهم وما يتحاورون به، ويبكي.
"ما يبكيك يا أبا بكر؟" ، قال: "لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا يا رسول الله! وإن أهلِك أنا فإنما أنا ابن أبي قحافة، لكن إن تهلك أنت تهلك الأمة بعدك!"
التفت إليه الحبيب: "أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا".
(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
كُل مَن تخلف عن النصرة فهو مهدد بهذه الكلمات الإلهية في أي وقت كان! لا تتخلف عن نصرة نبيك في نفسك ولا بيتك ولا أسرتك ولا محيطك، يقول لك الجبار الأعلى: (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)!
محمد ما هو محتاج إليك، ولا سنته ولا هديه ولا عترته ولا دينه، أنت المحتاج! قُم وأنقذ نفسك، وابذل روحك من أجل نصرته، تَفُز وتسعد، تسعد بخيرات الدارين وسعادة الدارين من فيض فضل الله تعالى، وإلا هو غير محتاج.
(فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) ذكر المثل والنموذج: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ).
دعاء لإعلاء كلمة الحق
يا سيدنا ومولانا، والذين كفروا في زماننا هم كالذين كفروا في ذاك الزمان وعلى ممر الزمان، اجعل كلمتهم السُّفلى! اجعل كلمتهم السّفلى! اجعل كلمتهم السّفلى!
ثم قال: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) حتى معنى أن تقاتل أو تجتهد لتكون كلمة الله عليا، لتظهر الحقيقة للناس، والا هي عليا جاهدت أو ما جاهدت، سكتّ أو قعدت، هي عليا!
انظر نص الآية عندك يقول: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ) ما قال "وجعل"، فقط أعطى خبر: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) ما يتأتى أن تنزل، لكن إن اجتهدت أنت لتُظهر علو هذه الكلمة وشرف هذه الكلمة العظمى، فلك الفوز، لك السعادة، وإن تغالط نفسك تريد الكلمة الثانية تسقط معها، تسقط معها والعياذ بالله!
"يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية، الرجل يقاتل شجاعة، الرجل يقاتل ليُرى مكانه، الرجل يقاتل للذكر، الرجل يقاتل للمغنم، أيهم في سبيل الله؟"، نفاهم كلهم، قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". هذا وحده فقط! "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
ولذا إنما نرقُب من القلوب المتوجهة لمقاتلة المعتدين والظالمين أن لا يكون لها قصد إلا لتكون كلمة الله هي العليا.، فالله يُلهم الذين يقاتلون المعتدين من الكفرة أن لا يكون في قلوبهم قصد إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.
وكل من قصد هذا القصد فهو مُجاهد في نفسه أو أسرته أو بيته أو عاداته أو ترتيباته أو تربيته لأهله وأولاده، أو رفضه لأطروحات الكفار والفجار ولوسائلهم ولأساليبهم ولما يلعبون به على عباد الله.
كوَّنوا منا ثلة معشر المسلمين! مُجندين لهم تجنيداً كليًّاً، حتى يظهر في مثل هذه الأوقات العصيبة من يظهر بمظهر الدعوة ومظهر الدين يقول: يا معشر المقاتلين للمعتدين والظالمين والغاصبين، لا تمدّوا أيديكم لبقية فئات المسلمين، لأنّ فئات المسلمين الباقين فيهم ضلال وفيهم زيغ، هؤلاء الذين تقاتلهم أحسن منهم! هؤلاء الذين تقاتلهم أهل كتاب، تُنكَح نساؤهم، أما الفئات الذين هو ليس راضٍ عنها من الذين أنت تتصل بهم يا مجاهد لا تُنكح نساءهم!.. يعني المعتدين أحسن منهم؟! وباسم الدين والدعوة ويأتي بآيات يلعب بها! مُشترين في أفكارهم، في عقولهم، وتجنَّد كثير من أهل الإسلام والعياذ بالله لعدو الله وأعداء الله وسُخِّروا لذلك.
وبقي الذين سَلِموا من هذا من معاشر المسلمين الكثيرين، ما يقطعهم إلا طمع أو هوى أو حظّ نفس، فاتركوها! قوموا مع ربكم! قوموا لربكم ولرسوله تظفروا بالخير الأكبر!
قصد وجه الله والرحمة بالخلق
شأن الهجرة يُذكِّرنا - وكنا نذكر في المجالس مع حضور السابقين معنا، أعلى الله درجاتهم وجمعنا بهم في أعلى الجنة - أنّ الله حفظ صدق قصد المهاجر، ما أحد يقول: المهاجر إلى اليمن ولا المهاجر إلى حضرموت. المهاجر إلى الله! تعرف إلى الله؟ ما جاد به هنا إلا قصد وجه الله، ما جاء به إلى هنا إلا وجه الله! ما يبحث عن شيء، يبحث عن الرضوان الأكبر.
هو خليفة الذي قال لما رموه بالحجارة: "إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي".
بعدما عملوا معه كل ذلك ما قال أشكو إليك المشركين في مكة ولا المؤذين الذين في الطائف ولا الذين رموني بالحجارة، قال: "أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا رب العالمين"، ما هذا القلب؟ ما هذا العقل؟ ما هذه العبودية؟ ما هذا الأدب مع الرب جل جلاله؟
وجاءه ملك الجبال وقال له سيدنا جبريل استأذن، يقول لك: يستأذنك ملك الجبال، ما خرج لأحد قبلك، والله أرسله إليك ليكون طوع أمرك، أتأذن له؟ أذِن.. الله أرسله إليك، ويقول: إنه يقرئك السلام، وقد سمع قول قومك وما ردوا به عليك، وأنا ملك الجبال، أمرني أن أكون طوع أمرك، فإن أحببت أن أطبق عليهم الأخشبين وأحمل هذه الجبال وأدقها عليهم حتى لا يبقى منهم أحد فعلت.
قال: لا، لا! ولكني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يتولى هذا الأمر، ومن يقول لا إله إلا الله، وقف ملك الجبال قال: صَدق الذي سماك الرؤوف الرحيم! صدق الذي سماك الرؤوف الرحيم!
أنت تكون أحياناً مع صديقك، وتفكّر في بعض مصالحه بحكم الولاء والمودة، لكن تفكر في أولاده؟ أندر! لا، لا تفكر في صلبه الذين سيأتون.. ما يحصل منك! وهؤلاء ليسوا أصحابه بل أعدائه ويفكِّر في الذين في أصلابهم؟!
أي رحمة هذه؟ أي قلب هذا؟ بشر لا كالبشر صلوات الله وسلامه عليه! كله نور، كله هدى، كله عبودية، كله كمال، كله جمال، كله شرف! محمد الذي به تشرّف سيدنا المهاجر.
قال سيدنا عبد الله بن عمر بن يحيى: رأيتُ الحبيب الأعظم ﷺ، قلت: يا رسول الله، وأنت فرحان بخروج أحمد بن عيسى إلى حضرموت؟ قال: التفت إليّ ثم قال: أنا أفرح بكل ما يفرح به أحمد بن عيسى، أنا أفرح بكل ما يفرح به أحمد بن عيسى!
والله يجعله في ليلتنا فرحان، فرحان بما ينزل علينا وبما يجود الله علينا وبما يجمعنا، ينظر إلى القلوب ويرزقها الاستجابة لدعوته ودعوة رسوله، نحيا الحياة الكريمة، حياة الأبد.
أهل الحياة الطيبة
يقول سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
وذاق هذه الحياة خيار مَن مضى قبلكم مِن مختلف القبائل في الوادي، وكان فيهم أئمة من مختلف القبائل دعاة وأدِلاء على الله، وفيهم مجتهدون في جوانب من شؤون الحياة بالورع وبالإخلاص وبالخوف.
والعجيب أن عامتهم كان فيهم مَن لا يفوّتون قيام الليل، وفيهم أهل الورع الكامل، وفيهم من تمر ّعليه السنين تلو السنين لا ينظر حراماً ولا يسمع كلمة حرام، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
سعد أخيار الوادي قبلكم بهذه الحياة الطيبة، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وأحدهم من يوم مات إلى لحظتنا هذه وهو في لذيذ الجزاء من عند خير مجازٍ، من عند الرب، ويجزيهم بماذا؟ بأحسن ما كانوا يعملون! في عمل حسن كثير.. قال اتركه، أحضر الأحسن وسأجعل الجزاء كله للأحسن!
يقول بعض العارفين: ينظر إلى أعظم حسنة له ضوعِفت أكبر مضاعفة، يقول: اجعلوا حسناته كلها مثله،يجزينّهم بأحسن ما كانوا يعملون يجازي به.
يجيء بحسنة صغيرة مثل هذه ويقول اجعلوها مثل الكبيرة، ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون. وأحدهم منهم من يوم مات إلى الليلة هذه، وحتى منهم من يسمعنا في برزخهم وهم يتبسّمون ويعجبون للحقيقة تُذكَر، قد شاهدوها معاينة.
ويعقلها من يعقلها من بعدهم؟ وغيرهم ممن حادوا ونادوا في وادينا وغيره.. يبكون من يوم ماتوا إلى الساعة! يبكون من يوم ماتوا إلى الساعة! ولا ينفعهم بكاؤهم! ما استجابوا، ما لبّوا النداء، ما أطاعوا، ما صدقوا!
دعاء وتضرع إلى الله
فالله يرزقنا حُسن الاستجابة، ليلة مباركة إن شاء الله يجعل الله بها العام مباركاً علينا وعليكم وعلى الأمة، تظهر استجابة القلوب لمُقلِّب القلوب وحبيبه المحبوب، نمشي في خير الدروب، على رغم الأنفس الأمّارة، على رغم الأهواء، على رغم الدنيا، على رغم إبليس وجند إبليس من الإنس والجن.
نطلب رِضاه، يا الله رضاً يا الله رضاً والعفو عما قد مضى! وفرج عاجل ولطف شامل، وصلاح لكل ظاهر وباطن، ورحمة للمتقدمين ممن أدركناهم وممن قبلهم، وسلاسل ذلك الإسناد إلى خير هاد، ورحمة لمن مضى في وادينا ونادينا وفي يمننا وشامنا، ومن المسلمين في المشارق والمغارب.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
اللهم اجعلها ساعة قبول، وأنلنا غايات السُّول، واربطنا بسيدنا الرسول، وبلِّغنا المأمول وفوق المأمول، وأمتِعنا بالصلحاء والأخيار، وادفع عنا الشرور والأشرار.
واجعل سر الاستجابة لدعوتك ودعوة رسولك في أهالينا وأولادنا وذرياتنا، وفي مظاهر مناسباتنا وزواجاتنا وألبستنا وأشربتنا وأطعمتنا ونظراتنا ومعاملاتنا وأقوالنا وأفعالنا، وقيامنا بما تُحِبه منا وترضى به عنا.
ولا تجعلنا عالة على كفرة ولا على فجرة، ولا على غافلين ولا على مارقين، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به حبيبك الأمين.
اللهم لا تصرِف أحداً من أهل المجمع ولا ممن يسمع إلا وأنت راضٍ عنه، إلا وأنت راضٍ عنه، إلا وأنت راضٍ عنه، يا الله! يا الله!
نتوجه جميعاً إلى الله. يا من جمعتنا وجعلتنا مسلمين مؤمنين من أهل السنة في أمة نبيك محمد على سَنَد مُتّصل إليه، أتمِم علينا النعمة برضوانك الأكبر ومنّك الأغمر، وصلاح ما بطن وما ظهر.
واجعل كل واحد من الحاضرين والسامعين والمشاهدين مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، مستقيماً على منهج الحبيب الأطهر، فيما بطن وفيما ظهر، يا الله.
يا الله! قُلها وتنفعك "يا الله"! ربما تدركك في مواقف في حياتك وعند الغرغرة يأتيك نورها "يا الله"! وتنتفع بها في البرزخ والقيامة "يا الله"!
ما لنا غيرك! إذا التقى عبادك الأكرمون في دار الكرامة (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ) إنا ندعوك!
(إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، يا بر يا رحيم! مُنّ علينا ووقنا عذاب السموم، واجعلنا مشفقين في حياتنا من خشيتك ومن مهابتك ومن تعظيم أمرك، راجين لما عندك، طامعين في ثوابك ورضاك عنا.
اللهم لا أمسى منا أحد إلا وأنت عنه راضٍ، وصفَّيته من العلل والأمراض، وثبّتّه على قدم الاستقامة فيما تحبه منه وترضى به عنه، حساً ومعنى.
يا الله! يا الله! يا الله!
اجعل العام هذا من أبرك الأعوام علينا وعلى أهل الإسلام، رُدّ كيد الطاغين والباغين والمعتدين والمؤذين مِن قريب ومن بعيد. وعجّل بالفرج لأهل غزة ولأهل الضفة الغربية ولأكناف بيت المقدس، ولأهل الشام ولأهل اليمن، ولأهل الشرق ولأهل الغرب.
احفظ الحرمين الشريفين، وخلِّص أولى القبلتين، واحفظ اللهم لنا بلداننا وأوطاننا وقلوبنا وأهالينا وذرياتنا، وادفع السوء عنا وعن أهل لا إله إلا الله، برحمتك، والحمد لله لله رب العالمين.
16 مُحرَّم 1447