دور وأخلاقيات الدعاة والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي

محاضرة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مؤتمر: (الدعوة إلى الله عبر العالم الرقمي) في سلانجور، ماليزيا، ليلة الثلاثاء 22 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان: 

دور وأخلاقيات الدعاة والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي

نص المحاضرة:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، الحمد لله وجمعكم الله على الخيرات. وبعد فإن حركة الإنسان في هذه الحياة محكومة بما يستقر في باله وضميره من المقاصد والأهداف والمرادات، وعلى ضوء ذلك يأتي كيفية استخدامه لأعضائه وما يتفرع من جميع الأجهزة والإمكانيات والوسائل الموجودة في الحياة، ولنا في هذا المجال خطاب مع عقلاء بني الإنسان، عقلاء البشر على ظهر الأرض، بحيث يضعون في أذهانهم وأفكارهم المصالح العامة لعباد الله والمحافظة على القيم والأمور الواضحة الجلية، ومهما تم الإنصاف في ذلك فلن نجد شيئا يتفق العقلاء على أنه نافع في الحياة إلا وأصله في الشريعة الغراء.

ميزان المصالح والمقاصد

ولنا خطاب مع المؤمنين بالله تبارك وتعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر، فهؤلاء لا غبار على مقاصدهم وعلى رغباتهم، لأنها محكومة بنورانية الوحي المُنزَّل، فمع مراعاة المصالح العامة للمنطقة وللدولة وللناس، كذلك تأتي عندهم مهمة أن يسترضوا إلههم ويستعدوا للقائه من خلال ما يتحركون به ويسعون به في هذه الحياة، هذه الخطوط العريضة والمجال الإجمالي لانطلاقنا في تسخير قدراتنا وطاقاتنا للمقاصد.

 أما الفرعيات وبعض التفصيلات فما كان من جانب الذين لا يؤمنون بالله والدار الآخرة فميزاننا معهم أنّ ما وافق الشرع فهو عندنا مقبول وما خالف صريح الشرع فهو مرفوض على الإطلاق، وأما الخلافات أيضاً الفرعية والأمور التفصيلية بين المؤمنين فما وسعهُ أصل الشرع المصون ولم يصطدم مع نص صريح فلا إشكال في مثل ذلك، وما لا يَقبله الشرع بحالٍ أيضا فهو الذي لا يُقبَل قطعاً. 

الأسوة الحسنة

ولنا الأسوة فيمن جعلهم الله لنا قدوة، ولقد مرّت أيّام على خليل الله إبراهيم كان وحده المؤمن على ظهر الأرض، ومن في الأرض كفّار، فقام بأمر الله تبارك وتعالى حتى نُسبت إليه الملّة وجُعل أبو الأنبياء.

خاطب بالحُجّة والعقل في توضيح ما بعثه الله به، ولم يُقصِّر في ذلك، ولم يستعمل أسلوب السب أو الشتم أو الإثارة في غير موضعها، وقال لقومه: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقال: (أَفَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).

مسؤولية الإنسان في استخدام الوسائل

وبُعِث نبينا والفساد مُستشرٍ في الأرض شرقها وغربها. فساد الفكر وفساد الاعتقاد وفساد المعاملة والأخلاق وفساد المجتمعات وإلى غير ذلك، وحمل الأمانة وأدّاها على خير وجوهها.

ونقول: إنَّ كل ما يتجدّد من الوسائل في عالم حياة الناس إنما يكون فرعاً عن هذا الإنسان الذي هو المسؤول، يقول جل جلاله في مسؤولية هذا الإنسان: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا).

ولا نجد أي وسيلة يمكن أن تُتَّخَذ أو تُخترع في التأثير على الغير إلا وهي نتيجة السمع والبصر والفؤاد. فلا ينبغي أن يسبق إلى استخدامها واستعمالها الفاسقون على ظهر الأرض، ومن يريد نشر الفساد على ظهر الأرض.

ويجب على العقلاء وعلى المؤمنين بوجهٍ أخص أن يسبقوا إلى إحكام قبضتهم على هذه الوسائل واستخدامها فيما يتّفق مع المقاصد والأغراض، وعند قيامهم باستخدام هذه الوسائل تَحكمُهم أخلاق كريمة؛ بِحُكم العقل وحده، وبأقوى منه بحكم العقل مع الشرع المصون.

هذه الأخلاق تُمكِّنهم من التعامل مع ما يُطرَح وما يُنشر، ومع الأشخاص والهيئات والأفراد والشعوب والدول بحكمة إلهية ربانية، لا تميل إلى الإثارات ولا السِباب ولا الشتائم، ولا تُقصِّر في بيان الحق بضوابطه.

مقاصد المفسدين في الأرض

ونجد القرآن بيّن لنا مرادات وأغراض ومقاصد المفسدين على ظهر الأرض، يقول: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّن أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم عَن إِيمَانِكُم).

ويقول: (وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا). 

ويقول جل جلاله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُوا سَوَاءً).

وقال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).

(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِّن عِندِ أَنفُسِهِم).

(إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ) - أو (فاكهين) في قراءة -.. يستهزئون بالمؤمنين!

(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).

وهكذا بيَّن لنا القرآن أغراض هؤلاء المفسدين على ظهر الأرض، ومِن حِكمة الله أنهم يوجَدون في الأزمان اختباراً للخلق.

ضبط تبعية النفس

فنقول: وَجَب على العقلاء أن يُحدّدوا ويُوضِّحوا مقاصدهم في الحياة وما يؤثرون به على من حواليهم، وقد ضبط الله للمؤمنين إراداتهم، فقال: (والْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ).

فلا يكونون في تبعية أنفسهم ولا أهوائهم، فضلاً عن تَبَع أنفس غيرهم وأهواء غيرهم، كما يُشترى كثير من الناس لأهوية الغير.

وقال تعالى في بيان الحقيقة: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).

بيع النفس

وقال ﷺ: "كل الناس يغدو" أي يصبحون في حركتهم في الحياة وانطلاقهم في مختلف المساعي، قال: "فبائع نفسه" كل من المنطلقين في الحياة يبيع نفس، ولكن هذا البيع إما مؤدي إلى الهلاك وإما مؤدي إلى عتق النفس ورفعتها. "فمعتِقها أو مُوبقها"، "كل الناس يغدو فبائع نفسه، فمُعتقها أو موبقها".

فمن باع نفسه لهواها وشهواتها فهو موبقها ومهلكها في ميزان القرآن، (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

ومِن باب أولى من يبيع نفسه لهوى غيره بأي مقابل أو بأي إغراء أو تحت أي تهديد، فهؤلاء لا شكّ أن كل منهم موبِق نفسه، أي مُهلكها.

لكن مَن يغدو فيبيع نفسه لله الذي خلق، العليم بكل شيء، الحكيم، القدير، فهو الذي يُعتق نفسه، فتُعتَق في الدنيا من غلبة الهوى المردي والشهوات الساقطة، وتُعتَق في الآخرة من العذاب والنار.

خاتمة الاجتماع والدعاء

احمدوا الله على اجتماعكم وتلاقيكم، وقد تأخر الوقت عليكم. وأسأل الرحمن أن يجعل كُلّ منا ممن يتسبب في عتق النفس لا في إهلاكها.

ونشكُر نائب رئيس الوزراء على حضوره وتأخره إلى مثل هذا الوقت، وفي هذا أيضاً بيع للنفسِ لله.

وكذلك الأخ رئيس الولاية والمنطقة، كُل ذلك مِما نرجو أن يكون في بذل النفس لأجل الله تبارك تعالى، ومُراعاة مصالح العباد من حيث ميزان الرحمن وشريعته.

وشكر الله لكل القائمين والمساهمين والخادمين في هذا المجال، وتقبّل منهم بفضله.

وحفظ الله تبارك وتعالى رئيس الوزراء وسلاطين البلد وأولي الأمر، ومن يعينهم على الخير والهدى، وعمّ البلدة بصلاح ظاهر وباطن.

وبارك الله لجميع الحاضرين حضورهم، ونرجو أن يكون كل منهم مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر .

وها نحن اجتمعنا ونتائج الاجتماع صنفان، نتائج أولى ونتائج كبرى:

  • أما النتائج الأولى فما يَطَّلع الله عليه في قلوبنا وما يحصل لنا من سعي في الحياة الدنيا،
  •  وأما النتائج الكبرى فالجزاء والمثوبة يوم الوقوف بين يدي الله ويوم الجمع الأكبر.

جعلنا الله من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، إنه أكرم الأكرمين.

وجهتنا إليه أن يصلح البلاد والعباد والأمة أجمعين، وأن يختم لنا بالحسنى وهو راض عنا، وأن يجعلنا من الذين صدقوا معه وأقبلوا بالكلية عليه، اللهم اصلح العباد والبلاد، وادفع الضُر والفساد، وحَوِّل الأحوال إلى خير حال.

 اللهم صُن أهل هذه البلدة من آفات ابليس عدوك وعدوهم، وتلبيسه وتدليسه وشرور الأنفس الأمارة وشرور الدنيا الغرارة، وشرور الأهواء، واجعل هوانا وإياهم تبعاً لما جاء به حبيبك الهادي إلى قويم الطريق والسواء، اللهم وتولنا في السر وتولنا في النجوى، وأصلح شؤون المسلمين في المشارق والمغارب، برحمتك يا أرحم الراحمين، وبسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ، الفاتحة.ش

 

تاريخ النشر الهجري

22 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

14 أكتوبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية