(607)
(339)
(535)
(377)
محاضرة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مسجد زاوية الشيخ محمد سعيد الكردي – الصريح، الأردن، عصر يوم الإثنين 5 جمادى الأولى 1447هـ بعنوان:
حكمة تكوين الكائنات وغايات الفوز والسعادة والخسر والشقاء الأبديات
تحدّث فيها عن الغاية من خلق الإنسان والكائنات، وأن كل ما في الوجود إنما وُجد ليعرف الخلقُ ربَّهم ويعبدوه حق عبادته، مبيّنًا أن السعادة الحقيقية في القرب من الله والنظر إلى وجهه الكريم، وأن الشقاء الأبدي هو في الغفلة والإعراض عن معرفته وطاعته. كما بيّن مراتب النعيم في الجنة، وذكر كيف أن رضوان الله هو أعظم ما يُعطاه المؤمنون، وتحدث عن عظمة النبي ﷺ وخصوصية مقامه يوم القيامة.
الحمد لله على هذه الساعات في هذه الساحات، وعلى هذه التنزُّلات، وعلى العطايا الواسعات، وعلى تجلِّيات ربِّ الأرض والسماوات للقلوب الممنوحة بالإنابة والإخبات، الملبّية لدعوة خير البريّات وسيّد السادات، خير من في الأرض والسماوات، عبد الله ورسوله وصفوته خاتم النبوة والرسالات، محمد بن عبد الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه.
ألا وإن الكون وما فيه ما خُلِقَ إلا ليَسعَدَ المتوجِّه النبيه من هؤلاء الإنس ويتبعهم المؤمنون من الجن، باستجلاء معاني جود الرحمن وعظمته، ومطالعة جماله سبحانه وتعالى وكماله وجلاله في ذَرّات هذا الوجود وشؤون هذا الكون، حتى ينتهي الأمر إلى أسنى معاني القرب في الحلول في جنات الله للمؤمنين، جعلنا الله وإياكم منهم، وأدخلنا في السابقين إلى جنته من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب.
ومن "الحثيات" الربانية التي يَحْثوهُم فيدخلون الجنة بغير حساب، فوق السبعين الألف الذين استزاد نبينا فزاده الرحمن مع كل واحد من السبعين ألف سبعين ألفاً، قال: و ثلاث حثيات من حثيات ربي، هي مطمح آمال الصالحين والمقربين، يقولون: هذه الحثيات الربانية هي محطْ أنظارنا ومَحل رَجَاءنا، اللهم أدخلنا فيهم يا أكرم الأكرمين.
وينتهي الأمر بهم إلى ما في تِلْكُمُ الجنة، وما في تِلْكُمُ الجنة إلا إفاضات الجود والإحسان من الكريم المنّان جلّ جلاله.
به تتنعم الأرواح، وتتنعم القلوب، ثم كذلك الأجسام تأخذ نصيبها من هذا النعيم في ذلك الدار.
ونعيم الدار ذلك بعضه درجات، بعضه فوق بعض، ولذلك كانت الجنة درجات، وكانت ثمان جنات، وكل جنة من الثمان فيها درجات لا تكاد تُعد ولا تُحصى، يرقى منها كلٌّ مَا يرقى. والدرجة العليا الكبيرة التي هي "الوسيلة" هي درجة زين الوجود صاحب الفضيلة ﷺ. أرانا الله وَجْهَه في ذلك المقام، وهناك يكون ما يكون.
أما أنواع النعيم التي يشترك فيها الجسد مع الروح، فمذكورة في كثير من الآيات والأخبار الشريفة، ولكن نعيم الأرواح الذي هو ألذّ وأطيب الخالص، ألذ وأطيب من نعيم الأجساد كلها، قال عنه تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).
وذاكم نعيم من نعيم الروح، تقابل أرواحهم في ذلك الموطن، وما يتذاكرونه من معاني جود الله عليهم، وما وفقهم أيام كانوا في الحياة القصيرة مما أورثهم الهبات الكبيرة، وسلموا في أيام تلك الحياة من العوارض التي تعرض لأكثر الناس فيها فتقطعهم عن الحق جلّ جلاله، وتقطعهم عن الدرجات العلا والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فما معهم من العلم مَبلَغ إلا الماديات وما تعلق بها، وما معهم من الحياة إلا الحياة الدنيا، وهي دنيا قصيرة حقيرة فانية زائلة، فمن كان حظّه ذلك فماذا عنده؟ قد فاته الحظ، وفاته السعد، وفاته الخير.
من الذين إذا عرضت لهم العوارض نسوا الحقّ جلّ جلاله، وأقبلوا على التُّرّهات والبطالات والشهوات والغيبة والنميمة والكذب وإيذاء الجار وإضاعة حق الوالدين، والتقصير في الفرائض، وارتكاب المحرمات، والغش والأذى وما إلى ذلك، وكلها أعمال وأوصاف أهل النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، والمقطوعين عن هذا العطاء الأكبر في دار الكرامة والنظر.
ثم بعد ذلك (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). ثم إن المَلك يأتي أحدهم في الجنة ويقول: أنا مُرسل إليك من ربك، السلام يُقرِئُكَ السلام. فيأتيه السلام من الله تبارك وتعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ).
ثم لهم ولأهل الخصوصية فيهم تلَقِّي السلام من الرب سبحانه وتعالى مباشرة: (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) جل جلاله وتعالى في علاه.
ثم تلك اللقاءات بين أهل الجنة عموماً، وخواصهم خصوصاً، ولقاء المؤمنين بالأنبياء، ولقاء المؤمنين بمناسبات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في دار الكرامة ومستقر الرحمة.
ثم بعد ذلك كله ما يُدعَون إليه وما يُنادَون به من قِبل الرّحمن: "هل رضيتم؟" يقولون: "يا ربنا كيف لا نرضى وقد نجّيتنا من النار والعذاب، وأعطيتنا وأعطيتنا وأعطيتنا وأعطيتنا؟" يقول: "ألا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك؟" يقولون: "يا ربنا وما أفضل من ذلك؟" فيقول: "أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
أكرَمَنَا الله بهذا الرضوان، وأسمعنا هذا النداء في ذلك المكان، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ثم ما يُتحِفُهُم به من النظر إلى وجهه الكريم جلّ جلاله وتعالى. وما جاءتنا به الأخبار أنهم حين يجتمعون في ساحة النظر إلى وجه الله الكريم، ويأمر الله النبي داود أن يتلو، فيتلو من سورة مريم. ويأمر الله النبي محمد ﷺ أن يقرأ على الجمع، فيقرأ من سورة طه. ويكشف الحجاب عن آذانهم، ويسمعون الرب يتلو عليهم سورة الرحمن. ثم يكشف الحجاب، فلا شيء ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم، ويعودون بتلك الخيرات. وهذه الغاية التي ينتهي إليها النعيم.
وفي المقابل هناك الجحيم والعياذ بالله تبارك وتعالى، وغاية ما ينتهي إليه ما قال سبحانه وتعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ).
والجحيم وعذابها فرع عن غضبِ الله جلّ جلاله، وما يسمعونه من قوله جل جلاله لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) أشد حسرة وأشد ألم من كلّ ما يلاقونه من العذاب في تلك النار الموقدة التي تطلّع على الأفئدة، أجارنا الله تعالى منها.
وحيث كانت تلكم الغايات، فأيامنا في هذه الدنيا ما هو إلا منزل قصير من المنازل، قد مررنا بعالم الأرواح من حين خلق الله أرواحنا إلى أن أُهبِطت في بطون أمهاتنا وخرجنا إلى هذه الدنيا، ومن حين خرجنا من بطون الأمهات إلى وقت الوفاة، أعمار قصيرة. حتى أعمار الأمم السابقة، وإن كان يبلغ منهم من يبلغ الألف والألف ومائتين والألف وثلاثمائة والألف وأربعمائة من السنين، هي قصيرة بالنسبة للمستقبل الكبير.
وهي كلها من أولها إلى آخرها قصيرة، فكيف بنصيب الفرد منها؟ كلها قصيرة بالنسبة لعالم الآخرة، كيف بنصيبك أنت من القصير؟ أقصر قصير من القصير نصيبك.. كم عمرك تتعمر؟ والأمة أكثرهم ما بين الستين والسبعين، منهم من قبل ذلك يموت، وأقلهم من يجاوز السبعين من هذه الأمة، والمشاهدة تشهد بذلك. وهناك الغاية وهناك النهاية.
ولذا نادانا الحق سبحانه وتعالى:
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
وكلّ مَن أخذت بهِ الدنيا مأخذ نسي به ربّه الذي خلقْ والمصير إليه، فقد غرّته هذه الحياة! ومن غرّته هذه الحياة الدنيا فهو أبعد عن الخير فيها، وأبعد عن الخير في الآخرة والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
وإن كان يعيش في فضائيات، أو يطلع إلى الفضاء، أو يستعمل المسيَّرات من الطائرات بدون طيار، أو كان عنده الأسلحة الفتاكة، أو كان عنده المليارات من الدولارات وما إلى ذلك، كل هذا ما يساوي شيء، وهو غاية في الحقارة بالنسبة للحظة من لحظات نعيم الجنة، فكيف بنعيم الجنة كلها ؟
بل بالنسبة لساعة لقاء العبد و الرحمن عنه راض جلّ جلاله، ما يساويه نعيم الدنيا من أوّلها إلى آخرها.
وأنى يكون نعيم هذه الدنيا؟ ولهوانِها أعطاها أولئك الكفرة والفجرة الكثير من مظاهرها. يقول سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ).
(بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)! تستكبرون بأسلحة الدمار؟ ليست حق! هذا ما يُستكبر به؟ تستكبرون بنفوذكم وطغيانكم؟ تستكبرون بشيء من التكنولوجيا؟
(تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)؟ ليست حقْ تستكبرون به، ما حق لكم تستكبرون به؟ هو حقير وأنتم في حقارة وضعاف، خلقناكم لأمر كبير ورُحتم لهذا الصغير. (تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ). تنادون بالدياثة، و تنادون باللوطية، وتنادون بنشر المُسكرات والمخدرات؟ تفسقون في الأرض؟ فما لهم إلا عذاب الهون.
هذه الحقيقة، فأين العز ّ والشرف؟ إذن لا ينبغي أن تغرّنا هذه الحياة الدنيا، فإن الأمر يدور على هذه الحقائق.
لذلك كوّن الله الأكوان، وبعث الأنبياء والمرسلين، وجاء خير الخلائق ﷺ، وجعل هؤلاء الأنبياء والمرسلين ودلالتهم الأبواب للدخول إلى الرحمة، وإدراك حقائق خير الدنيا والآخرة، ورفعة القدر والمكانة عنده سبحانه وتعالى، والتهيّؤ لسعادة الأبد، وكيفية التعامل مع مظاهر الحياة لتُسخَّر ولتُيسَّر للمقاصد العُلا.
وأما أن تتحوّل هي مقصد، فهذا هبوط للإنسان، وهذا انحطاط للإنسان، ولكن أن يُسخّرها الإنسان للمقاصد الكبرى التي خُلق من أجلها، هو الذي يستعمرها ويستعملها إذن.
أما هؤلاء هي تستعملهم وما استعملوها، وهي تستخدمهم وما استخدموها، ولذلك أين صرفوها؟ صرفوها في نهاية ما يدّعون من حضارات إلى ما تسمعون: من تقتيل الأطفال، وتقتيل النساء، وتقتيل الأبرياء، وهدِّ المنازل، وهدِّ المساجد، وهدِّ المستشفيات، وما إلى ذلك. فهي التي استخدمتهم وأعدّتهم لأن يَهووا في الهاوية، وأن يتعرّضوا لعذاب شديد لا يُطاق والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وما استخدموها، ولكن من رمى بها في سبيل الله، من استعملها لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو المستخدِم لها، وهي خادمة له من تحته، وتكون سبيلاً تَرفَعه.
وبيّن الله الحقيقة قال: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). هذا ماله لله وولده لله، ويرتفع به درجات.
أما غير هؤلاء، فلا الأموال تنفعهم، ولا الأولاد ينفعونهم، ولا ما عندهم ينفعهم، يقول: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا ) والعياذُ بالله، حتى في الدُّنْيا، ثمّ تَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ على الكفر نعوذ بالله من غضب الله.
إذا كانت المسائل هكذا، عرفتم قدر هذه اللقاءات والاجتماعات، واتصالها بنور النبوة وسر ّ النبوة.
ومن أسرار النبوة التي ابتثَّت فينا ووصلت إلينا ما سمعتم في حديث الشيخ إسماعيل، يُحدث عن ابيه وعن مشايخ ابيه، وما إرسالهم له إلى هذا المكان الصريح بالخير الصريح والجود الفسيح. وجاء وكانت الآثار الطيبة، وكان من تلك الثمار جلستنا هذه ومجيئُنا هذا بالفضل الربّاني.
ومرجعها إلى أين؟ أولئك الشيوخ، ومرجع اولئك الشيوخ الى شيوخهم أهل الرسوخ؟ و مرجعهم إلى أين ؟ دعوة محمد ﷺ، صاحب غار حراء، صاحب (اقْرَأْ). هو الذي انتشرت به هذه الدعوة، هو الذي قامت به هذه الملّة، هو الذي انتشرت به هذه الأنوار.
ولولاه لا صحابة ولا أهل بيت، ولا خير أمة، ولا قرآن، ولا عرفنا شيء، لكنّه الله جعله الباب لهذا الخير كلّه، والسبب لهذا الخير كلّه.
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِم ). فالحمد لله الذي منّ علينا بهذا المصطفى، فحمداً لربٍ خصنا بمحمد.
ومن أنواره ظهرت هذه الخيرات والبركات، وقامت هذه الدعوات، وانتشرت خيراتها في قلوب وأرواح خرجت من مضيق الانحصار في العالم الدنياوي والمادي والجسماني، وبدأت تُحسّن علاقتها بالرب الخالق جلّ جلاله مستعدة للقائه، واستعدت بذلك لمرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا هو العطاء، وهذا هو المنّ الكبير، بحمدِ الله.
واليوم اجتمعنا، ومن نواحي الشام كلّها، من الأردن ومن سوريا ومن فلسطين وغيرها من أقطار الشام، ومن أقطار البلاد العربية، ومن خارج البلاد العربية من أقطار المسلمين، مجتمعين في هذه الساعة تحت الراية النبوية المحمدية التي امتدت خيوطها بأيدي هؤلاء القوم، حتى كان للشيخ سعيد الكردي عليه رحمة الله تبارك وتعالى أُسُس من الإسعاد وضعها على يده ربّ العباد جلّ جلاله، تظهر آثارها وتشرق أنوارها.
وكان من جُملة تلك الآثار ما حصل من تعلُّقات القلوب والتزاورات بيننا وبين الشيخ اسماعيل وبين أحبابنا هؤلاء، وما ربط الله هذه القلوب من ربط؛ أصله وحقيقته ربطٌ به جلّ جلاله، لأن المتحابين فيه محبوبون له، وما أحبّوا إلا هو. فإذا أحبّوا شيئاً لغيره فقد أحبّو غيره، وإذا أحبّوا الأشياء له فما أحبّوا غيره، وما هي إلا محبّته سبحانه وتعالى.
ومحبته التي لا أجلى ولا أظهر منها من ذاتِ محمد، فلم يحبّ أحداً كما أحبّ محمد، ولم يُحبّهُ في البرية أحد كحبّ محمد له ﷺ، بل نقول إنّ الحقيقة أنّ محبّة كلّ محبٍ سَرَتْ مِن محمد إلى ذاكَ المُحِب، ومحبوبيّة كل محبوب لله، سواء كان من الملائكة أو من النبيين أو من دونهم، سرت من محبة الله لمحمد إلى أولئك.
فصار هو الأصل والمرجع إليه. لذلك هو وحده القائل في الموقف الأكبر: "أنا لها"، صلوات ربي وسلامه عليه، (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا).
والله يجعلنا قريبين منه عندما يقول: "أنا لها"، وعند سجدته التي يسجدها، فيَحمد المحامد. فتح جديد من الربّ الحميد سبحانه وتعالى. انظر كيف! موقف القيامة، موقف الشدائد والأهوال، وحتى الأنبياء يقولون: نفسي نفسي. والحبيب فتوحات عنده جديدة وتجليات كبيرة! قال: "يُلهمني محامد لا أعلمها الآن".
وإذا ما يعلمها هو، ما يعلمها جبريل، ولا يعلمها حملة العرش، ولا يعلمها أحد. وأين تجيء؟ تجلّي بتفضّل مخصوص في ذاك المقام إيش الكلام هذا العظيم؟ ما هذا الجاه الفخيم؟ والله ما يعرف محمد إلا ربّ محمد.
قال سيدنا أويس القرني لمّا التقى بسيدنا عمر وسيدنا علي وتباحث وإياهم، وتذكّروا سول الله ﷺ، فلما ذكروا أنّ النبي ذكرهُ، قال: "ذكرني بإسمي؟" قالوا: "بإسمك واسم أبيك" بكى سيدنا أويس.
ثمّ أخذوا يتذاكرون في الحبيب ﷺ، ثم قال لهم سيّدنا أويس : "ما عرفتما من رسول الله إلا الظلْ" من هؤلاء؟ كبار الصحابة، اعرف من يعرفهُ من الأمة سيّدنا عمر سيّدنا علي، اعرف من يَعرِفُه من الأمة قال: ما عرفتم من رسول الله إلا الظل ، قالا: صدقتَ، والله ما عرفنا منْهُ إلا ظلّه، عمر و علي؟ يقولون ما عرفنا إلا الظل من الحبيب.
وأين الحبيب؟ وأين مقام الحبيب؟ وهم الذين عرفوا. قالوا لسيدنا علي: ما محبتكم لرسوله؟ قال: كان أحبّ إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، ومن الماء البارد على الظمأ. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فسبحان الذي شرّفه وشرّفنا به، وجعلنا من أمته، نغنم هذه الاتصالات وهذه الوجهات، لندخل تحت دوائر أهل القٌرب الخاص من أهل الاختصاص من ذلك الحبيب ﷺ، فإنها حبال امتدّت لكم.
وهؤلاء المعلمين، وهؤلاء المقرّبين، وهؤلاء الأولياء، وهؤلاء أهل الدلالة، حِبال اتصال بهذا الجناب، وهو ﷺ سببُ الاتصال بالإله والوصول إليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
والله ما أحببنا محمداً إلا لأجلّ ربّ محمد، ولأجل مٌصطَفِي محمد. وما كان بيننا وبين سيّدنا محمد علاقة إلا لمّا أكرمنا الله بواسطته بالمعرفة بالله. عرفنا أن الله يحب منّا أن نحبّه، وأن نقدمه على ما سواه.
وأوحى إليه، قُل لهم : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا). يعني عليكم التهديد إن كان قدمتم شيء من هذه المظاهر الكونية على محبّتي ومحبّة رسولي وجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، جهاد في سبيله نصرة هذا الرسول ﷺ (فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
فالله يحقّقنا في المجلس هذا الكريم المبارك أن كلّ تقديم لمحبة شيء سوى الله ورسوله في قلوبنا يَنزعه عنا، ويوطّن قلوبنا على أن يكون هو ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما.
نمسي على ذلك ونصبح على ذلك، ونحيا على ذلك ونموت على ذلك إن شاء الله، حتى نُحشر مع المٌحبّين المحبوبين الذين انتشرت لهم الخيرات من ربّ الأرض والسماوات بهذه المعاني الشريفات الرفيعات.
لأجل هذا كلّه وسرّ ما فيه، أخبرتنا السنة أن لله ملائكة مُخصّصين بمثل المجالس هذه، مجالس الذّكر إذا عُقدت ويتنادون: "هلموا إلى طلبتكم، هلموا إلى حاجتكم". فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، لِمَا جَعل الله في هذه المجالس.
لأن عقد لوائها في الأصل كان على يده عليه الصلاة والسلام. ثم قال الله له: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) هذا شرفهم هذه كرامتهم، هذه عزّتهم؛ يريدون وجهه (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا).
فنسأل الذي جمعنا يجمع الخيرات هذه لنا، ويجعل لقلوبنا نصيب من هذه الجَمْعِيّة والمحبة الأكيدة، حتى نسعد مع خواص أهل الوجوه السعيدة، ونرتقي في المراتب الرفيعة الكريمة التي يرتقي إليها أهل العطايا الواسعات الفخيمة.
يا ربّ العباد، الأيدي امتدت إليك وأنت الجواد، وأنت واسع الإمداد، وأنت الذي ليس لعطائك من نفاذ. وأنت الذي تعطي ولا تبالي، وتكرم ولا تبالي، وتمنح ولا تبالي، وتنوّر ولا تبالي، وتقرِّب ولا تبالي، وتُسعد ولا تبالي. يا مَولى الموالي، أكرمنا في مجمعنا، وأكرمنا في ساعتنا هذه، وبلغنا فوق آمالنا.
وبلّغ الشيخ إسماعيل ما يرجو وفوق ما يرجو، وإخوانه وأولاده وأهل وداده وأهل محبته، والحاضرين معنا من المشايخ ومن المتعلمين ومن المُقبلين والمتوجّهين، اشمل كل واحد منهم بنظرة من عندك، ندخل بها في أهل وُدّك، ونوفي بعهدك، وندخل مداخل محبوبيك من أهل سُعدك.
أسعدنا يا مُسعد السعداء، وتولّنا هاهُنا وغداً، وأصلِح لنا ما خفي وما بدا، وأدِمْ على الأردن الأمن والطمأنينة والاستقرار، وخُذْ بيد ملكها ومن يعينه . على الخير إلى كل خير. وأصلح الراعي والرعية.
وادفع عنا وعن بلدانِنا وعن أهل الشام وعن أهل اليمن وعن أهل الشرق وعن أهل الكرب سلطة الأعداء، وجميع عضال الداء، والآفات والعاهات والبليات، والغفلات والجهالات والضلالات، والأمراض والعِلل والأسقام، وكل سوء أحاط به علمك.
فإنك عمدتنا، وعليك اعتمادنا، وإليك استنادنا، وأنت حِصننا، وأنت أماننا، وأنت غوثنا، وأنت ملاذُنا. وأنت ربّنا الذي لا ربّ لنا غيرك، فبحبيبك وأهل قربه قربنا مع المقربين، وزدنا من نوالك ما أنت أهله في كل شأن وحال وحين.
واجعلها ساعة إجابة، والدعوات مستجابة، وزدْ من فضلك ما أنت أهله، برحمتك يا أرحم الراحمين.
07 جمادى الآخر 1447