(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي في دار الابتهاج بمدينة سيئون، حضرموت، ليلة الأربعاء 25 ربيع الأول 1447هـ، بعنوان:
حقائق ميزة المكلفين من الإنس والجن مِن مِنَّة الله عليهم وعاقبة مَن شكرها ومَن كفر بها
يُبيِّن الحبيب عمر بن حفيظ عِظم النعمة التي مَنَّ الله بها على الإنس والجن، حيث هيّأ لهم طريقًا موصلاً إلى الخلود في النعيم الأبدي أو الخسران المُبين.
تضمنت المحاضرة:
الحمد لله ذي الفضل الكبير، المُهيِّئ ما يُعمَر به العمر الطويل المديد الأبدي في العمر القصير، في المُدَّة المحصورة، في الأيام المعدودة، بل الأنفاس المعدودة والمحدودة، مكَّن المكلَّفين فيها من عمارة الأبد، مكَّنهم فيها من التزوُّد للخُلد والدوام جلَّ جلاله، خَلَق الخلق ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، وعمَّ فضله العباد، وخصَّ الله أمَّة محمدٍ ﷺ بأعظم المِنَن والمِنَح والمواهب.
اللهم لك الحمد شُكراً، ولك المَنُّ فضلاً، فأتمِم نعمتك علينا، وانظر بوجهك الكريم، وأقبِل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، وصلِّ وسلِّم على من به هديتنا، وبه أسعدتنا، وبه أرشدتنا، وبه جعلتنا خير أمة، عبدك الطُّهر المُطهَّر الطاهر سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم ومن تبعهم، وعلى ملائكتك المُقرَّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وكان التفضُّل من إلهكم الجواد ربِّ العباد جلَّ جلاله أن جعل لهذه الأصناف الثلاثة - الملائكة والإنس والجن - ما يتهيَّؤون به ويقدرون على مراتب في معرفته الخاصة، ومحبّته الخالصة لا تتمكَّن منها بقيّة الكائنات، بذلك جُعِلوا هم روح العالمين، وجُعِلوا أفضل الخلائق، وبذلك توجَّه الخطاب الخاص إليهم، وفيه التشريع بالنسبة للإنس والجن، وفيه الأمر بالنسبة للملائكة فيما يُشغِلهم الحق تبارك وتعالى به، (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، سلام الله عليهم.
وقد جعل خِلقتهم على خلاف خِلقة الإنس والجن، من حيث أنه لم يُسَلِّط عليهم شهوة ولا هوى، وجعل في تكوينهم نورانية خالصة ورُوحاً محضاً ، كانت الأجسام من نور ، لا هوى فيها ولا شهوة، فلذا كان بُعدهم عن المعاصي أن يعصون الله ما أمرهم وفعلهم لما يؤمرون، أمرٌ معجون بذاتهم يجدون حلاوته في أول ما يُخلَق أحدهم، لا يحتاجون إلى مجاهدة.
وبقي الإنس والجن يحتاجون إلى المجاهدة وردِّ كيد النفس وهواها ومغالبته وقهره حتى يُرضوا الربَّ جلَّ جلاله، بذلك جعل الحق سبحانه هؤلاء الملأ الأعلى الروحانيين أهل الروح الصِّرف يقومون بكثير بأمره من خدمة هؤلاء الإنس والجن، ومن التردُّد إليهم، ومن الذِّكر لهم، ومن الاستغفار لهم، ومن القيام بِمُقتضى ما يفعل هؤلاء المكلَّفون من طاعة ومن معصية.
جعل الله الملائكة في ذلك هُم مركز الإجراء لما يجري لهؤلاء المُكلَّفين من نتائج الامتثال للأمر أو المخالفة له، من نتائج الطاعة أو نتائج المعصية، و ملائكة الرحمة، و ملائكة العذاب، شُغلهم المُهمّة للإنس والجن هؤلاء المكلَّفين، يُجرونها ويُجرون نتائجها، ومع إجراء هذه النتائج من إشراف على نعيم أو على عذاب، وجعل الله سيدنا رضوان خازناً للجنة، وسيدنا مالك خازناً للنار.
والكلُّ يجري في شؤون هؤلاء المكلَّفين، مَن أطاع الله منهم وقام بِحَق العبودية فإلى النعيم بأنواعه، وهم في الدرجات كما سمعتم، وكذلك أهل الدركات في النار، وجعل في أسفلها المنافقين الذين يُظهرون الإسلام، يُظهرون الإيمان، يُظهرون التصديق بمحمد ﷺ وما جاء به عن الله، ويُخفون ويُبطِنون التكذيب - والعياذ بالله تبارك وتعالى - والاستخفاف بأوامر الله وأوامر رسوله عليه الصلاة والسلام.
لذلك كان أيضاً مُتَّصلاً بهذا النفاق الأكبر المُخرِج عن الملَّة الموجب للخلود في النار - وما هو في نار واحدة بل في أسفلها - (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). متَّصل به الشرك الخفي، النفاق الخفي، النفاق في العمل، لما يوصل إلى الخروج من الملَّة: يتظاهر بصلاة وما هو مُصلِّي، يتظاهر بصوم وما هو صائم، يتظاهر بطاعة وما هو طائع.
ولذا كان للمُدَّعين لأحوال القُرب من الله وأحوال أوليائه سبحانه وتعالى من غير تحقُّق، كان سوء الخاتمة لهم أقرب من غيرهم - والعياذ بالله تبارك وتعالى - يَدَّعون أحوال الأولياء، يَدَّعون مراتب عند الله تبارك وتعالى ليسوا من أهلها، هؤلاء مِن أعظم مَن تسوء خاتمتهم، من أكبر أسباب سوء الخواتيم أن يَدَّعي الإنسان ما ليس له من المراتب لدى الرحمن وأحوال أوليائه وأصفيائه وأهل قُربه جلَّ جلاله وتعالى في علاه، لأنه معنى في النفاق ومن معاني النفاق.
ومنه: "إذا حدَّث كذب، إذا وعد أخلف، إذا اؤتُمن خان"، نفاق عملي متَّصل بالنفاق ذاك لكنه ما يُخرج من الملَّة، ولكن مآله أيضاً خَطِرْ إذا لم يتُب صاحبه منه ولم يتخلَّص ما دام في الحياة، فعذابه شديد. كما أن أشدَّ العذاب بالنسبة للكفار عذاب المنافقين، فبالنسبة لعُصاة المؤمنين أشدُّ العذاب عذاب المنافقين منهم الذين لم يُخرجهم نفاقهم عن الملَّة: نفاق الرياء، نفاق طلب المنزلة عند الناس والوَجاهة لديهم، نفاق التظاهر بالفضائل والأخلاق وليست فيه.
أو الادِّعاء لها وهو أشدُّ ، أن يدَّعي شيئ من مراتب أهل الولاية - والعياذ بالله تبارك وتعالى - وليس عنده التحقُّق بذلك، فهؤلاء عذابهم من أشدِّ العذاب والعياذ بالله تبارك وتعالى .
ومن أقوى علامة هذا النفاق العملي حدَّثنا النبي عنه أنه: "إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدَّث كذب، وإذا اؤتُمن خان"، انظرها كلها لها علاقة بحقوق الغير.
وكان الإيذاء للغير ، والإضرار بالغير خطير، خطير، خطير، خطير، خطير جداً، خطير! ما يُسامح الله في شيء منه حتى يجمع بين الاثنين، إذا تداركهم بالرحمة يقذف في قلب هذا مسامحة هذا، وأما من دون ما يعدّي على المسامحة ما له نصيب من مغفرة الله في هذا الأمر الذي آذى به أخاه، ولو كلمة، ولو كلمة! إذا تصوَّرنا حقيقة هذا الأمر نعرف أن الأمر خطير.
لذا دُعينا للاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، ودُعينا لتصفية القلوب عن أن يكون فيها على أحد غِلّ (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
وبذلك دُعينا لأن نُحسن إلى من أساء إلينا، وأن نعفو عمَّن ظلمنا، وجاءت هذه المكارم الكبيرة، ويُروى فيها عنه ﷺ: "أمرني ربي أن أعفو عمَّن ظلمني، وأن أُعطي من حرمني، وأن أُحسِن إلى من أساء إليَّ، وأن أصِل من قطعني، وأن يكون صمتي فِكراً، ونُطقي ذِكراً، ونظري عِبرة". سبع خصال: أعفو عمَّن ظلمني، أصِل من قطعني، أُعطي من حرمني، أعفو إلى من أساء إليَّ، وهكذا كان خُلُقه الكريم ﷺ.
وكانت أخلاق الكرام من الذين ارتقوا، وهو يقول: "إن من أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسِنكم أخلاقاً، الموطَّؤون أكنافاً". و"أثقل ما يوضع في ميزان الحسنات الخُلُق الحسن"، هو لي يُرجِّح الكِفَّة، يُرجِّح كِفَّة الحسنات الخُلُق الحسن.
"إن الرجل ليُدرِك بحُسن خُلُقه منزلة الصائم الذي لا يفطِر، والقائم الذي لا يَفتُر". ما عنده كثير صلاة، ما عنده كثير قيام ولا كثير صيام، لكن يزيد على هذا، يُدرِك منزلته ويزيد عليه بخُلُقه الحسن، بسبب أخلاقه الفاضلة الحسنة يُدرِك درجة الصائم الذي لا يفطِر والقائم الذي لا يَفتُر من القيام في لياليه، فما أعظم حُسن الخُلُق! وفَّر الله حظَّنا وإياكم منه، وحظوظ أهلينا، وحظوظ أولادنا.
ولماذا كان بهذه المثابة والعظمة؟ لأنه الوصف الذي جمعهُ الله في أحبِّ محبوب إليه، وأكرم كريم عليه، الذي اسمه محمد بن عبد الله ﷺ، فما شيء هناك خُلُق حسن وحميد وجميل وطيِّب إلا وأساسه في الذات هذه، والذي يصل الناس منه فروعه وآثاره وثمراته، ولمّا كانت الأصل هي أخلاقه وصفاته، عَظُم شأن الاتِّصاف، عَظُم شأن الخُلُق. لِمَ؟ لأنك تُشابه وتتَّصل بخُلُق في أحبِّ محبوب، في أقرب مُقرَّب، في أكرم كريم، في أعلى عَلِيٍّ لدى المولى ﷺ.
عَظُمت هذه الأخلاق لأنها أخلاقه، ولأنها صفاته، ولأنها محلُّ الاصطفاء من الله تبارك وتعالى لهذا الصَّفوة، فجمع فيه هذه الأخلاق، ولذا تُردِّدون قول الحبيب علي الحبشي في مولده: "فما من خُلُق في البريَّة محمود، إلا وهو مُتلقّاً عن زين الوجود ﷺ".
عَظُم شأن حُسن الخُلُق لأنه وصف الأحبّ، لأنه وصف الأطيَب، لأنه وصف الأقرب، لأنه وصف الأعظم لدى الأعظم، ولأنه وصف الأكرم لدى الأكرم جلَّ جلاله، وهذه أوصافه ﷺ. (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ *وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ).
نبيٌّ عظيمٌ خُلْقُه الخُلُق الذي ** له عَظَّمَ الرحمنُ في سيِّد الكُتبِ
وبذا تجد أسرار الآيات والأحاديث ثم توجيهات الصالحين الوارثين للنبوة، كلها تجمعنا على حُسن الخُلُق وانتزاع فتائل السيئات والأوصاف القبيحات والأخلاق السيئات من الصدور ومن القلوب.
وتجد دعوات الكفار والفُجَّار والأشرار ومُدَّعي الخير من المسلمين الضالِّين المُنحرفين تسقي فيك شجرة كِبر، شجرة حسد، شجرة غرور، وما تنزع منك الأخلاق السيئة بل تُقوِّيها، ولا توصل إليك نور الخُلُق الكريم المحمود عند الله تبارك وتعالى: من التواضع، من المودَّة، من المحبة في الله سبحانه وتعالى. ما تقوم دعواتهم على هذه الأُسس أصلاً.
إنما هي دعوة الله ودعوة أنبيائه، ثم دعوة الصادقين من خُلفاء الأنبياء، تجمع على الله تعالى، وتجمع على حُسن الخُلُق، وتجمع على الأُلفة والأُخوَّة والمحبة.
والناس قبل دعوة حبيبنا ﷺ كانوا أعداء (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) على يد زين الوجود ﷺ.
فوجب علينا كما سمعتم أن نُحسن الإصغاء لهذه الدعوة الإلهية والدعوة النبوية والتي بُيِّنت وفُصِّلت على ألسن الصحابة وأهل البيت الطاهر والصالحين الأخيار من العلماء الأبرار، الذين تكتسب قوَّة في الخُلُق الحسن بل وجلب له من خلال رؤية أحدهم، من خلال سمع كلام أحدهم، من خلال الجلوس مع أحدهم حتى وهو ساكت وأنت ساكت.
والذوات الثانية الأخرى - وربما ادّعت أنها داعية إلى الخير - بمجرد أن تراهم في قلبك ينبعث سوء الظن ، في قلبك ينبعث الكِبر، في قلبك ينبعث الحسد، حتى وهو ساكت وأنت ساكت، تجلس معه وما تدري إلا وحسد جاء في قلبك، وبُغض جاء في قلبك.
من أين جاء هذا؟ مثل الجليس الصالح والجليس السوء، يقول ﷺ. وما أحد ممكن يجي يجلس عند نافخ الكِير ويقول: ممنوع شرارة تجي ! كيف ممنوع شرارة تجي ؟ ممنوع أروح رائحة سيئة! رائحة سيئة هي ضرورة الكِير الذي عندك هذا، ينفخ النار له رائحة، ما تقدر تجلس معه وتقول ما عليَّ من رائحته، با تدخل أنفك على رغم أنفك و تروَحها.
وشرارة إذا طارت ما بتستأذنك، تقول: رخصة أقع على ثوبك أو إذا وقعت في عينك مشكلة أكبر، وستطير وتقع حيث ما تقع وأنت ما تقدر على دفعها.
لهذا نُهينا عن مجالسة الأشرار، عن مجالسة الغافلين، عن مجالسة الظالمين. (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).
وبهذا كان أثر أيضاً المجالسة للأخيار والحضور في حضراتهم ،
هم العلماءُ العارفون الذين في ** مجالسهم للمرءِ أعظم إسعادِ
وإياكمُ من صُحبة الضدّ إنني ** رأيت فساد المرءِ صُحبة أضدادِ
ففي صُحبة الأضدادِ كلُّ رذيلة ** تؤدي إلى ضُر ٍ و بغيٍ وإفسادِ
وفي صُحبة الأخيار كلُّ فضيلة ** وربحٍ وفوزٍ ليس يُحصيه تعدادِ
قال ربنا سبحانه وتعالى فيما أخبر نبيه: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
وقد منَّ الله عليكم بتسلسل الأنوار من حضرة النبوة إلى من عرفتم من آبائكم الأخيار والعلماء الذين شرَّف الله بهم الوادي والنادي، كلُّهم يدعون إلى كريم الخُلُق، وإلى حُسن الاستعداد للمَعاد، والتزوُّد من العُمر القصير النافذ بما نكسب به رزقاً ما له من نفاد، وما له من نهاية، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، له الحمد وله المِنَّة.
الله يُهيِّئ قلوبنا لأخذ الزاد من هذه الأيام ومن هذه الليالي، ولا يخرج علينا الشهر إلا وقد خرجت كلُّ ظُلمة من قلوبنا ومن صدورنا، وكلُّ غِش وكلُّ غِل ، وبقينا على المودَّة وعلى المحبة وعلى الأُخوَّة في الله تبارك وتعالى.
"ما تحابَّ اثنان في الله إلا كان أحبّهما إلى الله أشدُّهما حُبّاً لصاحبه"، هو الأحب إلى الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، الذي محبَّته أقوى من أجل الله.
والله يقول لنا في الحديث القدسي: "وجبت محبَّتي للمُتحابِّين فيَّ، والمُتجالسين فيَّ، والمُتزاورين فيَّ"، ثم يُنادي مُناديه يوم القيامة: "أين المُتحابُّون فيَّ؟ أين المُتجالسون بجلالي؟ أين المُتباذلون فيَّ؟ اليوم أُظلُّهم بظلِّ عرشي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي". ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
نوَّر الله قلوبنا وطهَّرنا، وأعاد علينا عوائد الاتصال به وبرسوله، وكفانا شرَّ القواطع التي تقطعنا عن زيادة الإيمان، عن زيادة المعرفة، عن زيادة القُرب من الله تبارك وتعالى، عن قوَّة الصِّلة بالله سبحانه وتعالى.
فكان هذا الشرف للإنس والجن على من عداهم من الكائنات، والشرف للملائكة معهم أنهم هُيِّئوا لأن ينالوا من معرفة الله ما لا تستطيع بقية الكائنات أن تناله، ومن أسرار القُرب منه جلَّ جلاله والمحبة منه والمحبة له ما لا تنله بقية الكائنات، فكانت هذه ميزتهم وهذا شرفهم.
وكان من ضيَّع هذه المزيَّة والعطيَّة من ربِّ البريَّة الغالية الثمينة كالأنعام بل أضلّ. وكان مصير الأنعام أن ترجع إلى التراب، وأما هو فيدخل النار ويقول الكافر: (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) - والعياذ بالله تبارك وتعالى.
الكافر الذي كذَّب بالله ورسوله كائناً ما كان، ما يغُرُّك أنه كان يدَّعي مُلكاً ولا يدَّعي مالاً ولا يدَّعي أسلحة الدمار ولا يدَّعي أنه يُقدِّم ويُؤخِّر. والله ما فيه مُقدِّم ولا مُؤخِّر! "أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر لا إله إلا أنت".
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
هو الذي يتصرَّف هذه التصرُّفات ؟ نعم، كما يتصرَّف في الليل والنهار. عندك شكّ؟ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ). هل شيء من الأجهزة عندهم يتحكَّم في الليل والنهار؟ يُدخل هذا في هذا أو يقرب هذا ولا يُغرِّب الشمس ولا يأتي بالقمر؟ ما عندهم قدرة على هذا.
قال الله: كما أنا أفعل هذا أمامكم لا شريك لي، فأنا الذي أفعل، أُطلِّع هذا وأُنزِّل هذا وأُقرِّب هذا.
الأسباب لا تغترُّوا بها، ولكن أنتم مُكلَّفون، إن تسبَّبتم لطاعتي ولما شرعت لكم فلكم الأجر، وإن تسبَّبتم في معصيتي وما حرَّمت عليكم فعليكم الوِزر، ثم لا أنتم ولا الأسباب فعّالين باستقلال قطّ، أنا الفعَّال لما أريد.
سبحانه وتعالى، بيده يهدي من يشاء ويُضلُّ من يشاء. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ).
فالله يهدينا لنوره ويجعل لنا نصيب وافر من هذه المجالس وهذه المجامع وخاتمة هذا الشهر الكريم، إن شاء الله يتوفَّر حظُّ كلِّ فرد منَّا، ومن أهلينا ومن أولادنا ومِن مَن في ديارنا.
وينزع عنَّا فتيل الانخداع بموجبات الضياع وما يُمليه إبليس وجُنده ممَّا يوحي بعضهم إلى بعض زُخرف القول غرورا.
اكفنا شرَّ الغرور والزور، وارزقنا المتابعة لبدر البدور، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به، وارزقنا خدمة سُنَّته وشريعته ودينه وهديه، وخدمة أُمَّته عامَّة وخاصَّتهم خاصَّة، وانفعنا بأُمَّته عامَّة وبخاصَّتهم خاصَّة.
ولا تحرمنا بركة محبوب ولا مُقرَّب ولا ولي ولا صالح ولا عارف ولا ذي منزلة لديك، ولا تحرمنا خير ما عندك لشرِّ ما عندنا.
يا وهَّاب، يا كريم، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
26 ربيع الأول 1447