(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي في جامع كلية الشريعة بجامعة الأحقاف، ليلة الخميس 26 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:
حقائق الهدى وصحة الأمة من عللها وآفاتها بعلاقتها وانقيادها للمؤتمن على تزكيتها
الحمد لله على الاجتماع لتلبية نداء الله، ونداء حبيبه ومُصطفاه، وما نداء الله لنا إلا عبر هذا المصطفى، فنداؤه نداء الله، ودعوته دعوة الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله. وهو المُنتخب المُنتقى، المأمون على بلاغ أمر الله لخلق الله، المأمون على هداية الخلق إلى الله، بل وإلى ما يصلح معاشهم ومعادهم، وأجسامهم، وقلوبهم، وأرواحهم.
مُرسَل من قِبَل ربّ كل شيء، من قِبَل خالق الأرواح، وخالق العقول، وخالق القلوب، وخالق الأجساد، وخالق الأرض وما فيها، والسماء وما فيها، وما بين الأرض والسماوات جلّ جلاله، وخالق الحياة والموت ليبلونا أينا أحسن عملاً، وخالق البرزخ وما يجري في البرزخ، وخالق القيامة وما يكون فيها، وخالق الجنة، وخالق النار جلّ جلاله.. الله !
بعث الرُّسل إلينا لندرك الحقيقة، لنسلم من أطروحات عدونا الذي يستعين بنفوسنا ما لم تتزكَّ، ويستعين علينا بنفوسنا ما لم تتهذّب وتتأدّب، فيصيدنا بِمَكره وغروره إلى السوء والشر والفساد والضُّر. وفي أهل ذلك الفساد الطوائف الذين وصفهم ربُّكم جلّ جلاله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، في دعاوى طويلة عريضة لا برهان عليها، لا حُجّة عليها، لا أساس لها، ولكن عنجهية وكِبرياء: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ، و (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) ، وبعدها: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي) ، لا أحد إلا أنا!
هذه دعوات إبليس وجُنده، تساعد على الاستجابة لها الأنفس إذا لم تتزكَّ، إذا لم تتربَّ، وما تتربّى ولا تتزكّى إلا كما سمعتم، إذا اتّصلت بجهاز التزكية، بل بالمأمون على التزكية، هو الذي يُزكّينا بأمر الله، هو الذي يُزكّينا بشرع الله تبارك وتعالى وبما بعثه.
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، فلا نُدرك الحقيقة إلا من خلال تلاوته، ونُدعى إلى الحق من خلال تلاوته. (وَيُزَكِّيهِمْ): ينزع فتيل السوء والشر من نفوسنا وصدورنا، يُحوّلنا من عُرضة للهلاك الأبدي وشقاوة الأبد وخُسران الأبد، إلى سعادة الأبد وفوز الأبد ونعيم الأبد، ائتمنه الله على ذلك. وحقائق العلوم تأتي على يده، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
فهم إن استمعوا لتلاوته، وتزكّوا بتزكيته، وتعلّموا بتعليمه: خير أُمّة أُخرجت للناس. وإن لم يستمعوا لتلاوته، ولم يتزكّوا بتزكيته، ولم يتعلّموا بتعليمه، فهم كما كانوا قبل، يكونون بعد كما كانوا قبل في ضلال مُبين.
كانوا قبل في ضلال مُبين قبل أن يتلو علينا الآيات ويزكّينا من الحِقد والحسد والكِبر والرياء والغرور والبُغضاء والشحناء، وأنواع من الأمراض الخطيرة المُهلكة المُدمّرة، التي يخسر أصحابها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). كما قال جلّ جلاله وتعالى في عُلاه.
وبهذه التلاوة والتزكية والتعليم ننتقل من أهل ضلال مُبين إلى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، أي لا يجد الناس في شرق الأرض وغربها، عجمهم وعربهم، صغيرهم وكبيرهم، لا يجدون خيراً منكم ولا أحسن منكم؛ فيما تدلّون عليه، فيما ينفع، فيما يُفيد، فيما يُنقذ، حتى ولو في الشؤون الحِسّية، تَسلمون من شرورها وآفاتها إذا استجبتم لهذه التعاليم المُنزَلة على أيدي المرسلين الذين خُتموا بالنبي المصطفى محمد ﷺ.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). ليقوم الناس بالقسط، ثم يقول لخاتمهم: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). لتحكم بين الناس.
يقول جلّ جلاله وتعالى في عُلاه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
ويصف لنا مُهمّة هذا المُجتبى المُصطفى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ).
فما هناك معروف لم يأمر به النبي المصطفى، كل معروف يدخل تحت أمره عليه الصلاة والسلام، وهو الميزان للمعروف والفارق بين المعروف والمنكر، والفارق بين الحق والباطل، والفارق بين الضلال والهُدى ﷺ.
(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) فما من منكر إلا ونهى عنه، وكل ما نهى عنه فهو المنكر في ميزان الله.
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) فكل ما حرّمه فهو خبيثٌ خبيثٌ خبيث، وإن قال لك الخبيث: إنه ليس بخبيث فهو وما قال عنه خبيث.
الطيّب الله، ولا طيّب في الناس ولا في الخلائق ولا في الأقوال ولا في الأفعال ولا في المطعومات ولا في المشروبات ولا في الملبوسات ولا في الأفكار إلا ما رضيه الله الطيّب، وإلا ما أحبّه الله الطيّب، وما خرج عن محبّة الله فليس بطيّب، سواءً كان فكراً أو خُلُقاً أو أكلاً أو شراباً أو لباساً أو استعمال سمعٍ أو بصر.. إلى غير ذلك.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). يتحوّل بالانقطاع عن الله والمُخالفة لأمره إلى خبيث، يتحوّل البصر إلى خبيث إذا امتدّ إلى ما حرّم الله، يتحوّل السمع إلى خبيث إذا استمع إلى ما حرّم الله تبارك وتعالى عليه.
المُستمعون لأفكار المُفسدين في الأرض، المُستمعون للغيبة والنميمة، المُستمعون للآلات المُحرّمة وكلام المُجُونِ المُثير للشهوات المُحرّمة، خبُثت أسماعهم، خبُثت آذانهم، خبُثت حواسّهم والعياذ بالله تبارك وتعالى، وكلّ ما خالف أمر الله فهو خبيث.
(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) - الثقل والمشاكل والبلايا توضع إذا اتّبعتَ خير البرايا - (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). اللهم اجعلنا منهم، وزِدنا إيماناً به يا رب.
هو الأصدق في الخلق كلهم، وأصدق الخلائق الرُّسل، وهم القمّة في الصدق من أولهم إلى آخرهم، وسيّدهم محمد ﷺ، الصادق المصدوق، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).
نزداد إيماناً به، (آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ)، وكما سمعتم في كلام السيّد عبدالله بن محمد باهارون يقول: ما يمكن أن ينتفع بالعمل بما جاء به مَن لم يُحبّه، من لم يُعظّمه. أي: الانتفاع الصحيح، المُثمِر للخير في الدنيا والآخرة.
أما الانتفاع الحسّي؛ كل مَن اتّبعه في أي شيء تعود عليه منفعة من ذلك الشيء، لكنها حسّية أو متعلقة بالمادة، لكن حقيقة الانتفاع ما تحصل حتى بصورة الاتّباع على غير محبّة، ما تحصل! ما تحصل إلا بالمحبّة والتعظيم، (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ).
ما رأينا صحابياً واحداً يفكّر تفكير: ماهي أوامرك وماهي نواهيك ؟ وماذا علي منك؟ سأفعل أوامرك ونهيك فحسب، ولا شأن لي بك ؟ لا يوجد هذا عندهم.. كل من آمن منهم قال: أنت أحبّ إليّ من نفسي، أنت أحبّ إليّ من أهلي وولدي، ما كان بلد أبغض إليّ من بلادك، فصار بلدك أحبّ البلاد كلها إليّ.
لا يوجد في فكر الصحابة أن رسول الله يبلّغ الرسالة ويذهب في شأنه وليس بمقصود؛ في فكر الصحابة أنه المحبوب للمعبود، وأنه الوسيلة إلى المقصود، وأنه الأعلى مكانة لدى الرب، فهو أحبّ من يُحَبّ من أجل الرب، وأولى من يُحبّ من أجل الرب، هذا مُقتضى الإيمان، ما يجيء إيمان بلا محبّة، ما يجيء إيمان بلا تعظيم.
ما يجيء إيمان وواحد يسمع ذكره فيشمئز - أعوذ بالله! آمِن، آمِن بالله وبرسوله؛ تطمئن إذا ذُكِر الله. (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، تطمئن إذا ذُكر محمد. ما تفرح به؟! ما تأنس بذكره؟! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وهو الذي يقول: "من صلّى عليّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشر صلوات". فكيف يتّفق الإيمان مع الاشمئزاز من مجلس يُصلّى فيه على النبي محمد؟ ماذا بك؟ لماذا أنت زعلان؟ قال: يصلّون على النبي، ثم ماذا! أتريدهم يسبونه أم ماذا ؟! ماتفرح بالصلاة على حبيبك؟ وربّك يصلّي على النبي، هل ستكره الرب أم ماذا؟ والملائكة يصلّون على النبي عسى ما تكرههم! وهولاء عملوا بعمل ربّك وعمل الملائكة، فلماذا تكرههم؟ صلِّ على النبي معهم، وادخل في بركة الصلاة عليه ﷺ.
يروي الإمام الترمذي في سُننه بالسند الصحيح: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة". لا المُتشدّقون ولا المُتفَيهقون ولا المكفّرون، ولا المغترّون بالزخارف والحياة الدنيا.
"أكثرهم عليّ صلاة" ، لِمَ أكثرهم عليّ صلاة؟ لأنهم أقوى إيماناً، لأنهم أكثر محبّة، لأنهم أصدق في الاتصال بالجناب الشريف، وبذلك يكونون من أحسن الناس خُلُقاً ببركة الارتباط بعظيم الأخلاق وكثرة الصلاة عليه، يتهذّبون ويتزكّون.
فيجتمع حديث: "إن أولى الناس بي يوم القيامة" مع حديث: " إن مِن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً". وما يمكن يكون من أحاسننا أخلاقاً من لا يحبّ عظيم الأخلاق، من لا يُكثر الصلاة على عظيم الأخلاق. ولا يُمكن لمن يُكثر الصلاة على عظيم الأخلاق بصدق مع الخلّاق إلا أن تنتقش له من أخلاقه ما يُفني أخلاقه السيئة كلها، وتحلّ فيه أخلاق محمد الطيبة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وهذه السرايات التي تسري من الظاهر إلى الباطن، والتأثُّرات بين الظاهر والباطن، وعالم الغيب والشهادة، وعالم المُلك والملكوت؛ سُنّة من سُنن الله تبارك وتعالى. كما سمعتم في كلام الحبيب عبدالله: عمل الشياطين على قطعنا عن الله وعن رسوله بسرايات تسري لظُلماتٍ في قلوبنا، وتقطعنا عن التعظيم للحق العظيم، ولا أعظم منه، والتصديق بقول: "الله أكبر"، وأنه الأجلّ الأعزّ، المُحيط علماً بكل شيء، القادر على كل شيء.
فأخرِج هيبة غيره من صدرك، أخرِج خوف غيره من قلبك، أخرِج رجاء غيره من قلبك؛ لتعلم أنه الله الفعّال لما يريد، والذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.
ثم انظر ما شرع لك وما دعاك إليه، تجده مجموعاً في ذاتٍ كريمة اسمها: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
لكن معنى "اتّبعوني" هذا إذا قامت على أساس المحبّة لله تؤثّر في واقعنا، كما سمعتم في كلام الدكتور عبدالله، تؤثّر على واقعنا في المعاملة وفي النظر، في الأُسر، في صرف السمع والبصر إلى أين! (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
أن لا نستغني عن شيوخنا واتّصالنا بسندنا إلى محمدنا مُزكّينا وهادينا، (وَيُزَكِّيهِمْ) صلى الله وسلم وبارك عليه، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
وهو من أين جاء بعلمه؟ قال له سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). لا يقدر إبليس وجُنده أن يمسّوا هُدى النبي، ولا مسلك النبي بشيء، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
في الآية الأخرى قال: (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا). فضل الله العظيم عند محمد، فضل الله الكبير مع محمد ﷺ. فإن أردنا فضل الله فعلينا بمحمد، وما جاء به عن الواحد الأحد جلّ جلاله.
نُطبّق ذلك في شؤون حياتنا كما سمعتم، في بيئاتنا، في الديار والبيوت، نُقيمها على هُدى .
النبيﷺ أحسن المعاملة مع الأطفال، مع الزوجات، مع الضيوف، مع كبار السن، مع الشباب، مع الأطعمة في البيوت، مع الحيوانات التي في البيت.
تأتي الهرّة التي تشرب فتجد الماء غائصاً في الإناء بعيداً عليها، فيقوم ويُصغي لها الإناء لتشرب. فتعجب منه من تعجب! قال: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوّافين عليكم". قائمة بشركة في البيت وخدمة تخدم في البيت فنُعطيها حقّها. يا ربّ صلّ عليه، يا ربّ صلّ عليه!
فكيف لا تكون الرغبة أن تُشابه بيوتنا بيته، أن تُشابه ديارنا داره، في الحُجرات التي بناها لأمّهات المؤمنين وسكن معهنّ فيها، يقول الله لهنّ: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) - القرآن والسُّنّة - وسط الحُجر هذه، وسط البيوت هذه. (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ).
قالوا لبعض الأطفال الصغار -قديما في تريم وجدوه صغير السن يحفظ يس، حفظاً متقناً من أولها إلى آخرها، متى حفظ وهو لا يعرف ألفاً ولا باء، ولا يعرف يقرأ ولا يكتب، لازال صغيرا- من أين عرفت؟ قال: أُمّي كل يوم بعد صلاة الصبح لمّا تقوم بعمل البيت تقرأ يس؛ فحفظها الطفل الصغير، يس!
(مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ).
أطفالنا يحفظون ماذا اليوم؟ وينتقل إلى عقولهم وأذهانهم ماذا اليوم؟ يحفظون مافتحته لهم هذا من المشاريع التابعة للخباث، يأتي لك بأسماء اللاعبين، وأسماء الممثلين.. طفل صغير، يأتي لك ببعض كلامهم المُنحطّ!، وهو طفل صغير مسكين وقع في أمانة أبوين ماراعوا الأمانة، ما قاموا بحقّ الأمانة، غشّوا طفلهم، غشّوا باطنه، غشّوا الأساس الذي يقوم بالبناء عليه في حياته كلها، غشّوه مسكين! لازال صغيرا، لا سمّعوه ذكر الله، ولا ذكر رسوله، ولا ذكر الصالحين، وأتوا له بهؤلاء الخبثاء وهو يتسمّعهم، وينظر صورهم، ويتسمّع أفكارهم.
اتّقِ الله في ابنك، اتّقِ الله في بنتك، اتّقِ الله في أهل بيتك. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). أمانة كبيرة!
بذلك كله نعلم أننا أمام قيادة اختارها الله لنا، وهو محمد بن عبد الله، وحبال توصِل بالقيادة من الآيات والسُّنّة المطهّرة، وحاملي أسرارها من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأهل البيت الطاهرين، وسند مسلسل إليهم لا تُحرّكه سياسات ولا أموال ولا أغراض دنيويات.
فهم القوم الذين هُدوا ** وبفضل الله قد سعدوا
ولغير الله ما قصدوا ، ماقصدوا، ماقصدوا ماقصدوا!
ولغير الله ما قصدوا ** ومع القرآن في قَرَنِ
ربّي فانفعنا ببركتهم ** واهدنا الحسن بحُرمتهم
وأمِتنا في طريقتهم ** ومعافاةً من الفتن
الدعاء بتدارك الأمة
ومن مظاهر الصحّة في هذه الأُمّة أن يُعقد هذا المجمع في كلية منتمية إلى جامعة، وأن يعقد هذا التذكير وهذا التنبيه والتنوير ، علامة صِحة في الأُمّة.
والله يُصحّح الأُمّة من الأمراض كلها، الله يُعافيها من أسقامها الكثيرة المتنوّعة في فكرها وفي سلوكها وفي علاقتها فيما بينها. اللهم اشفِ الأُمّة، اللهم عافِ الأُمّة، اللهم صحّح الأُمّة من العِلل والأمراض الظاهرة والباطنة، واجمعهم على هَدي نبيّك المُصطفى.
وانظر إلى مدارسنا، وانظر إلى معاهدنا، وما يطرأ عليها من الأفكار وسوء الخُلق، ارفعه عنها يا ربّ.
مدارس مسلمين! وجامعات المسلمين! تخدم مشاريع كفرة وفجرة والعياذ بالله بعضها، ويتخلّل إلى بعضها قطع عن الله وعن رسوله.
فيا ربّ تداركنا والأُمّة بغياث عاجل، تداركنا بغوثك السريع.
يا سريع الغوث، غوثاً ** منك يُدركنا سريعا
يُهزم العُسر، ويأتي ** بالذي نرجو جميعاً
يا قريباً يا مُجيباً ** يا عليماً يا سميعاً
قد تحقّقنا بعجزٍ ** وخضوعٍ وانكسارِ
لم أزل بالباب واقف ** فارحمن ربّي وقوفي
وبوادي الفضل عاكف ** فأدِم ربّي عكوفي
ولِحُسن الظنّ ألازم ** فهو خِلّي وحليفي
وأنيسي وجليسي ** طولَ ليلي ونهاري
قد كفاني علمُ ربّي ** من سؤالي واختياري
حاجةً في النفس يا ربّ ** فاقضِها يا خير قاضي
وارفعوا إلى الله حاجاتكم وحاجات أهلكم وأولادكم، وحاجات الزمان الذي نحن فيه. يا ربّ حاجات المسلمين ما علمنا وما لم نعلم، أنت بها أعلم.
حاجةً في النفس يا ربّ ** فاقضِها يا خير قاضي
وأرِح سرّي وقلبي ** من لظاها والشواظِ
في سرورٍ وحبورٍ ** وإذا ما كنت راضي
فالهنا والبسط حالي ** وشعاري ودثاري
قد كفاني علمُ ربّي ** من سؤالي واختياري
رب فاجعل مجتمعنا ** غايته حُسن الختامِ
واعطنا ما قد سألنا ** من عطاياك الجسامِ
واكرم الأرواح منّا ** بلقا خير الأنامِ
وابلغ المُختار عنّا ** من صلاةٍ وسلامِ
والحمد لله ربّ العالمين.
26 ربيع الأول 1447