(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي بدار المصطفى، ظهر الإثنين 23 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:
القيادة النبوية بتعيين حضرة الربوبية وترتُّب سعادة الدارين على اتباعِها والشقاءِ على مخالفتها في جميع شئون الأمة المحمدية
لمشاهدة مجلس المولد السنوي كاملاً
الحمد لله على مِنَّته العظيمة، وعجائب رعايته الكريمة، وتنزُّلاته لهؤلاء العباد، بعد التكرُّم بالخلق والإيجاد، خلق وأوجَد سبحانه من العدم كلّ شيء، (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، لك الحمد يا خالقنا ويا خالق كلّ شيء.
صلِّ على سيّد كلّ شيء، عبدك المحبوب الذي أرسلتهُ إلينا، ليُحيينا بحياة شريفة كريمة طَيِّبة عظيمة، من شأنها الأبد والخلود، وفي نعيم سرمديّ لا يُعَدّ ولا يُحدّ، لا خطر على قلب بشر، لا عين رأت ولا أذن سمعت.
لك الحمد يا منّان، لك الحمد يا رحمن، صلِّ على هذا الإنسان الذي جعلته سيّد الأكوان، وعلى آله المُطهّرين من الأدران، وعلى أصحابه الغُرّ الأعيان رؤوس هذه الأمّة، وعلى من والاهم واتّبعهم بإحسان، وعلى من سبقهُ في التبليغ والدعوة إليك والتبشير به من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
ولقد اجتمعتم بالفضل الربّاني والجود الامتناني، تحت رايات صاحب الشرف العدناني ﷺ، محبّة في الله، وتوجّهاً إلى الله، ووفاءً بعهد الله، واتّباعاً لسُنّة محمد بن عبد الله.
التزاور في الله هو الذي علّمنا إيّاه، الحضور في المجالس هو الذي علّمنا إيّاه، الصلاة عليه هو الذي علّمنا إيّاها بتعليم الله وأمر الله لنا بها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذكر لله هو الذي أمرنا به ودلّنا عليه، الدعاء والتضرّع هو الذي أمرنا به ودلّنا عليه، التعليم والتعلُّم، كلّها دعواته عليه الصلاة والسلام، وإرشاداته عليه الصلاة والسلام.
وذلكم أنَّ من أعظم وأجلّ مِنَن المنّان على المُكلّفين من الإنس والجان أن اختار لهم أنبياء ومرسلين، كما سمعتم في مولد الوالد قال:
ليُرشدونا إلى العالي من الرُتَبِ
تفضُّلاً وامتناناً حيث أرسلهم ** لنا بأن عرِّفوا دأباً عبادي بي
ليربحوا منه إحساناً ومرحمةً ** طوبى لمقتربٍ لله مُحتسبِ
والمؤمنون هم الذين أُكرِموا بتلبية النداء الإلهي على ألسن الأنبياء، وجاء خاتمهم، وكان خاتمهم إمامهم، كان خاتمهم مُقدّمهم، وكان خاتمهم أعظمهم، وكان خاتمهم أكرمهم. وبه كُرِّمتم، وبه شُرِّفتم، وبه كنتم خير أمّة. اللهم لك الحمد.
فولّاه الله تكريماً منه سبحانه للمستجيبين الملبّين من المكلّفين من الإنس والجنّ، ولّاه قيادتهم وائتمنه على هَدْيِهم وإرشادهم، وحُسن دلالتهم وتوضيح الأمر لهم، وتبيين الصراط المستقيم.
وجعله بذاته قدوة في جميع الشؤون والأحوال، وما من وصف حميد ولا مسلك رشيد دلَّ عليه أو أمر به إلا وهو قائم فيه وقائم به، ومُترجَم في حاله وفي أقواله وأفعاله وهديه الكريم ﷺ، جامع الكمالات الإنسانية صلوات ربّي وسلامه عليه، ومستودع أسرار الحضرة الربّانية صلوات ربّي وسلامه عليه، فاختارهُ لنا قائداً.
والأمّة من أوّل ما جاء النور فيهم مِن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والبلاغات التي تمّت على عين الذات الكريمة إلى وفاته، وما تفرّع عنها في حياته مِمّن أخذ عنه وممّن اتّصل به، وما بعد ذلك إلى الأبد، كلّ هؤلاء درجتهم عند الله على حسب حُسن استجابتهم لهذا القائد، وانقيادهم له، واتّباعهم له، وامتلائهم بولائه ومحبّته.
قاعدة وحُكم من الله ما فيه استثناء، ما فيه استثناء! ما أحد أحبّ إلى الله في الإنس والجنّ من عهده إلى أن تقوم الساعة إلا مَا كان أحسن انقياداً لمحمد، وأعظم تعظيماً لمحمد، وأكبر محبّة لمحمد، بلا استثناء.. تعرف معنى بلا استثناء؟ بلا استثناء!
ما هناك مكانة عند الله لإنسيّ ولا جنّي، صغير ولا كبير، إلا على قدر معرفة هذا ومحبّة هذا والانقياد لهذا ﷺ. (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي). لا تدّعوا محبّة لا بيِّنة عليها وليست مقبولة عندي، وهنا القبول وهنا البرهان وهنا الصدق: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).
ترى أنه لمّا يُعبّر عن المحبّة جبّار السماوات والأرض يأتي بها بالإدغام كلّه: (يُحبّهم ويحبّونه) ، ولمّا جاء عند هذه الآية فكَّ الإدغام، قال: (يُحْبِبْكُمُ اللَّه)، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ! في سيل هنا، في سيولة، في معنى زائد، يُحْبِبْكُمُ الله!
مركز المحبّة وأصلها ﷺ.. يُحْبِبْكُم! ما تُطربك هذه الكلمة؟ ما تُحرِّك شعورك؟ (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ،ولا شيء أعظم من محبّة الله.
هذه القيادة، هذه الريادة، هذه الدلالة، قصَّرت الأمّة في معرفة قدرها، وإن كان لا يحيط بقدرها أحد، ولا سادتنا الأكابر من السابقين الأوّلين - وقدرهم رافع وعالٍ، ولم يبلغ أحد منزلتهم، وعرفوا من أسرار رسول الله ما لا يعرفه من سواهم - ولكن لا يحيطون به، ولا بعظمته وأسراره.
وفي التاريخ عندنا والسنة، لمّا التقى سيدنا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بسيدنا أويس القرني، وكانت بينهم تلك المجالسة والمحادثة العجيبة في لحظات غريبة لها شأن، كان ذَكَرها سيّد الأكوان قبل أن تكون، ووَجَّه الخطاب إلى الاثنين - عمر وعلي: "يا عمر، يا علي، إذا أنتما لقيتماه فاسألاه أن يستغفر لكما يغفر الله لكما".
جاء في خبر هذه المخاطبة وما دار بينهم، قال: "يا أمير المؤمنين ويا علي بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله، ما عرفتم من رسول الله إلا الظلّ!" قال: "صدقت والله، ما عرفنا من نبيّ الله إلا ظِلّه!"
حقيقته من هو؟! يعرفه واحد اسمه الله، مُعظّم، مُمجّد، مُشرّف، مُكرّم بتعظيم الواحد الأحد سبحانه وتعالى.. مجَّده وعظَّمه وشرّفه وميَّزه، قبل ما يخلق شيء خلق نوره الكريم، وأفاض عليه وما كان مخلوق إلا واحد، والخالق هو الواحد جلّ جلاله وتعالى في علاه، ثم أوجَد الوجود هذا كله من بعده.
ويكفي فيما دلّنا عليه مِن هذه المكانة أن أكبر المواقف في أعظم الأهوال في القيامة، حيث يتوقّف الشُفعاء المقبولون عند الله، يقول: "أنا لها!" يقول نبيّكم: "أنا لها!"
يا ربّ صلِّ عليه واملأ قلوبنا بمحبّته وبمودّته.
والآن - كما سمعتم في كلام الأحباب والعلماء - يجب أن نرجع إلى إعطاء هذه القيادة حقّها، إنه ما أصاب الأمّة أمراءها ولا مأموريها ولا رعاتها ولا رعاياها من سوء وشرّ إلا بالتخلُّف عن حُسن الانقياد لهذا القائد.
والأمر كذلك قائم بحكمة الله في الوجود من دون استثناء: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، ولولا أنه يعفو عن كثير ما عاد قامت هذه الحبال الممتدّة إلى مجامعكم هذه، وهذه الخيرات الكبيرة، الصبابة فيها سحائب الجود الغزيرة من حضرة الله تبارك وتعالى، بفضل منه سبحانه وتعالى.
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ). ولكن تكَفَّل لنبيّه أن يُبقي في الأمّة هؤلاء الأخيار محلّ عنايته، قرناً بعد قرن إلى آخر الزمان، وأخبره أنه يجعل في كل قرن من قرون أمّته سابقين يدخلون إلى الصفوف الأولى في القيامة: "في كل قرن من أمّتي سابقون".
وأن يحميهم لمن أراد فهم الحقيقة من هؤلاء الأتباع لمحمد ﷺ، ويريد سواء الطريقة، يُبقي فيهم هذه الحماية: "يحمِل هذا العلم من كلّ خَلَف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". فضلاً مِن ربّكم جلّ جلاله وتعالى في علاه.
ويبلُغ الدين ما بلغ الليل والنهار، وما بلغت الشمس، فضلاً مِن الجواد جلّ جلاله وتعالى في علاه.
وجئنا بحمد الله تبارك وتعالى وراء هذه القيادة، والله إنّنا وراء هذه القيادة! وراء هذه القيادة جئنا، وراء هذه القيادة اجتمعنا، وراء هذه القيادة حضرنا، والحبال التي بيننا وبينها من أقوى الحبال: أولياء عن أولياء، وعلماء عن علماء، وصُلحاء عن صُلحاء، وزُهّاد عن زُهّاد، وعُبّاد عن عُبّاد، وأتقياء عن أتقياء، إلى أتقى الخلق، إلى خير الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فالحمد لله على هذه المِنَن، الله يُتِمّ النِّعمة علينا وعليكم، ويتجدّد في قلوبنا وقلوب أهالينا سر الانقياد لهذا القائد، في الغيوب والمشاهد؛ لِنحظى بالفوائد وعجيب العوائد، وتُبسَط لنا الموائد، مائدة: (يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
يعود حُسن انقيادنا الذي قال عنه: "ولا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به"، ونقتدي به في أحوالنا كلّها وفي شؤوننا، ولا تظنّ أنّ شأناً من شؤون الحياة - ولو دخولك الخلاء، ولو رفعك لثوب أو لبسك لثوب، ولا لُقمة ترفعها، ولا زراعة تزرعها، ولا صناعة تصنعها، ولا جهازاً تتفرّج عليه أو تُحدثه - لا تظن أنه غائب في قيادته عن توجيهك في هذا، هو حاضر معك يقول لك: هذا حلال وهذا حرام، وهذا سنّة وهذا واجب، وهذا أفضل.
إن تزرع، وإن تصنع، وإن تتَّجِر، وإن تسافر، وإن تتأمّر على أحد، وإن تقوم في بيتك، وإن تلبس ثوبك، وإن تنام في نومك، وإن تدخل الخلاء، القيادة حقه موجودة، يقول لك: هذا سُنّة وهذا أفضل، وهذا يجوز وهذا لا يجوز.
فاعرف قدر القيادة هذه! هذه القيادة مِنّة مِن ربّ العرش، مَنَّ بها عليك أحبّ أحبابه جعله قائدك، ما هذه المنّة التي عليك؟ ما الفضل هذا الذي عليك؟ أصفى أصفيائه، أحبّ أحبابه جعله لك قائد! يريد يُشرّفك، يريد يُكرمك جلّ جلاله، يريد يُتوّجك بتاج العزّ في يوم القيامة.
فما يكون شأنك إذا ما عرفت قدر القائد، وخُنتَ الأمانة مع هذا القائد؟ وكيف ستكون المواجهة في يوم القيامة؟ والمقابلة يوم الطامّة؟ وهو قاعد هناك منتظر، والآن في برزخه منتظر ما يأتيه من أخبار أمّته ومن أعمالهم: "تُعرَض عليّ أعمالكم، فما وجدتُ من خير حمدت الله، وما رأيت غير ذلك استغفرتُ لكم".
يا ربّ صلِّ عليه! لا رحمنا أب مثل رحمته، ولا أمّ مثل رحمته، ولا رحمنا أنفسنا مثل رحمته بنا! (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
هذه المخاطبات الإلهية تصبغكم بصبغة، تعيشون فيها أنتم على ظهر الأرض، لكن هذه سماوات من النور، هذه سماوات من المعرفة، هذه سماوات من القُرب تعيشون عليها. إذا عشتم فيها غبطكم ملائكة السماوات السبع، وخدمكم ملائكة السماوات السبع، وعظَّم شأنكم ملائكة السماوات السبع.
هذه سماوات عواطف، هذه سماوات معارف، هذه سماوات نور من العزيز الغفور جلّ جلاله وتعالى في علاه، ربطنا بهذا القائد ﷺ.
وما كان شرف سندنا إليه إلا حُسن اتّباعهم له، كان سيدنا الإمام الحدّاد يقول: "ما من سنّة سَنّها رسول الله إلا وأرجو أنّي قد عملتُ بها".
عرضوا القولة للإمام أبي العباس المُرسي: "لو غاب عنّي رسول الله طرفة عين ما عددتُ نفسي من المسلمين".. استحكم الإسلام والإيمان في قلبه، في كل لحظة ونَفَس مُتّبع مقتدٍ، القيادة حاضرة في ذهنه والقائد.
فلمّا عرضوها على الإمام عمر بن عبد الرحمن العطّاس قال: "كيف يغيب عنّا وهو عين وجودنا؟" كان مشهد أعمق.
والحمد لله على هذه المشاهد، اليوم مناصبنا وعلماؤنا وكثير من أعياننا، وأهل الظهور فينا والخاملين والمستورين، ومن لا يُعرَفون من أهل التمكين، ومن أقطار شتّى وبلاد شتّى، حتى لا تكاد شيء من هذه القارّات إلا وأحد موجود فيها في هذا الجمع، والذين في الطريق والنساء والأطفال والذين يزغردون والذين يغرّدون..
عُمق في تأثير القيادة! عُمق مِن تأثير القيادة! الله يُعمِّقه أكثر ويقوّيه أكثر، مِنّة من منن الله، إذا نظر الله إليها استنزلت مِن خزائن جوده جلّ جلاله ما يرحم به عباده.
لِمَ؟ لأنه في سخائه وفي إفضاله وفي جزيل نواله وفي حُسن معاملته لعباده قال: "من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً".
يا خير ربّ هذا! يا ما أعظمه مِن ربّ! يا ما أكرمه من ربّ! يا ما أسخاه من ربّ! هكذا يُعاملنا!
وإذا وُجِد اجتماع من أجل الله، من أجله ومن أجل رسوله، ذكره وذكر رسوله، كيف يفعل؟ "أُشهدكم يا ملائكتي أنّي قد غفرتُ لهم". فإذا قال مَلَك: "فيهم عبد خطّاء ما جاء للذكر وإنما جاء لحاجة"، ربّ العرش يقول: "حضر مجمعهم، اسمع حُكمي: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
هذا كرم ربّي! هذا فضل ربّي!
وكم مِن مغفرة تحصل وتعمّ هذا الحاضر ومَن في داره، تعمّ هذا الحاضر ومن في صُلبه، وكذلك جود منه يجود، مثل هذا المجمع لأن مُرتَّب عليه عقود في إيمان كثير من الذين هم في هذه اللحظة كفّار سيُسلمون ويدخلون في الدائرة، لأن الله ينظر إلى مجالس من أجله عُقِدَت.
وكان يذكر الإمام أحمد بن حسن العطّاس يقول: إنه جاء في الآثار أن إذا عُقِد مجلس ذكر من أجل الله خالصاً لوجهه، أنشأ الله من ذلك المجلس سحابة تُمطر على قلوب أقوام لم يعملوا خيراً قطّ، فيتحوّلوا كلّهم سعداء، من سحاب المجالس في الأرض تُعقد من أجل الله.
ملائكة السماء ينظرون إليها، وخُصِّص ألوف ملايين من الملائكة لأجل هذه المجالس. "إن لله ملائكة سيّارة"، "إن لله ملائكة سيّاحين يلتمسون حِلَق الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلمّوا إلى طِلبتكم"، تنادوا: "هلمّوا إلى بُغيتكم".
وهذه الدوافع من أجل الله ومن أجل رسوله، لنا احتفالات كثيرة ولنا اجتماعات، لكن هذه من أشرفها وأعزّها.
وبالله عليكم، المؤمنون ثم غير المؤمنين في الشرق والغرب، مهما أقاموا من اجتماع أو احتفال، قولوا لي: بأيّ شيء يكون أعظم من الله ورسوله؟ بأيّ شيء؟ ثورة لهم؟ قتلوا فيها رقاب الخلق؟ بأيّ شيء يكون أعظم؟ يوم طلع فلان على العرش؟ لا أدري يصلّي أو ما يصلّي الذي طلع فوق العرش.. هذا هو اليوم العيد؟ أو يوم دخلت الكرة في المحل هذا؟ جابوا كم من هدف، هذا هو العيد؟!
بالله عليكم، شيء أكرم من هذا؟ شيء أكرم من أجل الله ورسوله نحتفل ونجتمع؟ تهوى أمامها احتفالات العالم، ما تساوي شيء! والله ما تُدرِك غبار هذه المجالس احتفالات أهل الشرق والغرب! ما تُدرك غبار هذه المجالس!
وأمامنا وإيّاهم يوم القيامة ليشاهدوا الخبر، اليوم نتكلّم وبكرة نشاهد ونعاين هذه الحقائق. وكم من يتمنّى أنه كان له ساعة من ساعة الحضور فيها ما حصّلها، لأنه اشتغل بِدُنياه وألهته.
وهذا الأمر الذي القائد تخوَّفه علينا، أمرين صرّح القائد بخوفه علينا منها.
الأمر كما سمعتم في البخاري أيضاً ومعانيه أيضاً في مسلم وغيرها: "أما إنّي لا أخاف أن تُشركوا بعدي، لكن أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها" - التنافس غير الشريف، غير المحمود، تنافس الشهوات الرديئة ومحبّة السلطة، والاستيلاء على الناس، وهذا الذي يقود الدول من حواليكم - "فتُهلككم كما أهلكتهم".
هذا أول تخوُّف، حذّرنا القائد منه، قال انتبه! إذا تنازعوا عليها وتسابقوا عليها، تعال إلى عندي، اتركهم، لا تتنازع معهم على الدنيا ولا تنافسهم.
وأوصى الأنصار، قال: "معاشر الأنصار، تلقون أثرة بعدي" - المظاهر والإمارات هذه حتى في الجهاد لن تأتي عندكم - "فاصبروا، لا تلتفتوا، حتى تلقوني على الحوض، فإنّي أنتظركم، فإنّي أنتظركم عليه" يقول لهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
سمعتم أنهُم لمّا عرض عليهم في آخر عمره ﷺ بعد فتح مكة: "ما مقالة بلغتني عنكم؟" قالوا: "أمّا كبارنا فلم يقولوا شيئاً، سفهاؤنا قالوا بعض ما بلغك يا رسول الله".
قال: "أيّها الأنصار! ألم آتكم ضُلّالاً فهداكم الله بي؟ ألم آتكم متفرّقين فجمعكم الله بي؟ ألم آتكم أذِلَّة فأعزّكم الله بي؟" قال: "أجيبوني". "بماذا نجيب؟ المنّ لله ورسوله".
قال: "قولوا لو شئتم قلتم وصدقتم: أتيتنا وحيداً فآويناك، أتيتنا طريداً ونصرناك". قالوا: "لا لا لا! المنّ لله ورسوله!"
قال: "معشر الأنصار، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وتنقلبون أنتم برسول الله؟ أحزِنتم على لُعاعة من الدنيا تألّفتُ بها قلوب أقوام ووكلتكم لما أعلم مِن إيمانكم وصدقكم؟ فوالله لَما تنقلبون به خير مِمّا ينقلبون به".
فاضت عيونهم، خضَّلوا لحاهم بالدموع، قال: "وإنكم ستلقون أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنّي منتظركم عليه".
وهو منتظر حتى الذين سيصلون من زماننا إلى الحوض، هو منتظرهم، فالله يهيّئنا للورود على حوضه المورود.
هذا الخوف الأول.. الخوف الثاني قال: "أنا من غير الدجّال أخوف عليكم من الدجّال"، رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره من علماء السنّة.
ما الخوف يا قائد؟ قال: "الأئمة المضلّين". قال الأئمة المضلّين، يكلّمونك باسم الكتاب، باسم سنّة، باسم دين.. يحرفوك ويصرفوك.
أوائلهم قاتلوا الصحابة ويأتون بآيات، آيات تقاتلون علي بن أبي طالب؟ آيات تقاتلون السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار عليهم رضوان الله؟ الذين أثنى عليهم ربّي في القرآن؟ قرؤوها قبل ما تقرؤونها، وسمعوها من فم محمد!
قال: لا، عندهم معانٍ فيها يقاتلونهم بها، أعوذ بالله من غضب الله، من الأئمة المضلّين.
خوفين تخوّفها علينا: تنافسنا القبيح على الدنيا، واغترارنا بضلال المُضلّين من الأئمة الذين يتكلّمون بغير الحقّ.
وانتبه من القائد، خوّفك منها، قال: أنا أخاف عليكم من هذا، وهو قد بلّغ، ما يصلك شيء إلا والإشارة منه موجودة: "ما تركت باباً من أبواب الخير إلا دللتكم عليه وأمرتكم به، ولا باباً من أبواب الشرّ إلا حذّرتكم منه ونهيتكم عنه".
يا خير قائد معنا! ونحن منتظرين قيادته في القيامة، لأنّنا نعرف أنه حامل اللواء، وكل القادة من الأنبياء والمرسلين تحت لوائه، ونحن أردنا مكاناً تحت هذا اللواء، والمكان قلبك سلِّمه للحبيب، ووجهتك سلّمها للحبيب، وخلّه يقودك القيادة الحسنة، ستدخل تحت لوائه يوم القيامة، ويا ما أعجبه من لواء!
"آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة"، الله لا يصرف من المجمع أحد إلا وقد كتب له أن يستظلّ بلواء الحمد يوم القيامة، ويشاهد الوجه تحت ذاك اللواء، ويُأذن له ربّي بمصافحة اليد، ويورده على الحوض المورود. ومَن في ديارنا ومن يسمعنا ومن في أصلابهم يا ربّ!
ولا تجعل في المجمع ولا مَن يشاهده إلا سعيد بسعادة الأبد. ولا تصرفنا إلا وقد أُحكِمَت منّا القيادة بالانقياد بسيّد السادة، ورضينا به قائداً، ورفضنا كلّ من يخالف منهجه وكلّ من يخالف سنّته.
فيا ربّ ثبّتنا على الحقّ والهدى ** ويا ربِّ اقبضنا على خير ملّةِ
وبارك للأمّة في خاتمة ربيع الأول، واجعلها أيّام فرج للمسلمين وغياث للمسلمين ولُطف بالمسلمين، في غزّة والضفّة وأكناف بيت المقدس، وفي الشام وفي اليمن وفي ليبيا وفي العراق، وفي السودان وفي الصومال، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
أغِث أمّته يا ربّ! تدارك أمّته يا ربّ! أرجِع قلوبهم إلى الانقياد به، وأحيِ قيادته فيهم ليرضوك حتى ترضى عنهم، وحتى ترفع البلاء عنهم، وحتى تجمع شملهم بعد الشتات، يا مُحوِّل الأحوال حَوِّل حالنا والمسلمين إلى خير حال، وعافنا من أحوال أهل الضلال.
والذين انقادوا بقيادته ثمارهم عظيمة باقية، انظروا هذه الآثار التي نحن فيها؛ مِن انقياد الوالد للحبيب، وقَدَّم روحه، ما له غرض، وما هو منتظر مو حزب ولا من هيئة، ولا من شرق ولا من غرب شيء! مِن أجل الله، قدَّم الروح!
وهكذا تلامذة عبد الله بن عمر الشاطري والأكابر الذين كانوا في ذاك الوقت والزمان، كان يقول الحبيب محمد الهدّار: لو في مصلحة الدعوة إلى الله بَري جلد عبد الله بن عمر الشاطري لبَراه وقطع جلده من مصلحة الدعوة إلى الله تعالى.
وبهذا الحال قامت هذه القوائم، ونُشِرَت هذه الأعلام. ما راح سعيه هباء، ما كان يتمنّى من تعليم وإرشاد جاء كما يتمنّى بزيادة، وكذلك آثاره، (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، "وإن ولد الرجل من كسبه"، كلّه يرجع إلى كسبه.
وليس وحده، كلّ الذين أحسنوا الانقياد لهذا القائد بقيَت لهم آثار عظيمة عطرة، في السماوات وفي البرزخ وفي يوم القيامة.
والله يُثبّتنا، والله يوفّر حظّنا.
ويرحم.. كنا نجتمع كثير من شيابتنا وعلمائنا في هذا المكان: خمسة، ستّة، عشرة، أحد عشر، اثنا عشر، أكثر، أربعة عشر، فقدناهم، أكثر من ذلك.
يا ربّ ارحمهم! يا ربّ اجمعنا بهم! وسَيلهم من المجلس وفِّره، ونصيبهم وسرورهم من المجلس كَثِّره، وفَرِّحهم بأولادهم وعيالهم يسلكون خير مسلك، واجمعنا بهم في دار الكرامة.
فيا ربّ واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوس أطيَب موضعِ
وأخبرونا مناصب العطّاس أنه توفّي البارحة الحبيب عبد الله بن علي بن أحمد بن حسين العطّاس، المنصب السابق حقّ المشهد في الدمّام، رحمه الله وأعلى درجاته، وجمعنا به في أعلى الجنّة.
ومَن فقدناهم في أيّامنا هذه ومن قبل، اجمع الكلّ في زُمرة سيّد الكلّ، وتحت لواء الحمد، وعلى الحوض المورود، وفي جنّات الخلود، وأعلِ درجات المتقدّمين في الوادي، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وآل البيت الطاهر والعلماء والأتقياء وأهل الهدى، واجمعنا بهم في دار الكرامة.
وبارك في أولادهم واحفظهم من الضلال والزيغ والافتتان بفتنة الدنيا أو الأئمة المضلّين.
فيا ربّ ثبّتنا على الحقّ والهدى ** ويا ربّ اقبضنا على خير ملّةِ
وعُمّ أصولاً والفروع برحمة ** وأهلاً وأصحاباً وكلّ قرابةِ
وسائر أهل الدين من كلّ مسلم ** أقام لك التوحيد من غير ريبةِ
بِحُرمة هادينا ومحيي قلوبنا ** ومرشدنا نهج الطريق القويمةِ
دعانا إلى حقٍّ بِحَقٍّ منزّل ** عليه من الرحمن أفضل دعوةِ
أجَبنا قبلنا مذعنين لأمره ** سمعنا أطعنا عن هُدى وبصيرةِ
يا أرحم الراحمين! والعفو منكم على التطويل، ويعمّنا الله وإيّاكم بالخير العظيم.
24 ربيع الأول 1447