(535)
(364)
(604)
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الوعل، بحارة الخليف مدينة تريم، ليلة السبت 21 ربيع الأول 1447هـ بعنوان
الاهتمام بإصلاح القلوب وتقوية صلتها برسول الله صلى الله عليه وسلم
تحدث فيها عن أهمية تقديم محبة الله ورسوله ﷺ على كل محبة أخرى مستشهداً بآيات وأحاديث، وذكر عدد من مواقف السيرة النبوية وفضل الصحابة المهاجرين والأنصار، وقصة الصحابي عباد بن بشر الذي هاجر إلى حضرموت لنصرة الدين.
مؤكداً أن المحبة تزداد بزيادة المعرفة بالله، وأن هذا الترقي مستمر حتى في الجنة، وأن منازل القرب من الله مرتبطة بالقرب من النبي ﷺ.
الحمد لله رب العالمين، عظيم الإحسان وجزيل الامتنان، والذي جمعنا وإياكم في هذه الليلة وفي هذا المكان، على وِجهة إليه وتذلُّلٍ بين يديه، وتوسُّلٍ إليه بحبيبه صفوة خلقه محمد سيد الأكوان، مَن أُنزِل عليه القرآن، وشَرَّفَ الله به أهل الشرف مِن كل قاصٍ ومن كل دانٍ.
يا رب صلِّ على حبيبك المختار من سيد ولد عدنان، وعلى آله الطاهرين الزيان، وأصحابه الغُرِّ الأعيان، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان، وعلى جميع آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وخذ بأيدينا ونواصينا إليك أخذ أهل الفضل والكرم عليك، قوِّمنا إذا اعوججنا، وأَعِنَّا إذا استقمنا، وخذ بأيدينا إذا عثرنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحدٍ من خلقك طرفة عين.
إذا ضمَّكم الله في مثل هذا المَجمَع، فينبغي أن تنظروا إلى قلوبكم وصِلَتها بالمُشفّع، وما جاء به عن ربكم سبحانه وتعالى. فإن الحق لم يأذن لنا أن نُحِلَّ في قلوبنا في المحبة أحداً قبله وقبل رسوله المصطفى محمد ﷺ، وحذَّر مِن أن يدخل إلى قلوبنا محبة شيء تُقاوِم وتُنافِس محبة الله ومحبة رسوله.
وأمره تعالى أن يُبلِّغنا: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
عَدَّ تقديم شيء مِن هذه الكائنات في المحبة عليه وعلى رسوله والجهاد في سبيله فِسق، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). وهدَّد أهلها فقال لهم سبحانه وتعالى: (فَتَرَبَّصُوا)، انتظروا أي شيء يصلكم من عقابنا وبُعدنا وعذابنا، والعياذ بالله تبارك وتعالى، لمن قدَّم محبة شيء من هذه الكائنات على محبة الله ومحبة رسوله خير البريات صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
وهذا مقتضى الإيمان، أن الله سلّط على هذا الإنسان في طبيعته دواعي، فيحب بحكم الطبيعة، يحب نفسه، ويحب مألوفات نفسه، ويحب شهوات نفسه، ويحب ما تميل إليه نفسه بهواها، ويدعوه عدوّه أيضاً إلى محبة المعاصي ومحبة الذنوب ومحبة الغفلة عن الله جل جلاله إلى غير ذلك.
فإن كان مؤمناً بالله رفض هذه المحبات وقال: إنما أحب ربي الذي هو أحق بالمحبة من كل شيء، هو الخالق وهو المُنعِم، وهو الذي منه المبتدأ، وهو الذي المرجع إليه، وهو الذي له الحُكم، وهو رب الجمال كله، وهو رب الكمال كله سبحانه وتعالى، وله الكمال المطلق بكل معنى، وهو المُنعِم المُتفضِّل الجواد سبحانه وتعالى. فما من شيء أحق أن يُحَب من قِبَل كل مخلوق قبل هذا الخالق الإله الكريم جل جلاله وتعالى في علاه.
يا الله بذرّة من محبة الله ** نفنى بها عن كل ما سوى الله
ولا نرى من بعدها سوى الله ** الواحد المعبود رب الأرباب
فما أُرجِّي اليوم كشف كربة ** إلا إن صفا لي مشرب المحبة
وإذا كان يمر عليك ربيع الأول وتصل إلى أواخره، وأنت ما شعرت بهذه المحبة ولا ذقت منها مذاق.. فكيف عمرك وكيف صلتك؟ وكيف إيمانك وكيف تحقيق إيمانك بالله وبرسوله ﷺ؟
قال لنا عليه الصلاة والسلام، كما جاءنا في الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ﷺ. "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
وقال عمر: "لأنت أحب إليَّ من كل شيء يا رسول الله إلا من نفسي التي بين جنبيَّ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك"، وراجع حساباته ورجع بوجهات، وقال: "والله لأنت الآن أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبيَّ ومن كل شيء". قال: "الآن يا عمر".
قال له يعاتبه: الآن ذُقْتَ هذا المذاق؟ كان أجدر بك من قبل وقد ذُقْتَ هذا الذوق ونِلْتَ هذه المحبة في الشوق، الآن؟ ما ترى أبو بكر قد سبقك وغيره سبقوك بهذا المستوى في المحبة.. الآن يا عمر، الآن؟ كان من أول ما آمنت بي وأنت تحبني أكثر من نفسك التي بين جنبيك، فكان أحب إليهم من أنفسهم ﷺ.
وهكذا قامت بهذه المحبة أسرار الهجرة والنصرة، وسادة الأمة الأوائل المهاجرون والأنصار، هم هؤلاء أساس الأمة ورُكنها، وسادة الأمة المهاجرون والأنصار، بمن فيهم من أهل بيته الأطهار من الذين هاجروا معه ﷺ.
وكان خُتِمت الهجرة من مكة بالعباس، آخر مهاجر من مكة المكرمة، كان في عام الفتح هاجر وترجَّح له بعد ذلك أنه يترك المقام بمكة، لأن الحاجة كانت أن يقيم بمكة ويخفي إسلامه، ويراسل للنبي بأخبار أهل مكة، ولما كان بعد صلح الحديبية واستقرار الأمور لم يحتج لهذا، فهيَّأ نفسه، خرج بأهله مسافراً إلى المدينة، إلا ووجد النبي في الطريق ﷺ متوجهاً لفتح مكة، فقال له: "بك خُتِمت الهجرة كما خُتِمت النبوة بي"، وأنت خُتمت بك الهجرة من مكة، يعني آخر واحد أنت يهاجر من مكة، من بعد اليوم ستُفتح مكة ولا هجرة بعد الفتح، يعني من مكة ما عادت هجرة، لأنها صارت دار إسلام وحُكمها تحت خير الأنام ﷺ.
بدل ما كانوا يرمونه بالحجارة ويؤذونه ﷺ ويسبونه وينهونه عن الصلاة عند الكعبة المشرفة، صارت تحت حُكمه مكة المكرمة. كما قال لصاحب مفتاح البيت، سيدنا عثمان بن أبي طلحة، يقول له - ضايقه يوم جاء ليدخل الكعبة وفيها بعض زعماء قريش، جعلهم يخرجون، قفل الباب، قال له ﷺ: "لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت" قال له: ستصل إلى هذا؟ لقد ذلت قريش يومئذ! قال: "بل عَزَّت وعَمرَت"، إذ جاء المفتاح بيدي كان عزها وعمرتها، ما ذلها ولا هوانها في ذاك اليوم.
ومرت الأيام وجاء فتح مكة، وأخذ المفتاح ﷺ، وبيده يضعه حيث شاء. وأمره الله يرده إليهم، فبقي عندهم، وقال: "خذوها تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم". فبقي في بني شيبة هذا المفتاح، أخو عثمان بن أبي طلحة وشيبة بن أبي طلحة، وبقي إلى الآن في ذريتهم، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وقامت هذه الأسرار للهجرة والنصرة، فما لحقهم أحد ممن جاء بعدهم. (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا).
بل فيهم الحديث جاء: "لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهب ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". قال: يعني الذين قبل الفتح أسلموا هاجروا، السابقين الأولين، حتى الذين أسلموا من بعد الفتح ما يصلونهم، وإن كانوا صحابة لكن ما يصلون هؤلاء، لو أنفق أحدهم مثل أُحُد ذهب ما يصل مُدَّ أولئك؛ لأنهم تابعوه وقت شدة، وقت ما شيء غرض للنفس قط، ما شيء شهوة للنفس قط، إلا إرادة الله ومحبة رسوله ﷺ، تابعوه على ذلك بعد أن تعرضوا باتباعه والإيمان به لأخذ أموالهم، وتعرضوا لمنع نفقاتهم التي كان ينفقونها عليها أهلهم، وهم قاموا بذلك ورضوا بذلك.
فما أحد لحق درجتهم، واختارهم الله للحبيب الأعظم ﷺ، ورفع قدرهم به، "واخترتهم في سابق الأقدار أنهم أصحاب نبيك، فهم السادة الأخيار"، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وإن شاء الله تسري سرايتهم إلينا.
وإن كانت أسرار الهجرة والنصرة باقية، انقطعت الهجرة من مكة بعد دخول حكم الإسلام إليها، ولكن الهجرة أيضاً من الأماكن التي لا يستطيع الإنسان أن يقيم فيها دينه واجبة ومستمرة إلى يوم القيامة.
والهجرة الكبيرة وهي هجرة الذنوب والمعاصي باقية لأهلها كذلك، هذه هجرة كبيرة، والنصرة للحبيب قائمة ﷺ لِكُل من يصدق في نصرته ويقوم معه، والله يجعلنا وإياكم من أنصاره، ويُعيد علينا العوائد، وأنتم في مسجد اتّصل بسر النصرة، اتصل بسر القربة من محمد ﷺ.
وسر المحبة والنصرة هو الذي دعا عباد بن بشر أن يأتي إلى حضرموت، وما له غرض فيها، ما كان عنده تجارة ولا عنده زراعة ولا عنده مساومة مع أحد في شيء من متاع الدنيا، لكن حب الله وحب محمد ﷺ، أهله هناك وأولاده هناك وماله هناك ومزارعه هناك، خرج منها وجاء إلى حضرموت، ماذا يريد في حضرموت؟ ما أراد من حضرموت إلا نصرة الحق ورسوله ﷺ، واختاره الله تعالى وتزوح وجاء الولد المبارك، وجاءت منه الذرية التي انتشر فيهم الخير.
والله يُكثِّر الخير في الأولين والآخرين، يُلحق الفرع بأصله، ولا ينزع الشر من محله، ويحفظ علينا مساجدنا وزوايانا ومعاهدنا وأسرار نُصرتنا لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولا يُخَلِّفُ منا ذكر ولا أنثى.
يا رب أدخلنا في دوائر أهل النصرة الصادقين الموفَّقين.
وتجلى قول ربنا سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) في هذه المضاعفة للأوائل وهؤلاء السابقين الأولين، عليهم رحمة الله تعالى، والذين محبتهم عنوان الدين وعنوان الصدق مع رب العالمين جل جلاله وتعالى في علاه.
يقول لبعض أنبيائه: "لو جئتني بعبادة أهل السماوات والأرض وحُبٌّ فيَّ ليس وبُغضي فيَّ ليس، لم أتقبل ذلك منك ولم يُغْنِ ذلك عندي شيئاً لك"، ما يغنيك عني شيء عندي إذا لم يكن محبتي ومحبة أحبابي في قلبك، وحب فيَّ من أجلي، تحب من أحببت؛ تحب الملائكة وتحب الأنبياء وتحب الصالحين وتحب المقربين.
كان يقول سيدنا الشافعي:
"أحب الصالحين ولست منهم ** لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره مَن بضاعته المعاصي ** ولو كنا سواءً في البضاعة"
وأجابه المجيب فقال له:
"تحب الصالحين وأنت منهم **حجة* محب القوم يلحق بالجماعة
وتكره مَن بضاعته المعاصي ** حماك الله من تلك البضاعة"
ما أنت حول هذه البضاعة، عليه رضوان الله تعالى.
حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، وبلغ رتبة الاجتهاد المطلق في ذاك الزمان وهو ابن خمسة عشر سنة، أذن له الإمام مالك في الفتوى يعني الاجتهاد المطلق، عليه رضوان الله تبارك وتعالى. وليله مُقَسَّم: ثُلُث للنوم، وثُلُث للعلم، وثُلُث للعبادة، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
وأقبل عليه بعضهم وقال له: "ما دليلك على الإجماع؟" قال له: "من القرآن والسنة". قال: "أين هو في القرآن؟" فوقف سيدنا الشافعي، فقال له: أُمهلك ثلاثة أيام وآتيك، هات لي الدليل من القرآن على الإجماع، فعكف سيدنا الشافعي على القرآن يقرأه في كل يوم ثلاث مرات.
حتى جاءه في اليوم الثالث، قال: "ما دليلك على الإجماع من القرآن؟" قال: "قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)"، فأثبت للمؤمنين سبيلاً يجب اتباعه، وهو ما أجمعوا عليه.
قال: جاء في بعض الروايات أنه رأى الحبيب ﷺ ودلَّه على الآية.
وآخر كان أيضاً مَرَّ عليه فسأله، قال له: "ما معنى قول الله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)؟" فتوقف، كان من الصالحين، قال: "آتيك غداً وتجيبني"، في الليل رأى الحبيب ﷺ، قال: قل له: شؤون يُبديها ولا يبتديها، وعلم أنه الخضر مَرَّ عليه ويختبره.
جاء في اليوم الثاني، قال له: "ما معنى قول الله: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)؟" قال: "شؤون يُبديها ولا يبتديها"، يعني أفعال يفعلها في الخلق ويُحَوِّل بها الأحوال، قد سبقت في علمه الأزل ما ابتدأ، لما نطق بالكلمات قال له: "صَلِّ على من علَّمك".. من جئت الكلام هذا، صَلِّ على من علَّمك!
يا رب صَلِّ عليه وعلى آله وصحبه، وارزقنا حُسن متابعته ظاهراً وباطناً.
ولهم بحسب هذا الاتصال به حضور منه ﷺ في شؤونهم وأحوالهم وعند وفاة أحدهم وحضور مخصوص، الذين يفدون على حوضه المورود كثير من الأمة بحمد الله تبارك وتعالى، ومَن سبقت لهم سوابق السعادة، ولكن ما كلهم بمنزلة واحدة في حضوره ولا إقباله ولا نظره ولا سَقْيه بيده.
ومنهم من مثل هؤلاء الأنصار، قال: "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإني أنتظركم"، والخصوصية التي جاءت لأهل اليمن: "إني لبعقر حوضي أذود الناس عن أهل اليمن" كذلك، يعلم الله وأعلمه أنه له قُرَّة عيون سيكونون في البلدة وصادقين وأنصار، يردون على الحوض في أوائل أهل الورود.
الله يُوردنا معهم إلى الحوض المورود، ونُسقى منه شراباً لا نظمأ بعده أبداً، إنه أكرم الأكرمين.
وحتى حضورهم معه في الجنة ليسوا على درجة واحدة، مشاهدتهم لوجهه الشريف، ومجالستهم له، ومحادثتهم له، وأكلهم معه، وشربهم معه، وكذلك درجات في الجنة بحسب السوابق.
والخلاصة أن المنازل عند رب العالمين مَنوطة من غير استثناء بحال كل فرد مع أقرب قريب إليه وأحب حبيب إليه، محمد أقرب قريب، منازل القرب كلها على قدر القرب منه، منازل المحبة كلها على قدر المحبة له ﷺ، من سواء مَلَك وإلا نبي وإلا صِدِّيق وَوَلِيّ، على حسب قربهم منه قربهم من الله، على حسب محبتهم منه محبتهم من الله سبحانه وتعالى.
فالله يُقَرِّبنا من هذا الحبيب، إن شاء الله يَنخْتِم الشهر لنا بخير كبير وعطاء ومن وفير.
"آخر ربيع أول المشهور تحية الجدوب"، وما مراد الحبيب علي الحبشي جدوب الأرض هذه وحدها، هو يشير أكثر إلى القلوب وأراضي القلوب.
كم من أرض مُجْدِبة في آخر الشهر رجعت خضراء! (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)، إن الذي أحياها لَمُحْيِي الموتى.
يا رب في ساحات قلوبنا مُجْدِبة، فاسقها يا خير ساقي مما تسقي به قلوب محبوبيك من المحبة الخالصة يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، والمعرفة الخاصة.
وإنما المحبة تكون على قدر المعرفة، إذا تعرَّف إليك أحببته، كلما زاد التعرُّف زادت المعرفة فزادت المحبة، وليس لها من نهاية، وليس من نهاية للخلق بالنسبة لسيد الخلق.
وهو صلى الله عليه وسلم في محبته ومعرفته بالله يرقى في كل لمحٍ ونَفَس، وليس هناك من نهاية. ليس لصفات الله من نهاية، ولا لآيات الله من نهاية، ولا لكلمات الله من نهاية، ولا لعظمة الله من نهاية، ما لها نهاية.
ولهذا لا يزالون مستمرين في الترقي فيها، أهل الجنة كلما اجتمعوا وكلما أُذِنَ لأحدهم بالنظر إلى وجه الكريم زادت معرفته، وفي المرة الثانية تزيد، والثالثة تزيد، ولا نهاية، وجود من الله سبحانه وتعالى واسع لا حد له، (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) يقول الله، يا رب زدنا زيادة، وأسعدنا سعادة.
وأَعْلِ درجات المتقدمين في مساجدنا هذه، وثبِّتنا على الاستقامة وما أحببت لهم من المنهج القويم الذي سلَّكتهم فيه، وثبِّت عليه جميع أهالينا وجميع أولادنا.
وبارك لنا في خاتمة الشهر، وما يُعقد في زوايانا وأربطتنا ومساجدنا من هذه الجُمُوعات التي فيها النفحات الكبيرات.
موائد الخير مبسوطة لمن با يَرِد ** في شهر فيه النبي المختار طه وُلِد
شهر العطاء والسعادة، الله يزيدنا وإياكم من فضله ما هو أهله، ويُوَفِّر حظنا من هذه المِنَن والمواهب، ويجود علينا بما هو أهل وخير واهب، ويُكرِم الحاضرين أجمعين بنظرة من نظراته، تعود بها علينا عوائد التزوُّد بزاد المحبة مع الأحبة، ولا يُخْلِّفنا عنهم في الدنيا ولا في الآخرة.
فيا رب واجمعنا وأحباباً لنا في دارك الفردوس أطيَب موضعِ
فضلاً وإحساناً ومَنّاً مِنك يا ذا الجود والفضل الأتمّ الأوسعِ
والحمد لله رب العالمين.
10 ربيع الثاني 1447