الإيمان واليقين والمشاعر والأذواق بين إدراك الحقيقة وإدراك ما هو الهباء المنثور ومتاع الغرور

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في اختتام المجالس النبوية بمدينة الشحر، في مسجد الشيخ فضل بن عبد الله بن بافضل، ليلة الأربعاء 16 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان: 

الإيمان واليقين والمشاعر والأذواق بين إدراك الحقيقة وإدراك ما هو الهباء المنثور ومتاع الغرور

في هذه المحاضرة، يعرض الحبيب عمر بن حفيظ ميزان الحق في النظر إلى الحياة والموت، العزة والذل، الملك والحقيقة، مبينًا أن ما يُبنى على غير الإيمان واليقين هو من الهباء المنثور ومتاع الغرور، مهما بدا لامعًا في ظاهر الدنيا.

 تتضمن المحاضرة:

  •  العظمة والعزة الحقيقية بيد الله وحده
  •  التحذير من الانقياد لأوهام القوة الزائفة
  •  بيان مآل الظالمين والمكابرين يوم القيامة وأحوالهم في البرزخ
  • علوّ المؤمنين بإيمانهم وصدقهم مع الله
  •  نصوص واضحة في أن من أحبّه الله رفعه، ومن أهان الله لا يكرمه أحد 
  • نماذج من بركة المجالس الإيمانية وآثارها
  •  فضل النبي ﷺ وعلو ذكره وبقاؤه في الدنيا والبرزخ والآخرة
  •  قصص عن الصالحين ومواقف عظيمة من الغزوات، ودعاء للأمة

نص المحاضرة:

الحمد لله الذي عَظُمت رحمته، وعَظُمت حكمته، وعَظُمت مِنّته، عَظُم إفضاله، وعَظُم نواله، وعَظُم عطاؤه، وعَظُمت مغفرته، وعَظُم إحسانه، وعَظُم عفوه، وعَظُم أنبياؤه ورسله، وجعل أعظمهم مَن أنتم في حبل ارتباطٍ به في مجمعكم، جامعكم على إلهكم، ودالّكم عليه، والمأمون من قِبَله ليوصلكم إليه، إنه محمد وإنه أحمد، عظّمهُ الله فصار عظيماً بعظمة الله، بتعظيم الله، وعَظَّم خُلُقه فصار خُلُقه عظيماً بتعظيم الله جلّ جلاله، وعَظَّم شريعته، وعَظَّم دينه، وعَظّم هديه، وعَظّم ما جاء به عنه جلّ جلاله من القرآن العظيم والدين القويم.

فلك الحمد يا عظيم، ولا عظمة إلا لك! وعزّتك وجلالك ليس لشيءٍ من الأولين والآخرين، ولا الأرض ولا السماء، ولا الحسّ ولا المعنى، ولا الأرواح ولا الأجسام، أن يكتسب حقيقة عظمةٍ إلا أن تفضّلت عليه بتعظيمه. لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وهذا مقتضى معنى "لا إله إلا الله".

حقيقة العزة والذلة بيد الله وحده

كما أنه لا يمكن أن يذلّ في الكائنات والمخلوقات - أولها وآخرها، علويّها وسفليّها - شيءٌ إلا إن أذلّه الله، لمَ؟ لأنه لا إله إلا الله، لأنه لا إله إلا الله؛ فمن الذي يأخذ الخزنة ليذلّ ويعزّ؟ من الذي يأخذ الخزنة على الألوهية ليرفع ويخفض؟ من الذي يأخذ الخزنة على الخالق الإله جلّ جلاله ليُعظّم أو يهين؟ ما هناك أحد. والله! لا عظيم إلا من عظّمه الله، ولا ذليل إلا مَن أذلّه الله.

ولا أدلّ على العظمة للمخلوق من أدبه مع الإله وخضوعه له، ومعرفته لقدر ما عظّم، حتى قال جلّ جلاله: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). 

وأدلّ الدليل على الذلّة والمهانة: معصية الله والكفر بالله، وتزاحم الأوهام، وتزاحم الخيالات، وتزاحم الخدائع، وتزاحم الظنون الكاذبة، هذه الحقيقة في مشاعر وإحساس المسلمين، فعلى المسلم أن يتخلص من هذه الخديعة وهذه القطيعة عن الحقيقة. 

التحذير من الخديعة والانقياد للكفار

ونقرأ صريحاً: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

فما أذلّ ممن مات على الكفر من اليهود والنصارى وبقية المشركين على ظهر الأرض! هم أذلّ الخلق وهم شرّ الخلق بحكم الخالق، بحكم الخالق. 

يا من تريد أن ترفع من خفضه الله خف على نفسك! أتريد أن تنازع الربوبية؟ أتريد أن تنازع الألوهية؟

قال جلّ جلاله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ). أتسمّون من أضلّه الله هادي؟ مهتدي؟ أو تحوّلون الضالّ إلى مهتدٍ، أو مهتدي إلى ضالّ؟ عندكم ألوهية؟ عندكم ربوبية؟ عندكم خلق؟ عندكم أمر؟ (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ).

(وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ). فما مقدار هذه الإكرامات الصورية؟ ما مقدار هذه الشهادات والتكريمات والاحتفالات؟ تعرف الهباء المنثور؟ تعرف متاع الغرور؟ هي بنفسها، هي هي! لا يوجد متاع الغرور غيرها!  لا يوجد هباء منثور غيرها! وإنما هي الهباء المنثور. 

يوم القيامة والملك الحق

(وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)، خبر يقينيّ، مُقبل واقع، هو مستقبل أعظم للمكلّفين على ظهر الأرض! (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)، وما وقع مثل هذا الخبر من قبل، ما يقع مثل هذا الخبر من قبل! ما هو أكبر خبر معكم بالنسبة للكائنات وحدوث التغيّرات فيها، ولا عند وكالة ناسا ولا تاسا! ولا عند الشرق ولا عند الغرب؟ خبر تشقّق السماوات! الله أكبر!

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ)، وهؤلاء ألوف ملوك، أين رجعوا؟ والذي قال لنا: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)؟ وهذا سمّى نفسه ملك الملوك، وهذا سمّى نفسه ملك إفريقيا، وإذا سمّى نفسه ملك العرب... كأنه ما عاد هناك مُلك!؟! أين ذهب المُلك؟

 ما تعرف الهباء المنثور أنت؟ ما تعرف متاع الغرور؟ لا شيء! صورة، مزخرف، بلّورة، ما تحتها شيء! يختبر الله العباد بها على ظهر الأرض. (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا).

فأرونا يا أدعياء المُلك، وأدعياء التقدّم، من خلق سبع سماوات؟ هذه خلقها ربي، هل معك غيرها مثلها تخلق؟ لا هذه خلقتَها ولا قدرتَ تخلق مثلها، وتسمّي نفسك ملك؟ أنت مَلك العربدة أو ملك الخربطة! أو مَلك الاستبداد! ملك الظلم! أيّ مُلك عندك؟

(قل اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ). ميزانٌ يجب أن لا يختلّ عندنا: لا عزيز وقد أذلّه الجبّار العزيز قط، ولا ذليلاً أعزّه الإله الجبّار العزيز! (وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ)، بيدك الخير؛ لا بيد الأسباب وإن كنت أقمتها فتنة، وأمرتنا أن نقيمها عبودية دون أن نفتتن، وأن نتّقِيك فيها، وأن نحكّم شرعك فيها، وأن لا نغترّ بمن أقامها فأدّت إلى ثمار أنت رتّبتها.

هي عبارة عن أمر محدّد بوقت وزمن وحال وهيئة ومقدار، لا يتجاوز من ذلك مثقال ذرة، لا يتجاوز من المقدار الذي حدّدته، ولا الوقت الذي أنت عيّنته، ولا الكيفية التي أنت رتّبتها. لا يقدرون أن يتجاوزوا منه مثقال ذرة، ولا ينقص منه وقد أردته مثقال ذرة، لأن الملك لك، لأن الملك لك. وصور الملك التي اختبرت العباد بها اختباراً مظاهر جوفاء، لا تنمّ عن حقيقة، والكلّ مملوك، والكلّ مملوك لك، وأنت المالك وحدك.

عظمة النبي محمد ﷺ وبقاء ذكره

وسينادي مناديك بعد النفخة الأولى في الصور: "لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟" لتنكشف الحقيقة حتى لشرار الخليقة، وللأول وللآخر. لكن إن كنت من خيار الخليقة، والله ما يتأخّر هذا الإيمان وهذه الحقيقة وهذا المشهد وهذا الذوق إلى يوم القيامة من الآن! نحن وإياكم في المجمع المبارك بإرادة ملك الملوك الذي بيده القدرة، وأرسل محمد وأعزّه ولم يعزّ أحداً مثله، وعظّمه ولم يعظّم أحداً مثله، وأبقى لنا ذكرياته على ممرّ هذه القرون.

الذين يظهرون في الشرق والغرب من عصره إلى اليوم، في مجال المُلك، في مجال السياسة، في مجال الزراعة، في مجال الصناعة، في مجال الأسلحة، في مجال اللعب، في مجال الغناء، في مجال النفوذ، كلّ منهم بمدّته القصيرة، ثم أكثرهم بعد وفاتهم يُسَبّون ويُتنكّر لهم، وأقلّ ما كان يُنسون وكأن لم يكونوا.

لكن محمد ﷺ موالده منتشرة، وسيرته عاطرة، وذكره متجدّد، حتى في مدن المجرمين ومدن الكافرين ودول المعادين. "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله"، عن يمين قصر الظالم المجرم وعن شماله، وأمامه ووراءه، في نفس دولته يُذكر هذا الذكر كلّ يوم، وتُعقد المجالس في تعظيم سيّد القوم ﷺ، وذكره يزداد وتمتلئ القلوب له بزيادة من محبّة ووداد، على مدى القرون.

ومن أجل الله الحيّ القيّوم الذي لا يموت، ومن أجل حبيبه أرفع الخلق قدراً لديه، تخلَّدَ ذكر مَن ناصره ومن وازره، ومَن أحبّه ومن قام معه، خصوصاً السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ومرّت القرون لم يُنسوا، ومرّت القرون لم يُكرهوا ولم يُبغضوا، وفي الأرض قلوبٌ مِن أجل الله تودّهم وتحبّهم وتقتدي بهم، لأنهم ارتبطوا بالملك الحقّ.

في أيامهم كان ملوك، لو فقدوا الصِّلة بالملك الحقّ وارتبطوا بهم لما ذكرناهم في مجمعنا، أقلّ ما كان أنهم نُسوا، والغالب أنهم يُسبّون ويُشتمون فيما بعد كغيرهم من الذين ارتبطوا بالملوك في وقتهم، بمَ يُذكر هرقل؟ بمَ يُذكر كسرى؟ بمَ يُذكر الملوك الذين كانوا في عهد حبيب مَلك الملوك، رسول مَلك الملوك، أمين ملك الملوك، محبوب ملك الملوك، محمد ﷺ! بمَ يُذكرون؟

صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). وهذا الذي يبرز في العالم وسيبقى ذكره، وسنوات حتى لا يبقى بيت من بيوت الأرض مِن شرقها إلى غربها بلا استثناء إلا ذُكر فيها اسمه، مشهوداً له بالرسالة والنبوة وأنه خاتم الأنبياء.

كلماته مع فاطمة مِن كلمات الحقّ، قدِم من بعض غزواته وعليه أثر الغبار والإرهاق والتعب من السفر، استقبلته الزهراء بعد أن دخل المسجد وانصرف إلى بيتها قبل أن ينصرِف إلى شيء من حُجَره، استقبلته الزهراء واعتنقته وقبّلت جبهته، ورأت ما به فدمعت عيناها، "ما يُبكيك يا فاطمة؟" قالت: "رسول الله، جئت وعليك أثر الغبار والتعب من السفر والإرهاق". قال: "إيه يا فاطمة، إنّ أباكِ بُعث بأمرٍ عظيم - ما أعظمه وأعظم ما بُعث به - إنّ أباكِ بُعث بأمرٍ عظيم، ولن يذهب الليل والنهار حتى لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَر ولا حَجَر ولا وَبَر إلا ودخله دين أبيكِ، بذلّ ذليل أو عزِّ عزيز"، بذلّ ذليل أو عزّ عزيز!

علوّ المؤمنين وذلّ الكافرين

والمكابرين من المجرمين اليوم الذين يقتلون أتباعه والمؤمنين به رغبةً في السلطة في الأرض ومدّ أيديهم على أراضي غيرهم وأخذها بغير حقّ، إن بقي منكم أحد وبقي له بيت يُنسب إليه، فسيُذكر فيه محمد بالرسالة وإن رغمتم وإن أبيتم (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

وإن سبقت السابقة باستيعابكم وقطعكم أصلاً، فقُطع دابر القوم الكافرين، وقُطع دابر القوم الظالمين. أما من سيبقى على ظهر الأرض، فلابدّ أن يأتي اليوم الذي كلّ بيت من بيوت الأرض يُذكر فيه محمد بالرسالة.

وكلّ هذا الذي ذكرنا، وما يُذكر على لسان سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام، وما يقف عند قبر رسول الله ويسلّم عليه ويردّ عليه السلام، وما يقتدي به ويُحكّمه من شريعته وسنّته، كلّ هذا الذكر الجميل هو بالنسبة للمستور من الظاهر في عالم البرزخ ذرّة. 

في عالم البرزخ أوّل ما يصل الميّت: "ما تقول في هذا الرجل؟" إذا سُئل عن الله، يُسأل عن محمد مباشرة، إذ يقول: من ربّك؟ يقول: الرجل من هو هذا؟ علاقتك به ما هي؟ ما هو في عقيدتك؟ ما هو في شعورك؟ هذا محمد! صلِّ يا رب عليه. "ما تقول في هذا الرجل؟"

وأخبر أنه ما بين موقن وكافر ومنافق، والموقنون وحدهم هم الذين يعظّمونه في القبور، فيُعظَّمون ويُنعَّمون، وجميع المنافقين والفجّار والكفّار يقولون: "ها، ها، لا أدري!" فيُضربون ويُهانون. والله المنقطعون عنه مهانون، وما يعفيهم من الإهانة الشديدة أن أحدهم كان مليونير، مليونير؟ بل ملياردير! بعد ذلك؟ الإهانة أمامك، الذلّ أمامك، الخسّة أمامك، السقوط أمامك! ما يعفيك أنك ملياردير، ملياردير! وبعد ذلك؟ أنك ملك دولة من الدول؟ ما يعفيك عن الذلّة! أنت ذليل وأنت خسيس! ما عرفت قدر الذي خلق، ولا قدر من اصطفى واجتبى وانتقى وعظّم، فهم الأذلّاء. 

يقول جلّ جلاله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، على قدر الإيمان علوّ محكوم به من قِبَل القدّوس القويّ، على قدر الإيمان. وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ)، من أين جعلوكم؟ (وَاللَّهُ مَعَكُمْ)، والله معكم (وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). نفس ما قال للصدّيق وسط الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). إنّ الله معنا. "ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟" والله معكم ولن يتركم أعمالكم.

التوكل على الله والاستغناء عنه

(إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ). إلا فرض علينا الزكاة، وإعطاء في النائبة، وقِرى الضيف، والباقي تصرّفوا ما تشتهون فيه، مع أنه هو الذي آتانا إياها، ونحن وإياها مُلكه، ولكن علم في نفوسنا الشحّ، (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ) حتى بالواجب اليسير  القليل (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم).

يا سيدنا ومولانا، كم قد استبدلت من أهل هذه الملّة قوماً بغيرهم، فخسر الذين استبدلتهم في الدنيا وفي الآخرة، وفاز من جاء بعدهم على الصدق معك، فنسألك أن لا تجعل فينا ولا في ديارنا من يُستبدل بالغير. ارتضِنا لنصرتك، ارتضِنا لنصرة رسولك والقيام معك على ما تحبّه منّا وترضى به عنّا يا الله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ). صدقت يا ربّ البريّة، صدقت يا من أنزلت هذا القول على لسان خير البريّة. أولئك هم شرّ البريّة، فما الذي يعجبكم في شرّ البريّة؟ يعطونكم أفكار تمشون وراءها، يرسمون لكم مناهج تقتفونها وتتّبعونها.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) جلّ جلاله، فإن صدقتم معه: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، بماذا يُلقى الرُّعب؟ لأن عندكم أنتم مصانع أو أسلحة فتاكة؟(بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ). الرُّعب سينزل عليهم بشركهم، في مقابل وجود المؤمنين. (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). وهذا في العالم الدنياوي، والأكبر منه: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)، وبئس مثوى الظالمين.

دروس من غزوة أُحد وحُنين

ثم قال الله: انظروني أُصَرِّف الأقدار (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ)، صدقكم وعده في أُحُد، (إِذْ تَحُسُّونَهُم)، تقتلونهم (بِإِذْنِهِ)، وقتلتم منهم وهربوا، بدؤوا يهربون، يفرّون، (حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) القائد الذي ارتضيناه لكم هذا، يعطيكم أمراً وتخالفونه؟ تظنّون بعد ذلك تنتصرون؟ وتقولون: خالفنا وانتصرنا، ما يمشي هذا، ما يمشي هذا الكلام!

(وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ)، (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُم غَمًّا بِغَمٍّ). يقول الله: لمّا عصيتم رسولي أوقعت عليكم الشدّة في يوم أُحد لأطهّركم وأكفّر عنكم، ولتعلموا قدر نبيّي، ولا تظنّوا أنكم تخالفوه ثم تنتصرون أبداً. يا رب صلِّ عليه، فلا تَهون أوامره في نظركم، ولا تَهون تعاليمه في مشاعركم. (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا). صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله.

وهكذا بيّن الحقّ جلّ جلاله، كرّر لنا التبيين على هذه الحقيقة والنقطة الدقيقة. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) أنتم والكثرة لديكم تعتمدون على غيري؟ تنسون أنكم أتباع رسولي واثقين بي، وأنا الذي أنصر؟ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ) ، (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ)؟ لا ناصر إلا هو.

الدعاء للأمة وللمجتمعين

يا خير الناصرين، انصرنا وانصر المسلمين في غزّة والضفّة وأكناف بيت المقدس، وفي الشام كلّه، وفي اليمن كلّه، وفي الشرق كلّه، وفي الغرب كلّه، وهيّئهم لنصرك بتعظيمهم لأمرك، وانتهائهم عن زجرك، واجتماعهم على ما يرضيك. صفِّ قلوبهم من هذه الكدورات، ومن هذا التصديق لأرباب الكذب مِن شرار مَن على ظهر الأرض وفُسّاقهم.

 (إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ). نعوذ بالله من غضب الله، فأطيعوا الله والرسول، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

ألحقنا بالمتّقين يا ربّنا، مَن حضر الجمع وقد كان ضيّع التقوى في قلبه أو شيء من أعضائه، فنسألك نظرة من نظراتك الآن في جمعنا، تتوب علينا وتغفر لنا ما كان منّا، وتُلحقنا في بقية أعمارنا بالمتّقين، ألحِقنا بالمتّقين، واربطنا بسيّد المتّقين في كلّ قول وفعل ونيّة ومقصد وحركة وسكون يا الله، يا الله يا الله يا الله.

عظمة ذكر النبي ﷺ في البرزخ والقيامة والجنة

ثم جميع ما في البرزخ من رفع ذكره ﷺ بالنسبة لما في موقف القيامة ذرّة، بالنسبة لما في موقف القيامة؛ وفي موقف القيامة: "أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض، أنا أوّل شافع، أنا أوّل مشفّع". ويأتون آدم ويعتذر، ويأتون نوحاً فيعتذر، ويأتون إبراهيم فيعتذر، ويأتون موسى فيعتذر، ويأتون عيسى فيعتذر، فيأتوني فأقول: "أنا لها، فأقول: أنا لها".

وفي ذاك الموقف الشديد عندما يسجد للمبدئ المعيد، الملك الحقّ الفعّال لما يريد، يُخاطب بهذا الخطاب الوديد من الودود: "يا محمد، ارفع رأسك، ارفع رأسك، وقل يُسمع لقولك". قولك نافذ حتى في هذه اللحظات، حتى في هذه الأهوال المهيلات، حتى عند أشدّ الشدائد، حيث أحجم عن أن يخاطبني أخصّ عبادي من أنبيائي ورسلي، أنت قولك مسموع، أنت قولك نافذ. "قل يُسمع لقولك". من قِبَل من يُسمَع؟ الملك، الملك الحقّ قال لك أنا اسمع قولك، قولك نافذ، "قل يُسمع لقولك، وسل تُعط، واشفع تُشفّع".

والكلّ يعرف قدره حتى الكفرة والفجرة والظالمين (وَيَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)، (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ)، يُمسخون في الأرض، يودّون هذا (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، ما أعظمه من ذكر! 

ثم يذهب أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، والذي يدركه أهل الجنة وقد انكشفت عنهم الحُجُب واعتلت لهم الرُتَب من رفعة قدره وعظيم مقامه ورفعة ذكره في الجنة، أضعاف ما عرفوه في القيامة. وهم على درجات في ذلك، وعلى قدر درجاتهم قُربهم من الملِك بل ونظرهم إلى وجهه الكريم جلّ جلاله (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).

فضل مجالس الذكر والصالحين

فقد اجتمعتم تحت راية العظمة، اللهم لك الحمد. وما عَظُم خلفاؤه وورثته من أوائلهم إلى مثل الشيخ فضل بن عبد الله بافضل، أعلى الله درجاته، إلا مِن سرّ الدخول في بحره، والامتلاء بنوره، والاقتداء به، والتعظيم لما جاء به عن الله، والتحقّق بحقائق "لا إله إلا الله"، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

كان رفيق سيدنا عبد الرحمن السقّاف، وكان صاحب الأذواق والمعارف واللطائف، عليه رحمة الإله الخلّاق، أما في عالم الظاهر والعلم الظاهر والحسّ قد قرأ صحيح البخاري ألف مرّة، تعرف ألف؟ ألف! أكثر الذين يتشدّقون بالسنّة عندكم من شرق الأرض إلى غربها ما أحسنوا قراءة الصحيح مرّة واحدة على إتقان، أكثرهم بهذه الصورة، وهذا ألف مرّة، ولا كفّر أحداً، ولا آذى أحداً، ولا فسّق أحداً، تنوَّر بنور الواحد الأحد، وصدق مع الرحمن.

وكان يقول فيما عَلِم من هذه المعاني: خرجت منّي كلمة حمدت الله عليها. قلت: من لم يحسن الظنّ بآل أبي علوي، ما فيه خير، لماذا؟ لأنهم وصية رسول الله، ولأنهم أمناؤه، ولأنهم خلفاؤه وورثته.. يتكلّم بلسان حقّ، ما مصدره لا هوى ولا نفس ولا فكر شرقي ولا غربي، يستقي فهمه مِن وحي ربّ المشارق والمغارب، من بلاغ أطيَب الأطايب، فشرب مِن أحلى المشارب، عليه رضوان الله.

ويا من سقيتهم اسقنا، يا من سقيتهم اسقنا! لا تحرم هذه القلوب والأرواح سُقيا من هذا الشراب اللذيذ البديع، نرقى في مراقي تعظيمك وتكبيرك في الدنيا، لنكون أقرب منك في العقبى، وأحظى بالنظر إلى وجهك الكريم، ومرافقة حبيبك العظيم، يا عظيم، يا الله.

فمن سرّ الاتّصال بهذا العظيم عبر هذه الأسانيد إليه لا يُعقَد مجلس من مثل هذه المجالس إلا والملائكة فوقه، حافّتها بأجنحتها حلقة فوق حلقة إلى السماء، كم عددهم؟ عظمة! تعرف معنى العظمة؟ وإذا سبّحنا سبّحوا معنا، إذا كبّرنا كبّروا معنا، إذا هلّلنا هلّلوا معنا، يعني يجعل الله صدارة لأتباع محمد هؤلاء، الملائكة يتبعونهم! إذا دعوا أمّنوا، إذا دعوا الملائكة كلّهم يؤمّنون على دعائه.

يا ربّ نظرة من نظراتك. يا ربّ رحمة من رحماتك، يا ربّ غياث عاجل تصلح به شؤوننا في المشارق والمغارب.

ومن ثمّ تستمرّ العظمة، بعد قليل سنكمل أدعيتنا وسنصلّي ونمشي، ينفضّ المجلس، الجبّار الأعلى الأعظم يخاطبهم: "من أين جئتم؟" ما القصّة التي معكم والخبر؟ حصّلتم الشيء الذي شغلناكم به؟ وكّلناكم بمتابعته؟ حِلَق الذكر حصّلتوها؟ من أين جئتم؟ - يقول الجبّار - رأيت العظمة؟ "من عند عباد لك، يسبّحونك ويحمدونك، يكبّرونك، يهلّلونك"، يقول " هل رأوني؟" "سبحانك يا ربّ، سبحانك، ما رأوك"، "كيف لو رأوني؟" "لو رأوك لكانوا أشدّ لك ذكراً وأعظم تسبيحاً" سيؤخذون بالكُليّة، ولن يقدرون  أن يغفلون لحظة.

"ماذا يسألونني؟"،  "يسألونك الجنّة"، يقول "هل رأوا جنّتي؟" ، "سبحانك، ما رأوها"، يقول "كيف لو رأوها؟" ، "لو رأوها لكانوا أشدّ لها طلباً وأعظم فيها رغبة"،  "فممّا يستعيذون بي؟" قالوا من النار، يعني أهمّ الأشياء عندهم: النجاة من النار ودخول الجنة (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)، صدقوا قول ربّهم.

أما هؤلاء اليوم يقولون لك من جاء بشهادة أو من لعب في شيء فقد فاز! والربّ قال: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ). بعد ذلك سنرى الفائز منهم من هؤلاء، الذي يسقط في النار هو فائز ؟ أو من يُحضّر الشهادات؟ يا لطيف! (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)، والعياذ بالله تعالى. 

يقولون: "يا ربنا، ما رأوها."،  "وكيف لو رأوها؟" لو رأوا نارك لكانوا أشدَّ منها فراراً وأعظمَ لها مخافة، يقول: "فأُشهدكم أني قد غفرتُ لهم."

ويستمر العظمة لأنها ارتبطت بلواء واحد عظيم اسمه محمد! ما تُسوِّيها مجالس أخرى.

يقول: "يا رب، إلا فلاناً." يقول الملك: "عبد خطّاء، ما جاء للذكر، إنما جاء لحاجة." يقول الرحمن: "وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم."

فهكذا ما أعجب مجالساتهم في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة! اللهم اجعلنا معهم.

من عجائب تأثير الجار في البرزخ

كان بعض الذين كانوا يحفرون القبور في بعض مدن اليمن، قال: "وأنا نائم آخر الليل، إلا وامرأتان ممن قد مات من أهل البلد ويعرفهم، يقولون: اسمع يا فلان، فلان سيموت، لا تحفر له عندنا ولا تُقرِّب قبره من قبورنا، أبعده من أمامنا!"

فانتبه من النوم ورجع، مرة ثاني: "اسمع! لا تقل هذا نوم، اسمع! تراه سيموت، انتبه"، لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، ثالث مرة، قام توضأ، وخرج إلى المسجد يصلي الفجر، فجاءوا قالوا له: فلان فلان بن فلان مات - هو نفسه الذي سمعه - نريدك تحفر قبره، جاء إلى القبر، حَصَّل ترتيب القبور قريب منهم هؤلاء، قال: لا لا، وقد جئن إلى وسط البيت في الليل.. قال: ذهبت للطرف الثاني هناك بعيد، وحفرت له قبراً هناك بعيداً، كان هو رجل عاصٍ مذنب، ما أرادوا قُربه! يشقى به جليسه، والعياذ بالله تبارك وتعالى.

كان بعض الصالحين يرى ابنته - ماتت صغيرة وقلبه مُعلَّق بها - يراها من وقت إلى وقت، فرآها يوماً قد ابيَضّ شعر رأسها. قال "ابنتي، ما الذي بيَّض شعر رأسك؟ هل عندكم عذاب؟"، قالت: لا لا، ما علينا عذاب، لكن أمس فلان ابن فلان مات قبروه عندنا، فزفرت جهنم لقدومه زفرةً شاب منا كلُّ رضيع! قالت كلنا الذين في البرزخ ذاك شبنا من زفرة جهنم بسبب وفادة هذا الخبيث.

 الجار الصالح ينفع في الدنيا والآخرة، والجار السوء يؤذي ويضر في الدنيا وفي الآخرة.

قال سيدنا موسى: رب، أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قرِّبني من الأرض المقدسة رمية حجر، عندما جاءه الموت، صلوات الله على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

شكر نعمة الولاء والمحبة

فالحمد لله على ولاء الله ورسوله والمؤمنين، ومحبة الصالحين، اجتمعتم وظهرت آثار فيكم من سند مُسلسل، ذكرتم بعض الأكابر الذين كانوا نجتمع وإياهم، أعلى الله درجاتهم وجمعنا بهم في أعلى الجنة.

وكان ممن يحضر مجالسنا: السيد عبد الرحمن بن حسن بن أحمد الجفري، عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وعدد، والله يُبوِّئهم أعلى المنازل في محبته ووداده وعظيم يوم إسعاده، ويجمعنا بهم في يوم ميعاده، ويجمعنا بهم في دار الكرامة وهو راض عنا.

دعاء وتضرع إلى الله

واجتمعتم بهذا الاجتماع وراء عظيم، صاحب خُلُق عظيم ودين عظيم ومنهج عظيم، ولا أعظم منه عند العظيم، يا رب صلِّ عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.

ولا تحرمنا بركة المجمع، واجعل قلوبنا عليك مجموعة، والوجوه إليك صادقة، يا الله، غياثاً عاجلاً! يا الله، لُطفاً شاملاً! يا الله، نظرةً من نظراتك الربانية الرحمانية! يا الله، نظرةً من نظراتك الربانية الرحمانية نرقى بها إلى أعلى ذُرى القُربيّة، إلى أعلى ذُرى القُربيّة.

ولا ننصرف من المجمع إلا بقلوب مُطهَّرة نقية، إلا بقلوب مُطهَّرة نقية، يا الله، لا يُصلح القلوب سواك، لا يغفر الذنوب سواك، لا يقضي الحاجات سواك، لا يكشف الضُرّ سواك.

(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ).

ذكِّرنا يا رب! نحن المضطرون ندعوك، وأنت تجيب المضطر إذا دعاك وتكشف السوء، إلهنا، ما في قلوبنا وما في أُسَرنا وأهلينا وما في مجتمعاتنا وما في واقع الأمة من سوء، اكشفه يا كاشف السوء! اكشفه يا كاشف السوء!

(وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) - من تختارهم لخلافتك وخلافة نبيك، اجعلنا في خيارهم يا رب، واجعلنا في أهل الحظ الوافر منهم يا رب، وأهل النصيب الكامل التام يا رب.

ولا إله معك، ولا إله إلا أنت، فاستجب دعاءنا وحقِّق رجاءنا، يا مُغيث أغثنا وأغث المسلمين، وعجِّل بتفريج كروب المؤمنين، يا الله!

ولا تجعل في ديارنا أحداً يُرمى إلى فسطاط النفاق يا كريم يا خلّاق، لا ذكر ولا أنثى ولا صغير ولا كبير، يا الله!

اللهم وأيقِظ قلوب المؤمنين حتى لا يُخدَعوا بعد بالخديعة ولا يوقعوا في القطيعة، اللهم ارزقهم تعظيم أمرك وتعظيم شرعك ودينك ونبيك وما جاء به عنك، ورُدّ كيد الكفار والفُجّار يا رب.

ولا تفتِنهم بما تؤتي الكفار من ثروات أو من أسلحة، واجعلها عِبرة، واجعلها عظة لنا، واجعلها سبب لثبات قلوبنا على الصدق معك.

(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).

(مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

ارضَ عمّن قضيت نحبه، واجعلنا من أهل الصدق فيمن ينتظر، وأعِذنا من التبديل ومن التسويل، ومن الانحراف عن سواء السبيل في النية والقول والفعل والقيل، يا ربنا الجليل!يا الله..

يا سريع الغوث غوثاً منك يُدركنا سريعاً، ** يهزم العُسر ويأتي بالذي نرجو جميعاً

يا قريباً يا مُجيباً يا عليماً يا سميعاً **قد تحققنا بعجزٍ وخضوعٍ وانكسارِ

قد كفاني عِلمُ ربي من سؤالي واختياري

لم أزل بالباب واقف فارحمن ربي وقوفي، فارحمن ربي وقوفي، فارحمن ربي وقوفي ** وبوادي الفضل عاكف فأدِم ربي عُكوفي. 

ولحُسن الظنّ ألازم فهو خِلّي وحليفي ** وأنيسي وجليسي طول ليلي ونهاري.

حاجة في النفس يا رب! وقدِّموا الحاجات العُظمى الكُبرى لكم وللأمة، واستحضروا بقية حاجاتكم، ومن له حاجة يرفعها إلى قاضي الحاجات، في ساعة إجابات وإغاثات سريعات، يا سريع الغوث غوثاً!

حاجة في النفس يا رب ** فاقضها يا خير قاضي! 

ما يتعاظمه شيء ولا يصعب عليه شيء، وبيده ملكوت كل شيء، ارفعوا حاجاتكم إلى رب العالمين قاضي الحاجات.

حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي ** وأرِح سِرّي وقلبي من لظاها والشواظ 

حاجة في النفس يا رب فاقضها يا خير قاضي ** وأرِح سِرّي وقلبي من لظاها والشواظ

 في سرورٍ وحُبور وإذا ما كنتَ راضي ** فالهنا والبسط حالي وشعاري ودثاري

قد كفاني عِلمُ ربي من سؤالي واختياري.

رب واجعل مجتمعنا غايته حُسن الختام

وأعطنا ما قد سألنا من عطاياك الجِسام

وأكرِم الأرواح منّا بلقاء خير الأنام، وأكرِم الأرواح منّا بلقاء خير الأنام، وأكرِم الأرواح منّا بلقاء خير الأنام ** وأبلغ المختار عنّا من صلاة وسلامِ

والحمد لله رب العالمين.

تاريخ النشر الهجري

20 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

12 أكتوبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية