(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في منزل السيد محمد بن علي با عمر، صلالة، سلطنة عمان، ليلة الإثنين 9 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:
أُسَر بني آدم وما تقوم عليه وضرورة إقامة الميزان والأساس لما يجري فيها ويطرأ عليها
الحمد لله رب العالمين، الذي بِربوبيّته صار هؤلاء العالمين بقدرته سبحانه وتعالى وأسرار ربوبيته على أحوال، أما الملائكة عليهم السلام فكلهم أرواح مُجرّدة ونور خالص لا ظلمة فيه ولا هوى ولا شهوة ولاشيء مما ابتلى الله به الإنس والجن.
وأما الإنس والجن فقد جعل الله فيهم ما به يترقّى إلى أعلى المراقي:
وهؤلاء العالَمون من الإنس والجن المكلَّفين - بما أشرنا إليه - مِن أنّ الرب جل جلاله جعل لهم سبيل ارتقاء واعتلاء، حتى جعل فيهم من فَضَل الملائكة وهم النبيون صلوات الله وسلامه عليهم.
كوَّنهم أسرة واحدة، وتكوَّنت منها الأُسَر، قال جل جلاله وتعالى في علاه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ) - آدم وحواء - (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). وقال جل جلاله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
فكان في أول أسرة تكوَّنت وهما آدم وحواء، ثوابت وضوابط أنزلهما الله إليها ليستقيمَ حال هؤلاء الآدميين والإنس والبشر، على استقامة تقِيهم شر الدنيا وشر البرزخ وشر القيامة وما بعد القيامة، وما بعد القيامة مِن شر هو النار الموقدة التي شرُّها لا نهاية له، سرمدا والعياذ بالله، أجارنا الله منها.
وقال الله في هذه الحقيقة لتكوين البداية في أسرة الآدميين: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، ولِمَا يتعرَّض له بعد ذلك من أولادهم وذُرّياتهم مِمن يتعرَّض من انحرافات وخروج عن نور الإله الذي جعله لعباده، قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).
وجميع الذين أعرَضوا عن ذكر الله تبارك وتعالى من هؤلاء الآدميين مِن أوَّلهم عاشوا المعيشة الضَّنْك، فيهم الفقراء وفيهم الأغنياء، وفيهم الملوك وفيهم من واتَتهُ الأسباب، وفيهم من انقادت له كثير من المُرادات، ولكنهم لم يخرجوا عن دائرة المعيشة الضَّنْك، وهي المعيشة التي لا يُدرك صاحبها حقائق رَوح الأُنس والاستبشار والرضا والطمأنينة قطّ، وإن مَلَك ما مَلَك، وإن فعل ما فعل، وإن شرب المُسكرات، وإن عمل الفواحش، وإن تحدّى وتخطّى حدود الأدب مع الله ورسوله ومع الأديان، لا يزال في المعيشة الضَّنْك، وإن مَلَك الأرض من طرفها إلى طرفها.
كان في المعيشة الضَّنْك النمرود، وكان في المعيشة الضَّنْك قوم هود، الذين قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وكان في هذا الضَّنْك فرعون، وكان في هذا الضَّنْك هامان، وكان في هذا الضَّنْك قارون. لهم معيشة الضَّنْك، والمسألة لا تقف عند هذا الحد، بل الأمر أخطر: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).
بذلك كله نذكر ما جعل الله بربوبيته وحكمته في هؤلاء البشر من عجائب، فمن تلك العجائب أن هناك توارث لكثير من الخيرات من عهد آدم، وربما تضاعف الخير ببروز النبيين نبيٍّ بعد نبيّ، حتى جاء الأكمل، حتى جاء الأفضل، حتى جاء مَن خَتم الله به النبوة والرسالة، وتمّت النعمة على أُمّته، وتمّت النعمة على أتباعه، وتمّت النعمة على أهل بيته الطاهر، وتمّت النعمة على أصحابه الأكابر، وهم رؤوس الأُمّة، رؤوس الأُمّة: آله وأصحابه، ثم التابعون لهم بإحسان على مدى القرون، رُتبة بعد رُتبة.
كان في هذه الأُسَر توارُث لكثير من الخير، وكانوا في ذلك معادن كما ذكر ﷺ في حديثه، ومن العجائب أنه غير ذلك يحصل شذوذ من بعض أفراد تلك الأُسَر الطيبة والطاهرة والمعادن النقية فينحرف، ويأتي واحد أو أكثر من أُسَر بعيدة أو كافرة أو كان أهلها في إجرام أو في ظلام ويعود إلى النور وإلى الطريق المستقيم، (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) بأسرار ربوبية، خلق الخلق لِحِكمَة، وطوى عليها عِلمَه جل جلاله، والمصير إليه كما منه المبتدأ.
والشاهد في كلامنا أن هذه الأُسَر: ماذا تتوارث؟ وعلى ماذا تقوم؟ فمن كان من الأُسَر - سواء في هذه الأُمّة على الخصوص ومَن قبلها من الأُمَم - متصلاً بنور التوحيد والإيمان وإدراك حقوق الربوبية هذه التي ما ارتقى ذُراها وأعلاها إلا الإمام الأكبر حبيب الرحمن خير البشر، العبد الذي وفّى بِحَقّ العبودية، وبرز فيها في خلعة الكمال، وقام بحق الربوبية في مواطن الخدمة لله، وأقبل عليه غاية الإقبال، فما أقبل الرحمن على أحد من خلقه كما أقبل على محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وبذلك مُيِّز وخُصِّص بمعاني الخصائص كلها بكل وجه، ولم يبلغ شأوَه أحد، صلوات ربي وسلامه عليه.
وكُنّا خير أُمّة بسببه، وبمنزلته عند ربه، وباختيار الله له. فلله الحمد.
لمّا دعا الله داعينا لطاعته ** بأكرم الرُّسُل كُنّا أكرم الأُمَمِ
وأكرم الأُمَم هذه أيضاً حلّ على أُسَرها ما حلّ، وما كان من الأخيار والأبرار ومن الذين أسلموا في زمانه، ومن خصوص عِترته ومن خصوص صحابته ومن تفرّع عنهم كذلك، غلب فيهم الخير وغلب فيهم النور وغلب فيهم توارث هذا الخير، وشذّ من شذّ وانحرف من انحرف.
ثم لم يزلِ الله تعالى بربوبيته وأسرار مكانة محمدٍ عنده يهدي هذا ويهدي هذا ويهدي هذا، وإذا بأُسَر كثيرة كانت في الكفر أو في الفجور أو في الفسوق أو في العصيان ترجع إلى الإيمان والهُدى والرحمة إلى زمننا هذا، ونحن نرى ما يتجدّد في كثير من الأُسَر، فضلاً من الرحمن جل جلاله.
فكلّ أسرة لم تعرف لها قِيَم ولم تعرف لها أساس تبني عليه الأمر، وتركت نفسها مُعرّضة للتأثّر بما يطرأ في المجتمعات ويخرج إلى ساحة البشر من أفكار ومن أخلاق ومن معاملات ومن سلوكيات، تقلّبت في الظُّلمة والهوى حتى تردّت - والعياذ بالله - إلى الهوان وموجبات الخِزي في يوم الوقوف بين يدي الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه، وصار أهلها في دوائر الهُون في يوم القيامة، أعاذنا الله من ذلك، مثل الكُفّار الذين يقول لهم سبحانه وتعالى في ذلك اليوم: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ).
الاستكبار في الأرض بغير الحق واقع في زماننا هذا منه، صاروا يستكبرون حتى بباطل الباطل وأسوأ السوء! يستكبر به وهو أمر خبيث وضائع،صاروا يستكبرون به! ويقول إنه من المتحرّرين! يشذّ ويخرج عن مُقتضى الفطرة كلها، وعاده يستكبر! ويستكبرون بأسلحة الدمار الشامل كما تسمعون، ويستكبرون بشيء من هذه المظاهر التي مؤدّاها لا نفع للعباد ولا رفع للعباد، سوى أنكاد وبلاء ومصائب من هنا ومن هناك.
(تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). من استكبر بمال استكبر بغير الحق، من استكبر بمظاهر الدنيا الخلّابة الزائلة الفانية استكبر بغير الحق. وإنما الاستكبار بالحق: الاعتزاز بالإيمان، الاعتزاز بالتقوى للرحمن، الاعتزاز بمتابعة سيد الأكوان، هذا حَق، به العِزّ وبه الشرف وبه الكرامة.
(وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) وترون آثار الفسق بادية، فالأُسَر التي لم تنتبه من شرفها ومكانتها تعرّضت للاغترار بما يُنشر من هنا أو هناك، حتى يزلّ منهم الابن أو البنت أو الرجل أو المرأة أو صغير أو كبير، وتدخل الظُّلمات على البيت، وتنهدم قواعد وأُسُس كانت للشرف والكرامة في تلكم البيوت.
ولأجل وجوب المحافظة على ما في البيوت من خير، بل وإرادة أن ينتشر هذا الخير لبقية الأُسَر في العالم، بما فرض الله تعالى ودعا إليه أنبياؤه وأتباعهم وسيّدهم محمد ﷺ، وأمر أُمّته أن تحمل الرحمة للعالمين، لأنه بُعِث رحمة للعالمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
فكان يقول الحق تعالى في مسألة المحافظة على هذا الشرف، لمّا جاءت السيدة مريم بسيدنا عيسى عليهما السلام وكانت غير متزوّجة، قالوا: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا). أسرتكم نقية، أسرتكم تحافظ على القِيَم، أسرتكم ما تنزل لهذه المستويات الهابطة. (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)، يعني هذا يُستنكر من مثل أسرتكم أكثر، لو جاء من أُسَر فاسقة أو بعيدة عن النور ربما لم يكن مُستنكَراً كما يُستنكر منكم أنتم.
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا).
بذلك كله وجب علينا وعلى أُسَر المؤمنين خاصة أن ينظروا في أحوال الأُسَر وما تقوم عليه في أفكارهم وسلوكياتهم، وما يتعاملون به مع الواقع ومُجرِيات الأحداث والطوارئ التي تطرأ والمستجدّات التي تستجدّ، والأحدوثات التي تحدث في هذا الوجود وفي هذا العالم.. ما يقبلون وما يرفضون؟ ما يرتضون وما يردّون؟ ما يحبّون وما يكرهون؟
ميزان في القِيَم النازلة من السماء على أيدي الأنبياء، وجاءنا بالميزان الأتمّ الأقوم خاتمهم محمد ﷺ. (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
ولنا معشر الأُمّة عَظَّم شأن هذا الميزان، وقال: (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) تقرؤون في مولد الحبيب علي: أن الإنسان الأول المُراد بهذا التعليم محمد ﷺ، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ* وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).
فإنه ميزان مَن؟ الذي وضع لكم الأرض ورفع السماء، وما من قوة غيره فعلت ذلك، فإلى من تذهبون؟ وكيف تنسون؟ أو تنسون ألوهيّته وربوبيّته، وتغترون بواحد يعرض عليكم مشروع وفكرة ونظام ودستور من هنا أو من هنا يُخالف منهج الجبّار الأعلى؟!
(السَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) من هذا الذي رفع السماء (والأرض وضعها للأَنام) رافع السماء وواضع الأرض أحقّ أن يُنظر فيه ويُؤخذ ميزانه ويُؤخذ منهاجه ويُؤخذ نظامه، أو غيره؟ كيف غيره؟ من هو غيره؟ غيره لا خلقك ولا رفع السماء فوقك ولا بسط لك الأرض، هو الذي رفع لك السماء وبسط لك الأرض وأوجدك من نُطفة وحوّلك في الأطوار كلها، وَأَخْرَجَك مِن بطنِ أُمَّك (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ). فله الأمر، فهو ميزانه أحقّ أن يُؤخذ.
إنما ذكرنا هذا في المجمع المبارك وفي الشهر المبارك في ذكرى ميلاد الحبيب ﷺ، فإننا عرفنا من هذه الأُسَر مَن تمادى واستمر النور فيهم، والبركة من أصولهم إلى الفروع إلى من أدركناهم، حبيبنا علي بن عمر وأخوه عيدروس بن عمر، وإخوانهم عليهم رضوان ربي سبحانه وتعالى، أشرق فيهم نور العبودية، وتعظيم شأن الربوبية، بسرايات سَرَت أثّرت في وجهاتهم ونياتهم وأخلاقهم عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا الصلحاء الذين أدركتموهم، والذين كانوا في ذاك الزمن ومن قبلهم من آبائهم، حافظوا على سرّ الموروث، وما رضوا بما يُعرض من هنا أو هناك إذا عارض نور القُدّوس، إذا عارض هدي الحبيب الأعظم، إذا عارض أُسس سلفهم الذين:
مضوا على قصد السبيل إلى العُلا ** قدماً على قدمٍ بجِدّ أوزعِ
ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم، فسل وتتبّعِ
وفيهم إلى من أدركتموهم كان وصفهم:
قومٌ إذا أرخى الظلامُ سُدولَه ** لم تُلفِهم رَهنَ البِطا والمضجعِ
بل تلقَهم عُمُد المحاربِ قوَّماً ** لله أكرِم بالسجودِ الرُكَّعِ
يتلون آياتِ القرآنِ تدبُّراً ** فيه ولا كالغافلِ المُتوزِّعِ
عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فشأن هذه الأُسَر التي أشار ﷺ إليها بقوله: "الناس معادن"، وأشار ﷺ بقوله: "إن العِرق دسّاس"، وأن المرأة التي تحمل صورة حسنة في منبت سوء أنها بليّة من البلايا التي تهوي بها قيم ويضلُّ بها كثير والعياذ بالله تبارك وتعالى.
والمرأة الصالحة سبب الصلاح والفلاح والنجاح للذكور وللإناث وللصغار وللكبار، فالفاسدات من النساء لا أضرّ على الرجال منهنّ، والصالحات من النساء لا أحسن للرجال منهنّ، ولا أهدى ولا أنوَر، لأنه من بداية الحمل إلى وقت الرضاع تمتاز بميزة في العلاقة بهذا الإنسان أقوى من غيره كائناً من كان، حتى أبوه، علاقته بأُمّه وعلاقتها به في هذه المرحلة أقوى، حملته بين أحشائها!
وبذلك كلّه كان لصلاحهن شأن عظيم، حتى كان يقول أهل الحكمة والتاريخ: ما رأينا من عظيم برز بين البشر بهدايات أو منافع أو أمور تميّز بها إلا وجدنا وراءه امرأة، يعني وجدنا من النساء من كانت عوناً له وسبباً.
حتى سيد الخلق المحبوب الأكبر ﷺ، كانت خديجة بنت خويلد هي السبّاقة في النساء لنُصرته والقيام معه عليه الصلاة والسلام، وأنفقت مالها وجاهها في محبّته ونُصرته عليه الصلاة والسلام.
وجعل الله سبحانه وتعالى له من النساء أُمّهات المؤمنين، وجعل له البنات الطاهرات الصالحات: زينب ورقيّة وأُمّ كلثوم وفاطمة الزهراء، كل واحدة منهنّ نور من أنوار الله، وكل واحدة منهنّ نموذج في المسلك، في الأدب، في الخُلُق، في الفكر، في الوعي.
وكان أعظمهنّ وأحبّهنّ إليه فاطمة التي سمّاها "أُمّ أبيها"، وقال لها: "يا أُمّ أبيها" عليها رضوان الله تبارك وتعالى، وقال عنها فيما صحّ من الحديث: "فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها ويُبسطني ما يُبسطها" عليها رضوان الله وأزكى سلامه، وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وألحقنا الله وإياكم بهم.
فعلى الأُسَر أن يُفكّروا كيف تُبنى أُسَرهم، وما الذي يدور ويجري بينهم من فكر، من خُلُق، من سلوك، من تصوّر للحياة، وكيف يتعاملون مع ما يَفِد عليهم من هنا ومن هناك؟ لأن هذا النور والقِيَم الواردة من السماء يُبنى عليها الميزان، وتعرف ما تقبل وما تردّ، وما ينفع وما يضرّ، بواسطة هذا النور الرباني الذي أنزله الله تعالى والروح الرحماني (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) وجعله الله هُدى لمن يشاء من العباد، والله يجعلنا وإياكم منهم، ويعلي درجات الذين تقدّموا في بلدتكم هذه، والذين عرفناهم من أرباب الخير والهُدى، وجمعنا الله بهم في دار الكرامة، وضاعف البركات والخيرات في أولادهم وأحفادهم وأسباطهم، وجعلنا من خواصّ المتحابّين فيه، المتجالسين فيه، المجتمعين على ما يُرضيه.
وزادنا زيادة وأسعدنا بأكمل السعادة، ونبّه الله أُسَرنا لعظيم العِزّ والشرف حتى لا يُفرّطوا فيه ولا يرضوا بضياع شيء عليهم، ويتعاونون على البِرّ والتقوى، وعلى ما يُرضي الحق في السِّرّ والنجوى، فيحوزون بذلك شرف الدنيا والآخرة، ونعيم الدنيا والآخرة، ونور الدنيا والآخرة، وخير الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شرّ الحياة وشرّ الوفاة وشرّ ما بينهما. اللهم اقبل منّا هذا الجمع، وضاعف الخيرات لأهل هذا المنزل وهذه الديار، وزِدهم من الأنوار والأسرار والاتصال بالمختار ما تجعلهم وذُرّياتهم في ذلك المضمار، يسيرون خير مسار، ويرتقون مراقي أهل النور الكبار، ويُحمون من الشرّ والأشرار.
وجميع الحاضرين ومن في ديارهم أكرمنا وإياهم يا أكرم الأكرمين، وتدارك أُمّة حبيبك الأمين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
بهذا الأصل والأساس الذي قال عنه سيدنا إبراهيم: (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)، وقال عنه يوسف بن يعقوب: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي) - أُسرة محافظة على الأصل والنور - (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ).
حفظ الله علينا وعلى الأُمّة أنوار الهُدى والصلاح والفوز والنجاح، ودفع عنّا شرور البلايا، وجعل الشهر الأنور المبارك من أبرك الشهور علينا وعلى الأُمّة ظاهراً وباطناً، وعجّل بالفرج للمسلمين وغياث الأُمّة جميعاً.
وأدام الأمن في ربوع هذه السلطنة، وأعانهم على ما يُحبّ وعلى ما يرضى، وجنّبهم الآفات والعاهات والفِتَن الحاصلة هنا وهناك، الله يدِيم لهم أمن من عنده وطمأنينة من عنده وسكينة من عنده، وصلح وإصلاح وفوز ونجاح، وينظر إلى بلاد المسلمين ويفرّج الكروب عن الأُمّة أجمعين، إنه أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين.
17 ربيع الأول 1447