(535)
(339)
(363)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي الذي يقيمه طلاب علمة الحبيب طه بن عمر الصافي، في ساحة مسجد طه بمدينة سيئون، ليلة الإثنين 16 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:
أسرار الميزان الرباني ومقتضى السير الإيماني في حياة المكلفين
اقرأ : فوائد مكتوبة من المحاضرة (اضغط هنا)
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، من له الحكم يوم الدين، رب الأولين ورب الآخرين، الذي أكرمكم بالإيمان به وبرسوله الأمين، وما جاء به عنه، فاشتمل ذلك على جميع ما يجب الإيمان به من جميع ما جاء به من قبله النبيون والمرسلون.
وقد أتانا خاتم الرسالة ** بكل ما جاؤوا به من حاله
فعمّ كل الخلق بالدلالة ** وأشرقت مناهج الكمال
فكله فضلاً أتى ورحمة ** وكله حُكمُ هدىً وحكمة
وهو إمام كل ذي مُهمَّة ** وقدوة في سائر الخصال
صلِّ اللهم وسلِّم وبارك على هادينا إليك ودالّنا عليك، عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد ﷺ، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، رؤوس هذه الأمة، وعلى من والاهم وعلى منهجهم سار إلى يوم القيامة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم والتابعين، وعلى جميع ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا تُخرجنا عن دائرتهم، ولا تُخلِّفنا عن ركبهم، يا ذا العطاء الواسع الثمين، يا حي يا قيوم.
بفضل رب العالمين اجتمعتم في هذه الساحة المُنوّرة المباركة، بأنوار التنزيل والرسول الهادي الدليل، والاستقامة على منهجه في النية والقصد والفعل والقيل، بحمل أهل الأمانات من خواصّ أهل الصيانات وحسن الديانات، من أهل المراقبة لعالم السر والخفيّات جل جلاله وتعالى في علاه.
حتى بقيت الآثار بحكمةِ وسُنّةِ الإله الغفّار جل جلاله، مستمرة لكم على مدى الليل والنهار، في قرنٍ بعد قرن، منذ أُسِّسَت هذه العُلْمة. مرّت القرون: الأول والثاني والثالث والرابع، وها أنتم بعد مضيّ هذه القرون إلى هذا الخير تستمعون، وعلى هذه الوجهة تجتمعون، ولرحمات الحق تبارك وتعالى تتلقّون.
وكلها مواريث مما خلَّف الأمين المأمون صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وللمؤمنين فيها درجات في التلقّي والأخذ والوعي والفهم لهذه الحقائق الكبيرة، والبلاغات عن الحق سبحانه وتعالى بخاتم النبيين.
قال الله عن الرسل ومُهمتهم في واقع حياة الناس وحياة المكلّفين من بني آدم والجن على ظهر الأرض، قال جل جلاله وتعالى في علاه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
ومعنى مُبشّرين ومُنذرين: مُقيمين الوزن فيما يجب أن يرغب فيه هذا الإنسان المكلّف ويحبّه، وما يُبَشّر به من نتائج استقامته على ما أراد خالقه القيام به في الحياة إذا قام به. ومعنى مُنذرين: مُقيمين للميزان لما يجب أن يحذره هذا العاقل المكلّف من بني آدم والجن ويهابه ويخاف منه، ويُنذرونهم بوقوع المخاوف الخطيرة والشدائد الكبيرة عليهم إذا خالفوا منهاج ربهم الذي رفع السماء من فوقهم وبسط الأرض لهم وسَطَحها سبحانه وتعالى ومهّدها تمهيداً جل جلاله وتعالى في علاه.
ولم يشاركه في رفع السماء ووضع الأرض لا إنسٌ ولا جنٌّ ولا صغار ولا كبار، فليس لأحد أن يتحدّى وإلا هلك، ولا أن يتعنّت ويقابل منهج الجبّار جل جلاله بمخالفة، أو يظنّ أن عنده أحسن من أوامر الإله الذي خلق ونواهيه، أو أنه أعلم بالخلق أو التكوين أو المعاد والمصير. حاشا الله أن يكون أعلم به من ذلك ملَكٌ ولا إنسٌ ولا جنّ!.
فما بال فئات الضلال يقودون الناس إلى موجب النكال والوبال والخسران الأكبر في يوم المآل؟ والعياذ بالله تعالى، في اليوم الذي يقول الله فيه: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾.
أتدري ما هذه الزُّمَر؟ زُمَر الأفكار، زُمَر المسالك والأخلاق التي كانوا عليها في الدنيا. هذه الأفكار وهذه الوجهات وهذه الأنظمة التي يقومون عليها مخالفةٌ لمنهج الله ورسوله، ويتكوّن لذلك هيئات وجماعات ودول وأحزاب ومؤسسات، وعصابات كثيرة في شرق الأرض وغربها، كل من خالف منهم منهج الله، هم زُمَرٌ في الدنيا وفي الآخرة، زُمَرٌ يُساقون إلى شر ِّ مُستقَرّ، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾.
فلا يجوز أن نسمع لأفكارهم ولا لأخلاقهم أن تأخذ بأحد منا، لا صغارنا ولا كبارنا، ولا رجالنا ولا نساءنا.
احفظوا سِرّ التَّرِكة التي خُلِّفت من حضرة النبوة، وحملها أهل الفُتُوّة من آبائكم الماضين الذين
مضوا على قدم الصدق إلى العُلا ** قدماً على قدم بجدٍّ أوزَعِ
ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم، فسَل وتتبّعِ
﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
هذا العِوَج والانحراف في الأفكار وفي الثقافات أوقع الناس في استحسان ما هو حقير وذميم، ومعوَجّ وهابط وساقط وقبيح بميزان الله تبارك وتعالى.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ ، ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ على كل المقاييس، إن سمّوا أنفسهم فطاحلة ومتقدمين، أو أهل حقوق أو أهل ديمقراطية، سمّوا أنفسهم ما سمّوا، هم الأخسرون، هم الأخسرون.! ﴿أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾
إن هذه الساحة ضمّت أفئدة وقلوباً أيقنت بما أنزل الله، ففاضت عيونهم دموعهم في الخلوات من خشية الله، ومن محبة الله، ومن معرفة الله. ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾
وتدري من الشاهدون؟ الشاهدون خيار الأمة الذين يشهدون للأنبياء يوم القيامة، يشهدون للأنبياء ببلاغهم للرسالة. الخيار منا يُقيمهم الله شُهداء يوم القيامة للأنبياء والمرسلين من قبلهم، إذا أنكرت الأمم وقالوا: ما بلّغنا هؤلاء الرسل والأنبياء.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
يقول جل جلاله: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾
وإنما يكون الشهداء من هذه الأمة أخيارها، ممن وفى بعهد الله ومات على الحال الذي يرضاه الله جل جلاله، فيشهدون للأنبياء والمرسلين، ويشهد لهم النبي الأمين، ويشهد الله للجميع ويُزكّي شهادة الجميع في ذلكم اليوم الذي هو المصير العظيم والمستقبل الأكبر لكل من آمن ومن كفر من كل المكلّفين، من آمن ومن كفر مستقبلهم الأكبر يوم الهول الأكبر، ويوم الفوز الأكبر، يوم النعيم المؤبّد، ويوم العذاب المُخلّد، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فالله يبارك لنا ولكم في هذه الاجتماعات واللقاءات، وتنبعث منها أنوار الإنابة والإيمان واليقين بالله تبارك وتعالى، حتى لا نُخدع بشيء مما يُعرض علينا، فتنشأ في القلوب: تعظيم الفانيات، تعظيم الحقيرات، تعظيم الزائلات، نبتعد عن حقائق "الله أكبر"، بل عن حقائق "الحمد لله"، بل عن حقائق "سبحان الله"، بل عن حقائق "لا إله إلا الله" التي هي الأساس والرأس والمرجع إليها.
البُعد عن هذه الحقيقة بتعظيم ما حقّر الله، بالاغترار بما يقول أعداء الله وأعداء رسوله، وأعداء الله وأعداء رسوله هم على الحقيقة أعداء أنفسهم، وأعداء البشرية كلها، وأعداء الناس كلهم؛ لأنهم يَحُولون بينهم وبين حقائق السعادة، ويقطعونهم عن نيل الحسنى وزيادة، فهم أتباع العدو الأكبر إبليس المرجوم.
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾
فعِش عيشة الصادقين مع الله، أهل الولاء لله ورسوله والذين آمنوا، متحقِّقاً بحقائق الإيمان، يا من أُكرمت بالإيمان بالله الذي خلق ورزق، ووحده للعبادة استحقّ، وإليه المرجع، وإليه المآب، وإليه المصير.
ولن تُترجم حقائق لا إله إلا الله ولا الباقيات الصالحات إلا بتعظيمك لما عظّم الله. وأعظم ما عظَّم الله: كتابه ورسوله، والكعبة المشرّفة، والصلوات الخمس، ورمضان، وعظّم العلم النافع المتصل بوحي السماء، فلا يُقاس به علم.
وكل علم كائناً ما كان يحتاجه الناس في أبدانهم أو أراضيهم أو زراعاتهم أو حِرَفهم، إن سُيِّر على نور العلم المُنزل من الله في الأوامر والنواهي؛ نفع الناس وأتى للناس بخير. وإن انحرف وخالف منهج الله؛ كان على البشر سوءاً وبليّة وفتنة ومحنة ورزيّة وآفات وعاهات وشرور في الدنيا، وعذاب في الآخرة.
كل علم خالف الأوامر والنواهي، علم الله العلم الذي اختاره الله أن يُبلّغه الأنبياء، والذي جعله ميزاناً لبقية العلوم والأعمال كلها. فما ينفع من علم الحِرَف ولا المِهَن ولا النجارة ولا التجارة ولا الطيران ولا الأسلحة ولا غيرها، إلا ما اتفق مع منهج الله وأوامره ونواهيه، وإلا كانت هي الأسباب الكبرى لما هو حاصل في واقع الناس اليوم.
الظلم الكبير من أين جاء؟ الاعتداء على الأرواح من أين جاء؟ قتل النساء من أين جاء؟ من هذه الأسلحة، من هذه التكنولوجيا، من هذه التي سُيّرت على خلاف ما أمر مُكوّن السماوات والأرض، رب العرش العظيم جل جلاله.
لا تنفع تكنولوجيا ولا غيرها خالفت منهج رب السماء والأرض. استعمالها على مخالفة منهج الله شرٌّ على أهلها وفِتَنة لهم وبليّة في الدنيا قبل الآخرة، وفي الآخرة لهم سوء العذاب، وفي الآخرة هم الخاسرون، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فلنوقن بهذا اليقين، نُعظّم شعائر الله، هذا العلم الشريف ما منزلته بيننا؟ الحمد لله، هذه بقايا من مثل هذه العُلْمة، وبعض الحلقات التي عندكم من حلقات هذا العلم في الأربطة أو في المعاهد أو في المساجد، بقيّة من البقايا، الله يحفظها علينا ويُقيمنا بتعظيمها وأداء حقها.
ولكن يجب أن تكون منزلتها أكبر مما هي واقعة في عقول وصدور كثير من الرجال والنساء اليوم، ربما عظّم جوّاله أو لَعِبه أعظم من حلقة العلم، ربما عظّم بعض شهادات الدنيا، على أن يتعلَّم ولده تصحيح الفاتحة أو تصحيح الصلاة، ما هو مبالٍ عرف الفاتحة أو لم يعرفها، المهم يأتي بشهادة يخرج فلوس!، والفلوس قد لعبوا عليها ولعبوا بها على العقول، ولعبوا بها على الناس، وتعبوا من ورائها، وما جاءت لهم إلا بأنواع الهمّ والغمّ والكدر، إذا ما في قلبك تعظيم الله ورسوله حتى تعلم مُهِمّتك.
لماذا أسّس مثل الإمام طه بن عمر العُلْمة؟ هي عباطة؟! وإلا عادة؟! وإلا مجرد فكرة؟! هي مبدأ، هي ديانة، هي وراثة، هي تَرِكة نبوية، هي مَهَمّة للقيام بحق الله على ظهر الأرض والخلافة عن الله جل جلاله.
وكثير ما يستقي الأطفال في مثل هذه المدارس ما يبقى معهم طول حياتهم وبعد وفاتهم، وربما زكا عند مرور السِّنّ عليهم وأشرق نوره في صدورهم.
وبعد هذه البداية يتعرّضون بعدها لسنوات الزينة والتفاخر، فسنوات اللعب، هذا من قبل التمييز في السبع السنوات الأولى، يغلب على الطفل في حياته اللعب، وبكل شيء يريد أن يلعب. ويأتي بعده اللهو، إذا بلغ السبع السنين بدأ يعزف ويستمع بعض الأصوات، ويبدأ اللهو عنده من بعد هذا السن إلى أربعة عشر سنة، جاءت الزينة ودخل في الالتفات إلى الزينة، وصار يعمل شعره كذا وثوبه كذا، ويطلع ذا وينزل ذا.
﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾
ويصل واحد وعشرون سنة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد إلى آخر الحياة. إذا لم يُهذّب في هذه المراحل، لعبت به، عصفت به، أسقطته.
بعض الألعاب حتى للأطفال الصغار يجيئون بها تُفسد عقولهم، تُفسد أخلاقهم، تُفسد أفكارهم، وهي لعبة -إلكترونية على قولهم- إلكترونية، وما يدري ماذا فيها؟!. فيها دسيسة، فيها لعب على عقل طفلك.
لما ما عرفت القيمة وظننت أن هؤلاء ناصحين، ما هم ناصحين ولا هم صادقين، ولا أرادوا للناس الخير. الناصح محمد، الناصح سيد الوجود ﷺ، مختار من قِبَل البَرّ الودود. "ما من باب من أبواب الخير إلا دللتكم عليه وأمرتكم به، ولا تركت باباً من أبواب شر إلا حذّرتكم منه ونهيتكم عنه" يقول ﷺ، فهو الناصح عليه الصلاة والسلام.
ترك هذه الألعاب المباحة وأمرهم يلعبون بها في هذه الفترة، وأيام اللهو ترك لهم اللهو المباح، وحذّرهم مما يخرج عن سواء السبيل. وفي الزينة كذلك، امتلأت عندنا كتب الحديث وكتب الفقه: كتاب اللباس والزينة، قوانين وضوابط، وتوجيهات؛ حماية وحراسة من الزلل فيها والميل يمنة أو يسرة.﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾
لذلك كله وجب أن ندرك هذه الحقائق ونعود إلى تكبير الله وتعظيم العلم الشرعي، وتعظيم مجالس العلم الشرعي التي سَهُل إعراضنا عنها وخفّ علينا أن نُهملها ونتركها، وكأنه لم يفتنا شيء!.
كان في بلدانكم هذه أحدهم لعذر إذا فاته مدرَسٌ يُرى الحزن في وجهه أسبوع وشهر: "فاتني المدْرَسْ ذاك اليوم ما حضرته!"، وقد يكون فاته بعذر؛ لأنهم عرفوا قيمة الصلة بالله، وأن هذه حبال الصلة به، وعرفوا هذا الخير.
ربما الآن وجدتم من يتأسّف أنه فاتته متابعة شيء من مسلسل، وإلا من المباراة العالمية على كأس العالم كما يسمونه، ما نعرف كأس عالم، خير من وصلة برب العالمين، تحصّلها، تذوقها في سجدة وفي قومة لله تبارك وتعالى، أو في خلوة لله سبحانه وتعالى، أو في قيام آخر الليل.
مساجدنا في حضرموت كانت تعهد في آخر الليل ضجيج بالقرآن والاستغفار والبكاء والقلوب الخاضعة، وصارت خاوية أكثر مساجدنا في الوادي آخر الليل خاوية، من جاءها قريب الفجر وإلا مع أذان الفجر، وكانت ما تجيء الثلث الأخير من الليل إلا وهي لها ضجيج بالبكاء والإنابة وتلاوة القرآن والقلوب الحاضرة مع الله تبارك وتعالى.
نزلت عليهم البركات، ونزلت عليهم الرحمات، ونالتهم الخيرات الكبيرات، وذاقوا حلاوة الإيمان.
فالحمد لله الذي جمعكم في هذه المجامع، الله يُعظّم بها المنافع. أمانات وتَرِكة نبوية يجب المحافظة عليها من صغارنا وكبارنا ورجالنا ونسائنا، ونرتبط بارتباط الأدب والصدق الذي كان عليه خيار الخلق.
وها هي أعمال خلت عن شوائب ** وعلم وأخلاق، وكثرة أورادِ
وأربابها يسعون فيها بوجهة ** فهم بين عُبّاد بعلم وزُهّادِ
والزم كتاب الله، واتبع سُنّة ** واقتد هداك الله بالأسلافِ
وهذه المظاهر من نِعَم الله علينا وعليكم، فيها الانتماء إلى القائد الكبير، إلى السراج المنير: مجالس المولد الكريم، مجالس العلم، مجالس الذكر، مجالس التذكير، مجالس الخشية، مجالس الإنشاد في الثناء على رب العباد وذكر أوصافه، في الثناء على محمد المصطفى الهادي وذكر أوصافه.
هذه مجالس المولد، فيها شيء غير هذا؟ ما نشاهد فيها ولا نرى ولا نسمع شيئاً غير هذا: ذكر الله، وتلاوة كتابه، والصلاة على نبيه، وقراءة القرآن، والذكر والتذكير والتعليم.. هل فيها غير هذا؟
هذه الأشياء كلها سُنَن نبوية ثابتة في كتب الصحيحين وحدها، غير بقية السُّنَن، سُنَن ثابتة. إنشاد الشعر في مدحه صلى الله عليه وسلم سُنّة ثابتة في الصحيحين، الاجتماع على الذكر سُنّة ثابتة في الصحيحين.
على ماذا يبدّعونها؟ يبدِّعون على ماذا ؟ البدعة في التطاول على حكم الله، القول في دين الله بغير علم، هذه البدعة الضالة المنهي عنها بالنصوص الصريحة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
مخالفة الرعيل الأول، الذين كانوا يتدافعون الفتيا، اليوم يفرح ويفخر أنه يُفتي بتكفير الأحياء والأموات بلا علم، بلا بصيرة! لكن فتنة يفتن الله بها من يشاء.
والحمد لله الذي جمعكم في هذه المجامع، الله يُحيي أنوار الإيمان واليقين والصدق والعمل بهذا الشرع المصون، وما ورَّث الأمين المأمون.
يُمتِعنا بشيباننا هؤلاء البقية بعد شيباننا الماضين.
شيباننا الموجودين، اللهم أطِل أعمارهم في عافية، وانفع بهم صغارنا وناشئتنا وأهل مجتمعاتنا، وأعِد هذا التلاحم والترابط الإيماني الذي كان بين المجتمعات على التقوى والإيمان.
يا رادّ كل ضالّة، ضلّ علينا كثير من الهدى والنور، فرُدّ علينا ضالّتنا، واحيي فينا العلم الشريف والسُّنّة الغرّاء، والاتّباع لحبيبك خير الورى.
واحفظ حضرموت واليمن من البلايا والآفات والرزايا والمِحَن، وعجّل بالفرج لأهل غزة وأهل الضفة وأكناف بيت المقدس، وأهل الشام وأهل السودان وأهل الصومال وأهل ليبيا، وأهل الشرق والغرب.
يا كاشف كل كرب، اكشف الكروب عن أمة حبيبك محمد، وحوّل أحوالهم إلى أحسن حال.
في هذه الساحة كلنا نتوجّه إليك خاضعين خاشعين مستغفرين من جميع ما كان منا ظاهراً وباطناً، فاغفر يا خير الغافرين، وتُب يا خير التوّابين، يا من يحب التوّابين ويحب المتطهّرين، اجعلنا من التوّابين، واجعلنا من المتطهّرين، واجعلنا من عبادك الصالحين.
وأعِد علينا عوائد الاتصال بك وبرسولك في كل حال، ولا تحرمنا خير ما عندك لشرّ ما عندنا، يا ذا الإفضال وجزيل النوال.
والحمد لله رب العالمين.
17 ربيع الأول 1447