أبرز صفات السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ومتابعة الأخيار لهم

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الرباط، في حارة الرضيمة بمدينة تريم، ليلة الأربعاء 18 ربيع الأول 1447هـ بعنوان :

أبرز صفات السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ومتابعة الأخيار لهم

نص المحاضرة :

اللهم صلِّ وسلِّم على الحبيب المُؤتمن، سيد الوجود وإمام أهل الشهود، وقائد الرُّكَّع السُّجود، صاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود، الذي به كنَّا خير أُمَّة. يا رب أَدِم صلواتك على هذا الحبيب، صلِّ عليه منك عنَّا، وسلِّم عليه منك عنَّا، في كل لمحة وفي كل نَفَس، يا بَرُّ يا ودود، حتى نُدرك سِرَّ الصِلاتِ بك، وصدق الإقبال عليك والوَجْه إليك، وننصبغ بصِبْغة هذه المجامع وهذه المجالس التي عُقِدت بأيادي أرباب النفائس من خواص أهل الصدق مع الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه.

فضل المواطن المباركة

في مواطن قد شُرِّفت وقد هُيِّئت لكم، وقد رُبِطت فيها خيول الصحابة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، وجاء من بعدهم التابعون وتابعو التابعين، وجاء من أقام المساجد، وجاء فيها كم من قلب ساجد قبل البدن، يدخل بِبَدَن والقلب ساجد قبل ما يسجد البدن، وهو دائم في سجوده، في سِرِّ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ).

يعني هم دائم في صلاة، حتى وإن خرجوا من الصلاة، لكن قلوبهم في صلاة، دائم وهم في صلاة.

قصة الإمام أبي الحسن الشاذلي

لذا لما قال سيدنا الإمام أبو الحسن الشاذلي - عليه رحمة الله تبارك وتعالى - كان في مجلس وفيه العِزّ بن عبد السلام من سلاطين العلماء، وفيه جماعة من أهل العلم في القاهرة، فتكلَّموا ثم قالوا: "تكلَّم أنت". فقال: "أنتم العلماء وأنتم الفقهاء" قالوا: "نريد نسمع منك كلام". قال: "إذًا لا تستغربوا، هل صلَّيتم؟" قالوا: أحد يقول للعلماء الكبار: هل صلَّيتم؟ قال: "ما عنيتُ هذه الصلاة، بل أعني الصلاة الدائمة. أما سمعتم قول الله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)؟"

وأخَذَ يتكلَّم عن معنى ديمومية الصلاة في أحوال الإنسان في مختلف الشؤون، فصاح العِزّ بن عبد السلام سلطان العلماء قام يصيح، قال: "أيها الناس تعالوا اسمعوا! هذا الكلام الحديث عهد بربه"، هذا الكلام الذي يأتي من فوق، هذا الكلام العارف بالله أبو الحسن الشاذلي، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

أهل القلوب الحاضرة مع الله

وهؤلاء الذين هم على صلاتهم دائمون تنوَّرت بهم مساجدكم هذه وأماكنكم هذه، من قبلنا قرنًا بعد قرن، قلوب حاضرة مع الله دائم. 

يقول:

يا أهل القلوب الحاضرة مع الله **عسى عسى جاء الفرج من الله

أرسل هذا البيت أيام شِدَّة الشيوعية عندنا، الحبيب عبد اللاه بلفقيه الى الحبيب أبو بكر العطَّاس الحبشي عليه رحمة الله، قال: 

يا أهل القلوب الحاضرة مع الله ** عسى عسى جاء الفرج من الله

 والآن نحن أيضًا في شدائد من نوع آخر  هنا وهنا في العالم،يا أهل القلوب الحاضرة مع الله، فكتب قصيدة وأرسلها إليه يقول:

"يا أهل القلوب الحاضرة مع الله ** في جنة العرفان والمُصافاة

  مُستغرقة به ذاكرة لِآلَاه ** عسى عسى جاء الفرج من الله"

الله يُكرمنا وإياكم بحضور هذه القلوب.

السجود الدائم للقلب

قالوا: إن القلب إذا سجد لم يرفع عن السجود أبدًا، ما عاد يُطيق الرفع عن السجود. إذا قد عرف ربه وسجد لربه ما يقدر يرتفع، إلى أين؟ يبقى ساجدًا ويتبع سيد الساجدين ﷺ الذي قال له ربه تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).

فإذا أردت تبحث عن محمد ﷺ فهو مُتقلِّب في الساجدين، من تحقَّق بحقائق السجود، محمد عنده. (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)، فهو مُتقلِّب. قالوا: لقد تقلَّب فيهم قبل ظهوره إلى الأرض إلى أصلاب الآباء والأمهات، مِن عند عهد آدم وحواء وشيث ابن آدم، وإلى إدريس وإلى نوح وإلى إبراهيم وإسماعيل، ونزل حتى إلى عنده (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).

قال ابن عباس من معانيها - فسَّرَها ابن عباس - قال: "تتنقَّل من صُلب ساجد إلى صُلب ساجد". كلهم موحِّدين آباؤه، من عند آدم إلى أبوه عبد الله بن عبد المطلب، كلهم على قدم التوحيد (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).

اختار له الآباء واختار له الأمهات. الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقال: ولو كان في زمنهم أحد أفضل منهم لكانوا هم أولى بحمل هذا النور، ولكن الله اختار لهذا النور هؤلاء الآباء والأمهات من لَدُن آدم إلى عند آمنة بنت وهب بن عبد مناف، اختارها الله أُمًّا لسيد الأشراف وسيد الأكوان ﷺ.

فضل خير أُمَّة

وانتشرت الخيرات بواسطته في هذه الأُمَّة، فخيرها كله راجع إليه، وفضلها كله راجع إليه، وما كُنَّا خير أُمَّة إلا به عليه الصلاة والسلام.

لما دعا الله داعينا لطاعته **بأكرم الرُّسْل كنَّا أكرم الأُمَمِ

فالحمد لله الذي جعلنا في خير أُمَّة، وخير أُمَّة هؤلاء من خيارهم أرباب الصدق وأرباب السَّنَد إليه عليه الصلاة والسلام، في فهمهم للكتاب والسُّنَّة، وفي عملهم بمقتضى ما دعتهم إليه الكتاب والسُّنَّة، أهل سَنَد، وهم الصالحون من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، ما يعرفون السِّباب ولا الشتائم ولا سوء الظن ولا حمل الكراهة لأحد من خلق الله تبارك وتعالى، على هذا السبيل مضوا.

الآيات في فضل الصحابة

بل قال الله تبارك وتعالى فيهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

ثم بعد ما ذكر المهاجرين وذكر الأنصار في هذه الآية، ثلَّث بمن يجيء بعدهم، قال: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) - يشهدون فضل السابقين قبلهم، ويُحبُّون أن يمشوا في طريقهم، ويذكرونهم في دعائهم: (اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا).

فنتَّبِع سبيل مَن مضوا ونعرف سبقهم، ومن في عصرنا ما يكون في قلوبنا غِلٌّ على أحد منهم، (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

قصة جعفر الصادق والمُبغضين للصحابة

ولهذا جاءوا بعض الناس الى عند سيدنا جعفر الصادق، وكانوا والعياذ بالله مِمَّن ممن يتكلَّمون على الصحابة ويسبُّون الصحابة، وبعد جاءوا إليه ويتكلَّمون عنده. قال لهم: "قولوا لي: أنتم من مَن؟ هل أنتم من مَن قال الله فيهم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)؟ أُشهد بالله لستم منهم! لا أحد منكم من المهاجرين هؤلاء الذين ذكرهم الله في القرآن؟"

قال: "فهل أنتم من (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ...)؟" قال: "أُشهد بالله لستم منهم! لا من هؤلاء ولا من هؤلاء".

فهل أنتم من من قال الله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)؟ أُشهد بالله لستم منهم! فأين موقعكم؟ قال: وأين محلُّكم؟ لا وقعتم من الصحابة، لا من الأنصار ولا من المهاجرين ولا من الذين اتَّبعوهم بإحسان. قال: أين تريدون محلكم الآن؟ أنتم من أي صنف؟ ومن أي جماعة؟ يعني أين محلُّكم في الإسلام؟ أين محلُّكم في هذا الدين؟ إذا لا وقعتم من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا من هؤلاء؟

التعظيم لله ورسوله والدين

ثبَّت الله قلوبنا وأقدامنا، ووفَّر الله حظَّنا من المِنَن والمواهب، وهذا صنف الذين أثنى الله عليهم في القرآن مِن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم الذين اتَّبعوهم، العلامة الواضحة فيهم، البادية عليهم، من أول ما يؤمن أحدهم: امتلاء قلبه بتعظيم الله وتعظيم رسوله محمد، وتعظيم هذا الدين وشعائر الدين.

حتى كان يقول بعض العارفين: "الدين: تعظيم الدين".  يعني نصيبك من الدين على قدر تعظيمك لهذا الدين، ومكانة هذا الدين عندك كيف هو؟ فأنت منزلتك في الدين على قدر ما تُعظِّم هذا الدين وتعرفه.

فكانوا أول ما يشهد أحدهم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يمتلئ بتعظيم الله وتعظيم رسوله محمد ﷺ ومحبَّته الكاملة، وتعظيم شعائر الله ودين الله، قال ربي: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) يقول جل جلاله وتعالى في علاه.

قصة ثُمامة بن أُثال

قالوا: كان بعض السرايا للنبي محمد ﷺ وجدت ثُمامة بن أُثال وأسروه، أخذوه أسيرًا إلى أن جاءوا به الى المدينة، فلما وصلوا إلى المدينة عرفه النبي. قال: "اتدرون من أسرتم؟ أسرتم سيد قومه، ثُمامة بن أُثال، هذا كان نافذ الكلمة في قومه وكان يقودهم".

قالوا: هذا قد أصحابه قادوا علينا جيوشًا وحروبًا، حاربونا، نقتله. قال لهم: "لا". فجاء عرض عليه الإسلام. قال له: إن تقتلني تقتل ذا دم - يعني نحن قد قتلنا فيكم - وإن تُنعم تُنعم على شاكر".

قال لهم: "احبسوه". اتركوه في المسجد، ربطوه بسارية، وهيَّؤوا له أكله، وخرَّجوه وقت حاجته، وخلُّوه في المسجد. احبسوه في المسجد. وصار يشاهد في المسجد الصحابه بخضوعهم وخشوعهم، وبلال يؤذِّن، والحبيب عندما يأتي يدخل يُصلِّي بهم. فامتلأ، رأى الأنوار هذه، ويسمع الصوت النبوي يقرأ الفاتحة، يؤمِّنُون خلفه، ويسمع السورة منه، امتلأ.

النبي يشعر بأن الرجال يتغيَّر، جاء عليه في اليوم الثاني، لكنه عاد نفسه فيه جاهلية: تقول سيقولون لي: إنما فزعتَ منهم وكذا، إن فكُّوك بعذ ذلك بتُسلم؟ فحقه العنجهية، حق الجاهلية، قال له النبي في اليوم الثاني: " يا ثُمامة تُسلم؟" قال: أقول لك: إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تَمنن تَمنن على شاكر، تركه الى اليوم الثاني والثالث. 

فامتلأ الرجل، قال النبي: "أطلقوه". قالوا: "كيف نُطلقه؟ هذا قائد من قُوَّاد الكفر!" قال لهم: "أطلقوه".

بعد ما أطلقوه ذهب الى عند البقيع يتغسَّل، وجاء الى النبي فقال: "مُدَّ يدك، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله". آمن.

لما آمن في نفس المجلس عند النبي قال: "يا رسول الله، ما كان وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إلي". انظر كيف امتلأ محبة! "ما كان دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح والله اليوم دينك أحبَّ الأديان كلها إليَّ". العشق ما عاد وقف عند الدين والذات، حتى البقعة! قال: "والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك الآن أحبَّ البلاد كلها إليَّ"، قال: "البقعة اللي تمشي فيها أحسن لي من داري ومن بلادي". ما هذه المحبة القوية وهو في يوم الإيمان، يوم الإسلام، يوم آمَن.

وبقي عند النبي أيامًا يُعلِّمونه مبادئ الإسلام وتعلَّم. قال: "يا رسول الله، إن قومك أخذوني وأسروني وأنا مُتوجِّه إلى العُمرة، كنت أريد أعتمر". قال: "اذهب الآن إلى العُمرة".

ذهب إلى العُمرة، وصار يطوف بالبيت العتيق، ورأوا وعليه أثر الإسلام، كان يُكلِّمه أحد زعماء قريش يقولون له: "ما هذا؟ أصبأت؟" قال: "ما صبَأت، بل شهدت الحق وآمنت بالحق، صدَّقت أن محمدًا رسولاً من عند الله". قال: "اسكتوا، لا ترفعوا أصواتكم! والله لا تأتيكم من اليمامة" - بلادهم في نجد - "حبَّة طعام". كان القوت حقهم من هناك يجيء، لانه كان ماشي في مكة رزع، فيجيبونه من هناك، "حتى يأذن رسول الله".

وذهب قال لقومه: "ما أحد يبيع على أهل مكة شيئًا؟" تعِبُوا أهل مكة ، عمل عليهم الحصار هذا - الذي يسمونه- وبعد ذلك ما دروا كيف يعملون، من أين يأتون بالأكل؟ وتأذَّوا.

كتبوا للنبي وهم كُفَّار ومحاربين، كتبوا للنبي: يا محمد، أنت بُعِثت بصلة الرحم، والآن قومك وجماعتك منع عليهم صاحبك ثُمامة بن أُثال، فكلِّمه.

لما وصل الخطاب للنبي بسرعة، قال لهم: "اكتبوا لثُمامة". قولوا له: "فُكَّ الميرة عليهم لا تحبس على أحد الميرة والطعام". هذا وإن كانوا كُفَّارًا وإن كانوا... لكن ما في سُنَّته ﷺ يحبس على أحد الغذاء والطعام، لا على حيوان ولا على نبات ولا على إنسان ﷺ، ولو كان حتى كافرًا.

فوصله خطاب النبي، قال: ما دام النبي قال، بيعوا عليهم، فوصلت الميرة إلى مكة.

فالشاهد في أول يوم من أيام إسلامه عشق حتى المدينة، البقعة اللي يجلس فيها النبي، وهكذا.

كان يقول الحبيب علي الحبشي:

"حِبّ طيبة ومن هم وسط طيبة يحلُّون ** واعشق القاع لي سادتي فيها يسيرون"

بركة الأماكن

وبهذا عرفتم المواطن التي تتشرَّف بأهل الله وأهل القُرب من الله تعالى، والبركة التي جعلها الله في بيت المقدس وما حوله، كثرة الأنبياء فيه، هذه أول بركة. ثم كثرة الصالحين والصِّدِّيقين، ثم ما جعل الله له من طيب الهواء ومن طيب الزرع وطيب الأرض وكثرة النبات فيها. (الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

قصة سيدنا موسى والقُرب من الأرض المقدسة

وهكذا تحلُّ البركات. حتى قالوا: سيدنا موسى عليه السلام عند موته قال: "يا رب أَدْنِني من الأرض المقدسة رمية حجر". وكان تنكَّر عليه في بداية الأمر سيدنا عزرائيل، دخل البيت فظنُّه أنه رجل. قال له: "تدخل من غير استئذان؟" لطمه.

وسيدنا عزرائيل تردد ورجع إلى ربه. قال: يا رب، أنا جئت عند عبدك موسى أجله حضره، لكنه لطمني. قال: "ارجع إلى موسى وقُل له: يقول لك ربك: ضع يدك على جلد ثور، وكل شعرة تمسُّها يدك لك بها سَنَة، تبقى عادك في الدنيا".

فجاء واستأذن ودخل. قال له: الله يقول لك كذا. قال: أنا ليس بي فزع من الموت، بعد كل السنين هذه ماذا بعدها موت؟ من الآن أحسن لي ألقى ربي، ما لطمتك الا أني ظننتك رجل دخلت من دون إذن وسط الدار.

فقال: "لكن  - يا رب أَدْنِني من الأرض المقدسة رمية حجر"، لأنه أيام التيه لازال، هو وبني إسرائيل في التيه، أراد يقرب من الأرض المقدسة التي هي أبرك هناك، فقرَّبه الله من الأرض المقدسة، وقبض روحه هناك سيدنا عزرائيل.

وكان قبره هذا الذي ذكره النبي ﷺ في الحديث الصحيح ليلة الإسراء، مرَّ عليه وقال: "مررت ليلة أُسري بي على موسى وهو يُصلِّي في قبره عند الكثيب الأحمر، لو كنت هناك لأريتكم قبره" يقول ﷺ، وهكذا كان طلبه أن يدنو من الأرض المقدسة رمية حجر.

قصة التائب وقربه من أرض الأخيار

وهكذا القُرب من الأراضي، وعندنا في الحديث الصحيح أن ذاك الذي تاب وصدق في توبته من بني إسرائيل، وكان وقع فيه مصائب كبيرة من أكبر الذنوب والمعاصي: قتل النفس - والعياذ بالله - ما شيء بعد الشرك أعظم من قتل النفوس.

ولكن أراد الرجل أن يتوب، جاء إلى عند واحد من غير المُتمكِّنين في العلم، قال له: "أريد أن أتوب". قال له: "ماذا عملت؟" قال: "أنا قتلت تسعة وتسعين". قال: ما عاد لك توبة، ولا تُقبَل منك توبة". قال: ما دام ما شي توبة، نُكمِّل بك المائة، قتله وكمَّل المائة.

لكن بعدها عناية الله حرَّكت قلبه. قال: يمكن ربي يتوب عليَّ، ذهب يقصد عالِم، وجاء عند عالم، قال: "أنا قد قتلت مائة نفس والآن أريد أن أتوب". قال: من يقدر يمنع بينك وبين ربك؟ هل معك صدق بينك وبينه؟ ما أحد يقدر يحول بينك وبين ربك! فعلت ما فعلت، إذا رجعت إليه ما أحد أكرم منه ولا أفضل منه، والمصيبة أن أصرّيت على ذنبك. أما إذا الآن ستتوب، ما أحد يقدر يحول بينك وبين ربك.

قال: "أتوب على يدك" قال: "تُب" توَّبه، لكن قال له: "اسمع، الأرض التي فيها أنت أرض سوء، فيها أشرار كثير، أبعد منها، سأدُلُّك على قرية، في قرية فلانية فيها أخيار، فيها صالحون، فيها أولياء، اذهب عندهم، اجعل باقي عمرك معهم، عسى ربي يرحمك عندهم.

وتب، قال: تبت إلى الله، ولو أحد من أهل القتلى أراد قصاص مني، مُستعد يقتصُّون مني، قال: إذن اصدق مع الله واذهب.

ذهب، أخذ متاعه من القرية هذه وخرج منها، قرية أصحابه الأشرار، يمشي في الطريق، وحينما خرج الموت وصل، قال الرسول ﷺ: فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. تقول ملائكة العذاب: هذا مُجرم وظالم، الآن قد تاب ونريد أَولاً حق الذنوب هذه كلها نُعذِّبه عليها. قالت ملائكة الرحمة: لكنه لقي الله تائب، ويقصد الأخيار يريد عندهم، وكيف نعمل؟

قالوا: أرسلوا مَلَكً يسأل ربكم ماذا نصنع به؟ رجع الملك، قال لهم: يقول الله: قيسوا ما بين الأرضَين، إن كان أقرب إلى أرض الأخيار فلتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان أقرب إلى أرض الأشرار تأخذه ملائكة العذاب، عذِّبوه.

ترون القُرب من أرض الأخيار كيف ينفع! قال: "فقاسوه". الله من رحمته أوحى إلى الأرض هذه: "تقرَّبي" - لأنه كان قريبًا إلى محل الأشرار - لكن الله عندما ذرع الملائكة، قال لهذه تقرَّبي، تقرَّبت. وقال لهذه تبعَّدي، فتبعَّدت؛ فوجدوه أقرب إلى أرض الأخيار بشِبْر.. أخذته ملائكة الرحمة.

قالوا: الحقوق التي عليه في القيامة سيسدِّد الله، وكل الذين قتلهم سيُعطيهم حقَّهم في القيامة ورحمه"، لكن الشاهد قال: "قيسوا ما بين الأرضَين، إن كان أقرب للأرض هذه أو قُرب الأرض هذه".

لذا ما تتعجَّب إذا رأيت من يتكلَّم على مثل تريم وشوارعها وأماكنها، لأنها أرض أخيار، أرض أخيار والقُرب منها إذا هو بصلاح وبنية صالحة ينفع صاحبه، وأما مع البُعد اوالبُغض اوالمخالفة فالأمر يكون أخطر، مثل من يعصي في الحرم ويعصي في الأماكن المقدسة، تكون معصيته أشد عليه والعياذ بالله.

الدعاء

فالحمد لله الذي جمعنا وإياكم في المجامع. جزى الله المُتقدِّمين الذين أسَّسوا هذه المجالس خير الجزاء، وبارك الله في القائمين عليها والذين اقتفوا أثر من قبلهم. 

ونمشي في الطريقة نُتابع في أثرهمْ

الله يُسِرُّ قلوب الأموات، ويُسِرُّ الأحياء بالعطايا الوفيرات إن شاء الله، والصلاح والفلاح لصغيرنا وكبيرنا، وأنه باقي شهر ربيع الأول يمضي علينا ونحن على استقامة وعلى استزادة من الخيرات والصِّلة بالحبيب الأعظم ﷺ.

نترقى فيها وتقوى لنا، حتى لا يكون شيء أحب إلينا من الله ورسوله في قلوبنا، ونتحقَّق بذلك ونحيا على ذلك ونموت على ذلك، ونشاهد الطلعة الغرَّاء والوجه الزين إن شاء الله في البرازخ، ويُعجِّل الله لنا النصيب في الدنيا إن شاء الله.

الله يجمعنا به في الدنيا والبرزخ والآخرة، ولا يُفرِّق بيننا وبينه، الله يقبل منا الجمع وما فيه ومن فيه، ويجعلنا وإياكم ممن يرتضيه ويُقرِّبه ويُدنيه، ويُصلح البلاد والعباد، ويُعجِّل بالفرج للأُمَّة في المشارق والمغارب.

يا مُحوِّل الأحوال، حوِّل حالنا إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفِعل الجُهَّال، وزِدنا من فضلك ما أنت أهله.

والحمد لله رب العالمين.

تاريخ النشر الهجري

25 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

17 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية