(209)
(536)
(568)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ52، في ساحة الأفراح، بحارة دمون، مدينة تريم، ليلة السبت 18 ربيع الأول 1446هـ، بعنوان:
مكانة القيادة النبوية وفوز وسعادة المنقادين لها وخسران الخروج عنها في الدارين
ما يصيب المسلمين من آفات ولا مصائب ظاهرة أو باطنة إلا وسببها:- الخروج عن سنة هذا النبي ﷺ،- وعن الانقياد له،- وضعف الانقياد لقيادته في الأسر والأفكار والعقليات،- واستبدالها بتسليم الزمام: إما لقيادة الأنفس الأمارة والأهواء والشهوات، أو لأبناء جنسهم من البعيدين عن الله ورسوله ﷺ
https://www.youtube.com/live/T9_iBWAqcE8
الحمد لله على توجُّهات القلوب والأرواح إلى باريها من حيث ما أنزل وأوحى وأرسل وبعث، خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله الأمين ﷺ، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
وحكم بالحكم الفصل أنه لا يسعد في الدارين إلا من آمن به واتبعه وأطاعه واقتدى به وسلّم بما جاء به، ولا يخسر في الدنيا ولا في الآخرة إلا كل من خالفه وكذّبه وعانده وخرج عن أمره.
وقال جلّ جلاله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،
وقال: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)،
وقال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)،
وقال: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أي يعرفوا مكان قيادتك التي أنزلناك فيها، أنزله الله في مكان القيادة لعقلاء العالم ولكل مميّز مكلّف في شرق الأرض وغربها، عربًا وعجمًا، صغارًا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا، إنسًا وجنًّا. (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).
ونرى بعد ذلك ما يصيب المسلمين من آفات ولا مصائب ظاهرة أو باطنة إلا وسببها:
الخروج عن سنة هذا النبي وعن الانقياد له،
وضعف الانقياد لقيادته في الأسر والأفكار والعقليات،
واستبدالها بتسليم الزمام إما لقيادة الأنفس الأمّارة والأهواء والشهوات،
أو لأبناء جنسهم من البعيدين عن الله وعن رسوله، المُدّعين بالدعاوي الكثيرة، المتنازعين على قيادة البشرية بغير حق.
والذين يدّعون أن عندهم صلاح البشرية واستقامة أمرها ولو الدنيوي الحسّي، الذي مهما كان زخرفه وصورته إذا لم يتصل بحقيقة معرفة الإنسان لنفسه ومن هو ومن خلقه ولماذا خلقه، فلن يأتي بنتيجة مُجدِيَة في الحياة الدنيا، ولا في الحسيات ولا في الماديات.
ولذلك قولوا لي: أي الحضارات تم نجاحها على الوجه الصحيح فيما يتعلق بصلاح الإنسان في معيشته في الدنيا؟ وأي هذه النظريات الاقتصادية التي نجحت؟ أنظرية الربا والرأسمالية؟ أم نظرية النهب والاشتراكية؟ ولم يزالوا إلى الآن يلهثون وراء تسديد حوائجهم وإكمال نقائصهم، ولا يزال يعيش في وسط بلدانهم وفي أكناف أنظمتهم ذوو الفقر والمسكنة والحاجة والشدة من الجهة المادية، كما يعيش في أكناف أنظمتهم أيضًا مَن يتوفر له المطلب المادي ولكنه يعيش عيشة الضنك والقلق والهم، وكثرة الانتحارات وارتفاع نسبتها في بلدانهم وأوطانهم إلى أيامكم هذه وإلى لياليكم هذه.
وبعض الدول يُضرب بها المثال في وفرة الدخل الفردي، دخل الأفراد، ويضرب بها المثال أيضًا في واقعنا اليوم في كثرة نسبة الانتحار، فلم يكن توفير الدخل المادي مُحققًا لهم سعادة ولا طمأنينة، ولكن يصلون إلى حد يُقرِّرون فيه الانتحار، كما يحصل بوسوسة إبليس لبعض هؤلاء الذين فُتِحت لهم أبواب الطمأنينة والسكينة بالإيمان بالله وبرسوله فلم يتذوقوا حقائقها، وأثّرَ عليهم مُجرد النقص المادي في شيء من الجوانب فأدى بهم أيضًا إلى كوارث نفسية وشؤون وانحلت بهم، مع أنهم لو أبصروا حقيقة ما عندهم لكانوا من أسعد الناس على ظهر الأرض ولو كانوا فقراء.
على أن عجائب ألطاف الله بعد الامتحانات والاختبارات للناس لم تزل سارية، ولا ينتهي أمر المُتقي إلا إلى يسر، ولا يقوم عسر في واقع حياة الناس إلا واكتنفهُ يُسران، ولكن هذا الإغفال والإهمال لأمر الله، وهذا الانسياب والاسترسال وراء دعوات النفوس وتصديق مُدّعي صحة القيادة والطالبين لها والمتصارعين عليها بغير حق، والمذكورون في قول ربكم: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ومن يوحي بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس والجن زخرف القول غرورًا، ثم يتلقفه من يتلقفه فيقع في الزور والغرور، ويخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
فلنتخذ من اجتماعاتنا هذه ولقاءاتنا: جدية وعي وفهم، وعزم وحزم، وأداء وتنفيذ وتطبيق؛ لإرجاع القيادة إلى حيث أراد ورضي وأحب المُكوّن الفاطر المبدئ الخالق المنشئ، مكوّن الأكوان، رافع السماء بغير عمد، باسط الأرض ومُمهدها، الله جل جلاله وتعالى في علاه.
اختار القيادة لنرشد ولنسعد ولننجو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ، التي لا يقوم عليها شخص إلا استفاد: إن كان من أرباب الصدق والإخلاص: فاستفاداته ظاهرة وباطنة ودنيوية وأخروية، وإن لم يكن: فاستفاداته ظاهرة في تخفيف وطأة شدائد الحياة عليه، ودفع كثير من آفاتها وشرورها وبلواها، المتعلقة بصحة الجسد، والمتعلقة بصحة النفس والفكر، والمتعلقة بنوع من الهدوء أو نوع من الطمأنينة.
ولكن درجات المؤمنين هي المرموقة التي يتحقّق عليها وبها سعادة الدارين، والظفر بكنوز القرب من رب العالمين ونيل رضوانه، والرجوع والمآل إلى حياة خلود كلها نعيم، بكل المعاني من كل وجه بما لا تعلمه نفس (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) مما لا أذن سمعت ولا عين نظرت ولا خطر على قلب بشر، لا عين رأت ولا أذن سمعت حقائق هذا النعيم الذي لا يستمر سبعين سنة ولا مئة سنة، ولا مئتين ولا ثلاثمئة ولا ألف ولا مليون ولا مليار من السنين.
وإن هذه المليارات من السنين مُستقبلة لكل الذين يعيشون على ظهر الأرض؛ ليعيشوا فيها إما عيشة الهناء والنعيم وإما عيشة العذاب والجحيم، شاؤوا أم أبوا، كحالهم تمامًا في وجودهم على ظهر الأرض، هل نُدرك على ظهر الأرض واحدًا جاء بترتيبه وتقديره واختياره؟ كما جاؤوا إلى ظهر الأرض بغير اختيار، فسيصيرون إلى بطنها بغير اختيار، وسيُبعثون منها بغير اختيار، وسيحيَون حياة الأبد إما في الجنة وإما في النار من غير اختيار أحد منهم، بل باختيار الذي بيده الأمر، رب القدرة والقهر، ذي الجبروت والعظمة، واسع الرحمة والمغفرة، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو، هو الذي قدّر وهو الذي دبّر.
وكلهم في دعوى الحرية يطلبون الحرية في التجرّي على أوامر، الله ليسقطوا حتى يكونوا أتفه من البهائم في الشهوات، ثم بعد ذلك لا يجدون حُرية لا في تكوينهم ولا في تصويرهم، بل ولا في أنظمة حكوماتهم المتقدمة وحضاراتهم المتطورة، بل قيود في قيود في قيود، وهذا ممنوع وهذا مُرتب عليه كذا، وهذا يُحكم عليه بكذا.
وأي الدول الموجودة في زمانكم المتقدمة المتطورة ما فيها سجون؟ وأي هذه الدول سجونها غير مزدحمة؟ من أجل الخروج على القيود التي وضعوها هم؟ أما الحرية فمعناها عندهم أن تخرج على القيود التي وضعها ربك، التي فيها خيرك ومنفعتك وسعادتك، اخرج عن هذا لتكون حرًا، أما بقية المساحة في العالم احتكم لحكمنا ونظامنا وأنت حر، كيف أنت حر؟ تخضع لحكمنا وتتمرد على حكم الله وأنت حر؟ هذا تفسير الحرية عندهم، ما عندهم والله تفسير آخر، ما يعرفون تفسير الحرية إلا أن أوامر الإله العظيمة التي فيها مصالح العباد تجرؤوا عليها.
أما أوامر الوزارات بل المؤسسات والهيئات حتى نظام الرياضة واللعب لا بد تحتكموا له وتنزلوا تحته، لا أحد يعمل لعبة يقول أنا حر، يقول الحكم في الملعب: قف هنا وتعال، وعليك وحدة، وهزيمة، وضربة جزاء، وغير ذلك من اللعب لأنك خالفت! خالفت؟ انا حر؟ هذا نظام، نظام في اللعب أيضًا، والنظام في القيم والنظام في الشرف والنظام في الكرامة، الحرية أن تتحداه وأن تتخطاه؟ ما هذا التفسير؟ ما هذا التفسير للحريات!
هي تمامًا: كن مستعبدًا لنا ولقوانيننا، وتنكر لربك لتفقد السعادة في الدارين، فلتكون حرًا، هذه الحرية؟ هذا معناها؟ ماشي غير هذا مترجم عندهم، لا والله، خلقنا الله أحرارًا لئلا نكون عبيدًا لبعضنا البعض (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)، أسلمنا لله الحي القيوم الذي خلق، فاستسلموا عندهم لأهوائكم أو شهواتكم أو أنظمة دولكم وبلدانكم فيما خالف أمر الله، فلسنا نحن بصدد الهزيمة والتقييد لحريتنا القويمة القوية الصحيحة لنستسلم لهذه الأنظمة المشؤومة المؤدية إلى الفساد وإلى الهلاك وإلى ما نجنيه ونشاهده اليوم.
كم أشبعوا الدنيا بالكلام عن العدل والحرية والنظام، ومُفسرة ومترجمة اليوم بما يحدث في غزة وحدها وحواليها، والذي حدث قبله في السودان ما هو؟ والذي حدث قبله في العراق ما هو؟ والذي حدث قبله في ليبيا ما هو؟ والذي حدث في الشام ما هو؟ وكله تحت نظر الحضارة المتقدمة وتخطيطاتها، فهذا ما عندهم، هذا ما عندهم، ولن يملكوا شيئًا غير هذا، لكن عند الله الفرج وعند الله المخرج.
لا بد أن نعود إلى القيادة التي توجب للمُنقاد لها حقائق السعادة، طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ التي في عظمتها وجلالها ليست بالتمني ولا بالضعف ولا بإدخال الهوى، ولا تُنال إلا (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، (حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
والمشروعات لنا من الصلاة والطهارة والزكاة والصوم والحج والصدق، وبر الوالدين والذكر والاجتماعات والتذكير؛ كلها لنصل إلى تحقيق درجة (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وننتزع من الهوى، وعندها ندرك حقائق السعادة في الدنيا قبل الآخرة.
وإني أرى أن سيدنا بلال بن رباح عليه رحمة الله تعالى أيام كان يُضرب ويُعذب بمكة كان أسعد من أمية بن خلف الذي يضربه، والله كان أسعد، وكان أسعد من ملوك الأرض في تلك الأيام أيام تعذيبه، والذي سُئل: ما كنت تحس بألم التعذيب وقعدت تترنم "أحد أحد"؟ قال: "خلطت ألم تعذيبهم بحلاوة الإيمان فزادت حلاوة الإيمان"، هو في تلك الأيام، ثم في الدنيا قبل الآخرة ما مات حتى جاء وجهر بكلمة التوحيد والأذان فوق سطح الكعبة، وما مرت الأيام حتى جاء الذي كان يضربه ويعذبه فقُتل على يده في غزوة بدر.
ومات على السعادة وقال عند موته: "واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه". ما أسعده في الحياة وما أسعده عند الوفاة وما أسعده يوم الموافاة، فقل لي من يُقارب سعادة بلال هذا في تلك الأيام؟ مَن مِن ملوك الأرض كانت سعادته تقرب من سعادة بلال هذا؟ قل لي من منهم سعيد؟
كل من لم يؤمن منهم برسول الله شقي في الحياة ومن يوم توفي وهو في عذاب إلى الساعة هذه التي نتكلم فيها، والله ما سعدوا، سعادة بلال كانت هي الصحيحة، وسعادة ياسر الذي قُتل في مكة أيضًا، وسعادة ابنه عمار عليه رضوان الله، وسعادة سمية أول شهيد في دين الحق والهدى بعد بعثة نبينا محمد ﷺ، سمية أم عمار هي السعيدة، هي السعيدة.
إذن فلا يُضحك علينا بتفسير السعادات، إذا السعادات مأكولات مشروبات؟ الحيوانات أسعد منا إذن، لا والله، ولا الكفار أسعد منا، بل (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ۚ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
إذن فلنعُد كما سمعتم في كلمة الأعيان لهذه المنطقة، التي سمعتم من كلام الأخ مصعب أنه عن ذوق وحقيقة ومُعاينة لأوضاع الناس في مختلف البلاد، محتاجون لهذا، لماذا؟ لأن هذا أمر جاء من عند الله، حمله المنتخب من قبل الله، خاتم رسل الله محمد بن عبد الله ﷺ، وعلمنا عليه مكارم، علمنا عليه وبه مناقب هي الشرف في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وهي التي كلما جئنا مثل هذه الحارة تذكرنا ما كان يقول كثير من آبائنا وأمهاتنا عما كان يسود المنطقة من المحبة والأخوة والتراحم بينهم البين، ومن عرفنا أيضًا من أفراد منهم وأعيان لهم همة، ولهم سعي ولهم فكر في مصلحة العباد بما استطاعوا، تأثرًا بالمواريث التي جاءت من يد صاحب النبوة ﷺ ورّثها هذه الأمة.
سمعتم ما يصيب الأمة من هذه الدعوات، كم أغروا الشعوب بالدول والدول بالشعوب، وكم حاربوا بين الشعوب والشعوب وبين الدول والدول، وكم انتهكوا بذلك حرمات، وكم أقاموا كثيرًا من اقتصادهم على صناعة الأسلحة ليشتريها منهم المسلمون يضربون بعضهم البعض، ليزدادوا ضعفًا وليزدادوا حاجة إلى أسلحتهم ويُجددونها، حتى إذا مرت فترة وركد سوق السلاح عندهم أحدثوا حروبًا جديدة لتنفتح مصانع الأسلحة من جديد، وليجدوا من جديد نهب ثروات هذه الأمة التي سلّمت قيادها للكافر، ومن سلّم قياده للكافر فهو الخاسر في الدنيا والآخرة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)، فإذا صدقتم (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
فلنرجع إلى تسليم الزمام للقائد المُرتضى من قبل الخالق الواحد جل جلاله، إلى محمد بن عبد الله ﷺ بالصدق والإخلاص لنكون من أتباعه ونُحشر في زمرته، والتي في ترتيبها قال لسادتنا الأنصار أوائل الأمة، في عالم الحس والدنيا "قد تجدون أثرة عليكم"، ما يُسلمون إليكم شيء من مظاهر الإمارة ولا الولاية في أقطار الأرض، يقول لهم ﷺ لكن بما آتاكم الله من هذا الإيمان والخير اصبروا ولا تبالوا بذلك، فإن المآل الأكبر منتظركم، قال: "وإني منتظركم على الحوض، فاصبروا حتى تلقوني"، ووفى الأنصار عليهم رضوان الله بما أرشدهم إليه المختار ﷺ.
ولو كانت مظاهر هذه الإمارات فيها الخير الحقيقي لكان الأولى بها الأنبياء، والأنبياء يُبعثون في الأمم، والأمراء في الحكم الظاهر كفار ومشركون وملحدون، وينازعون هذا نمرود وهذا فرعون وهذا قوم عاد وهذا قوم ثمود، ويؤذون الأنبياء والحكم مع الكفار، لو كان الشرف الحكم لكان مع الأنبياء لا مع الكفار، لكن ليس فيه حقيقة الشرف وليس فيه حقيقة العزة، وكلما قدروا عليه حكموا بِحُكم الله فكان لهم الشرف، لأنهم لا يُحَكِّمون أهواء ولا أنفُس ولا باطلا بل عدلٌ خالص، "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
فالله يحفظ علينا حقيقة هذا الإيمان والمحبة والمودة ويصوننا مِن أن يتسلط علينا الأهواء أو الأنفس أو شياطين الإنس والجن، لأننا نجد كثيرًا من المسلمين ما عادوا مجرد أهوائهم - مساكين - هم وأهواؤهم وشهواتهم استحكمت لأهواء غيرهم، أهواء غيرهم شرعوا ونظموا لهم وقالوا: افعل ولا تفعل، بدل الرب تعالى، افعل ولا تفعل؟! ومشوا وراهم حتى ضرّوا بقرابتهم ولا بالوا، حتى سفكوا دماء جيرانهم ولا بالوا، مُقابل أن يُرضي هوى ذاك الذي رسم له الخطة مسكين! وبعد ذلك لا يفيده حقيقة الفائدة ولا يسعده السعادة، ولا يحضر عند موته، ولا يدخل معه قبرهم ولا يشفع له في القيامة، ولا يحصل من وراه إلا على جحيم وبلاء والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وهذا جزاء من آثر الحياة الدنيا على الآخرة والعياذ بالله (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
جعل الله لنا في شهر ذكرى ميلاد نبينا تولّدات لأنوار اليقين والإيمان؛ تعتمر بها قلوبنا وتنشرح بها صدورنا، وتتنور بها عقولنا وتتصفى بها سرائرنا، ونصدُق مع ربنا في تسليم القيادة لسيد المرسلين وخاتم النبيين، فيكون هوانا وهوى أهالينا وهوى أهل ديارنا تبعًا لما جاء به، وهو القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".
اللهم اجعل هوانا تبعًا لما جاء به رسولك، وثبتنا على طريقه، وبارك لنا في خاتمة شهر ذكرى ميلاده، واجعلنا من أهل محبتك ومحبته ووِدادك ووِداده، حتى تسعدنا بمرافقته في البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة، لا تبعدنا عنه ولا تطردنا من حضرته وأوردنا وهنئنا بالورود على حوضه المورود، في يوم يُذاد عن حوضه كثير ممن آثر الحياة الدنيا، وإذا تأثر عليهم وقال: "أمتي"، قيل له: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، قال: "فأقول: سحقًا سحقًا" لمن أبى الرحمة وأبى النور وأبى الخير ورفض الهدى واتبع طريق الهوى والطغيان على ظهر الأرض، وما دام له هوى ولا طغيان إلا أزمنة قليلة قصيرة، أورثتهُ هلكة الأبد وخسارة الأبد والعياذ بالله.
فيا ربِّ ثبتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملةِ
وحقِّقنا بحقائق التعاون على طاعتك وما يرضيك، وبارك في أحبابنا وما يقومون به من أعمال، ومِن خروج في سبيلك، ومن دعوة إليك، ومن تواصي بالحق والصبر، وارزقنا بذلك النجاة من كل خُسر، وربح الدرجات العلى وواسع الأجر، يا عالم السر والجهر يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
19 ربيع الأول 1446