انتشال الإنسان وتخليصه من توهم الكذب والخيال بخالص التوحيد وصحيح الوعي للوحي الإلهي

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ64، في ساحة مسجد الزهرة، بحارة النويدرة، بمدينة تريم، ليلة السبت 12 ربيع الثاني 1447هـ، بعنوان:

انتشال الإنسان وتخليصه من توهم الكذب والخيال بخالص التوحيد وصحيح الوعي للوحي الإلهي

لتحميل نسخة pdf 

 

نص المحاضرة:

الحمد لله من بيده الأمر كله وإليه يُرجع الأمر كله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً ورباً شاهداً، ونحن له مسلمون، نعبده ونوحّده ونُبجِّله ونُجِلّه.

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا محمداً عبد الله، ورسوله وحبيبه وصفيّه ونبيّه ونجيّه وخليله، جمع فيه المحامد والفضائل، وجعله الختم للنبوات والرسائل.

فصلِّ اللهم وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك الجامع للكمالات الإنسانية، الواسع في المشاهد الروحية، المُجتبى المختار محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والرُّسل، أئمة الدعاة والهُداة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الحواجز بين الخلق والحقيقة

أما بعد، فإنّ في حكمة الله تبارك وتعالى ما جعل من الحواجب والحواجز والستارات بأغشية الأوهام والظنون والخيالات على الحقائق الواضحات الصريحات. 

وجعل في ذلك اختباراً لمن آتاهم القدرات وآتاهم الأسماع والأبصار والأفئدة، ليعوا الحقيقة ويَسلَموا من ورطة الوقوع في الظن والوهم الكاذب، الذي يعيش عليه أكثر الخلائق من المُكلّفين على ظهر هذه الأرض؛ لعدم استجابتهم لنداء إلههم، وعدم تقبُّلهم لأسباب الخروج من الوهم والظَّنّ والخيال إلى إدراك الحقيقة، وإلى إدراك عظمة الخالق، وإلى إدراك المقصود من الوجود والحياة على ظهر الأرض. 

وإلى إدراك ما يحصل بعد الخروج من هذه الأرض ومفارقة الأرواح للأجساد، الذي هو أمر حتمي يخضع له الجميع من مؤمن وكافر وملحد وفاسق ومجرم، وصغير وكبير، كلهم يخضعون لقانون المُكَوِّن: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

لا يستطيع فرد منهم ولا هيئة ولا مجموعة ولا شعب ولا دول أن ترفع هذا الحُكم، أن تُعطّل هذا النظام وهذا الأمر من ربّ الأنام جل جلاله وتعالى في علاه. الكل مُنقاد خاضع مستسلم لذلك، وهذا مِن معنى السجود الكُره بالنسبة لمن لم يدركوا الحقيقة ويسجدوا لله طوعاً ومحبة، فهم ساجدون لا يستطيعون تغيير حُكمه ولا نقض ما أبرم جل جلاله وتعالى في علاه.

الغفلة عن البعث والحساب

ومع مشاهدتهم لهذا الأمر فكأنهم لا يؤمنون به، ولا يُحسنون الفكرة فيما وراءه، والنظر فيما أوحى الله وبلَّغ أنه يُعيدهم كما بدأهم ويُرجعهم كما فطرهم وأنشأهم جل جلاله. وبيَّن ضلال أهل الخيال والوهم: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ).

بِكُلّ ما تحمله من رأسك إلى قدمك من نطفة: لحمك وعظامك، وشعرك وبشرتك، وعروقك وخلاياك، سمعك وبصرك، وأجهزتك الكثيرة وخلاياك الواسعة، كلها من نطفة؛ سبحان الذي كوَّنك! (مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، يأتي إلى الخصام مُبِيناً في الخصام كأنه الذي خلق نفسه، وكأنه الذي كوَّن نفسه، وهو الذي يُقرِّر مستقبل نفسه وينسى خالقه.

(قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، يا صاحب الخيال، يا صاحب الوهم، يا صاحب الظن، كيف جاءت؟ إذا حُدِّثتَ أنها تعود فالعودة أيسَر مِن البدء، لكن كيف ابتُدِئَت؟ كيف جاءت؟ أتأتيك من النطفة ثم تقول كيف أعود؟ ما هذا الظن والوهم وباطل الخيال الكاذب؟ الحُجة أمامك واضحة، (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

تحذير من اتّباع أهل الضلال

ولا يزال في أنواع ذلك الخيال والضلال مُحذِّراً إلهنا جل جلاله من أن ننساق إلى الاستماع لما يُلقون علينا، وما ينشرون بيننا، وما يطرحون بالأوساط البشرية على ظهر الأرض، وقال: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّه إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

هم في الخرص والوهم محبوسون هناك، لكن الله يُحدّثك عن الحقيقة ويُرسل إليك خِيار الخليقة الذين خُتموا بالمصطفى العُروة الوثيقة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

مشاعرك نحو النبي محمد

أول ما تُحسّ به إذا صحَّ إيمانك: مشاعرك نحو هذا المُبلِّغ عن الله بأمر الله وإذن الله، والمُنتخَب من قِبَل رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، ليكون الهادي والدالّ والمبعوث رحمةً للعالمين، وإلى الإنس والجن إلى أن تقوم الساعة بأمر ربه جل جلاله وتعالى في علاه.

والمُبلّغ عن الله ما أمره بتبليغه في عدد من السنوات لا تتجاوز الثلاث والعشرين سنة، من حين نزول الوحي إلى أن فارق هذه الحياة وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وكما سمعتم.. 

وما مضى حتى أقام الدينا ** وصار سهلاً واضحاً مُبيناً

فلم تخف أمته فتونا ** بل عُصِموا في الجمع عن ضلالِ

لا يجتمعون على الضلالة أبداً! 

الإجماع حُجّة شرعية

ومن هنا أيضاً كان في الحُجَج الشرعية ما أقرّه الكتاب والسُنّة من جمع العلماء، إذا أجمع العلماء والمجتهدون في أي عصر من العصور على أمر، كان ذلك حُجّة من الحُجج، لا يُعتبر فيه الخلاف فيمن بعدهم، ولا يضرّ فيه الخلاف قبلهم.

وقال تعالى في الإشارة إلى ذلك: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) - إجماعهم - (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

ويقول ﷺ: "لن تجتمع أُمّتي على ضلالة" ، لن تجتمع أُمّتي على ضلالة!

سعة الصدر والتعايش مع الآخرين

بذلك أيضاً صار فيما حملتهُ رسالات الحق تعالى لأنبيائه على ظهر الأرض أن تتّسع صدور المؤمنين وقلوبهم لبعضهم البعض أولاً، فيعيشوا في نور إيمانهم وتوحيدهم وشريعة ربهم واتّباعهم للرُّسل إخواناً متحابّين.

واتّساعهم ثانياً لأصناف مَن على ظهر الأرض من مختلف الطوائف والاتجاهات المتباينات، بحيث لا يعتدون على أحد، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا يُقاتلون إلا من قاتل واعتدى وصدّ عن سبيل الهُدى.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا).

(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ).

تولّيهم بنصرتهم ومساندتهم مُحرّمة، لا وجه لها في الشرع ولا تتّفِق مع الإيمان أصلاً.

أخلاقيات الحرب في الإسلام

ومع ذلك فحتى الذين حاربوا وأخرجوا المؤمنين من ديارهم، قابلتهم الرسالة وقتالهم لهم بأن لا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا مُدبراً، ولا تُمثّلوا بأحد من القتلى، رعايةً وأداء للحقوق لمجرّد كونه إنساناً مع كونه محارباً ومقاتلاً، وما نعلم نظاماً من الأنظمة التي تدَّعي الإنسانية وتدَّعي العدل وتدَّعي الحرية فيها هذا المستوى قط!

نحن نرى الذين في زماننا ممّن يتشدّقون بهذه الشعارات هم الذين يتولّون الدفع بالمجرمين والظالمين أن يستمرِّوا في إجرامهم وظلمهم وعدوانهم وسفكهم الدماء وتهديمهم المنازل، بل والضرب بالطائرات والمُسيّرات حتى على الخيام، حتى على خيام النازحين! غاية الظلم والإجرام، فجميع شعاراتهم كذب في كذب، والحق عند الأنبياء ومَن صدق في اتّباعهم.

رحمة النبي ﷺ حتى بأعدائه

حتى من عاداهم، وإذا قيل لرسول الله: ادعُ عليهم، قال: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". ولمّا تمكَّن منهم في مكة قال: "اذهبوا فأنتم الطُلقاء".

يا رب صلِّ على خير الخلق خَلقاً وخُلُقاً، صلوات ربي وسلامه عليه، والقدوة العُظمى لكل من اتّقى ولكل من ارتقى.

تحريف الشيطان بالظن والوهم

هذه الحقيقة التي جاء بها الرُّسل، يعمل الشيطان على الظن والوهم في كثير من أتباع الرُّسل لِيَحرفهم عمّا جاء به المرسلون، فإما يُوالون أعداء الله وينصرونهم على مخالفة شرع الله تبارك وتعالى.

والحق يقول: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ويقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) - حارب وعاند وآذى وصدّ عن سبيل الله واعتدى - (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنْهُ).

فرق بين البِرّ والموالاة

وإما وَهُمْ في ذلك يتخيَّلون خيالات أنّ هذا إلا من الإحسان وهذا من البِرّ والقسط.. فرق كبير بين البِرّ والقسط لمن لم يُقاتل، وبين الموادّة وبين الولاء، فيعيش في هذا الخيال يُوالي أعداء الله، حتى ربما سكت عن جرائمهم، وربما لم يدفع عن المظلوم وهو يقدر على ما يقدر عليه، وربما وربما وربما... فهم مسلمون ولكن يعيشون في خيال إبليسي خُيِّلَ إليهم والوا به أعداء الله، وربما عادوا به بعضهم بعضاً من المؤمنين.

التفرّق والبغضاء بين المؤمنين

منهم من يخرج أيضاً بعد البيان فيما جاء به المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم إلى وجوب الأُخوّة الإيمانية، فيُبرِّر لنفسه أن يُبغض هذا المسلم، وأن يؤذي هذا المسلم، وأن يكره هذا المسلم، وأن يتحامَل على هذا المسلم، لأنه لم يُوافقه في رأي أو في هوى أو في مظهر أو في مذهب أو في سياسة، ويظنّ أنه بذلك صاحب دين!

ما أعجب الوهم الذي أنت فيه! هذا دين؟ البغضاء والشحناء دين الشيطان، ليست دين النبي محمد، ليست دين الأنبياء، ليست دين الحق، هذا الكفر، هذا الضلال! ما جاء بالبغضاء والشحناء نبيّ ولا مُرسل من آدم إلى محمد ﷺ. ما أحد منهم بُعث بتباغض المؤمنين بينهم البين ولا تدابرهم، ولا أُجيز إذا واحد خالفك في رأي أن تبغضه وتكرهه أو تُقاطعه، فضلاً عن أن تؤذيه، فضلاً عن أن تستحِلّ عرضه أو ماله أو تُقاتله.

بل في النص الصريح من صاحب الرسالة: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فأيّ دين هذا يؤدّي إلى النار؟ والله ما هو دين، لكن صاحبه مُتخيِّل أنه صاحب دين.

الخوارج وضلالهم

منهم الذين حملوا السيوف في وجوه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويعتقدون أنه دين! دين ماذا؟ دين مَن؟ دين بأي آية؟ دين بأي حديث؟ دين بليِّ النصوص واللعب فيها تبعاً للوهم والخيال، تخيّلوا عن الدين ما ليس منه.

فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، سيدنا علي ومن معه، قاتلوهم وظنّوا أنهم يتقرّبون إلى الله بقتالهم، بقتال من؟ ورأوا أن ذلك هو الدين.

وجاء بعض الصحابة عند طائفة منهم - لأنه كان في الغزو في سبيل الله، رجع إلى بلاد المسلمين، سمع الأذان، فرح له مدة ما سمع الأذان، فأقبل إلى الناحية التي فيها الأذان - وجد من هذه الطائفة أرباب الخيالات: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته". نظروا تجاهه رأوا وجهه ليس منهم: "لا عليك السلام! ألستم إخواني المسلمين؟"، "بل أنت أخو الشياطين!" من؟ الشياطين هم السابقون من المهاجرين والأنصار؟! يعني من أثنى الله عليهم في كتابه تحوّلوا شياطين؟!

ما الخيال هذا؟ يُضادون بالخيال نصوصاً صريحة، ما كأنهم يرونها ولا كأنهم يقرؤونها. شياطين، شياطين! لكن ربي يقول لك: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)، تقول لي شياطين؟! ما يعرف شيء، ولا يعرف آية، ولا يعرف معنى!

قال لهم سيدنا ابن عباس: "عمدتم إلى الآيات التي نزلت في المشركين فحوّلتموها إلى المؤمنين، إلى خِيار المؤمنين الذين قاتلوا المشركين مع رسول الله ﷺ"، خيال، وَهم وظن وراء إبليس والعياذ بالله تعالى.

رآهم والغرابة هذه، قال: "ألا ترضَون منّي بما رضي به منّي رسول الله يوم جئت وكنت مشركاً كافراً"، كنت كافر مشرك.. قالوا: "بماذا رضي منك؟" قال: "رضي منّي بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". قالوا: "لا!" عندهم النبي أيضاً ما هو قدوة سواء! هم أحسن في فهم الدين مننا؟! أعوذ بالله! وَهْم، وَهْم وظن وخيال! وفوقه قراءة وصلاة.. والنار أمامهم بغير شك، ولا قُرب لهم من الله ولا من رسوله.

وحقّ عليهم ما أخبر الصادق ﷺ: "يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم وقراءته عند قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، ثم لا يعودون إليه، لو أدركتهم لقتلتهم"، يقول صلى الله عليه وسلم، ناس بعيدين عن الدين ولكن مظهرهم مظهر الدين، أعوذ بالله من غضب الله!

هذا الذي تولّى قتل سيدنا علي كان في جبهته أثر من كثرة طول السجود ظاهر على بشرته، يقوم كثير في الليل، ثم هو بنصّ كلام صاحب الرسالة أشقى الآخرين، ويُعِدّ نفسه المُتديّن الكبير! ويريد يتقرّب إلى الله، منهم ثلاثة: واحد بقتل معاوية، وواحد بقتل عمرو بن العاص، وواحد بقتل علي بن أبي طالب، أنه بقتل هؤلاء دين! دين ماذا؟ دين ماذا؟ سنخلّص الأمة، سنُصلح الأمة؟ اقتلوا هذا! تقتلون؟! صحابة رأوا رسول الله وأنتم ما رأيتموه، سمعوه وأنتم ما سمعتموه، والآن فهمكم أحسن منهم وعلمكم؟ هذا الخيال، هذا الوهم، هذا الضلال الذي يعيشون فيه والعياذ بالله تبارك وتعالى.

موقف علي رضي الله عنه من الخوارج

وصاروا بمثل هذا الحال، لكن انظر الذين فهموا حقيقة الدين. قالوا لسيدنا علي - الذين قاتلوه من هذا الصنف: "أكُفّار هم؟" قال: "لا، بل من الكفر فرّوا". يعني ما يحكم في الظاهر بكفرهم. قالوا: "أمُنافقون هم؟" قال: "إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً"، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً. كان يذكر صوري، ما هو في حقيقة، قالوا: "فما نُسمّيهم؟" لا رضيت تُسمّيهم كُفّار،  رجل صاحب دين، رجل صاحب حقيقة ما عنده وهم ولا خيال، ولا رضيت تسمّيهم كفار ولا رضيت تسميهم منافقين، ماذا نُسمّيهم؟، قال: "إخوانُنا بَغَوا علينا"، بُغاة، إخواننا بَغَوا علينا!

 لأنه يعرف هذه الكلمة يُخرجها، ما عليه تَبِعة وراءها، وجهه أبيض أمام الله سبحانه وتعالى، ما يُخرج كلمة بعد ذلك تكون عليه عذاب في الآخرة. رجل علم ودين وحق، رجل إدراك للحقيقة.

والصنف الثاني: تكفير تكفير، وتضليل تضليل، وتقتيل تقتيل، وهكذا! إلى حد أنّ بعض الصحابة أيضاً أراد أن يتخلّص منهم باستدراجهم بأمر يعلم أنه كذب، قالوا: من أنت؟! وهو في نظرهم.. قال لهم: مُشرك - وهو توحيده أعظم من توحيدهم - قال: مشرك، لكن أريد أسمع منكم كلام الله، لأن الله يقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)". فقالوا: إذن اجلس نقرأ عليك القرآن، هو أعرف منهم بالقرآن!

جلسوا يقرؤون، قال: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، قالوا: وصِّلوه وخلّوه، وتخلّص منهم، وهو أعرف بالقرآن منهم، وهو المُوَحّد قبلهم، ولكن هذه عقليّاتهم: وهم وخيال، وهم وخيال بعيد من الحقيقة نهائياً، ومشى معهم على الوهم والخيال حتى يتخلّص مِن ظلمهم وسفكهم للدم بغير حق، لا إله إلا الله!

التعصّب والمحاباة

وهكذا فتأتي الخيالات لإبليس حول ما بُعِث به الأنبياء، فيستخدم ناساً ممّن يُعدّون أنفسهم أتباع الأنبياء في مُضادّة ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وإما أن يُحوّلها إلى عصبية: هذا لأنه من قبيلته، أو من حزبه، أو من بلاده، أو بينه وبينه تجارة، خطأ صواب! وهذا الثاني لا، يعمل مثل هذا، نضرب هذا ونترك هذا.. وما هذا؟ قالوا: دين، احترام للجار، وهذا غيرة لدين الله، والغيرة هنا والمداهنة هنا وهو دين؟! كيف يكون دين بهذه الصورة؟! لا إله إلا الله.

قصة مصعب بن عمير في بدر

ولكن كان أبو عزيز، من سادتنا الصحابة في غزوة بدر، كان أخوه في المؤمنين نظر، وجد بعض الصحابة يأسرون أخوه هذا، قال: "اشدُد وطأتك عليه - يقول للصحابي - فإنّ أُمّه غَنيّة، وإن طلب رسول الله فداء تفديه بمال ينفع المسلمين". نظر هذا، وجده أخوه، قال له: "أهذه وساطتك بأخيك؟!" قال: هذا أخي دونك! هؤلاء إخواني المسلمون، ليس أنت، أنت تُقاتل رسول الله وتقول لك إنك أخي؟ من أين أخي؟ النَّسَب هذا الذي معاك الطيني هذا؟ ذهب، ما له اعتبار أمام دين الله، أمام منهج الله جل جلاله وتعالى في علاه، هذه حقيقة الإيمان.

تحريش الشيطان بين المؤمنين

وهكذا كم تدخل الخيالات والضلالات حتى يتحوّل الواحد من المسلمين عنصراً بيد إبليس ينشر فكره ويقوِّم مشروعه، ما مشروعه؟ مشروعه بعدما أَيِسَ أن مُصلٍّ من أتباع محمد يُشرك بالله ويعبد غير الله، فما قدر يُحصّل هذا.

لأنه كما قال ﷺ: "إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المُصلّون في جزيرة العرب"، من الذي قال؟ النبي محمد. فيجيء عند المسلمين يقول مشرك، مشرك مشرك، نقول: يا أخي، اخرج من الوهم! الذي بيّن نزاهة المُصَلِّين عن الشرك محمد! محمد ينطق بالحق: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).

 أنت من أين جِئت بوهمك هذا؟ قال يعمل كذا.. يعمل كذا أو ما يعمل كذا! هذا مُنزَّه عن الشرك على لسان رسول الله، فما تخيّلته شِرك ليس بشِرك، ومن أين تُقيم ميزانك أنت إذا ستُضادّ الكلام الصريح من صاحب النبوة؟ من أين جاء الميزان؟ من أين تعرف التوحيد من الشرك إذاً؟

"إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المُصلّون في جزيرة العرب"، في صحيح البخاري: "أما إني لا أخاف أن تُشركوا من بعدي! ما أخاف عليكم الشرك الأكبر هذا، لكن أخاف المشكلة الثانية هذه الأوهام:" أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها" - بنفس نوعية التنافس الوبيء السيّئ الذي كان عند الأُمم السابقة - "وأنتم تعملون مثلهم، "فتُهلككم كما أهلكتهم". هذا الذي تخوّفه علينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال: "فإن يطمع في شيء"، يعمل له مشروع ثاني، مشروع دعوة المسلمين للشرك عاجز عنه، معه مشروع ثاني:" فإن يطمع في شيء ففي التحريش بينهم". وهذا عنصر يعمل نفسه تماماً يقوِّم مشروع الشيطان! ويدّعي أنه عاقل ومثقّف أو حزبي وممتاز وواعي فاهم، ماذا يعمل في واقعه في المجتمع، واقعه في البلد، واقعه في حال الناس؟ أنه يُحرِّش، وينشر المشروع التحريش الإبليسي تماماً.

الكذب والتحريش بين الناس

بسم الله! حتى بعضهم تخيّل أنه ما دام في مصلحة حزبه - وحزبه هو الدين! وكيف الحزب يتحوَّل هو الدين؟! الدين وحي نزل على محمد، في أوامر ونواهي من الله، يُروى من أسانيد الثقات الأثبات الصادقين الواعين، هذا الدين، ليس حزبك ولا جماعتك هو الدين! - يتخيّل أنه ما دام هذا يُخالف الحزب فيجوز يُحرّش عليه حتى بالكذب!

كيف يُحرّش عليه بالكذب؟! وبعضهم يعملها مِهنة له ووظيفة يتقاضى عليها ما يتقاضى. قال أحدهم: كنت جالساً عند واحد، ودخلوا كم من نفر من قبيلة، فيتكلّمون معه وخرج، لما خرجوا جاء خصومهم اثنين من نفس القبيلة دخلوا، جلس يكلمهم قالوا له: ما يقول فلان عنكم كذا كذا! قالوا يقول كذا وكذا! لما خرجوا قال له: يا أخي، أنا كنت عندك، ما قال هذا الكلام! قال: سرّ المِهنة! سرّ المِهنة يكذب؟ يُحارش بينهم؟ يجيء بكلام عن ذاك ما قاله، وذاك كان حاضر! وقال: دخل عندك ولا قال كذا، كيف تقول له إنه قال إنكم كذا وكذا؟! قال: سرّ المِهنة حقي هذا!  أعوذ بالله، ومهنة وبعد ذلك تضيِّع فيها الدين والرب ولا عاد تخاف من عذاب ولا من آخرة؟! أي مِهنة هذه؟!

ويعيشون في الوهم والخيال، لما تنكشف الستارة عند الغرغرة يبكون، ما يفيد البكاء، يندمون، ما يفيد الندم! (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) - يقول الله الأماني ما هي أمانياتكم  ولا أماني أهل الكتاب، يقول: إن الله لن يُعذّبنا - (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، لا أحد سيشفع لك، حزب ولا حكومة ولا هيئة ولا شركة تعمل لصالحها.

قصة عن الغش في التجارة

قال بعض الذين درسوا قريباً علوم الاقتصاد في بعض دول أوروبا، قال: في أثناء الحِصص جابوا لنا مرّة محاضرة عن العدل والصدق والأمانة، قال أعجبنا الكلام، قلت ما شاء الله هذا وهم كُفّار أحسن من كثير من المسلمين!

قال: في أثناء الدورة نفسها قبل التخرّج، جاء المحاضر يقول: "كل الذي قلنا لكم في ذاك، هذا حِبر على ورق وصورة وكلمات تتظاهرون بها، ولكن ستنجحون في التجارة أبعد هذا، مصلحة الشركة التي تشتغل فيها مُقدّمة، اكذب واخدع وغشّ ما دام في مصلحة الشركة! قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! قال: وإلا لن تنجحوا في أي مشروع. وذلك ماذا؟ ذاك الذي جِئنا به الكلام الأول ذاك فقط صورة، تظاهروا به، خلّوه هنا في اللسان.

ما الكلام هذا؟ اشتدّ الكلام عليه، وهم هكذا يعيشون! نعوذ بالله! مَن لم يدخل إلى قلبه نور لا إله إلا الله يعيش في الضلال، ويُقدّم الوهم والخيال، ويبعد عن الحقيقة.

الحقيقة في لا إله إلا الله

الحقيقة في لا إله إلا الله، قال الله لخير الخليقة: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

إذن، فيجب أن نعلم مُهمّاتنا، نكون أنصاراً لرسول الله ﷺ، نجمع القلوب، قال: "ألم آتكم ضُلّالاً فهداكم الله بي؟ ألم آتكم متفرّقين فجمعكم الله بي؟" والله يُذكّرنا عن هذه النعمة وأنها هي حقيقة الدين، يقول: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا).

المشروع الإبليسي

وهكذا صار الآن كثير من عناصر المسلمين وراء المشروع الإبليسي تماماً، أفضل أهل بلاده وخير أهل بلاده مستعد يكذب عليه، ومستعد يُقابله بصورة ويعمل تخطيطاً من ورائه بصورة ثانية، وهو يدّعي أنه على دين!

والدين: شركم ذا الوجهين! مَن كان له وجهان في الدنيا جاء يوم القيامة وله وجهان من نار ولسانان من نار،  أي دين هذا؟! ما يتأتّى يكون دين يا أخي! هذا مصيبة، هذا بُعد عن الله، هذا طرد، هذا عذاب! ولكن خيال أنه دين! سينصر الدين.

يا أخي اصدق مع الله! يقول المُذكّرون كان عندنا في البلد، يقول: الله ما هو مقمرة، يعني ما هو واحد تقدر تخدعه، تخادع مَن؟ تُغالط مَن؟ (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَىٰ)؟! 

وإذا جاءوا يوم القيامة يكذبون ويقولون: يا ربنا ما بلغنا رسولٌ، يا ربنا كذا، (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)! كما كانوا يحلفون بكذب يبدأون يمشّون، يظنّون أنه سيمشي في الآخرة بعد ذلك! (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

المؤمنون، المؤمنون الذين حفظوا ولائهم لله ولرسوله، ولا يُوادّون من يُضادّ دين الله من صغير ولا من كبير، (أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

جند محمد ومشروعه

المجتمع عندكم قد تأثّر بأخيار من عهد الصحابة ومن بعدهم، وصاروا عناصر لجمع الشامل وللتأليف، وكانت لهم أخلاق ومكارم، ومضت عليها قرون، إذا ضعُفت هنا قويت وجاء التجديد لها، إلى ما بقي عندكم من هذه القِيَم.

ولا تزال يتردّد عليكم دعوات تجيء من الشرق والغرب تُحوّلكم إلى الصف الثاني، تقويم مشروع إبليس، فالحذر! أنت مسؤول عن نفسك، أنت مسؤول عن أهلك، أنت مسؤول عن أولادك، لا يتحوّلون من جُند محمد ومشروعه إلى جُند إبليس ومشروعه، يتحوّلون عناصر يُباعدون بين الناس، يُباغضون بين الناس، وأنت ساكت!

ابقى وإياهم في صفّ محمد: إذا ما قاربتُم لا تُباعدوا، إذا ما جمعتم لا تُفرّقوا، واصبر واصدق لأن الجزاء قريب، والعُمر قصير، وما تدري إلا وصلت إليه، وما ينفعك إلا الصدق معه.

قال الله: (هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).

اللهم اجعلنا من الصادقين، وبارك في جمعنا، واحفظ علينا في مجتمعاتنا صدق الإقبال عليك والعمل بطاعتك، وأخرجنا من الوهم والضلال والخيال، أكرمنا بنور الفهم، وأخرجنا من ظُلمات الوهم، وافتح لنا أبواب رحمتك، وانشر علينا حكمتك، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

13 ربيع الثاني 1447

تاريخ النشر الميلادي

05 أكتوبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية