(363)
(535)
(339)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ63، في ساحة الأفراح بحارة دمون، ليلة السبت 21 ربيع الأول 1447هـ، بعنوان:
حقيقة عمارة الأرض.. معانيها ومقاصدها
الحمد لله رب السماوات والأرض، وجامع الأولين والآخرين ليوم العرض، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مِنهُ المبتدأ وإليه المرجع والمصير، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، السراج المنير، البشير النذير، الذي جاءنا بالدين اليسير، وتوحيد العليِّ الكبير، وموجِب الفوز الأكبر الدائم في الحاضر وفي المصير.
اللهم أدِم صلواتك على عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم، وعلى من والاهم واتّبعهم، وعلى ملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
حكمة الخلق والإيجاد؛ مُشارٌ إليها في آية من كتاب الله: (أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، استعمركم في الأرض، استعمركم: طلب منكم عمارتها، بم؟ بما آتاكم من قوة ومن فكر وأسماع وأبصار وقدرات وإمكانيات، وما سخّر لكم مما في الأرض ومما بين الأرض والسماء، وما ينزل لكم من خيرات من السماء (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) جلّ جلاله.
ولأجل أن تُعمَر الأرض عمارتها الصحيحة الطيِّبة المليحة، التي تُثمِر الخيرات بكل المعاني ومِن جميع الجهات، تكرَّم الرحمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل، يحملون منهاجاً وشِرعة من الرب جلّ جلاله وتعالى في علاه، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ليستقيموا على ما هو أنفع، وحقيقة ما هو عمارة.
هذه العمارة رأسها ولُبّها ما أشار إليه الرحمن حينما قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). فحقيقة ما يحصل على ظهر الأرض من صلاح وخير ومنفعة وعمارة لها على الوجه الصحيح مُتعلِّقٌ بالخلافة عن الله تبارك وتعالى في أرضه.
والخلافة عن الله تبارك وتعالى في أرضه شرفٌ شرَّف به بني آدم، من أبيهم آدم إلى آخر مؤمن يبقى على ظهر الأرض، إلى العدد الذين يبقون عندما تهِبّ ريحٌ تخطف روح كل مؤمن على ظهر الأرض، وتنتهي الخلافة وحقائق العمارة.
تبقى صورة العمارة على ظهر الأرض، من خلال ما يتعلق بالزراعة، ويتعلق بالنسج للملابس، وما يتعلق بتوفير المصالح، لكنها إن شبَّهناها بعيشة البهائم والحيوانات أو السِّباع في الغابات أو حيوانات البحر في البحر، نكون ظلمنا حيوانات البر والبحر (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)، لأنّ حيوانات البر والبحر مُسبِّحاتٌ بحمد ربها، ولم تتمرّد على منهج خالقها، ولم تُخالف الحكمة التي خُلِقت من أجلها.
كلٌّ في مجاله من الحيوانات يؤدي المهام التي خُلِق من أجلها، ولهم ترتيباتٌ وعجائب مِن إلهام الله تعالى، لِكُلٍّ مصلحته وفائدته، (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ)، ومنها عجائب في هذه الحيوانات، كمثل ما يأتي في دور النمل وما تُرتِّبه: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ).
(وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ)، وكل النحل مُنفِّذة لهذا الأمر وهذا الوحي الذي أوحِيَت وأُلهِمت من قبل الله تعالى،ويستفيد الناس أيضاً مما يخرج من بطونها، من الشراب المختلف ألوانه الذي فيه أنواع من الشفاء والتداوي لهم.
ولكن هؤلاء، سواء الذين يكونون في آخر الزمان بعد انقطاع الإيمان نهائياً وانتهاء الخلافة، أو الذين يسبقونهم من قبل على ظهر الأرض والإيمان موجود عند المؤمنين، ومنهج الله معمولٌ به عند الصادقين الواعين الذين فقِهوا حكمة الخلق والإيجاد، وعظَّموا رب العباد، ونفَّذوا أوامره فيما يتعلق بقلوبهم وأجسامهم وبيوتهم وأُسَرهم ومجتمعاتهم وعلائقهم بينهم البين، وعلائقهم مع أصناف العالم.
مع وجود ذلك، فهناك من يتعمَّد مخالفة منهج الله، ومن يُضادّه، ومن يخالفه. هؤلاء والكفار الخُلَّص فيما بعد في آخر الزمان، لا نستطيع تشبيههم بالأنعام فقط، بل هم أضلّ كما قال الجبّار الأجلّ جلّ جلاله.
عماراتهم صورٌ وأشكالٌ وأجسامٌ جوفاء لا روح فيها، ولذلك تجد الكفار الموجودين في زماننا مثلاً، قد يذكرون اسم إعمار الأرض أو العمارة له، لكن متى؟ بعدما يُخرّبون ويهدمون ويكسرون ويُفجّرون، ويُنهون البنية التحتية، لو احتفظت بإعمارك عندك وتركت الناس معمورين في أصلهم كان أحسن.
تحوَّلت عمارتهم للأرض إلى صورة جوفاء حقيقتها خرابٌ في خراب وفسادٌ في فساد، وتحوّلت كل الطاقات والإمكانيات والأجهزة إلى عُدَد وآلات للإفساد في الأرض: خُلُقاً وفكراً واجتماعاً وسياسة وزراعة وهندسة كذلك، وحوَّلوا جميع الطاقات التي معهم للاستعلاء والاستكبار والاستبداد بالأهواء والشهوات والأغراض، وإرادة الاستيلاء على حق الغير.
فما تُسمّي هذا الإعمار؟ ماذا يحملون للأرض ومن على ظهر الأرض؟ وربما يصل الحدّ أحياناً إلى التبجّح بالوقاحة، وأن يُصرّحوا أنه مرادنا كذا. والآن الناس في مشاكل كبيرة، حرّكت حتى ضمائر أعداداً من الكفار بحكم إنسانيتهم وآدميتهم والفطرة التي عندهم، ويرون أن هنا ظُلماً وإجراماً كبيراً.
يقول: ما سببه؟ ما الدليل؟ ما الدافع له؟ أنا أريد هذه الأرض لي! ادخل من أبوابها، من أراد أن يملك شيئاً في الأرض، كيف يعمل؟ عنده طرق قانونية وطرق عُرفية وطرق شرعية. قال: أخرجوا وخلّوني في هذا المحل، خلّوا هذا المكان، أنا أريده فقط وخلاص!
غطرسة، عنجهية، كِبر، هذا هو منتهى الحضارات، غاية الحقارات، منتهى هذه الحضارات، غاية الحقارات، منتهى هذه الحضارات إجرامٌ وفسقٌ كبير.
هل يوجد غرض آخر؟ هاتوه، أنا المختار الذي فوقكم وأنا لي هذا المكان فقط! يا أهل المكان اخرجوا من المكان! ليش؟ فعلنا فيك شيء؟ عملنا فيك شيء؟ أخذنا عليك شيء؟ ولا شيء! أنا أريد المكان، وأنتم عندي أقل من الحيوان، بأي طريقة تخرجون ولو أقتل منكم في كل يوم كذا وكذا نفس بغير حق، وكل ما بنيتم أهدم.
هذه عمارتهم للأرض! هكذا طريقة عمارتهم للأرض! وهذه نتيجة حَتمية لكل من انفصل عن الإيمان بخالقه على الوجه الصحيح، واتِّباع رسله الذين خُتِموا بمحمد خاتم النبيين وسيد المرسلين.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).
كل خارج عن منهج محمد ﷺ لا يُمكن أن يكون عامراً للأرض على الوجه الصحيح قط، هو أحد المفسدين، وهم الموصوفون بقول ربكم من يعلم السر والظهور والبطون وما يُخفونه وما يُعلنون: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) - الذين هُدوا إلى الحقيقة ويدعونكم إلى العدل والبر والكرامة والقسط، ورعاية الحقوق لأهلها، وإعطاء كل ذي حق حقه - (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ).
إذا كان من على ظهر الأرض يدعو إلى أن يأخذ كل ذي حق حقه ولا يعتدي واحد على الثاني سفيه، وإذاً من العاقل؟ العاقل يضرب ويسفك الدماء ويضرب، هذا العاقل؟! (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ).
كما قال الله جلّ جلاله وتعالى في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ): على أعقابكم، على وراء، كلما جاءوا لكم بمشروع وفكر واتّبعتموهم، ترجعون للوراء: في ثرواتكم، في اجتماعياتكم، في سياساتكم، في حُرياتكم، في تنفّسكم في الحياة. ترجعون إلى الوراء، كلما أطعتموهم في مشروع يطرحونه عليكم يُرجعوكم وراء.
(إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ)، وهم الذين ينظرون ثرواتكم ليلهفوها، وقد لهفوا، وقد لهفوا ما لا يخفى على غبيّ فضلاً عن واعٍ وفاهم، ولا يزالون يلهفون ويستغلون الناس.
وأكثر ما يتمتعون به في عالم الحس الحيواني المادي مأخوذ من بلاد المسلمين، بل من حقوق المسلمين، بل من مُلك المسلمين، مما يملكه المسلمون، في مختلف القارات، سواء الدول العربية أو غيرها، ذهبهم من عندهم، غازهم من عندهم، تجارتهم من عندهم، ولكن أخذها بطرق متنوعة شتّى.
كما ترون بعض مناطق أفريقيا انتبهت ولاحظت أنه ضحك عليها الزائد، وقاموا ينتبهون من أراضيهم ومن الذهب الذي أخذه الخباث، ويُعمرون بهومظاهر أجسادهم ونفسياتهم وحسّياتهم، ويُجوّعون أهل المنطقة المالكين لهذه الكنوز في الجوع وتحت خط الفقر، لا عشر سنين ولا عشرين ولا ثلاثين سنة.
وبطرق مُلتوية يأخذون حق الناس، وبعد ذلك يتمنّنون عليهم، يقولون: نحن نحميكم، ونحن نستخرج لكم، ولولانا ما حصلتم على شيء، وشيء من هذا الكلام الفارغ.
إذن، صحيح ما كَتب عنواناً على كتاب بعض علماء الهند قبل سنين، وهو يتأمّل أحوال العالم وما يجري فيه من انحطاط ومن فساد ومن ظُلم منظّم ومُقَنّن، قال: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
لمّا انحطّوا، تمكَّن أعداء الله منهم، ولعبوا عليهم فِكراً وسلوكاً ومالاً واقتصاداً وسياسة، وهؤلاء اللاعبون بالفكر والسلوك والاقتصاد والسياسة هم خُبثاء من على ظهر الأرض، خسروا، هم خاسرون أصلاً، وإن كانوا في ظاهر المادة آخذون لحق الغير ومتمتّعون به، ولكنهم خاسرون حقيقة إنسانيتهم، وخاسرون طمأنينتهم، وخاسرون العدل، وخاسرون الوفاء، وخاسرون الكرامة الحقيقية، وخاسرون الآخرة مِن باب أولى، فهم الخاسرون.
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ولو أن أهل الإسلام قاموا بمقدورهم، وبما أعطاهم الله من قدرة واستطاعة، لكان في ذلك إنقاذ للعالم وإنقاذ للأمة كلها من بلايا كبيرة وآفات كثيرة.
ولكن انحطاطنا، تقاعسنا، انقطاعنا عن إدراك أسرار الإرشاد الرباني والتوجيه المُحمّدي فيما نأكل ونشرب ونلبس ونأخذ ونُعطي ونتعامل، انقطاعنا وتصديقنا أن غير الله وغير رسوله يكونون أعلم بمصلحة حياتنا من الله ومن رسوله، والعياذ بالله، انخداع بأطروحات كاذبة لا أساس لها، فلا يأتي منها إلا (يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) جلّ جلاله.
لكل من وثق به وقام بحق الإيمان ومقتضاه، ومقتضاه أن نستخدم الوسائل المتاحة لنا المُسخّرة في عمارة الأرض، عمارة الأرض بالإيمان والإسلام وعبادة الرحمن، وبما يتفرَّع عن ذلك من إقامة المصالح والحقوق، ونظام الحق في المُلك، نظام الحق في البيع والشراء، نظام الحق في الاستثمار والتنمية، نظام الذي حرَّم الربا وتوعّد كل من استحبّه وذهب وراءه أن يخسر في الدنيا قبل الآخرة، والأمر مُشاهَد محسوس.
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
والذين تعاملوا مع الربا سبعين سنة، ثمانين سنة، رجعوا إلى الخسران، وهم لا يزالون يعتمدون على السطو والاستيلاء على حق الغير، ودوَلهم لها مديونيات وليس عندهم ما يكفيهم (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا)، (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
في ليلة ليست ببعيدة مرّت عليكم قبل ما يقارب عشرين سنة، في ليلة واحدة أصبحت رؤوس الأموال من ملايين أصبحت إلى أصفار في اليوم الثاني، الذي عنده مليون، والذي عنده مليونين، والذي عنده ثلاثة والذي عنده عشرة، طلع الحساب وقالوا: جاءت أزمة في البنوك.
وفي أمريكا أحدٌ رمى نفسه من فوق العمارة، وأحدٌ تجنّن.. من أرباب هذه الأموال، البارحة كان لديه كم مليون دولار، الصباح لا شيء! ما هو تفسير هذا؟ نظام، استثمار، الرأسمالي، صبَّح وما معه شيء، في حالة عظيمة تعبوا منها نفسياً، وخصوصاً غير المؤمنين، ما تجد لها تفسير إلا (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا).
وكيف رأس المال البارحة كذا والصبح كذا؟ أين ذهب؟ من الذي هاشوا؟ أين تخبّى؟ (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).
علينا مهمة بعمارة أنفسنا وديارنا وبلداننا، وما نستطيعه من ثرواتنا وقدراتنا، بقدراتنا التي آتانا الله تبارك وتعالى، لكن بنور منهجه: أحلَّ وحرّم، ندب وكره، أباح سبحانه وتعالى المباحات.
"أرأيت يا رسول الله، إن أنا صلّيت المكتوبات، وصمت رمضان، وأدّيت الزكاة، وأحللت الحلال وحرّمت الحرام، أدخل الجنة؟" قال: نعم، أحللت الحلال وحرّمت الحرام، انتهت المسألة، أنت على منهج الله، أنت مُستضيء بنور الله، أحللت الحلال وحرّمت الحرام.
خدعونا كثير حتى صار الضحايا مِنّا كثير، على مستوى الأفراد والجماعات والهيئات وشعوب ودول، صارت ضحايا لخداع أعداء الله، ولكن والله ما خدعونا إلا لمّا انصرفنا عن كلام الله ورسوله، إلا لمّا ذهب فينا الفقه لما يُنزل الله ويُبلّغ مصطفاه ﷺ، إلا لمّا خرج من قلوبنا تعظيم الله وتكبيره والتحقُّق بشهادة أن لا إله إلا هو وأن محمداً عبده ورسوله.
لمّا تزعزع هذا التصديق في قلوبنا، وانقطعنا عن وحي الله ورسوله، قدروا أن يخدعوا من يخدعوا منّا، ويوصلونا إلى هذه الحالات.
دفع الله شرّهم عنّا وعن المؤمنين والمؤمنات، وأرانا وأسمعنا في أمة محمد ما تقرّ به عين محمد وعيون الصالحين، ورَدَّ كيد المعتدين المجرمين، وأعاننا على القيام بهذه العمارة لأنفسنا وأهالينا وأسرنا ومحيطاتنا بمنهج الله، بما نتعلّمه من سيرة النبي محمد وأخلاق النبي محمد، وتعاليمه فيما أحلّ وفيما حرّم.
عبر هذه الوسائل المتاحة لكم، ما ذكرتم مما يحصل من ألعاب شعبية وتعبيرات عن الفرح برسول الله ﷺ في المولد، واحد من الأشياء التي تتم بها عمارة: عمارة للأذهان والقلوب والعقول من حيث ولاؤها لله وللرسل، عمارة للعلائق الاجتماعية من حيث التآلف والتكاتف والتعاون.
سمعتم في كلمة المقدّم باحشوان حاجتنا إلى التماسك وإلى التآلف، وهذه حاجة ضرورية، وأيّدتها الشرائع من عهد آدم إلى أن جاء النبي الخاتم ﷺ، تأمر الناس بتعاونهم وترابطهم وتكافلهم وتكاملهم، وتُحذّرهم من البُغض والشحناء، سمّاها نبينا: داء الأمم قبلكم.
كذلك الألعاب الرياضية وغيرها، يمكن أن تكون وسائل للعمارة أو للخراب، يمكن سبباً لعمارة الوقت بالكَفّ فيه عمّا حرّم الله، للتآلف والتعاون، لتقوية الأجساد لتؤدي مهمتها في الأسرة وفي المجتمع على وجه مُتكامل، للتواصي بينهم بالانتهاء في هذه الألعاب عمّا حرّم الله من كشف العورات ومن السب ومن الشتم ومِن تضييع الصلاة وإضاعتها واللعب في وقتها المحدد من قِبَل الله.
فتتحوَّل هذه الألعاب إلى عمارة، لها وقتها المحدد، لها آدابها، لها مقاصدها، الهادفة النبيلة، ويمكن أن تتحوّل إلى سبّ وإلى شتم وإلى بغضاء وإلى شحناء وإلى ترك صلاة وإلى كشف عورات، فتصير خراباً، تصير سوءاً على المجتمع وعلى البلدان.
وغيرها من الأنشطة التي تقوم في الحياة، كلها لها وجه لتكون عمارة بنور منهج الله، ولها وجه لأن تكون خراباً بالمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى.
رب السماوات والأرض واحد، ما يملك أحد أن يُقيم لنا منهجاً يصلح بحالنا غيره جلّ جلاله (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ). (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
ترجعون إلى ما كنّا نذكر في هذه الحارات والبلدان، آداب أصلها الكتاب والسنة، عُرف قائم على الكتاب والسنة، تواصيات في الأُسَر بين الصغار والكبار، وتربية لهم قائمة على نورانية الاتصال بالكتاب والسنة، من عند بداية التعليم يكون أمنيتهم أن يتعلَّم ولدهم القرآن، وأن يكون وسيلة نافعة للناس في هذه الحياة، إلى غير ذلك مما أثمرَت التعليمات.
كثير الآن من كبار السن الموجودين عندكم، ربما تركَّز كثير من قيمه واستقامته الفكرية على مِعلامات كان فيها، في مثل هذه الحارة وغيرها، عند الشيخ فلان والشيخ فلان، وأحد كان أعمى وأحد كان مبصراً، ولكنهم لهم نيّات ووجهات، ويُعلّمون الأولاد قراءة وكتابة وآداب وأخلاق وفِكر نَوير، وتعظيم للعليّ الكبير، ومحبة للحق ومحبة للرسول، وتطبيق للأخلاق عندهم.
هذه الكتاتيب والمعلّمات التي كانت، ربما أثرها إلى اليوم في الذين مرّوا بها في أيام صغرهم، وهي كانت السبب الأقوى في تقويم كثير من القِيَم والفكر عندهم إلى اليوم.
إذن نحتاج إلى تقويم ما في أيدينا وفي استطاعتنا من الوسائل لنُنوّرها بنور وحي الله ورسوله، فتكون نافعة وعامرة.
(أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ)، تكوين الأجساد من التراب، ثم نَفَخ فينا الروح، فتمَيَّزنا عن الجمادات والنباتات والحيوانات، وصرنا في مقام رفيع، مقام الإنسانية والآدمية، فدخلنا في دائرة العالمين روح العالم: الإنس والجن والملائكة.
هؤلاء العُقلاء من بقية أجناس الوجود، يعني: لهم مِن وهب الله لهم المدارك ما لم يتحصّل عليه بقية الكائنات، فيُدرِكون بهذا المدرَك أعلى ما يُدركون: حقائق من عظمة الله وجلاله وأسمائه وصفاته، وسرّ المعاملة معه، ووعي وحيه ومنهاجه جلّ جلاله.
بهذه الخصوصية صاروا مُميّزين عن بقية العوالم والكائنات: الإنس والجن والملائكة (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
رزقنا الله معرفة هذا الفضل، وقد دُعينا إلى أن نغتنم هذا الفضل ونقبل التفضيل من الله على لسان صاحب الذكرى، نبي الله محمد ﷺ، الذي تودِّع الأمة شهر ذكرى ميلاده.
وهو وميلاده ونشأته وبعثته وإسراؤه وهجرته وغزواته ووفاته، كلها خيرات لنا وأنوار لنا ومُلهِمات لما فيه رشدنا وسُعدنا.
فصلِّ يا رب على المصطفى محمد، ولا انصرف عنّا شهر ربيع الأول إلا وقد صرفتَ عنّا هذه الظلمات والآفات، والبليّات والعاهات، والإجرامات الكبيرات، وهيّأتنا للقيام بما تحبّه منّا وترضى به عنّا، متعاونين على البر والتقوى في السر والنجوى، يا حيّ يا قيّوم، يا من بيده ملكوت كل شيء، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
والحمد لله رب العالمين.
24 ربيع الأول 1447